2 ـ الأسطورة و الحكاية الشعبية :
يلاحظ أن الحدود بين الأسطورة والحكاية الشعبية واضحة مقارنة بالتداخل الحاصل بينها وبين الخرافة؛ فالحكاية الشعبية تتميز عن الأسطورة بخصائص عدة أهمها: إنها تقيم حداً فاصلاً بين عالم الإنسان وعالم القوى الكونية والآلهة؛ كما تنطلق من هموم المجتمع الإنساني؛ وتحاول أن تجد للإنسان نوعاً من العزاء في مواجهة ما ينغص عليه حياته. وهنا تبرز “أهمية الحكاية الشعبية في دراسة شخصية الشعوب” ، إذ تعكس مشكلاتها، وتعبر عن طريقة تقويمها للأمور، كما تجسد بشكل أو
بآخر طموحاتها؛ بالإضافة إلى ذلك، تنتمي الحكاية الشعبية في صيغتها الإجمالية إلى مرحلة متأخرة تاريخياً بالقياس إلى المرحلة التي تنتمي إليها الأسطورة؛ فهي تمثل وجهة نظر المجتمع المتطور الذي أقر بما يميزه عن الطبيعة، واستطاع أن يدفع عن ذاته الكثير من أسباب الخوف من القوى الخفية، والأهواء المتقلبة “لمختلف الآلهة”. من جهة أخرى، نرى أن البطل الإنساني الذي “تنمو شخصيته من الداخل” ، يمارس دوراً هاماً في الحكاية الشعبية، وحتى إذا ما استعان ببعض القوى الخفية، أو إذا ما ساعدته الآلهة، فإن الحكاية الشعبية تؤكد أن ذلك يمثل خروجاً على المألوف، وتميّز بدقة بين العالم الإنساني وعالم تلك القوى.
أما الأسطورة، فهي من نسيج آخر، إنها تبحث في أصل الكون وظواهره؛ كما تتناول تنظيم الكون من قبل الآلهة، وتعالج مختلف المشكلات الكونية الكبرى، ولا تتعرض للإنسان إلا في سياق تبعيته وخضوعه للآلهة التي ترمز إلى القوى الكونية .
إن الأسطورة بهذا المعنى تمثل نظرة المجتمعات القديمة إلى عملية تشكل الكون، كما أنها تجسد جهداً تفسيرياً يرمي إلى فضّ أسرار أصول الأولى لمختلف الظواهر الطبيعية والاجتماعية؛ أما الحكاية الشعبية، فهي تتناول حقلاً محدوداً من اهتمامات الإنسان الاجتماعية التي تمثل مشكلاته وطموحاته، تماماً مثلما تتناول الخرافة ساحة صغيرة من الظواهر الطبيعية مقارنة بما تفعله الأسطورة. غير أن التمييز بين كل من الخرافة الحكاية الشعبية من جهة الاهتمام، لا يرمي إلى التستّر على أوجه التداخل فيما بينهما، فالخرافة أحياناً قد تهتم بالظواهر الاجتماعية، كما أن الحكاية الشعبية قد تبحث هي الأخرى في الظواهر الطبيعية؛ إلا أن المقصود هنا هو تبيان الاهتمام الأساسي لكل منهما.
بالاعتماد على ما سبق، نرى أن هناك خصائص عدة، تميز الأسطورة عن الخرافة، وكذلك الحكاية الشعبية،أهمها هي: الوظيفة، وطريقة التناول، وشمولية المعالجة.
3 - الأسطورة والملحمة:
أشار صموئيل نوح كريمر في سياق حديث له عن شعر الملاحم إلى أن الإنسان في هذه الأشعار يقوم “دون الآلهة بالدور الأول” .
أما طه باقر، فهو يرى أن الملاحم بوجه عام تستند في أساسها إلى أحداث تاريخية واقعية، لكنها رويت بأسلوب روائي أدبي شعري، كما أن أبطالها وشخوصها من البشر بالدرجة الأولى، وذلك بخلاف الأساطير التي يعتبرها “مجرد نتاج الخيال الأسطوري الشاعر، وقد وضعت لتفسير أصول الأشياء ومظاهر الكون والحياة الاجتماعية” .
إننا إذا أخذنا بهذين الرأيين للعالمين المشهود لهما في ميدان اختصاصهما، ربما تمكنّا من التمييز بين الأسطورة والملحمة، على أساس أن الأولى تبحث في أصول الأشياء، وأبطالها من الآلهة، وأحداثها تقع في الزمن الموغل في القدم الذي يتمرد على أي تحديد؛ في حين أن مكانها يشمل الكون بأسره. أما الملحمة، فهي تمتلك عنصراً تاريخياً واقعياً، كما أن أبطالها من البشر، أو أنصاف الآلهة الذين يمثلون حلقة الوصل بين الآلهة والإنسان كما نرى ذلك في ملحمة كلكامش البابلية .
غير إننا إذا اقتصرنا على هذا التمييز الذي يبدو معقولاً إلى حدٍ كبير، سنجد صعوبة في إيجاد تسويغ مقبول لإدخال بعض النصوص في خانة الملاحم، مع أنها تعامل من قبل الباحثين معاملة الملاحم؛ ونذكر هنا على سبيل المثال، ملحمة التكوين البابلية التي يسميها بعضهم “قصة الخليقة البابلية”، أو ملحمة الـ “اينوما ايليش”، في هذا النص لا نعثر على أي عنصر تاريخي، فأحداثه تجري قبل تشكل الأرض والسماء، وتنظيم الكون. كما أن الإنسان لا يؤدي أي دور فاعل في مجريات أمور، وإنما يخلق أساساً من أجل خدمة الآلهة، وتوفير احتياجاتها، وذلك تكفيراً عن خطيئة الإله كينغو، قائد جيوش تيامة الذي جُبل دمه مع الطين الذي صنع منه الإنسان، لكنه على الرغم من ذلك، يلاحظ أن هناك شبه إجماع حول تسمية هذا النص “ملحمة التكوين البابلية” حتى من قبل كل من كريمر وباقر نفسيهما؛ وربما كان السبب في ذلك هو فكرة الصراع الدائر بين قوى الخير بزعامة مردوك، وقوى الشر بزعامة تيامة ، وهذا ما يدفعنا نحو اعتماد عنصر ثالث يميز الملحمة، ونعني به الصراع، سواء بين الآلهة نفسها، أم بين الإنسان وقوى الشر. ولكن حتى في هذه الحالة الأخيرة، نرى أن الآلهة تظل بمثابة القوى الفاعلة التي تجري تحت إشرافها الأحداث، وربما كانت مجريات ملحمة كلكامش تلقي الضوء على هذه المسألة؛ إلا أن الأمر الهام الذي لا بد من إبرازه هنا هو أن الملحمة تبقى نسقاً من أنساق الوعي الأسطوري، والروابط الوثيقة التي تشدها إلى الأسطورة تجعل عملية الفصل بينهما صعبة إن لم نقل مستحيلة، وذلك على خلاف صلة الأسطورة بالخرافة أو الحكاية الشعبية.
ج- ما هي الأسطورة؟
1 - الأسطورة لغة واصطلاحاً:
مصطلح الأسطورة الذي يمثل محور دراستنا هذه، هو الترجمة العربية للمصطلح اللاتيني (ميث) المشتق من المصطلح الاغريقي (ميتوس) الذي يعني حكاية؛ أما المصدر العربي الذي اشتق منه مصطلح الأسطورة بمعناه الحديث فهو لا يزال بين أخذ ورد، ومن المعروف أن أقدم إشارة إليه كان في القرآن الكريم حيث ورد هذا المصطلح بصيغة الجمع، مقترناً بكلمة الأولين في سور قرآنية عديدة . وقد فسرت عبارة أساطير الأولين التي وصف بها المشركون الآيات القرآنية التي كان الرسول ينقلها إليهم، بأنها تعني الأكاذيب التي كتبها الأولون ، أي أنها عبارة عن حكايات وأقاويل لا أساس من الصحة؛ وقد ظل هذا المعنى مواكباً الأسطورة على مدى فترات طويلة، بل يمكن القول أنه لا يزال مستقراً في أذهان عدد من الناس الذين لا يميزون بين الأسطورة والخرافة، والأحاديث الملفقة التي لا تمتلك أي أساس يجعلها على قدر محدود من الأهمية سواء على المستوى التاريخي، أو المعرفي، أو النفسي، أو التقويمي. وقد بذلت جهود عديدة لإيجاد مرتكز ما، يسوّغ استخدام مصطلح الأسطورة بمعناه المتعارف عليه؛ ونشير في هذا المجال إلى محاولة وديع بشور الذي أراد أن يشتق المصطلح العربي من المصطلح الإغريقي اشتقاقاً حرفياً، فهو يقول: إن كلمة ميتوس عند الإغريق تعني حكاية. وكلمة “أسطورة” العربية مقتبسة من كلمة (استو ريا) اليونانية أيضاً وتعني حكاية أو قصة؛ إلا أن كلمة أسطورة تعني حكاية غير حقيقية أو عكس الحقيقة. بينما الكلمة ذاتها (هيستوريا) تعني تاريخ و(لوغوس) “الكلمة” صارت “علم”. هكذا أصبحت ميتوس المترجمة “أسطورة” بعكس “لوغوس” و “استو ريا” تعني شيئاً غير موجود في الواقع أي خرافة” .
وما يمكن أن نسجله على هذا الرأي يتمثّل في الملاحظات التالية:
1 - لا يشير بشور إلى نماذج واقعية تاريخية تدعم رأيه، فهو لا يعود إلى أي سند من التراث، كما أنه لا يحدد الفترة التاريخية التي حدث خلالها مثل هذا الاقتباس، كل ما هنالك انه يعتمد على مجرد التشابه اللفظي بين كلمتين هما أسطورة العربية و”استو ريا” الإغريقية.
2 - التشابه اللفظي القائم بين كلمة أسطورة العربية و”استو ريا” الإغريقية، لا يسعف في اعتقادنا بشور، لأنه في اشتقاقه قارن أولاً بين كلمة أسطورة وميتوسالاغريقية، ووجد أنهما يتفقان في المعنى، لكنه لم يوفق في النقلة التي حاول بموجبها أن يقفز من كلمة (ميتوس) إلى (هيستوريا) لأنه اعتمد فقط على التشابه اللفظي، وهذا غير كافٍ، لأنه في مقابل هذا التشابه، كان التضاد في المعنى الذي أقر به بشور.
3 - إن النتيجة التي يصل إليها بشور، ويرى بموجبها أن الأسطورة تعني شيئاً غير موجود في الواقع أي خرافة، إن هذه النتيجة لا تعكس الدلالة الحقيقية للأسطورة، فالأسطورة إذا كانت حكاية فهي تتحدث عن دور الآلهة في تشكيل الكون وتنظيمه، وخلق الإنسان وتحديد مساره، ومثل هذه المسائل لا تدخل في دائرة الخرافة التي درسنا أوجه الشبه والخلاف بينها وبين الأسطورة.
4 - إن الخطأ الذي يقع فيه بشور هو أنه لا يميز بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي في سعيه من أجل تحديد معنى الأسطورة. فالأسطورة قد تعود لغوياً بالفعل إلى العبارة القرآنية “أساطير الأولين”، وهي بهذا المعنى تشير إلى القصص والأحاديث العجيبة التي لا أصل لها ؛ إلا أنها على الصعيد الاصطلاحي تعني غير ذلك، وهذا ما يتضح من خلال من خلال دراستنا التالية لبنية الأسطورة ووظيفتها:
ب- بنية الأسطورة:
يقوم تحليلنا لبنية الأسطورة على أرضية محورها إبراز أهم مقوماتها، وسنشير في هذا السياق إلى موضوعاتها، وأبطالها، وطابعها الاعتقادي، بالإضافة إلى أهم التقنيات التي تستخدمها.
الأسطورة عادة تهتم “بالكائنات والحوادث الكبرى” ، فهي تبحث في تشكل الأرض والسماء والبحر، وخلود الإنسان والحيوان ، والكوارث الطبيعية الكبرى ، والخصوبة بنسقيها الجنسي والطبيعي ؛ كما أنها تروي “مغامرات الآلهة وعلاقاتها مع الإنسان” ؛ كما تتناول الأسطورة أهم أسباب الحضارة ؛ وتبيّن أهمية التنظيم سواء على صعيد الكون أم المجتمع . كما تقارن بين الفوضى والشر ،وتقدم تصوراً معيناً حول العالم الأسفل ؛ وهناك نوع من الأساطير ما يلقي الضوء على عملية التصارع بين الأنماط المعيشية المتباينة . هذا التنوع في اهتمامات الأسطورة يعكس مدى الحاجة إليها، والدور الذي كانت تؤديه في إطار المجتمعات القديمة التي كانت الأسطورة تشكل بالنسبة لها وعياً أولياً، تتعرف من خلاله إلى أصول الأشياء، وتعمل اعتماداً عليه، من أجل اكتشاف جوانب العالم المجهول المحيط بها، الذي كان يمثل موضوعاً غنياً لتساؤلات مستمرة.
أما أبطال الأسطورة، فهم عادة من الآلهة، كل إله يتحكم بقوة ما، أو أنه بالأحرى يمثل خاصية ما، قد تكون طبيعية وقد تكون اجتماعية؛ لكن الآلهة ليسوا جميعاً على المستوى نفسه من الأهمية؛ فأساطير كل مجتمع تكشف النقاب عن أسماء آلهة كبار يشرفون على الأعمال التي ينجزها الآلهة الأقل شأناً. إلى جانب الآلهة، نرى في أساطير عديدة، إسهام بعض المتميزين من البشر في نسج الأحداث، والدخول في عالم الآلهة، وهذا إن دلّ على شيء فإنما على مدى أهمية وضرورة إيجاد نقاط اتصال بين عالم الآلهة وعالم البشر - من دون الخلط بينهما- وذلك لتحقيق عملية التواصل بينهما، وبيان مدى حاجة كل منهما إلى الآخر؛ فالآلهة تخلق البشر، تنظم الكون، وتهيئ مستلزمات الخصب، وتحمي المدن؛ والبشر من ناحيتهم يقدمون القرابين ويؤدون أعمال السخرة، كما يأتمرون بما ترغب فيه الآلهة. ويبنون المعابد؛ عالمان يحتاج كل منهما إلى الآخر. فالآلهة تؤكد قوتها في مواجهة العجز البشري، والبشر يعملون على تخطي ضعفهم من خلال اللجوء إلى قوة الآلهة عبر الخضوع لها؛ ربما لم تكن المسألة بمثل هذا الوضوح في بداياتها الأولى، لكنها كانت في طريقها إلى ذلك؛ وهذا ما أصبحت عليه بالفعل فيما بعد، حينما تبلورت المؤسسة الدينية، واكتسبت شخصية مستقلة إزاء المجتمع. فقد عمدت هذه الأخيرة إلى الاستفادة من الطابع الاعتقادي الذي تتسم به الأسطورة، بل إنها لجأت إلى إبرازه عن طريق مده بجملة من التصورات الإيمائية. ولم تكتف بذلك بحسب، بل لجأت إلى إحاطة أساطير محددة بهالة من القداسة، فتحولت إلى جزء عضوي من الطقوس الدينية التي كانت تمارس بإشراف المعبد، والقصر أحياناً، في مناسبات خاصة.
والذي نعنيه بطابع الأسطورة الاعتقادي، هو قدرتها على فرض ذاتها على سامعها الذي لا يجعلها موضوعاً للشك، وإنما على خلاف ذلك فهو يقر بصحة أخبارها، ويتعامل مع أحداثها وكأنها وقعت بالفعل، على الرغم من أنه لا يستطيع تحديد زمانها؛ أما مكانها فهو يرتبط غالباً بمدينة ما تحظى بمكانة هامة في مواجهة الكون بأسره، يتغير اسمها تبعاً لاختلاف المناطق والمراحل الزمنية، وذلك نتيجة تعاظم أهمية هذه المدينة أو تلك، مقابل تضاؤل شأن المدن الأخرى.
ولعل تمرد الأسطورة على التحديد الزمني مرده الخاصية التجريدية التي يتميز بها الزمان مقارنة بالمكان. فالذهنية الأسطورية لم تستوعب المكان المجرد، لأنها لم تتمكن من تجاوز الحسية المكانية، كل ما هنالك أنها أضفت على أمكنة معينة صفات خاصة، مهدت لظهور فكرة المكان المقدس الذي تجسد لاحقاً في المعبد. أما الزمان، فقد ظل خارج نطاق التحديد الحسي، لذلك كانت الأحداث الأسطورية تنسب عادة إلى الزمن البدئي الذي لا يحدد بأي مقياس، إلا أنه مقابل ذلك تجلت فكرة دائرية الزمان، وإمكانية العودة المستمرة - ولو رمزياً- إلى البدايات الزمنية الأولى، فاكتسبت هذه أهمية فائقة، بلغت حد القداسة. ومن هنا كانت احتفالات رأس السنة مناسبة كبيرة، سعت المجتمعات القديمة من خلالها إلى تجديد ذاتها، لأنها كانت ترى أن الاندماج مع اللحظة الزمنية المقدسة يجسد عملية تطهيرية شاملة، يتم التحرر بفضلها من كل الشرور السالفة، ولم يكن للأسطورة أن تنجز كل ذلك لولا استخدامها لمجموعة من التقنيات الخاصة التي جعلت الإنتاج الأسطوري - من خلال تفاعله مع العناصر الأخرى- أمراً مغايراً لكل الأنساق الشبيهة، كالخرافة والحكاية الشعبية والأقوال المأثورة وغيرها؛ فالأسطورة تتسم أولاً بأسلوبها الجاد المؤثر في تناولها للأحداث؛ وهي لا توحي لسامعها أنها تقدم مادة هزلية مسلية، كما أنها لا ترمي إلى تلبية الحاجات المباشرة، بل إنها باتخاذها الآلهة أبطالاً لها، ومن الأسئلة الإنسانية المصيرية محوراً لأحداثها، إنما تؤكد انتماءها إلى مستوى ذهني أرقى من مستوى الاندماج شبه التام مع الظواهر الكونية، وتثبت في الوقت نفسه وجود إمكانية حقيقية لدى الإنسان، يستطيع انطلاقاً منها الإحاطة بالمواقف، وفهمها ومن ثم استيعابها؛ بصرف النظر عن مدى نجاحها في ذلك، لأن المهم في هذا السياق إنما هو الاتجاه العام لا النتائج، نظراً لارتباط هذه الأخيرة مع مقدماتها الذهنية، والأسس المعرفية التي تم التوصل اليها بفضل تراكم خبرات الأجيال السالفة. من جهة أخرى، تتخذ الأسطورة - انسجاماً مع طابعا الجاد- من أسلوب التكرار، أي إعادة بعض المقاطع المرة تلو الأخرى، وضمن النص الواحد، وسيلة لإبراز أهمية الحدث، وأداة تؤكد أن ما تقوله- الأسطورة- يدخل في عداد المسلمات التي يقر الجميع بصحتها من دون أية مناقشة، أو أي تشكيك؛ وهذا ما يمد الأسطورة بقوة خاصة، تمكنها من امتلاك مدارك المتلقي الذي ينصاع لما يسمعه منها، ويقف إزاءها موقف الواثق بكل ما تقدمه. والتكرار بهذا المعنى لم يكن هدفه الأول تهيئة نقاط ارتكاز يستند إليها المتعامل مع النص الأسطوري ليتمكن من حفظها، وإبعادها عن أي تغيير، على الرغم من أنه ربما يكون قد أدى هذه المهمة، وإنما تمثلت وظيفته الرئيسة في فرض أجواء مؤثرة على المتلقي، ودفعه نحو الاعتقاد بصحة بل وقدسية ما تقدمه له الأسطورة.
بالإضافة إلى ما سبق، منحت الأسطورة الكلمة الإلهية أهمية خاصة، تقابلها على الأرض الكلمة الملكية الآمرة، وهذا بدوره أسهم في إعلاء شأن الأسطورة، وإضفاء صبغة الجد الصارم على ما تقدمه، لكنه في حالات معينة، يلاحظ أن الكلمة الإلهية وحدها تغدو غير قادرة على الإتيان بما هو مرغوب فيه، خاصة حينما يستند الصراع بين الآلهة نفسها، فيلجأ كل طرف إلى قوته الفائقة؛ في وضع كهذا برز السحر ليكون وسيلة، القصد منها إجراء انعطافات في سير الأحداث، لتأتي موافقة لتطلعات هذا الإله أو ذاك، وبالتالي لتوجهات من أبدع الأسطورة، أو تمكن من توظيفها.
وظيفة الأسطورة:
في إطار وظيفة الأسطورة، يمكننا أن نتحدث عن تفاعل وجهين متلازمين، يؤثر أحدهما في الآخر، ويؤدي في الوقت ذاته وظيفة مغايرة له، وهذا ما يفسر الطابع المركب الذي تتميز به وظيفة الأسطورة.
الوجه الأول، معرفي، يعكس رغبة المجتمعات القديمة - صانعة الأسطورة- في اكتشاف أسرار الكون والحياة الاجتماعية، ثم استيعابها، لنتمكن من التعامل مع ما يحيط بها من ظواهر طبيعية واجتماعية، والتكيف مع مقتضياتها، ويلاحظ بخصوص هذا الوجه، أنه لم يقتصر على واحد بعينه، بل شمل عدداً كبيراً من الموضوعات التي اتسمت بتفاوتها من جهة الأهمية والخطورة؛ وما يتسم به هذا الوجه، هو أنه يتكئ على مسعى المجتمعات القديمة في سبيل الدخول إلى عالم الطبيعة المجهول، ورغبتها في إيجاد مرتكزات عدة، تستطيع اعتماداً عليها أن تواصل سيرها، وتحصّل لنفسها ما يمكنها من تجديد دورتها الحياتية، وذلك على اعتبار أن الأسطورة تتيح إمكانية التعرف إلى أصول الظاهرات الضرورية، ومن ثم إمكانية جعلها تظهر ثانية بعد اختفائها.
غير أن الطبيعة لم تكن هي الميدان الوحيد الذي استأثر باهتمام الأسطورة، وإنما كان للحياة الاجتماعية نفسها حيّز لا يمكن تجاهله في هذا المجال، إذ أنها مثّلت حقلاً خصباً تمحور حوله العديد من التصورات الأسطورية، لا سيما تلك التي تتصل بجوانب التنظيم الاجتماعي، وكذلك تداخلات مراحل التطور التاريخي، بالإضافة إلى الخصومات المتلاحقة بين ممالك الدول المختلفة.
وهنا يجدر التنويه بالصفة الاعتقادية التي طبعت الجانب المعرفي في الأسطورة بميسمها؛ فعلى الرغم من أن الأسطورة كانت حصيلة ذهنية لجهود جماعات إنسانية، أرادت أن تستوعب ذاتها والعالم المحيط بها، ومن ثم اكتشاف الجسور بينها وبينه. على الرغم من ذلك، يلاحظ أن الطابع الاعتقادي الجازم ظل مهيمناً على الأسطورة، بل اتسعت دائرة الهيمنة تلك في العصور اللاحقة، بعد أن اكتشفت القوى الاجتماعية المتنفذة مدى جدوى استخدام الأسطورة في عملية تكريس نفوذها؛ ويتجلى الطابع الاعتقادي للأسطورة في صياغتها لمسلماتها وتصوراتها، “وكأنها الحقائق حول طبائع الأشياء” .
هذه المسألة، تبين لنا ملامح الطريقة التي ينبغي أن نتبعها في سعينا لاكتشاف مكنونات الأسطورة، وفهم طبيعة رموزها، وتتبع آلية تلاحق أحداثها. فبادئ ذي بدئ ينبغي وضع الأسطورة في سياقها التاريخي- الاجتماعي، لأن ذلك سيمكننا من الدخول إلى عالمها من الباب الذي ينبغي أن ندخل منه؛ فأساطير كل مرحلة تاريخية هي مرآة مرحلتها، تعكس خصائص مجتمعها في المرحلة المعنية، تحمل وشم أبرز مشكلاته، وأهم تطلعاته، ومعرفة كل هذا تتطلب دراسة معمقة، تأخذ في حسابها ضرورة التمييز بين الطابع الاعتقادي الذي يخيّم على الأسطورة من جهة، وطبيعة المسائل التي تتناولها انطلاقاً من موقعها بوصفها شكلا من أشكال الوعي الاجتماعي من جهة أخرى. ودراسة كهذه من شأنها كشف بواعث هيمنة الطابع الاعتقادي على الأسطورة، ومن ثم الوقوف على مدى التشويه الذي ألحقه هذا الطابع بما يمكن أن نسميه الأسس الأولى غير المتبلورة للمعرفة الإنسانية التي تضمنتها الأسطورة في مرحلتها الجنينة؛ وهنا سنكتشف أن الوجه الآخر الإيديولوجي لوظيفة الأسطورة يسهم بشكل مباشر في تكريس الهيمنة، وإحداث التشويه المشار إليهما، لأن الأسطورة خضعت لعملية تطويع مستمرة من قبل القوى الأكثر قدرة في المجتمع، سواء تلك التي اتخذت من المعبد ميداناً لنفوذها، أو تلك التي كانت تتمترس في القصر، وتسعى انطلاقاً منه في سبيل بسط سلطانها على المجتمع بأسره، متبعة في ذلك جملة أساليب، تراوحت بين الترغيب والترهيب.
هكذا نرى أن الأسطورة هي شكل من أشكال الوعي الاجتماعي، يمثل حصيلة ذهنية لجهود جماعية لم تكن قد امتلكت بعد القدرة على ممارسة التفكير الفلسفي النظري. الأسطوري تجسد نظرة المجتمعات القديمة إلى العالم الذي يشمل الكون والمجتمع والعلاقة التفاعلية بينهما في صيغة رمزية شاعرية؛ والأمر اللافت للنظر في هذا التعريف أنه شمولي، يحدد الأسطورة في صيغتها العامة، لكننا إذا دخلنا في التفاصيل، وبحثنا في أنماط الوعي الأسطوري في كل مرحلة من مراحل تطوره، فحينئذٍ لا بد أن يغدو التعريف أكثر تخصيصاً، إلا أنه مع ذلك نرى أن هذا التعريف الشمولي يصلح ليكون الأرضية التي سنستند إليها في أي سعي يبغي تقديم تعر يف تفصيلي، ويبقى السؤال: ما هي الأسطورة؟
يلاحظ أن الحدود بين الأسطورة والحكاية الشعبية واضحة مقارنة بالتداخل الحاصل بينها وبين الخرافة؛ فالحكاية الشعبية تتميز عن الأسطورة بخصائص عدة أهمها: إنها تقيم حداً فاصلاً بين عالم الإنسان وعالم القوى الكونية والآلهة؛ كما تنطلق من هموم المجتمع الإنساني؛ وتحاول أن تجد للإنسان نوعاً من العزاء في مواجهة ما ينغص عليه حياته. وهنا تبرز “أهمية الحكاية الشعبية في دراسة شخصية الشعوب” ، إذ تعكس مشكلاتها، وتعبر عن طريقة تقويمها للأمور، كما تجسد بشكل أو
بآخر طموحاتها؛ بالإضافة إلى ذلك، تنتمي الحكاية الشعبية في صيغتها الإجمالية إلى مرحلة متأخرة تاريخياً بالقياس إلى المرحلة التي تنتمي إليها الأسطورة؛ فهي تمثل وجهة نظر المجتمع المتطور الذي أقر بما يميزه عن الطبيعة، واستطاع أن يدفع عن ذاته الكثير من أسباب الخوف من القوى الخفية، والأهواء المتقلبة “لمختلف الآلهة”. من جهة أخرى، نرى أن البطل الإنساني الذي “تنمو شخصيته من الداخل” ، يمارس دوراً هاماً في الحكاية الشعبية، وحتى إذا ما استعان ببعض القوى الخفية، أو إذا ما ساعدته الآلهة، فإن الحكاية الشعبية تؤكد أن ذلك يمثل خروجاً على المألوف، وتميّز بدقة بين العالم الإنساني وعالم تلك القوى.
أما الأسطورة، فهي من نسيج آخر، إنها تبحث في أصل الكون وظواهره؛ كما تتناول تنظيم الكون من قبل الآلهة، وتعالج مختلف المشكلات الكونية الكبرى، ولا تتعرض للإنسان إلا في سياق تبعيته وخضوعه للآلهة التي ترمز إلى القوى الكونية .
إن الأسطورة بهذا المعنى تمثل نظرة المجتمعات القديمة إلى عملية تشكل الكون، كما أنها تجسد جهداً تفسيرياً يرمي إلى فضّ أسرار أصول الأولى لمختلف الظواهر الطبيعية والاجتماعية؛ أما الحكاية الشعبية، فهي تتناول حقلاً محدوداً من اهتمامات الإنسان الاجتماعية التي تمثل مشكلاته وطموحاته، تماماً مثلما تتناول الخرافة ساحة صغيرة من الظواهر الطبيعية مقارنة بما تفعله الأسطورة. غير أن التمييز بين كل من الخرافة الحكاية الشعبية من جهة الاهتمام، لا يرمي إلى التستّر على أوجه التداخل فيما بينهما، فالخرافة أحياناً قد تهتم بالظواهر الاجتماعية، كما أن الحكاية الشعبية قد تبحث هي الأخرى في الظواهر الطبيعية؛ إلا أن المقصود هنا هو تبيان الاهتمام الأساسي لكل منهما.
بالاعتماد على ما سبق، نرى أن هناك خصائص عدة، تميز الأسطورة عن الخرافة، وكذلك الحكاية الشعبية،أهمها هي: الوظيفة، وطريقة التناول، وشمولية المعالجة.
3 - الأسطورة والملحمة:
أشار صموئيل نوح كريمر في سياق حديث له عن شعر الملاحم إلى أن الإنسان في هذه الأشعار يقوم “دون الآلهة بالدور الأول” .
أما طه باقر، فهو يرى أن الملاحم بوجه عام تستند في أساسها إلى أحداث تاريخية واقعية، لكنها رويت بأسلوب روائي أدبي شعري، كما أن أبطالها وشخوصها من البشر بالدرجة الأولى، وذلك بخلاف الأساطير التي يعتبرها “مجرد نتاج الخيال الأسطوري الشاعر، وقد وضعت لتفسير أصول الأشياء ومظاهر الكون والحياة الاجتماعية” .
إننا إذا أخذنا بهذين الرأيين للعالمين المشهود لهما في ميدان اختصاصهما، ربما تمكنّا من التمييز بين الأسطورة والملحمة، على أساس أن الأولى تبحث في أصول الأشياء، وأبطالها من الآلهة، وأحداثها تقع في الزمن الموغل في القدم الذي يتمرد على أي تحديد؛ في حين أن مكانها يشمل الكون بأسره. أما الملحمة، فهي تمتلك عنصراً تاريخياً واقعياً، كما أن أبطالها من البشر، أو أنصاف الآلهة الذين يمثلون حلقة الوصل بين الآلهة والإنسان كما نرى ذلك في ملحمة كلكامش البابلية .
غير إننا إذا اقتصرنا على هذا التمييز الذي يبدو معقولاً إلى حدٍ كبير، سنجد صعوبة في إيجاد تسويغ مقبول لإدخال بعض النصوص في خانة الملاحم، مع أنها تعامل من قبل الباحثين معاملة الملاحم؛ ونذكر هنا على سبيل المثال، ملحمة التكوين البابلية التي يسميها بعضهم “قصة الخليقة البابلية”، أو ملحمة الـ “اينوما ايليش”، في هذا النص لا نعثر على أي عنصر تاريخي، فأحداثه تجري قبل تشكل الأرض والسماء، وتنظيم الكون. كما أن الإنسان لا يؤدي أي دور فاعل في مجريات أمور، وإنما يخلق أساساً من أجل خدمة الآلهة، وتوفير احتياجاتها، وذلك تكفيراً عن خطيئة الإله كينغو، قائد جيوش تيامة الذي جُبل دمه مع الطين الذي صنع منه الإنسان، لكنه على الرغم من ذلك، يلاحظ أن هناك شبه إجماع حول تسمية هذا النص “ملحمة التكوين البابلية” حتى من قبل كل من كريمر وباقر نفسيهما؛ وربما كان السبب في ذلك هو فكرة الصراع الدائر بين قوى الخير بزعامة مردوك، وقوى الشر بزعامة تيامة ، وهذا ما يدفعنا نحو اعتماد عنصر ثالث يميز الملحمة، ونعني به الصراع، سواء بين الآلهة نفسها، أم بين الإنسان وقوى الشر. ولكن حتى في هذه الحالة الأخيرة، نرى أن الآلهة تظل بمثابة القوى الفاعلة التي تجري تحت إشرافها الأحداث، وربما كانت مجريات ملحمة كلكامش تلقي الضوء على هذه المسألة؛ إلا أن الأمر الهام الذي لا بد من إبرازه هنا هو أن الملحمة تبقى نسقاً من أنساق الوعي الأسطوري، والروابط الوثيقة التي تشدها إلى الأسطورة تجعل عملية الفصل بينهما صعبة إن لم نقل مستحيلة، وذلك على خلاف صلة الأسطورة بالخرافة أو الحكاية الشعبية.
ج- ما هي الأسطورة؟
1 - الأسطورة لغة واصطلاحاً:
مصطلح الأسطورة الذي يمثل محور دراستنا هذه، هو الترجمة العربية للمصطلح اللاتيني (ميث) المشتق من المصطلح الاغريقي (ميتوس) الذي يعني حكاية؛ أما المصدر العربي الذي اشتق منه مصطلح الأسطورة بمعناه الحديث فهو لا يزال بين أخذ ورد، ومن المعروف أن أقدم إشارة إليه كان في القرآن الكريم حيث ورد هذا المصطلح بصيغة الجمع، مقترناً بكلمة الأولين في سور قرآنية عديدة . وقد فسرت عبارة أساطير الأولين التي وصف بها المشركون الآيات القرآنية التي كان الرسول ينقلها إليهم، بأنها تعني الأكاذيب التي كتبها الأولون ، أي أنها عبارة عن حكايات وأقاويل لا أساس من الصحة؛ وقد ظل هذا المعنى مواكباً الأسطورة على مدى فترات طويلة، بل يمكن القول أنه لا يزال مستقراً في أذهان عدد من الناس الذين لا يميزون بين الأسطورة والخرافة، والأحاديث الملفقة التي لا تمتلك أي أساس يجعلها على قدر محدود من الأهمية سواء على المستوى التاريخي، أو المعرفي، أو النفسي، أو التقويمي. وقد بذلت جهود عديدة لإيجاد مرتكز ما، يسوّغ استخدام مصطلح الأسطورة بمعناه المتعارف عليه؛ ونشير في هذا المجال إلى محاولة وديع بشور الذي أراد أن يشتق المصطلح العربي من المصطلح الإغريقي اشتقاقاً حرفياً، فهو يقول: إن كلمة ميتوس عند الإغريق تعني حكاية. وكلمة “أسطورة” العربية مقتبسة من كلمة (استو ريا) اليونانية أيضاً وتعني حكاية أو قصة؛ إلا أن كلمة أسطورة تعني حكاية غير حقيقية أو عكس الحقيقة. بينما الكلمة ذاتها (هيستوريا) تعني تاريخ و(لوغوس) “الكلمة” صارت “علم”. هكذا أصبحت ميتوس المترجمة “أسطورة” بعكس “لوغوس” و “استو ريا” تعني شيئاً غير موجود في الواقع أي خرافة” .
وما يمكن أن نسجله على هذا الرأي يتمثّل في الملاحظات التالية:
1 - لا يشير بشور إلى نماذج واقعية تاريخية تدعم رأيه، فهو لا يعود إلى أي سند من التراث، كما أنه لا يحدد الفترة التاريخية التي حدث خلالها مثل هذا الاقتباس، كل ما هنالك انه يعتمد على مجرد التشابه اللفظي بين كلمتين هما أسطورة العربية و”استو ريا” الإغريقية.
2 - التشابه اللفظي القائم بين كلمة أسطورة العربية و”استو ريا” الإغريقية، لا يسعف في اعتقادنا بشور، لأنه في اشتقاقه قارن أولاً بين كلمة أسطورة وميتوسالاغريقية، ووجد أنهما يتفقان في المعنى، لكنه لم يوفق في النقلة التي حاول بموجبها أن يقفز من كلمة (ميتوس) إلى (هيستوريا) لأنه اعتمد فقط على التشابه اللفظي، وهذا غير كافٍ، لأنه في مقابل هذا التشابه، كان التضاد في المعنى الذي أقر به بشور.
3 - إن النتيجة التي يصل إليها بشور، ويرى بموجبها أن الأسطورة تعني شيئاً غير موجود في الواقع أي خرافة، إن هذه النتيجة لا تعكس الدلالة الحقيقية للأسطورة، فالأسطورة إذا كانت حكاية فهي تتحدث عن دور الآلهة في تشكيل الكون وتنظيمه، وخلق الإنسان وتحديد مساره، ومثل هذه المسائل لا تدخل في دائرة الخرافة التي درسنا أوجه الشبه والخلاف بينها وبين الأسطورة.
4 - إن الخطأ الذي يقع فيه بشور هو أنه لا يميز بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي في سعيه من أجل تحديد معنى الأسطورة. فالأسطورة قد تعود لغوياً بالفعل إلى العبارة القرآنية “أساطير الأولين”، وهي بهذا المعنى تشير إلى القصص والأحاديث العجيبة التي لا أصل لها ؛ إلا أنها على الصعيد الاصطلاحي تعني غير ذلك، وهذا ما يتضح من خلال من خلال دراستنا التالية لبنية الأسطورة ووظيفتها:
ب- بنية الأسطورة:
يقوم تحليلنا لبنية الأسطورة على أرضية محورها إبراز أهم مقوماتها، وسنشير في هذا السياق إلى موضوعاتها، وأبطالها، وطابعها الاعتقادي، بالإضافة إلى أهم التقنيات التي تستخدمها.
الأسطورة عادة تهتم “بالكائنات والحوادث الكبرى” ، فهي تبحث في تشكل الأرض والسماء والبحر، وخلود الإنسان والحيوان ، والكوارث الطبيعية الكبرى ، والخصوبة بنسقيها الجنسي والطبيعي ؛ كما أنها تروي “مغامرات الآلهة وعلاقاتها مع الإنسان” ؛ كما تتناول الأسطورة أهم أسباب الحضارة ؛ وتبيّن أهمية التنظيم سواء على صعيد الكون أم المجتمع . كما تقارن بين الفوضى والشر ،وتقدم تصوراً معيناً حول العالم الأسفل ؛ وهناك نوع من الأساطير ما يلقي الضوء على عملية التصارع بين الأنماط المعيشية المتباينة . هذا التنوع في اهتمامات الأسطورة يعكس مدى الحاجة إليها، والدور الذي كانت تؤديه في إطار المجتمعات القديمة التي كانت الأسطورة تشكل بالنسبة لها وعياً أولياً، تتعرف من خلاله إلى أصول الأشياء، وتعمل اعتماداً عليه، من أجل اكتشاف جوانب العالم المجهول المحيط بها، الذي كان يمثل موضوعاً غنياً لتساؤلات مستمرة.
أما أبطال الأسطورة، فهم عادة من الآلهة، كل إله يتحكم بقوة ما، أو أنه بالأحرى يمثل خاصية ما، قد تكون طبيعية وقد تكون اجتماعية؛ لكن الآلهة ليسوا جميعاً على المستوى نفسه من الأهمية؛ فأساطير كل مجتمع تكشف النقاب عن أسماء آلهة كبار يشرفون على الأعمال التي ينجزها الآلهة الأقل شأناً. إلى جانب الآلهة، نرى في أساطير عديدة، إسهام بعض المتميزين من البشر في نسج الأحداث، والدخول في عالم الآلهة، وهذا إن دلّ على شيء فإنما على مدى أهمية وضرورة إيجاد نقاط اتصال بين عالم الآلهة وعالم البشر - من دون الخلط بينهما- وذلك لتحقيق عملية التواصل بينهما، وبيان مدى حاجة كل منهما إلى الآخر؛ فالآلهة تخلق البشر، تنظم الكون، وتهيئ مستلزمات الخصب، وتحمي المدن؛ والبشر من ناحيتهم يقدمون القرابين ويؤدون أعمال السخرة، كما يأتمرون بما ترغب فيه الآلهة. ويبنون المعابد؛ عالمان يحتاج كل منهما إلى الآخر. فالآلهة تؤكد قوتها في مواجهة العجز البشري، والبشر يعملون على تخطي ضعفهم من خلال اللجوء إلى قوة الآلهة عبر الخضوع لها؛ ربما لم تكن المسألة بمثل هذا الوضوح في بداياتها الأولى، لكنها كانت في طريقها إلى ذلك؛ وهذا ما أصبحت عليه بالفعل فيما بعد، حينما تبلورت المؤسسة الدينية، واكتسبت شخصية مستقلة إزاء المجتمع. فقد عمدت هذه الأخيرة إلى الاستفادة من الطابع الاعتقادي الذي تتسم به الأسطورة، بل إنها لجأت إلى إبرازه عن طريق مده بجملة من التصورات الإيمائية. ولم تكتف بذلك بحسب، بل لجأت إلى إحاطة أساطير محددة بهالة من القداسة، فتحولت إلى جزء عضوي من الطقوس الدينية التي كانت تمارس بإشراف المعبد، والقصر أحياناً، في مناسبات خاصة.
والذي نعنيه بطابع الأسطورة الاعتقادي، هو قدرتها على فرض ذاتها على سامعها الذي لا يجعلها موضوعاً للشك، وإنما على خلاف ذلك فهو يقر بصحة أخبارها، ويتعامل مع أحداثها وكأنها وقعت بالفعل، على الرغم من أنه لا يستطيع تحديد زمانها؛ أما مكانها فهو يرتبط غالباً بمدينة ما تحظى بمكانة هامة في مواجهة الكون بأسره، يتغير اسمها تبعاً لاختلاف المناطق والمراحل الزمنية، وذلك نتيجة تعاظم أهمية هذه المدينة أو تلك، مقابل تضاؤل شأن المدن الأخرى.
ولعل تمرد الأسطورة على التحديد الزمني مرده الخاصية التجريدية التي يتميز بها الزمان مقارنة بالمكان. فالذهنية الأسطورية لم تستوعب المكان المجرد، لأنها لم تتمكن من تجاوز الحسية المكانية، كل ما هنالك أنها أضفت على أمكنة معينة صفات خاصة، مهدت لظهور فكرة المكان المقدس الذي تجسد لاحقاً في المعبد. أما الزمان، فقد ظل خارج نطاق التحديد الحسي، لذلك كانت الأحداث الأسطورية تنسب عادة إلى الزمن البدئي الذي لا يحدد بأي مقياس، إلا أنه مقابل ذلك تجلت فكرة دائرية الزمان، وإمكانية العودة المستمرة - ولو رمزياً- إلى البدايات الزمنية الأولى، فاكتسبت هذه أهمية فائقة، بلغت حد القداسة. ومن هنا كانت احتفالات رأس السنة مناسبة كبيرة، سعت المجتمعات القديمة من خلالها إلى تجديد ذاتها، لأنها كانت ترى أن الاندماج مع اللحظة الزمنية المقدسة يجسد عملية تطهيرية شاملة، يتم التحرر بفضلها من كل الشرور السالفة، ولم يكن للأسطورة أن تنجز كل ذلك لولا استخدامها لمجموعة من التقنيات الخاصة التي جعلت الإنتاج الأسطوري - من خلال تفاعله مع العناصر الأخرى- أمراً مغايراً لكل الأنساق الشبيهة، كالخرافة والحكاية الشعبية والأقوال المأثورة وغيرها؛ فالأسطورة تتسم أولاً بأسلوبها الجاد المؤثر في تناولها للأحداث؛ وهي لا توحي لسامعها أنها تقدم مادة هزلية مسلية، كما أنها لا ترمي إلى تلبية الحاجات المباشرة، بل إنها باتخاذها الآلهة أبطالاً لها، ومن الأسئلة الإنسانية المصيرية محوراً لأحداثها، إنما تؤكد انتماءها إلى مستوى ذهني أرقى من مستوى الاندماج شبه التام مع الظواهر الكونية، وتثبت في الوقت نفسه وجود إمكانية حقيقية لدى الإنسان، يستطيع انطلاقاً منها الإحاطة بالمواقف، وفهمها ومن ثم استيعابها؛ بصرف النظر عن مدى نجاحها في ذلك، لأن المهم في هذا السياق إنما هو الاتجاه العام لا النتائج، نظراً لارتباط هذه الأخيرة مع مقدماتها الذهنية، والأسس المعرفية التي تم التوصل اليها بفضل تراكم خبرات الأجيال السالفة. من جهة أخرى، تتخذ الأسطورة - انسجاماً مع طابعا الجاد- من أسلوب التكرار، أي إعادة بعض المقاطع المرة تلو الأخرى، وضمن النص الواحد، وسيلة لإبراز أهمية الحدث، وأداة تؤكد أن ما تقوله- الأسطورة- يدخل في عداد المسلمات التي يقر الجميع بصحتها من دون أية مناقشة، أو أي تشكيك؛ وهذا ما يمد الأسطورة بقوة خاصة، تمكنها من امتلاك مدارك المتلقي الذي ينصاع لما يسمعه منها، ويقف إزاءها موقف الواثق بكل ما تقدمه. والتكرار بهذا المعنى لم يكن هدفه الأول تهيئة نقاط ارتكاز يستند إليها المتعامل مع النص الأسطوري ليتمكن من حفظها، وإبعادها عن أي تغيير، على الرغم من أنه ربما يكون قد أدى هذه المهمة، وإنما تمثلت وظيفته الرئيسة في فرض أجواء مؤثرة على المتلقي، ودفعه نحو الاعتقاد بصحة بل وقدسية ما تقدمه له الأسطورة.
بالإضافة إلى ما سبق، منحت الأسطورة الكلمة الإلهية أهمية خاصة، تقابلها على الأرض الكلمة الملكية الآمرة، وهذا بدوره أسهم في إعلاء شأن الأسطورة، وإضفاء صبغة الجد الصارم على ما تقدمه، لكنه في حالات معينة، يلاحظ أن الكلمة الإلهية وحدها تغدو غير قادرة على الإتيان بما هو مرغوب فيه، خاصة حينما يستند الصراع بين الآلهة نفسها، فيلجأ كل طرف إلى قوته الفائقة؛ في وضع كهذا برز السحر ليكون وسيلة، القصد منها إجراء انعطافات في سير الأحداث، لتأتي موافقة لتطلعات هذا الإله أو ذاك، وبالتالي لتوجهات من أبدع الأسطورة، أو تمكن من توظيفها.
وظيفة الأسطورة:
في إطار وظيفة الأسطورة، يمكننا أن نتحدث عن تفاعل وجهين متلازمين، يؤثر أحدهما في الآخر، ويؤدي في الوقت ذاته وظيفة مغايرة له، وهذا ما يفسر الطابع المركب الذي تتميز به وظيفة الأسطورة.
الوجه الأول، معرفي، يعكس رغبة المجتمعات القديمة - صانعة الأسطورة- في اكتشاف أسرار الكون والحياة الاجتماعية، ثم استيعابها، لنتمكن من التعامل مع ما يحيط بها من ظواهر طبيعية واجتماعية، والتكيف مع مقتضياتها، ويلاحظ بخصوص هذا الوجه، أنه لم يقتصر على واحد بعينه، بل شمل عدداً كبيراً من الموضوعات التي اتسمت بتفاوتها من جهة الأهمية والخطورة؛ وما يتسم به هذا الوجه، هو أنه يتكئ على مسعى المجتمعات القديمة في سبيل الدخول إلى عالم الطبيعة المجهول، ورغبتها في إيجاد مرتكزات عدة، تستطيع اعتماداً عليها أن تواصل سيرها، وتحصّل لنفسها ما يمكنها من تجديد دورتها الحياتية، وذلك على اعتبار أن الأسطورة تتيح إمكانية التعرف إلى أصول الظاهرات الضرورية، ومن ثم إمكانية جعلها تظهر ثانية بعد اختفائها.
غير أن الطبيعة لم تكن هي الميدان الوحيد الذي استأثر باهتمام الأسطورة، وإنما كان للحياة الاجتماعية نفسها حيّز لا يمكن تجاهله في هذا المجال، إذ أنها مثّلت حقلاً خصباً تمحور حوله العديد من التصورات الأسطورية، لا سيما تلك التي تتصل بجوانب التنظيم الاجتماعي، وكذلك تداخلات مراحل التطور التاريخي، بالإضافة إلى الخصومات المتلاحقة بين ممالك الدول المختلفة.
وهنا يجدر التنويه بالصفة الاعتقادية التي طبعت الجانب المعرفي في الأسطورة بميسمها؛ فعلى الرغم من أن الأسطورة كانت حصيلة ذهنية لجهود جماعات إنسانية، أرادت أن تستوعب ذاتها والعالم المحيط بها، ومن ثم اكتشاف الجسور بينها وبينه. على الرغم من ذلك، يلاحظ أن الطابع الاعتقادي الجازم ظل مهيمناً على الأسطورة، بل اتسعت دائرة الهيمنة تلك في العصور اللاحقة، بعد أن اكتشفت القوى الاجتماعية المتنفذة مدى جدوى استخدام الأسطورة في عملية تكريس نفوذها؛ ويتجلى الطابع الاعتقادي للأسطورة في صياغتها لمسلماتها وتصوراتها، “وكأنها الحقائق حول طبائع الأشياء” .
هذه المسألة، تبين لنا ملامح الطريقة التي ينبغي أن نتبعها في سعينا لاكتشاف مكنونات الأسطورة، وفهم طبيعة رموزها، وتتبع آلية تلاحق أحداثها. فبادئ ذي بدئ ينبغي وضع الأسطورة في سياقها التاريخي- الاجتماعي، لأن ذلك سيمكننا من الدخول إلى عالمها من الباب الذي ينبغي أن ندخل منه؛ فأساطير كل مرحلة تاريخية هي مرآة مرحلتها، تعكس خصائص مجتمعها في المرحلة المعنية، تحمل وشم أبرز مشكلاته، وأهم تطلعاته، ومعرفة كل هذا تتطلب دراسة معمقة، تأخذ في حسابها ضرورة التمييز بين الطابع الاعتقادي الذي يخيّم على الأسطورة من جهة، وطبيعة المسائل التي تتناولها انطلاقاً من موقعها بوصفها شكلا من أشكال الوعي الاجتماعي من جهة أخرى. ودراسة كهذه من شأنها كشف بواعث هيمنة الطابع الاعتقادي على الأسطورة، ومن ثم الوقوف على مدى التشويه الذي ألحقه هذا الطابع بما يمكن أن نسميه الأسس الأولى غير المتبلورة للمعرفة الإنسانية التي تضمنتها الأسطورة في مرحلتها الجنينة؛ وهنا سنكتشف أن الوجه الآخر الإيديولوجي لوظيفة الأسطورة يسهم بشكل مباشر في تكريس الهيمنة، وإحداث التشويه المشار إليهما، لأن الأسطورة خضعت لعملية تطويع مستمرة من قبل القوى الأكثر قدرة في المجتمع، سواء تلك التي اتخذت من المعبد ميداناً لنفوذها، أو تلك التي كانت تتمترس في القصر، وتسعى انطلاقاً منه في سبيل بسط سلطانها على المجتمع بأسره، متبعة في ذلك جملة أساليب، تراوحت بين الترغيب والترهيب.
هكذا نرى أن الأسطورة هي شكل من أشكال الوعي الاجتماعي، يمثل حصيلة ذهنية لجهود جماعية لم تكن قد امتلكت بعد القدرة على ممارسة التفكير الفلسفي النظري. الأسطوري تجسد نظرة المجتمعات القديمة إلى العالم الذي يشمل الكون والمجتمع والعلاقة التفاعلية بينهما في صيغة رمزية شاعرية؛ والأمر اللافت للنظر في هذا التعريف أنه شمولي، يحدد الأسطورة في صيغتها العامة، لكننا إذا دخلنا في التفاصيل، وبحثنا في أنماط الوعي الأسطوري في كل مرحلة من مراحل تطوره، فحينئذٍ لا بد أن يغدو التعريف أكثر تخصيصاً، إلا أنه مع ذلك نرى أن هذا التعريف الشمولي يصلح ليكون الأرضية التي سنستند إليها في أي سعي يبغي تقديم تعر يف تفصيلي، ويبقى السؤال: ما هي الأسطورة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق