⏫⏬
*محمود درويش يريد ألا يُقرأ نصه قراءة أحادية تركز على البعد السياسي فيه وتغفل عن الأبعاد الجمالية*الشاعر انتقل تدريجيا من التعبير عن قضية الفلسطيني إلى قضية الإنسان عموما
حظيت تجربة محمود درويش بدراسات تستعصي على الحصر، لكن أغلبها يحصر شعرية درويش في نطاق القضية الفلسطينية، فرجاء النقاش الذى احتفى بالشاعر في بداياته انطلق من حضور القضية في شعره، وفيصل دراج عاود الانطلاق من النقطة نفسها بعد أكثر من ثلاثة عقود، معتبرا أعمال درويش تحريضية، وقد ضاق درويش بهذه القراءات وقال عنها "لقد تعرضت قصيدتي إلى التأويل السياسي المفرط، وكأن هم النقاد الوحيد هو البحث عن موقف ما في القصيدة يدين محمود درويش ويجرح وطنيته".
وكان الشاعر يريد ألا يُقرأ نصه قراءة أحادية تركز على البعد السياسي فيه وتغفل عن الأبعاد الجمالية، وقليلة هي الدراسات التي فعلت ذلك ومنها كتاب "اللغة في شعرية محمود درويش"، للباحث المغربي سفيان الماجدي، والكتاب الصادر عن دار توبقال المغربية في 2018، يعتمد على نص الأطروحة التي نال بها الباحث درجة الدكتوراة. وهو من الدراسات القليلة التي تتناول تجربة درويش الشعرية في شموليتها، استناداً إلى ما تُتيحه الشّعرية من أدواتٍ للمقاربة، وإلى منطق تحليل نسَقي يتتبع التجربة في أبعادها التاريخية والثقافية والشعرية.
استنطاق المتن
يتناول القسم الأول من الكتاب ما يسميه الباحث بتعدد الممارسة النصية عند درويش، ويذكر أن محمود درويش لم يكتف بدواوينه الأربعة والعشرين بل كتب أيضا النثر في نصوص ويوميات ورسائل، ثم يتساءل عن هذا التعدد وهل يرتبط بالضرورة بتعدد طرائق الكتابة؟ كما يتلمس أثره في أغناء الممارسة الشعرية لدرويش.
تحاول الدراسة استنطاق المتن الشعري مستخلصا السمات الدالة فيه، وكاشفا عن الإبدالات التي مست عناصره، كانتقالِه من القصيدة التي كانت ترومُ التّعبيرَ، إلى القصيدة التي تَدعُو إلى التغيّر وتُقدّم المعنى على البناء، ومنهما إلى قصيدة الرؤيا.
فالشاعر انتقل تدريجيا من التعبير عن قضية الفلسطيني إلى قضية الإنسان عموما، ومن التعبير عن اللحظة السياسية الفلسطينية إلى التعبير عن إنسانية الفلسطيني فتحقق الانتقال من النمط إلى الإنسان، أما فنيا فقد انتقل الوعي لدى الشاعر من سلطة التفعيلة والقافية إلى إدماج السرد وإبراز عناصره، انطلاقا من طول البيت الشعري، ثم استرسال الأبيات حيث لا يتم معنى الواحد منها إلا بعلاقته بالذي يليه، ثم جاءت "مديح الظل العالي" في (1983) إثر خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، ليصفها الشاعر على غلاف كتابه بأنها قصيدة تسجيلية، بما يوحي بارتباطها بوقائع محددة في الزمن الفلسطيني، فهي كتابة تنشد تسجيل الواقع كما هو، إلا أنها تستند إلى طابع تخييلي يستثمر المشهد البصري، ويرفعه إلى مستوى خرافي تتهاوى فيه كل المتعاليات، ويختلط فيه ترتيب الأشياء دون منطق أو قانون.
بعدها انتقل الشاعر إلى الإنصات إلى هواجس الذات والتأمل الميتافيزيقي، كما بحث درويش عن أشكال جديدة في الكتابة كما في مجموعتيه "هي أغنية" و"ورد أقل" وفيهما استمر حرصه على قصيدة التفعيلة لكنه ابتعد تدريجيا عن الشعور باليأس والصور الشعرية الممزوجة بانسداد الأفق.
سؤال الكتابة
قام درويش بتجريب بعض العناصر البنائية التي ستشكل فيما بعد نواة لأعمال أخرى مثل اعتماده على الرموز والأساطير في "هي أغنية"، وذلك ضمن وعيه التام بضرورة انفتاح القصيدة على الأسطوري والملحمي، كما امتد التجريب إلى فضاء الصفحة التي بدت ممتلئة وكأنها سرد قصير، كما أسهم السرد في تماسك النص، وهدم الحواجز بين الأجناس والفنون الأدبية مما أبرز التمازج والتعالق بين الشعر والنثر والمجاورة بينهما، وكانت "هي أغنية" بداية تشكل وعي نظر لدرويش بالكتابة في الحدود بين الشعر والنثر.
وفي "أحد عشر كوكبا" راهنت التجربة على التاريخي كاستراتيجية في التعبير تؤسس لنص يتسع معناه في علاقة بشكله، أما في جدارية فقد تحاور مع الموت الذي ينتظم جسد القصيدة، ويؤثث فضاءها في ذات الوقت.
ويرى سفيان الماجدي أن درويش في اشتغاله على منجزه النصي لم يكف عن التفكير في سؤال الشعر، لكنه وابتداء من "جدارية" توجه إلى ممارسة نصية تفكر في راهنها ومستقبلها معا، فوجد نفسه لأول مرة في مواجهة سؤال الكتابة.
ويستخلص الباحث الروابط بين الشعر والنثر في تجربة درويش، مبينا أن العلاقة بينهما قائمة على التّجاوُر والتّسانُد. وتبدى ذلك في كتابَةِ قصيدةٍ ذات خَصائِصَ نثريةٍ، أبرزُها المشْهدُ الشِّعري متعدد الأصوات، والقصيدةُ الموزونةُ ذات الجُمَل النثرية، وامتداداً للوَعي بالبِناء الذي ترسّخَ لدى درويش، أصبِحُ النصّ الشعري تشكيلاً هنْدسياً لا عفوِيّة فيه، تنتفي فيه الحدود بين الأجناس، حيث يقيم الشاعر وشائج خفية بينها، يكون الإيقاع فيها الدال الذي ينظم باقي الدوال.
وفي فصلي القسم الثاني من الكتاب تناول الباحث مفهوم اللغة في المنجز النصي لدرويش، ناظرا إلى مركزية اللغة ضمن الخطاب الشعري له، باستخلاص تصوّر محمود درويش عن اللّغةِ، انطلاقاً منَ النص الشعري نفسِه، وانتقالاً إلى الوُقوفِ على عناصِرِ المعْجَم الشعري لديْه، والطرائقِ التي يبْني بها التّركيبَ، ويخلص إلى إن ما يمْنحُ للتركيبِ اللغوي خُصوصِيَته هو قيامُه على تسَانُد الفِعل وأساليبِ النّداء والاستِفهامِ والأمر والنّهي والتمَني، بطريقةٍ تَشِمُ القصيدةَ، وتطبَعُها بفرادَةٍ مَا. وهو ما ترَدّدَ في مُجمَلِ المُمارسة النصيَة للشاعِر. وخلص إلى أن وظِيفة اللغة عند درويش تتوزع بيْن لغة التعبير، ولغة الخلق، من دُون أنْ تُحْدِثَ بينهما قطيعَة.
ويرى محمود درويش أن الشاعر واللغة في علاقة متوترة، فالشاعر يتوهم قدرته على تملكها، بينما اللغة تقود الشاعر إلى الكتابة، ويرى الماجدي أن الشاعر لا يقود اللغة، وعلى العكس فاللغة هي التي تسيطر عليه لأن لها ذاكرتها ومنظومتها ونسقها وتراثها، من جهة أخرى كشفت الدراسة عن أن القصيدة عند درويش بناء يتم انطلاقا من العلاقات التي تقيمها عناصرها البنائية فيما بينها، فصدر الشاعر عن وعي بأهمية الإيقاع، وامتدادا للوعي بالبناء الذي ترسخ لديه كشفت الدراسة عن أنه بنى قصائد متعددة بناء مقطعيا، يصبح معه النص الشعري تشكيلا هندسيا صارما لا عفوية فيه، وهو ما دفع الشاعر نحو اختيار عنصر إيقاعي آخر تمثل في السوناتا.
كما كشفت الصورة الشعرية عن رؤية الشاعر للعالم الموضوعي، ودور الخيال في الخلق الشعري من خلال تشكيل عناصر الوعي الإنساني انطلاقا من الإدراك والتخييل، كما بدا انشغال درويش بسؤال النص الشعري القادم، بعدما بلغ الفعل الشعري أزمته، وكشف عن أسئلة متعددة مرتبطة بطبيعة الكتابة وأفقها في آن.
*أحمد رجب(وكالة الصحافة العربية)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق