(يوميات من عام 2006)
( عايرتني بالشيب وهو وقار / ليتها عايرتني بما هو عار )
عجبت لمن يبحث عن السيئات بالمجهر ويعايرني بها، وظنه ان قيام الساعة آذنت على المجيء، وسيلقى نبيل عودة الى نار جهنم، لكفره بما يخربشه أدباء الغفلة-وللسانه الساخر غير المتردد.
كأن المتنبي عناهم بقوله: أفي كل يوم تحت ضبني شويعر / ضعيف يقاويني ، قصير يطاول
ولكني لست المتنبي فارس حلبة الشعر في زمانه، ما انا الا حداد في مهنتي وهاو للثقافة في اعماق نفسي، أحب الصدق والابداع الحقيقي، ولا اعرف المراوغة وكلمات التدليس.
بوضوح انا لست ناقداً الا بالمفهوم المجازي، حملت قلم النقد لتغطية اصدارات الادباء الشباب بالأساس، الذين تجاهلهم نقادنا المحليين في وقته، وغرقوا بالكتابة عن الادباء البارزين .. "ليرفعوا قيمة اسهمهم الادبية". ووجدت نفسي اتورط واحمل السلم بالعرض لمن يظنون أنفسهم في قمة الابداع الادبي او قمة النقد ... وبعضهم غلاظ الفكر. كان دافعي تجديد حركة ثقافية عربية (محلية في اسرائيل) تعيد للأدب مكانته في الوعي الجماهيري، وفي تغليب الانتماء الوطني على كل انتماء أخر، خاصة في وقت عصيب أصبح فيه الانتماء مشوهاً، الموازين تخضع للعقل الطائفي الضيق والناس نوعان لا ثالث لهما: اما اهل الجنة او اهل النار، فكيف اصمت على من يرى بالأدب تسالي وتباهي "او قطعة لذيذة من الحلوى"، على حد تعبير من تعابير مارون عبود الذكية ... وكأنه يرى ما يحدث في ادبنا اليوم؟
تساءل أحدهم بحديث مع احدى النشرات: هل هذا ناقد؟
وقال اخرون: أي كاتب هذا الذي يخطئ في القواعد؟
وتمشقوا سيوفهم اللغوية وتقدموا الطابور مثل الجنرالات العرب، ليس في الحرب، انما في الاستعراضات التي لا تطلق فيها حتى "فشكة" واحدة.
ان ما نعانيه في ادبنا عامة، وخاصة في الكثير من شعرنا المحلي (مع اعتذاري للشعراء المبدعين)، ليس مجرد أزمة ادبية، بل أكثر من ذلك، تسيب مطلق وسيطرة جارفة للتعابير والمعاني .. التي من الصعب فهمها، من الممكن تغيير ترتيب كلماتها، او قراءتها من الشمال الى اليمين. دون ان يتغير المعنى، لان المعنى اصلاً غائب من ذهن صاحب النص، وهو يعتمد على "الصديق الناقد" ليفسر ما لا يفهمه صاحب النص، فكثرت الاهداءات وكثر الاصدقاء "النقاد"!!
أستطيع ببساطة ان ادفع نصوصي لزملاء متمكنين من قواعد اللغة. لكني لا اظن ان هذا سيضيف لنصوصي ولمواقفي الفكرية شيئا جديدا.
لست نحوياً واعترف انا غير ملم بالقواعد في مستوى الفطاحل، لغتي يا سادة تعتمد على تجربة القراءة واتقانها اللغوي منذ الصفوف الابتدائية الأولى، تحت اشراف أفضل مُدرسة للغة العربية، مدرسة والدتي.
لا أنكر أنى "أحسدهم" على قدراتهم في النحو والصرف واتمنى ان امتلك ناصية هذا الجحش الذي يتمرد كلما حاولت امتطائه.
في المدرسة الابتدائية كان نصيبي مع معلم لغة عربية يعجز عن شرح واضح للقواعد، وكان اتقاني للغة قراءة وكتابة يشعرني بالملل من درس القواعد.
في بداية الستينات من القرن الماضي، حدثت طفرة هامة في الطباعة والنشر، كسرت حواجز التجهيل والقطيعة الثقافية مع العالم العربي، وكشفت امامنا كنوزاً ادبية .... وبالطبع من المستحيل تجاهل دور مجلة "الجديد" وبقية صحافة الحزب الشيوعي "الاتحاد" (التي تعلمت القراءة على صفحاتها وانا في الصف الثالث) و "الغد" في التثقيف الادبي والوطني الى جانب رسالة هذه الصحف السياسية والفكرية والثقافية. ولا بد من الاشارة الى المهرجانات الشعرية والسياسية والثقافية التي نظمها الحزب الشيوعي، في الناصرة وكفرياسيف والعديد من المدن والقرى العربية، وكانت زاداً ثورياً يلهب الجماهير ويرص صفوفها ويزيدها عنفواناً في مواجهة سياسة التجهيل القومي والاضطهاد ... وللأسف حلت الشيخوخة المبكرة على هذا النهج بعد غياب فرسانه الاوائل ، ثم التغييب المبرمج للمثقفين والمفكرين والذي صار نهجاً حزبياً وثقافياً ، كان تأثيره أشبه بالانتحار الذاتي على طريقة "الخاراكيري " اليابانية ،ورافق ذلك انتشار ملامح مدمرة من عبادة الفرد ، كان من نتائجها تدمير اهم قوة سياسية للعرب في اسرائيل ، واعني الحزب الشيوعي والجبهة، فخلت الساحة الحزبية من المثقفين المبدعين ومن المفكرين السياسيين البارزين، ومن النشاط الثقافي والفكري التنويري والسياسي. اختفت "الجديد" الفكرية الثقافية واختفت مجلة الشباب "الغد" التي لعبت دورا تنويريا للشباب، واضمحلت مكانة جريدة "الاتحاد" وفقدت دورها الإعلامي المركزي في الوسط العربي داخل إسرائيل. أصبح رجل دين نصف امي يجمع حوله اضعاف ما يستطيع اي حزب وطني او يساري ان يجمعه في اجتماع ما، اصبحت مقاهي النارجيلة علامة مميزة، بعد ان كانت نوادي الشبيبة الشيوعية والنوادي الثقافية المحلية لا تتسع لألاف الشباب والطلاب في برامج ثقافية وسياسية وفكرية. اصبحت التفاهة والتصحر الفكري هي الميزة السائدة عند معظم الاجيال الناشئة. صار همنا الاساسي ايصال عضو او أكثر للكنيست (البرلمان الاسرائيلي) وبدأت عضوية الكنيست تتحول الى مكسب شخصي وليس الى مهمة (تكليف) من الحزب، ويجري الصراع حولها داخل الاحزاب لأنها ضمان لدخل مرتفع ولشروط اجتماعية ممتازة ولتقاعد هنيء ..
حقاً لم أجد الوقت الكافي لأركب جحش القواعد واتقن سياسته، دراستي الثانوية كانت بالأساس بالعبرية، ثم سنتين دراسة بمعهد تكنولوجي بموضوع هندسة الميكانيكيات وطبعا باللغة العبرية. ثم سفري للاتحاد السوفييتي لدراسة العلوم الاجتماعية والفلسفة، فانا يا سادة، ايتام سيبويه الغليظي العقل، لم يقع من نصيبي ان اكون من اصحاب الوظائف المريحة، كالتعليم مثلاً او العمل الثقافي والتنويري في الصحافة، او العمل المكتبي المريح.
في زمني كان الحاكم العسكري الاسرائيلي ونظام الحكم العسكري على العرب في اسرائيل، يتحكم بالوظائف المختلفة، وكنت عائداً من دراستي السياسية في الاتحاد السوفياتي (1970) ووجدت نفسي بعد سنتين من العمل السياسي، بمعاش فقر، آخذ تحدياً مصيريا واذهب للعمل في الصناعة، كحداد، المهنة التي قضيت فيها أكثر من 40 سنة، ووصلت فيها الى مرتبة مدير عمل ومدير انتاج في أكبر المصانع واهمها في اسرائيل .. رغم ان أقرب الناس لي يظنون حتى اليوم أنى اعمل بالصحافة واعتاش منها. وكنت قد نفذت مشروعا لبناء مصنع بتروكيماوي في ايران في زمن الشاه (1977 -1978) وبعدها كانت لي فرصة للعمل كمدرب مهني في مدرسة صناعية ، مما يعطيني المجال للعمل الثقافي والابداعي الواسع، ولكن بلدية الناصرة الجبهوية اختارت قريب لرئيس البلدية ، حسب اوامر الرئيس ..رغم ان اللجنة اختارتني، وكانت تلك اولى العلامات لغياب القيم والمصداقية والمنافسة الشريفة لدى الجيل "الجديد" من القيادات " الثورية" ... ولم اعترض وقبلت الواقع المعيب ، ولكن ما توقعته وقتها من انحسار مكانة الحزب الشيوعي وجبهته يتحقق اليوم بالكامل ...من مميزاته سقوط الفكر وسقوط السياسة (بمفهومها الحزبي ) وسقوط الثقافة ، وسقوط القيم الوطنية ، وتحولت الشعارات الى اداة من الدعاية الفارغة الفظة والى البرنامج الاساسي في احزابنا وتنظيماتنا " الوطنية ". وسرعان ما برزت سيطرة الشخصانية والفساد وغياب المحاسبة والرقابة، واصبح الدجل القومي والسياسي بضاعة رائجة، فخضت معاركي النقدية الثقافية والفكرية والسياسية العنيفة .. بجو خانق للواقع السياسي والثقافي، وواصلت ممارسة مهنتي في الحدادة حتى تركتها بعد إصابة عمل... وعملت بتحرير صحيفة "الأهالي" النصف اسبوعية ( ثم 3 مرات كل أسبوع صدرت بين سنوات 2000 - 2005 ) وذلك كنائب لرئيس التحرير الصحفي والمفكر البارز سالم جبران، الذي تعرفت عليه اثناء دراستي بالصف التاسع(1962) بعد ان نشرت لي الجديد قصة قصيرة ، فضمني للتمرن الصحفي في مجلة "الغد" التي كان يحررها ، حيث تمرنت على الكتابة الصحفية تحت ارشاده.
اهتماماتي الثقافية والابداعية والصحفية لم تتوقف خلال مسيرتي الحياتية، وكثيراً ما انجزت مقالاتي وقصصي ومقاطع من رواياتي وانا تحت ضغط العمل في المصانع فهل يتوقع ايتام سيبويه ان اعطي للتقعر اللغوي اهمية في كتاباتي؟ في زمن الكتابة اعطي للفكر والمنطق واسلوب الكتابة والوضوح في الطرح كل جهدي واهتمامي، واعطي للمواقف والهموم الاجتماعية والسياسية كل طاقاتي وتفكيري .. واكاد افتقد لأوقات الفراغ !!
فارقدوا بسلام ما شئتم...
ان كشف عيوب تفكيركم وتهريجكم الثقافي والسياسي والاجتماعي، ليس حسداً ولا كرهاً لكم وانما لتصويب الناشئين من شرها... وما اصدق مارون عبود عندما قال: " اولى واجباتنا ان نكش الذباب الجاثم على موائد الادب فمنظره يطرد الشهوة ".
صدق ...!
nabiloudeh@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق