⏫⏬
أول رحلة طويلة في حياتي كانت من مدينة حلب إلى دمشق في أوائل الثمانينات ، على صهوة باص "اسكانيا" فاخر، أحد باصات نقل الركاب المشهورة "بالهوب هوب" ، أرسلني فيها أبي بمهمة عاجلة إلى بيت خالي كمال – رحمهما الله – لتوصيل مبلغ من المال كان قد استدانه منه ، رسم لي أبي خريطة بيت الخال في حي "الفحّامة" بدمشق مع أسماء الشوارع و الأزقة المفضية إليه ، و من باب الاحتياط و للطوارئ فقط ، كتب لي في ورقة أخرى رقم هاتفه المباشر في مكان عمله ، و أعطاني الأمانة و مصروف الرحلة و الجيب و الرفاهية أيضاً ، و قال لي : احذر جيداً من أن يسرقك أحدهم، أو أن تضيع في الشام، إذا حدث معك أي طارئ اتصل بخالك، اذهب بأمان الله و توصل و ترجع بالسلامة يا روحي .
انطلقت من بيتنا في حي "السكري" إلى كراج "الانطلاق" قبل منتصف الليل حسب التعليمات، خبأت المبلغ "المحرز" في ثيابي الداخلية بكل حرص ، و احتفظت بمصروف الطريق في جيوبي، و حال دخولي "الكراج" اشتريت باكيت (علبة) دخان أجنبي فاخر من بسطات "التهريب" العلنية، لأدخنه علناً بعيداً عن أعين الوالدين (كنت حينها في مرحلة الكفاح السري لنيل حرية التدخين) ، كما اشتريت التذكرة و بعض التسالي و الأكلات و ربما مجلة ما، كانت تذكرتي تنص على حصولي على مقعد في منتصف الباص بعيداً عن السائق، لكن في الباص قال لي المعاون : اجلس على غطاء المحرك مقابل "الجيب" يا حباب . قلت له : و الله أمرك عجيب، كيف أجلس على غطاء المحرك و قد كتب عليه ( ممنوع الجلوس على غطاء المحرك)؟ ضحك قليلاً و قال لي : الممنوع مرغوب!
جربت الجلوس فوقه كما طلب مني، لكنني لم أشعر بالراحة، فخرجت و جلست في المقعد الفارغ المزدوج خلف كرسي السائق مباشرة، جاء المعاون بعد أن صرخ قليلاً خارج الباص ( ع الشام، ع الشام راكب واحد) ليشرب "بق ماء" من الحنفية المزروعة في عمود عريض لامع قرب الباب، لمحني جالساً في المكان المكتوب فوقه بالقلم العريض (خصوصي)، فشدني من يدي و أخرجني من مقعدي قائلاً : هذان المقعدان محجوزان، ألا ترى ما هو مكتوب فوقهما؟ قلت : نعم، رأيت و قرأت بأن المكان خصوصي، لكنني رأيت المقعد خالياً من الركاب خصيصاً لي فجلست فيه و توكلت على الرحمن، هل هو ممنوع كمان؟ قال : نعم، و اخرج من الباص إذا لم يعجبك الجلوس على غطاء المحرك.
هممت بالنزول من الباص و أنا أجيل النظر في المقاعد الخلفية، لعلني أحظى بمقعد شاغر غير ذلك المقعد الخصوصي المحجوز ، فأشفق علي أحد الركاب الميسورين، و قال لي : تعال اجلس قربي أيها الشاب، أنا حجزت مقعدين كيلا يزعجني أحد، و يبدو أنك مهذب و لطيف و لا أظنك ستزعجني في كل حال. شكرت الرجل و جلست قربه محاذراً ازعاجه، لكنه لم يتوانَ عن ازعاجي طول الطريق.
كان المعاون في الحقيقة ينتظر "راكبة" جميلة أو اثنتين، لا كما يدعي في صراخه (راكب واحد ع الشام)، و الحمد لله لم يطل انتظارنا لهذا الراكب المأمول، فقد صعدت امرأة بصحبتها بناتها الثلاثة، فأقعدهن المعاون "البشوش" في المقعدين المزدوجين خلف السائق مباشرة، تحت الكتابة العريضة ( خصوصي) تماماً، حينها فهمت معنى الكلمة، و عرفت لماذا تبارى الشباب بالتبرع لهن بالمقعد الثاني، فالجلوس في "الجيب" أو فوق "غطاء المحرك" يمكنهم من رؤية البنات.
بعد الإطمئنان على راحة الشابات و الأم ، دارت عجلات الباص، و أدار السائق شريط كاسيت لأم كلثوم في "مسجلة" الباص، و على أنغام أغنية ( كلموني تاني عنك، فكروني) قضينا وقت الرحلة كله، كلما انتهت أعاد تشغيلها حتى كادت أم كلثوم تخرج من قبرها و تقول له كفى "يا مسهرني " ارحمني أرجوك.. أخذ الرجل الذي تبرع لي بالمقعد المخصص لراحته، يفصفص "بزر الجبس" طول الطريق برغم المنع المكتوب فوق المقاعد ( ممنوع أكل البزورات و رمي القشور تحت المقاعد ) ، و كل فترة ينظر إلى صورة وجهه المنعكس في زجاج النافذة، و يهذب شعر رأسه و حاجبيه و شاربيه ، ثم يستأذن مني لأفسح له المجال كي يذهب لشرب الماء قرب النساء.. أغلب العساكر نائمون لا يأبهون بمن عطش أو ارتوى، فقط جماعة ركاب الجيب و غطاء المحرك ساهرون و يدخنون رغم المنع الآخر ( ممنوع التدخين) المكتوب، و يتكلمون مع المعاون و السائق الذي كتب خلف كرسيه بخط عريض جميل (ممنوع التكلم مع السائق)، و بدوري لم أفوّت فرصتي الذهبية في التدخين بحرية رغم المنع المكتوب للترغيب فقط .
انتهت الرحلة في ثماني ساعات بسبب ظلام الليل، و قلة تكرار مرات التوقف مع كلمة (هوب، هوب )، و ظفر السائق و معاونه بصحبة الأم و البنات في استراحتي "المعرة و النبك" ، و ربما في استراحة أخرى ضمن بيوت دمشق.. و للأمانة أضيف – قبل انتهاء الرحلة - إحدى الممنوعات المكتوبة على جدران الباص الداخلية، التي تقول (ممنوع مدّ الرأس و اليدين من النوافذ) و أقرأها على سبيل السخرية (ممنوع مدّ الرأس و اليدين و الرجلين..)، ذلك المنع لم يخرقه إلا أحد العساكر في الصباح الباكر ، بعد طلوع الضوء و طلوع "التنايا" المشهور ، فقد سأل المعاون : ألم نصل الى معسكر كتيبة "؟" (بالاسم المتعارف عليه) ؟ قال له المعاون : ما بعرف، مدّ رأسك من الشباك و انظر لتعرف.! فلولا أمر المعاون الصارم، لما تجرأ العسكري على فتح الشباك و مدّ رأسه منه، و الشباك الذي يأتيك منه الريح، اغلقه و استريح، فكيف إذا جلب له مع الريح الباردة صرخات الاستهجان من بقية الركاب البردانين : ( سكّر الشباك خيو ، و الله بوّظنا ) ؟.
أما أنا فقد أتممت مهمتي بنجاح و رفاه و سلام، و خرجت من رحلتي بدرس مفاده أن "الممنوع مرغوب" فعلاً و قولاً، و في رحلة الحياة الطويلة وجدت تحذير "المنع" دعوة صريحة لارتكاب ما هو محظور، فعلى سبيل المثال، ترى الناس ترمي زبالتها في الأمكنة المكتوب عليها (ممنوع رمي الزبالة هنا)، و ترى أحدهم يتبول على جدارٍ كتب عليه (ممنوع التبول هنا) و كأن الحائط يقول له : تعال تبول هنا من فضلك!. هذه الممنوعات صارت وسيلة ناجعة لترويج أمرِ ما، فإذا أراد أحدهم أن يروج بضاعته الكاسدة، يكفي أن يعلن بأنها ممنوعة ، مثل شارة 📛 المنع التي يضعونها على أفلام "بايخة" بزعم أنها تحتوي مشاهد مثيرة، أو مثل الكتب التي يشار إلى منعها في البلد الفلاني و كذا بلد، و مثل الفيديوهات "المسربة" قصداً موضة هذه الأيام، و على العموم الممنوعات العالمية الثلاثة ( الدين و الجنس و السياسة) هي أشد طلباً و رغبةً عند الإنسان...
*جهاد الدين رمضان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فيينا ٢٧ أيار ٢٠١٩
*النص من وحي مذكراتي ، و الصورة لمقصورة باص الهوب هوب من الداخل قرب مقعد السائق، متوفرة في النت لمصدرها الموسوم فوقها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق