⏪⏬
شمس حارقة تكاد أشعتها تذيب الأمخاخ في الجماجم. صفان طويلان من السيارات المرصوصة خلف بعضها البعض. شرطي بقامة طويلة وأكتاف عريضة و ذو شنب كث، ينفخ في صفارته بملء رئتيه. مارة يمشون الهوينى فوق الخطوط البيضاء بعد فتح الطريق
أمامهم. تلك أجواء إشارة المرور التي أجبرتني على التوقف، وأنا في غاية الاستعجال.أرغمني لونها الأحمر على الامتثال لأمره الصامت و انتظار الضوء الموالي .
خلال دقائق الانتظار تلك، صرت أتساءل من أين تستمد هذه الإشارة سلطتها؟ أ من الطابع الثوري للون الأحمر؟ أم من التوافق الكوني عليها لتنظيم حركة السير؟
انعكست حمرة الإشارة على وجهي و صرت أتصبب عرقا، لدرجة أنني رغبت في خلع وشاحي و فك أزرار سترتي.
رغبة في تلطيف الجو، عمدت لتشغيل مكيف هواء السيارة. حينها سمعت صوت قرع على زجاج النافذة. توجهت بناظري نحو مصدر الصوت، إذ بها سيدة يبدو من لون بشرتها و ملامح وجهها العريضة، أنها تتحدّر من إحدى البلدان الإفريقية.
أنزلت الزجاج قليلا، فسمعتها تنطق بالكاد بضع كلمات باللغة العربية :
سلام.. فاطمة.. درهم.. سبيل.. الله..
قامت هذه السيدة بتغيير إسمي دون إذن مني. أمر اعتدناه من أمثالها، إذ تصير كل النساء "فاطمة" و كل الرجال يصبحون "محمدا" بإشارات المرور.. إلا أنني اعتبرتُ كلماتها المقتضبة، ذكاءً مهنيا من طرفها، ما دامت اختارت أن تستجدي المارة و أصحاب السيارات بما تعلمته من لغة أصحاب البلد .. كيف لنا أن نفهم قصدها إن هي قدَّمت طلبها بِلُغتها الأم؟
استوقفتني ألوان ثوبها الفاقعة وإظهارها لكل كتفيها وبعض من ظهرها. وجدتُني أتفحص قدها الفارع والامتلاء الغريب لبعضٍ من جسمها، و شعرها الأشعث الكثيف الذي جدَّلته ضفائر متعددة.
بالجهة الأخرى من السيارة، وقفت امرأة ثانية، ترتدي عباءة سوداء و تضع وشاحا على رأسها، تسللت من تحته بعض من خصلات شعرها البني.. كانت ملامحها جد متناسقة، و بشرتها تشع بياضا و خالية من كل عيب.
تمتلك تلك السيدة عيونا فاتنة لدرجة جعلتني أمعن النظر في لون العسل الذي يفيض منهما. نظراتها العميقة و الدمع الواقف على أطراف عينيها، كانا أبلغ من أي كلام يمكن أن ينطق به لسانها. اكتفت برفع قصاصة ورق، مكتوب عليها:“عائلة سورية تحتاج للمساعدة”.
مددت يدي للعلبة التي أضع بها عادة قطع النقود التي أحتاجها لأداء ثمن ركن السيارة، فلم أجد بها سوى درهم يتيم.. يا له من موقف محرج. أحسست بضيق في صدري ، كما أن حرارة جسدي استمرت بالارتفاع أكثر فأكثر، بالرغم من انبعاث هواء منعش من فوهات المكيف.
صرت ألتفت ذات اليمين و ذات الشمال، ثم أحذق بالدرهم دون أن أجد لنفسي مخرجا. كلتاهما تحاصرني بنظراتها لدرجة أنني تمنيت لو وجدت العلبة فارغة، و كنت سأخرج ساعتها من باب "النية أبلغ من العمل" دون أدنى حرج.
بدت لي المهمة في غاية الصعوبة رغم بديهية الوضع، و ذاك بسبب غياب معيار تفضيلي منصف بين السيدتين. أيهما أختار؟ أيهما أجدر بالمساعدة؟ أ تلك التي تحلم بالعبور للضفة الأخرى للمتوسط؟ أم تلك التي أرغمتها ويلات الحرب على الفرار من بلدها؟
بطل المشهد كان ذاك الدرهم الذي ارتفعت قيمته بارتفاع مدى حيرتي واستمرار إلحاح السيدين على الظفر به.. كيف لهذا الملعون أن يصير ذو شأن عظيم؟ و هو لا يتعدى أن يكون قطعة نقدية صدئة لا تف حتى بثمن رغيف خبز؟
حيرة تعاظمت مع تعاقب الثواني و استمرار نظرات السيدتين للدرهم في يدي. حيرة تحولت لارتباك حين ترامت إلى مسامعي أصوات منبهات السيارات التي تتأهب للمغادرة بعد أن تلونت الإشارة بالأخضر دون أن أنتبه لذلك.
غضب الشرطي العملاق، و حركات يديه العصبية الدالة على عرقلتي لحركة المرور، جعلني أعيد الدرهم لمكانه و انطلق كالسهم دون أن أحسم موقفي من السيدتين كلتيهما بل من القضيتين ككل. لم أستطع تحديد موقفي لا من جذور بلدي التي قيل أنها تمتد لأعماق إفريقيا و لا من انتمائه العربي و لحمة بلدانه التي باتت كلاما فضفاضا و لا تتعدى أن تكون سوى حبر على ورق.
*آمال الحرفي
شمس حارقة تكاد أشعتها تذيب الأمخاخ في الجماجم. صفان طويلان من السيارات المرصوصة خلف بعضها البعض. شرطي بقامة طويلة وأكتاف عريضة و ذو شنب كث، ينفخ في صفارته بملء رئتيه. مارة يمشون الهوينى فوق الخطوط البيضاء بعد فتح الطريق
أمامهم. تلك أجواء إشارة المرور التي أجبرتني على التوقف، وأنا في غاية الاستعجال.أرغمني لونها الأحمر على الامتثال لأمره الصامت و انتظار الضوء الموالي .
خلال دقائق الانتظار تلك، صرت أتساءل من أين تستمد هذه الإشارة سلطتها؟ أ من الطابع الثوري للون الأحمر؟ أم من التوافق الكوني عليها لتنظيم حركة السير؟
انعكست حمرة الإشارة على وجهي و صرت أتصبب عرقا، لدرجة أنني رغبت في خلع وشاحي و فك أزرار سترتي.
رغبة في تلطيف الجو، عمدت لتشغيل مكيف هواء السيارة. حينها سمعت صوت قرع على زجاج النافذة. توجهت بناظري نحو مصدر الصوت، إذ بها سيدة يبدو من لون بشرتها و ملامح وجهها العريضة، أنها تتحدّر من إحدى البلدان الإفريقية.
أنزلت الزجاج قليلا، فسمعتها تنطق بالكاد بضع كلمات باللغة العربية :
سلام.. فاطمة.. درهم.. سبيل.. الله..
قامت هذه السيدة بتغيير إسمي دون إذن مني. أمر اعتدناه من أمثالها، إذ تصير كل النساء "فاطمة" و كل الرجال يصبحون "محمدا" بإشارات المرور.. إلا أنني اعتبرتُ كلماتها المقتضبة، ذكاءً مهنيا من طرفها، ما دامت اختارت أن تستجدي المارة و أصحاب السيارات بما تعلمته من لغة أصحاب البلد .. كيف لنا أن نفهم قصدها إن هي قدَّمت طلبها بِلُغتها الأم؟
استوقفتني ألوان ثوبها الفاقعة وإظهارها لكل كتفيها وبعض من ظهرها. وجدتُني أتفحص قدها الفارع والامتلاء الغريب لبعضٍ من جسمها، و شعرها الأشعث الكثيف الذي جدَّلته ضفائر متعددة.
بالجهة الأخرى من السيارة، وقفت امرأة ثانية، ترتدي عباءة سوداء و تضع وشاحا على رأسها، تسللت من تحته بعض من خصلات شعرها البني.. كانت ملامحها جد متناسقة، و بشرتها تشع بياضا و خالية من كل عيب.
تمتلك تلك السيدة عيونا فاتنة لدرجة جعلتني أمعن النظر في لون العسل الذي يفيض منهما. نظراتها العميقة و الدمع الواقف على أطراف عينيها، كانا أبلغ من أي كلام يمكن أن ينطق به لسانها. اكتفت برفع قصاصة ورق، مكتوب عليها:“عائلة سورية تحتاج للمساعدة”.
مددت يدي للعلبة التي أضع بها عادة قطع النقود التي أحتاجها لأداء ثمن ركن السيارة، فلم أجد بها سوى درهم يتيم.. يا له من موقف محرج. أحسست بضيق في صدري ، كما أن حرارة جسدي استمرت بالارتفاع أكثر فأكثر، بالرغم من انبعاث هواء منعش من فوهات المكيف.
صرت ألتفت ذات اليمين و ذات الشمال، ثم أحذق بالدرهم دون أن أجد لنفسي مخرجا. كلتاهما تحاصرني بنظراتها لدرجة أنني تمنيت لو وجدت العلبة فارغة، و كنت سأخرج ساعتها من باب "النية أبلغ من العمل" دون أدنى حرج.
بدت لي المهمة في غاية الصعوبة رغم بديهية الوضع، و ذاك بسبب غياب معيار تفضيلي منصف بين السيدتين. أيهما أختار؟ أيهما أجدر بالمساعدة؟ أ تلك التي تحلم بالعبور للضفة الأخرى للمتوسط؟ أم تلك التي أرغمتها ويلات الحرب على الفرار من بلدها؟
بطل المشهد كان ذاك الدرهم الذي ارتفعت قيمته بارتفاع مدى حيرتي واستمرار إلحاح السيدين على الظفر به.. كيف لهذا الملعون أن يصير ذو شأن عظيم؟ و هو لا يتعدى أن يكون قطعة نقدية صدئة لا تف حتى بثمن رغيف خبز؟
حيرة تعاظمت مع تعاقب الثواني و استمرار نظرات السيدتين للدرهم في يدي. حيرة تحولت لارتباك حين ترامت إلى مسامعي أصوات منبهات السيارات التي تتأهب للمغادرة بعد أن تلونت الإشارة بالأخضر دون أن أنتبه لذلك.
غضب الشرطي العملاق، و حركات يديه العصبية الدالة على عرقلتي لحركة المرور، جعلني أعيد الدرهم لمكانه و انطلق كالسهم دون أن أحسم موقفي من السيدتين كلتيهما بل من القضيتين ككل. لم أستطع تحديد موقفي لا من جذور بلدي التي قيل أنها تمتد لأعماق إفريقيا و لا من انتمائه العربي و لحمة بلدانه التي باتت كلاما فضفاضا و لا تتعدى أن تكون سوى حبر على ورق.
*آمال الحرفي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق