صبحي موسى |
*محمد الحمامصي
تساؤلات كثيرة طرحتها الرواية الأخيرة للروائي صبحي موسى "صلاة خاصة" التي اشتبك فيها مع تاريخ الأفكار في الديانة
المسيحية وامتداداتها الحاضرة، خاصة وأن له أكثر من عمل روائي يسائل فيه أفكار ووقائع في التاريخ الإسلامي وتأثيراتها على الواقع الحالي كـ "رجل الثلاثاء" و"الموريسكي الأخير"، وهذا ليس ببعيد عن رواياته الأخرى التي أيضا ترتبط بالأفكار كـ "حمامة بيضاء" و"نقطة نظام"، لكن الأفكار في هاتين الروايتين تعالج العلاقة بين المثقف والسلطة.
"صلاة خاصة" الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب رواية تدخل إلى صلب الديانة المسيحية لتضعنا في مواجهة عالم يعد غامضا إلى حد بعيد بالنسبة للقارئ المصري والعربي غير المطلع، فالكثيرون لا يعرفون التاريخ الذي مرت به المسيحية وما شهده مؤمنوها الأوائل من اضطهادات ومواجهات مع الوثنية وأيضا اختلافات إيمانية فيما بينهم، هذه الاختلافات التي انسحب جزء من أفكارها إلى الواقع الراهن..
في هذا الحبداية وحول ذهابه للتاريخ في مجمل رواياته وهل كان الذهاب بحثا عن أسباب ما آلت إليه الأوضاع عربيا وإسلامياً أم للتستر وراء وحشية الإلتباسات في الواقع الحالي، قال موسى "دائماً ما أقول لنفسي أنني أقرأ لأعرف وأكتب لأفهم، وربما هذا هو الدافع الأول لسعي خلف التاريخ، فالتاريخ بالنسبة لي يشبه العقل الباطن للأمة، ولكي نتوصل لفهم ما يحدث لنا في هذه المرحلة لا بد من التفتيش في العقل الباطن عما حدث من كوارث قديمة، كوارث تركت آثارها على نفوسنا حتى وإن غابت أحداثها عن عقلنا الواعي مثلا تقوم كل جماعات الإسلام السياسي على مقولات ومشاهد مجتزأة من التاريخ، لذا علينا أن نعود إلى السياقات الأساسية التي أنتجت هذه المقولات والمشاهد، ومعرفة الأسباب التي أدت إلى حدوثها، حينها يمكننا أن نعالج الخطأ الذي يعيشه الموهومون بالتاريخ، يمكننا أن نوضح لهم أن التاريخ قائم على دوافع إنسانية بسيطة، وليس على إلهامات غيبية كبرى، فهذه الرومانسية في الفكر لا تصنع التاريخ لكنها تدمر البشر، ومن ثم أعود للتاريخ كما يعود الطبيب لأحداث الماضي في العقل الباطن، لأجل معرفة ما جرى وكيف يمكننا تجاوز أثره السلبي، لكنني أعود بشروط وأدوات الفن وتقنياته، وليس بشروط البحث العلمي وجفافه، لأنني معني بصناعة الخيال والدراما في السرد، معني بعمل التشويق وتكنيكات الحكي وتعدد الرواة وطبقات الزمن، وإظهار أنني راقص ماهر على مسرحي، ويمكنني التعامل مع أصعب المواد وأكثرها جمودا لأجل تقديم سيمفونية كبرى مكونة من كونشيرتات، كل كونشيرتو مكون من سونيتات، كل سوناتا مكونة من حركات متكررة بنظام محدد، ولا يعني ذلك أنني أكتب لقارئ خامل يحلم بمن يطعمه في فمه، أنا أبذل جهدا في عملي، وأريد قارئاً يتعامل بوعي مع ملحمة كبرى عن جماعات الخروج في التاريخ الإسلامي كما في رواية "أساطير رجل الثلاثاء"، أو عن الموريسكيين وما جرى لهم، وما يمكن أن يجري لنا في ظل الحكم على أساس ديني كما في "الموريسكي الأخير"، أو في رقصة الاحتفاء بثقافتنا وتاريخنا القبطي الذي شكل نحو 60% من هيكل المسألة المسيحية الأولى في العالم، والذي انتهى بنفق الانفصال الكبير مع مجمع خلقدونية، ثم مجيء الحضارة العربية إلى بلادنا كطبقة جديدة من طبقات الهوية، مما أدى إلى ثبات المشهد وتكلسه، حتى أن سؤال النهضة لم يعد معنيا بالمسألة الإسلامية وحدها، ولا القبطية وحدها، ولكن المصرية والعربية والإسلامية ككل.
محمد الحمامصي |
واعتبر موسى أن رواية "صلاة خاصة" بدرجة ما تشكل امتدادا لمشروع يرتبط بتطورات العلاقة بين الأديان السماوية خاصة الإسلام والمسيحية وما أحدثته من انقسامات أثرت تأثيرا مباشرا على المجتمعات، وأضاف "وإن كانت كلمة مشروع تخيفني بعض الشيء، فعادة ما تقال عن التجارب المكتملة، وهذا ما لا أريد أن أقيد خطاي به، فلا أحتاج للنظر ورائي الآن، وعموما يمكن القول إني معني بالبحث فيما حققته الأديان للبشر، وما صنعه البشر بها، طرحت ذلك في روايتي الأولى "صمت الكهنة"، وعدت لطرحه بشكل فلسفي في روايتي "المؤلف"، وبشكل ما تناولته في رواية "حمامة بيضاء" التي رصدت علاقة السلطة بالمثقف، وتساءلت فيها قبل يأتي الربيع العربي عن أسباب عدم ثورة الشعوب العربية لنفسها، وربطت ذلك بمسألة الثبات في الوعي والفكر الذي يهيمن فيه القديم على الجديد، والأستاذ على التلميذ، وتتحول الأدوار إلى أقواس تبدأ من نفس النقطة وتنتهي عند نفس المنحنى، وهذا ما سعيت لماقشته في "رجل الثلاثاء" و"الموريسكي الأخير" و"صلاة خاصة" وحتى "نقطة نظام" التي فزت عنها بجائزة نجيب محفوظ، ويمكن القول إنني معني بشكل أوسع بإعادة النظر في الطبقات التي تتكون منها الثقافة العربية، ومعرفة علاتها ومناطق قوتها وضعفها، وأثر ذلك على ممجتمعاتنا وشعوبنا، مستفيداً من دراستي لعلم الاجتماع".
وكون رواية "صلاة خاصة" تذهب إلى إلقاء الضوء على التاريخ المسيحي وما شهده من انقسامات حول تأويل الأقانيم الثلاث (الآب والابن والروح القدس)، كان لا بد من سؤال "موسى": ألم تخش الأمر خاصة في ظل التربص المجتمعي بكل ما يتعلق بالأديان؟ فبادر مؤكدا "حين أجلس أمام الورق لا أفكر إلا في أن أقدم رقصتي كما أحب وكما يرضي ضميري الفني، ومن أقول كل ما أريده وفقا لمنطق الفن وليس الخطابة، وأنا لا أمتهن دين أحد، ولا أتدخل في علاقته بربه، لكنني أسعى لأن أكتشف ويكتشف معي قارئي القوانين التي تحكم النفس البشرية في ذلك العالم المعقد، ولا أسعى لأن أكون دليلا لأحد، وإنما أن أكون شريكا في انتاج وعي جديد".
قصة حب وكتاب وصاحبه كان وسيلة للدخول إلى هذا التاريخ المسيحي الطويل، يشير "موسى" إلى أنه "حين تفكر في كتابة رواية تلعب مع نحو ألفي عام من الزمن فلا بد أنك ستفكر كثيرا في الحيل التي تمكنك من ربط كل هذه الطبقات الزمنية معاً، بحيث تستطيع أن تذهب وتجيء كما تريد دون عوائق التراتب الزمني، ربما كان هذا أكثر ما شغلني وأنا أفكر من خلال المحققة دميانة التي أوكل إليها مهمة التحقيق في دير جبرائيل الملاح في جبال القلزم، ووقوعها في غرام راهب قس كان في الأصل قاطع طريق، بينما كانت هي ابنة محام يساري قبطي يسعى لتطوير الفكر الديني في ثقافته، ليبدأ تاريخ الصراع بين المتشددين والتنويريين الذي يحيلنا إلى تاريخ الصراع القديم بين التنوير والتشدد، في ذلك الزمن الذي نشرت فيه الإسكندرية جناحيها على العالم كله، وبسطت فكرها الفلسفي عبر المسألة المسيحية، مواجهة الهراطقة وواضعة الضوابط والقوانين ولوائح الإيمان، وقائدة المجامع المسكونية في ضبط الفكر المسيحي في العالم كله، لكن بالانفصال الكبير في مجمع خلقدونية بين كنائس الشرق والغرب دخلت المسيحية المصرية في نفق المحلية والجمود، وفقدت القدرة على تطوير الكثير من رؤاها، ومع ثورة الاتصالات وثورة الربيع العربي أصبح محتماً على المجتمع المصري ككل أن ينهض نحو دولة مدنية حديثة قوامها المواطنة وسيادة القانون وليس فسطاط الإسلام وفسطاط المسيحية. هكذا فكرت في روايتي وأخذت أبحث في الحلول، كثيرا ما توقفت عن الكتابة، وكثيرا ما هدمت وأعدت البناء، وكثيرا ما منحتني الكتابة بكرم أكثر مما أتوقع من حلول ومفاجآت.
الرواية تحمل زخم معرفيا غير عادي في الشخصيات والأمكنة والأفكار والتفاصيل، وجميع ذلك يحتل مكانة لا يمكن المرور العابر عليها، وقد لفت موسى "كنت أتمنى لو أن بإمكاني تقديم عمل أكثر بساطة من ذلك، لكن هكذا وجدتني أقدم كل هذا العالم دفقة واحدة، حتى أنني فكرت في أثناء الطباعة أن أنشر كل جزء على حدة، لكنني تراجعت، فلا يمكن الرهان على أن القارئ سيتابع على مدار ثلاثة أعوام أجزاء عمل وواحد، لقد شككت في قدرتي على جذبه لمدة أعوام متوالية لنص واحد، لذا قررت أن أقدم له الوجبة كاملة، قائلاً له "هذه صلاتي الخاصة، فأرني صلاتك أنت"، هكذا أتصور دائماً أن كتابتي بحاجة إلى قارئ خاص، قارئ قادر على الصبر والقدرة على إعمال الذهن، وليس البحث فقط عن التسلية، لذا أتفق معك أن بعض القراء لن يحتملوا كل هذا القدر من الزخم المعرفي في الأماكن والشخوص والتفاصيل.
وأشار موسى أن "الرواية تبدأ بتحقيق من قبل المحققة دميانة مع القس أنطونيوس عن إهدار مال الدير في نشر أعمال الخارجين عن الكنيسة، هكذا كانت صيغة الاتهام مبهمة، لم تقل أن أنطونيوس ينشر الهرطقات، ولم تقل ما هي مشكلة الكتاب المنشور، وكان من الصعوبة وفقا لفكرتي عن احترام القارئ وعدم إملاء رؤيتي عليه، فضلت نشر "رسائل أوريجانوس" ككتاب كامل، له ترقيمه الخاص على مدار الأجزاء الثلاثة، لأنه جسد الاتهام، والرابط الأساس بين الأجزاء الثلاثة للرواية، فضلا عن أنني أردت للقارئ أن يتأمل سيرة ذلك العلامة الذي خرج منه الخير والشر، وانقسمت بسبب أفكاره الكنيسة على نفسها، أضف إلى ذلك أن "الرسائل" وهي عمل فني ينتمي إلى أدب الاعتراف، لذا أردتها أن تبدو قائمة أمام عيني القارئ كعمل مستقل، يحفزه على أنه يقرأها كنص روائي خاص، أو يقرأها منجمة حسب ترتيبها في مقاطع الرواية وأجزائها.
في مواجهة موسى بين المسيحية والإسلام لم يذهب إلى التاريخ بل ذهب إلى الحاضر، ورهن الأمر بالتشدد والتطرف والارهاب ولم يرهنه بالأفكار، وقد علل ذلك قائلا "بالطبع لم أتوقف أمام التاريخ القديم، والتساؤل عن دخول الإسلام مصر، وهل قبله الأقباط أم رفضوه، وما الذي فعله الولاة حين جاءهم الأقباط طالبين الدخول في الإسلام، هذه الأسئلة لا تخص الواقع الآن، والبحث فيها لن يزيد سوى التكريس لانفصال الأقباط عن المسلمين، ولن يقدم سوى مبررات للغرب كي يطعن بخنجره في صدر الدولة المصرية، وإن منح النص الترجمة والجوائز، وهذا ما لم أنشغل به، فكل ما فكرت فيه هو مأزق المسيحية الذي أدى بها قديما إلى العزلة، يجعلها الآن غير قادرة على مفارقة تقوقعها على نفسها، رغم ثورات الاتصال والربيع العربي، بالطبع أسئلتي تخص الحاضر وليس الماضي، لذا كان علي أن أتحدث عن التشدد الحادث من الجماعات الإسلامية وأثره على الجماعات القبطية، وربما لولا وجوده لاستطاع الأقباط أن يتجاوزوا مأزقهم، وربما لتجاوز المجتمع المصري والعربي ككل مأزق سؤال النهضة الذي ما زلنا لم نغادره منذ مائتي حتى الآن".
وأخيرا وحول تعدد الرواة وصعوبة ذلك على القارئ قال موسى "يتعامل القارئ مع حقبتين من الزمن، لكل منها ما يسمي بالمضارع المستمر، والماضي التام، وهو ما يجعلنا أمام طبقات من الأزمنة، لكل منها راويها، خاصة في الزمن القديم الذي يجيئ الرواة فيه متعاقبون، بداية من أوريجانوس الذي يحكي شهادته عن زمنه وما عاينه من آلام، مروراً برفائيل تلميذ الملاح وأول مؤرخ لأحداث الدير والمسيحية، ثم تلميذه بنيامين، ثم أنطونيوس تلميذ بنيامين، وهو الذي نقل عنه إنه إذا كان لكل راهب صلاته الخاصة، فإن صلاة الكاتب هي تقديم شهادته على ما يراه بأمانة ووعي. لكن اللعبة تتغير في الزمن الحديث، حيث مبدأ التجاور، والحقيقة التي لها أكثر من زاوية للرؤية، على نحو ما حدث من رواة الأناجيل، وبما يضمن تقديم نوع من أدب الاعتراف أو الصلاة الخاصة لكل راو على حدة، وعلى كل فهذا نوع من التكنيك الذي راهنت عليه، تكنيك قائم على طبقات من الأزمنة، ورواة متعاقبين ومتجاورين، وفي النهاية يوجد راو كلي المعرفة، هو ملاك الذي يسعى من خلال عمله هذا تسجيل هوية له، إذ أنه بلا أوراق ثبوت أو هوية، وهذه حيلته في إثبات وجود نفسه، وهذا في حد ذاته بعد يحتاج إلى قارئ خاص للتعامل معه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق