أسامة سليم
أن تولد في هذه الأرض الموبوءة بالخراب والدماء، أن تولد في أرض يكون خبزها اليومي القتل والاغتيال والجنون، هو لا محالة سخرية من القدر، ومن أنفسنا قبل كل شيء. وإن ولدت هنا، فربما هذا مصيرك، لكن أن تناضل وتواجه الحياة، فهذه بطولة، هذا اختيار.حين تضيق الحياة بالحلم، فيعجز الحلم عن خلق وهم، وحين تُجلد الذات دون عزاء، تنبثق من المأساة خيالًا ينبض بالحياة تمارس فيه نقدك الذاتي جدًا نحو الواقع. وهكذا كانت رواية (اللجنة)، للأديب المصري صنع الله إبراهيم. رواية لا تقرأ، بل تُتخيّل لنحلم بها، عنوان يحيلنا نحو مفاهيم مؤسساتيّة ورسميّة وبروتوكولات وتعقيدات بيروقراطية، كجميع لجان العالم العربي، إلّا أنّها لجنة من نوع آخر.
في رواية (اللجنة)، يخلق الكاتب المصري صنع الله إبراهيم، كما عبّر الناقد حسن الصادق الأسود: “عالَمًا خاصًا بالرواية، حيث يبدأ بوصف بطل الرواية وأعضاء اللجنة والجو العام، ثم ينتقل إلى أهم جزء في الرواية وهو عملية البحث، والتي يتوصل بطل الرواية فيها إلى حقائق مدهشة غائبة عن المواطن العادي”.
الأديب المصري صنع الله إبراهيم
تبدأ الرواية بذهاب البطل إلى اللجنة من منطلق ذاتي إرادي، لا اسم للبطل في هذه الرواية، ولا توجد أسماء -أيضًا- لجميع شخوصها، ممّا يحيلنا إلى ضروب شتى من الحيرة والضبابية، رواية تطرح أسئلة، أكثر ممّا تجيب عنها، أيّ لجنة يقصد بها الكاتب، وأي شخصية عربية لامعة، وأيّ “دكتور”…
شكليًا، امتدّت الرواية على ستّة فصول، كلّ فصل يتشابك ويتقاطع مع الفصل الذي يسبقه، لينسج حبكة روائية غامضة في بدايتها، غامضة في نهايتها، لا يزول الغموض أو التعتيم، سوى من الخواء والهراء. ولإزالة أي لبس عن الموضوع، كانت الرواية غامضة حدّ الوضوح، واضحة حدّ الغموض.
الفصل الأوّل:
تبدأ الرواية أمام باب مقرّ اللجنة، في الثامنة والنصف صباحًا، قبل نصف ساعة من الموعد المحدّد، ها هو يترقب بعد أن بقي في داره عامًا كاملًا ينتظر هذا اليوم الموعود، هذا اليوم الذي سيمثل فيه أمام اللجنة. حيث ينطلق الكاتب، ممتثلًا لاستدعاء اللجنة، وبعد استعداد لجميع صنوف الأسئلة والاستفسارات، أعدّ الكاتب نفسه للقاء طال انتظاره، (كنت أعرف أنّ لديها تقارير كفاية عني، ومع ذلك فقد فهمت أن مصيري يتوقف على المقابلة القادمة. وليس معنى هذا أني الذي سعيت إلى هذا اللقاء، وإنّما قيل لي إنه لا مندوحة منه. ولهذا جئت) ص31.
الفصل الثاني:
طول انتظار، خوف، يأس وعناء، ليمثل إثرها الكاتب أمام اللجنة، فيقع تحت وابل من الأسئلة العسيرة، تتصل بمواهبه الفكرية وحتى الجنسية من قبل أعضائها، (هل تعرف الرقص؟) (بأي شيء من هذه الوقائع، كالحروب والثورات والابتكارات، سيذكر قرننا في المستقبل؟) (اخلع ملابسك!) (لماذا لم تستطع ممارسة الجنس مع تلك السيّدة في اليوم الفولاني) كل هذه الأسئلة وغيرها، ألقاها أعضاء اللجنة المكوّنين من رجال ونساء، مدنين وعسكريين، لتختتم الجلسة بقول الرئيس: “لم تعد لدينا أسئلة، وعندما نتوصّل إلى قرار بشأنك سنحيطك به علمًا”.
الفصل الثالث:
تتوالى الأيّام، وتنقضي الأشهر على المقابلة، والبطل ينتظر، متقلبًا بين مشاعر اليأس والرجاء، كان يستيقظ في الصباح بثقة مطلقة في أنّ قرارها سيكون لصالحه، فلا تمضي ساعات إلا يكون الشكّ قد راوده، واقعًا فريسة ليأس مطلق.. وذات مساء، تصله برقيّة تقول: “ننتظر دراسة عن ألمع شخصيّة عربية معاصرة”؟
انكبّ الكاتب يدرس البرقيّة بإمعان، “كانت المعلومات القليلة التي تجمعت لدي عن إجراءات اللجنة، تؤكد أني أمام إجراء غريب ليس له سابقة”. وراح يفكر ويبحث بين راقصة أو مغن، مفضلًا الابتعاد عن السياسيين والمفكّرين وغيرهم من أهل الثقافة والأدب.. وبعد طول عناء، يقرّر أن يكون مضمون بحثه هو التأريخ والبحث والتنقيب “في سيرة الدكتور”، بطريقة جديدة تتشابك فيها المناهج وتتقاطع بينها العلوم.
وبعد بحث منقطع النظير، بين التفتيش والتحميص وأرشيف المجلّات والجرائد والتنقل بين الصحف والمجلات، لم يجد ضالته إلا في مكتبة السفارة الأميركية! وبعد تقدّم ملحوظ وقطع أشواط، يجد الكاتب حقائق مفزعة حول “الدكتور”، ممّا جعل اللجنة تتدخّل، مقتحمة عليه غرفته ليلًا منتشرة في أرجاء بيته، بعد أن سبّب لها هذا البحث الكثير من المشكلات، حيث يتقدّم العضوان البارزان في اللجنة “الأشقر والقصير”، ويستوليان على بطاقاته وملفّاته وجميع مراجعه، ويبقى معه القصير الذي يقنعه بالانتقال إلى موضوع أخر وتغيير شخصيّة بحثه “الدكتور”.
الفصل الرابع:
تتالت الأيام، و”القصير” مع البطل لا يفارقه، يأكل معه في طبق واحد، ينام معه في سرير واحد، حتى إنه كان يذهب معه إلى المرحاض كظله، لتأخذ الأمور منحًى سلبيًا أكثر، حين يرتطم جسم حديدي مخبأ داخل سروال “القصير” بالأرض، ليكتشف فيما بعد، بأنّه مسدّس، وأنّه مقتول لا محالة؛ فتحيّن الفرصة وأرداه قتيلًا، “بسكين اللحم الكبيرة ذات الشفرة الماضية”، ليشعر بالراحة والنشوة والغبطة تملأ كيانه: “كنت أشعر، لأول مرة منذ زمن بعيد، بفيض من القوة والراحة يسري في أطرافي، ويجتاح كل كياني”. ص109
الفصل الخامس:
كانت اللجنة مجتمعة، وعلى غير العادة، أدخله الحارس على الفور، لمّا وصل إلى مقر اللجنة في موعده المحدد.. كيلت له التهم، كونه عضوًا في مؤامرة كبيرة، “إن كل الدلائل تؤكد أننا نواجه مؤامرة كبيرة، حيكت خيوطها بمهارة وخبث شديدين، منذ بعض الوقت، وليس الاعتداء على حياة الفقيد سوى حلقة من حلقاتها) ص 118، 119. ولمّا أصر على أنّه بريء اتهموه بالكذب والتصلب والنفاق، ووقع تنفيذ الحكم عليه “إنّ موقفك المتصلب يجعلنا لا نجد مبررًا للرأفة بشأنك أو للاستجابة لالتماسك. ولهذا فأنت -في رأينا- تستحق أقصى عقوبة مقررة. هذا هو قرارنا بالإجماع) ص130.
الفصل السادس:
ولأنّ الغموض كان أحد ركائز اللجنة الأساسية؛ خرج البطل متثاقلًا واستفسر من الحارس عن معنى “أقصى عقوبة” عندهم، فقال له بكل بساطة: “تأكل نفسك“! فعاد إلى منزله مطمئن البال “مضيت أنصت للموسيقى التي ترددت نغماتها في جنبات الحجرة. وبقيت في مكاني، مطمئنًا منتشيًا، حتى انبلج الفجر. عندئذ، رفعت ذراعي المصابة إلى فمي، وبدأت آكل نفسي”.
رواية (اللجنة) هي إدانة ساخرة للأجهزة والأنظمة السياسية القمعيّة التي تهدر الإنسان وتصادر حقوقه وتدوس على أحلام المثقفين، في مستنقع من الكذب والألم، هي رواية عابرة للبلدان، موجودة في كل الأقطار، في تونس والمغرب وسورية ولبنان.. حيث الواقع مليء بالتناقضات والواقع المؤلم والساديّة والتعذيب، وحيث التشوهات النفسية والانكسارات الحياتيّة.
(اللجنة)، جدلية المثقف والسلطة، حيث الزور والتملّق والبهتان، جزء من هذا الخراب.
حصل صنع الله ابراهيم على جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2004. وهو كاتب مثير للجدل، وخصوصًا بعد رفضه استلام جائزة الرواية العربية عام 2003م، والتي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة، وتبلغ قيمتها 100 ألف جنية مصري.
أسامة سليم
كاتب تونسي
في رواية (اللجنة)، يخلق الكاتب المصري صنع الله إبراهيم، كما عبّر الناقد حسن الصادق الأسود: “عالَمًا خاصًا بالرواية، حيث يبدأ بوصف بطل الرواية وأعضاء اللجنة والجو العام، ثم ينتقل إلى أهم جزء في الرواية وهو عملية البحث، والتي يتوصل بطل الرواية فيها إلى حقائق مدهشة غائبة عن المواطن العادي”.
الأديب المصري صنع الله إبراهيم |
شكليًا، امتدّت الرواية على ستّة فصول، كلّ فصل يتشابك ويتقاطع مع الفصل الذي يسبقه، لينسج حبكة روائية غامضة في بدايتها، غامضة في نهايتها، لا يزول الغموض أو التعتيم، سوى من الخواء والهراء. ولإزالة أي لبس عن الموضوع، كانت الرواية غامضة حدّ الوضوح، واضحة حدّ الغموض.
الفصل الأوّل:
تبدأ الرواية أمام باب مقرّ اللجنة، في الثامنة والنصف صباحًا، قبل نصف ساعة من الموعد المحدّد، ها هو يترقب بعد أن بقي في داره عامًا كاملًا ينتظر هذا اليوم الموعود، هذا اليوم الذي سيمثل فيه أمام اللجنة. حيث ينطلق الكاتب، ممتثلًا لاستدعاء اللجنة، وبعد استعداد لجميع صنوف الأسئلة والاستفسارات، أعدّ الكاتب نفسه للقاء طال انتظاره، (كنت أعرف أنّ لديها تقارير كفاية عني، ومع ذلك فقد فهمت أن مصيري يتوقف على المقابلة القادمة. وليس معنى هذا أني الذي سعيت إلى هذا اللقاء، وإنّما قيل لي إنه لا مندوحة منه. ولهذا جئت) ص31.
الفصل الثاني:
طول انتظار، خوف، يأس وعناء، ليمثل إثرها الكاتب أمام اللجنة، فيقع تحت وابل من الأسئلة العسيرة، تتصل بمواهبه الفكرية وحتى الجنسية من قبل أعضائها، (هل تعرف الرقص؟) (بأي شيء من هذه الوقائع، كالحروب والثورات والابتكارات، سيذكر قرننا في المستقبل؟) (اخلع ملابسك!) (لماذا لم تستطع ممارسة الجنس مع تلك السيّدة في اليوم الفولاني) كل هذه الأسئلة وغيرها، ألقاها أعضاء اللجنة المكوّنين من رجال ونساء، مدنين وعسكريين، لتختتم الجلسة بقول الرئيس: “لم تعد لدينا أسئلة، وعندما نتوصّل إلى قرار بشأنك سنحيطك به علمًا”.
الفصل الثالث:
تتوالى الأيّام، وتنقضي الأشهر على المقابلة، والبطل ينتظر، متقلبًا بين مشاعر اليأس والرجاء، كان يستيقظ في الصباح بثقة مطلقة في أنّ قرارها سيكون لصالحه، فلا تمضي ساعات إلا يكون الشكّ قد راوده، واقعًا فريسة ليأس مطلق.. وذات مساء، تصله برقيّة تقول: “ننتظر دراسة عن ألمع شخصيّة عربية معاصرة”؟
انكبّ الكاتب يدرس البرقيّة بإمعان، “كانت المعلومات القليلة التي تجمعت لدي عن إجراءات اللجنة، تؤكد أني أمام إجراء غريب ليس له سابقة”. وراح يفكر ويبحث بين راقصة أو مغن، مفضلًا الابتعاد عن السياسيين والمفكّرين وغيرهم من أهل الثقافة والأدب.. وبعد طول عناء، يقرّر أن يكون مضمون بحثه هو التأريخ والبحث والتنقيب “في سيرة الدكتور”، بطريقة جديدة تتشابك فيها المناهج وتتقاطع بينها العلوم.
وبعد بحث منقطع النظير، بين التفتيش والتحميص وأرشيف المجلّات والجرائد والتنقل بين الصحف والمجلات، لم يجد ضالته إلا في مكتبة السفارة الأميركية! وبعد تقدّم ملحوظ وقطع أشواط، يجد الكاتب حقائق مفزعة حول “الدكتور”، ممّا جعل اللجنة تتدخّل، مقتحمة عليه غرفته ليلًا منتشرة في أرجاء بيته، بعد أن سبّب لها هذا البحث الكثير من المشكلات، حيث يتقدّم العضوان البارزان في اللجنة “الأشقر والقصير”، ويستوليان على بطاقاته وملفّاته وجميع مراجعه، ويبقى معه القصير الذي يقنعه بالانتقال إلى موضوع أخر وتغيير شخصيّة بحثه “الدكتور”.
الفصل الرابع:
تتالت الأيام، و”القصير” مع البطل لا يفارقه، يأكل معه في طبق واحد، ينام معه في سرير واحد، حتى إنه كان يذهب معه إلى المرحاض كظله، لتأخذ الأمور منحًى سلبيًا أكثر، حين يرتطم جسم حديدي مخبأ داخل سروال “القصير” بالأرض، ليكتشف فيما بعد، بأنّه مسدّس، وأنّه مقتول لا محالة؛ فتحيّن الفرصة وأرداه قتيلًا، “بسكين اللحم الكبيرة ذات الشفرة الماضية”، ليشعر بالراحة والنشوة والغبطة تملأ كيانه: “كنت أشعر، لأول مرة منذ زمن بعيد، بفيض من القوة والراحة يسري في أطرافي، ويجتاح كل كياني”. ص109
الفصل الخامس:
كانت اللجنة مجتمعة، وعلى غير العادة، أدخله الحارس على الفور، لمّا وصل إلى مقر اللجنة في موعده المحدد.. كيلت له التهم، كونه عضوًا في مؤامرة كبيرة، “إن كل الدلائل تؤكد أننا نواجه مؤامرة كبيرة، حيكت خيوطها بمهارة وخبث شديدين، منذ بعض الوقت، وليس الاعتداء على حياة الفقيد سوى حلقة من حلقاتها) ص 118، 119. ولمّا أصر على أنّه بريء اتهموه بالكذب والتصلب والنفاق، ووقع تنفيذ الحكم عليه “إنّ موقفك المتصلب يجعلنا لا نجد مبررًا للرأفة بشأنك أو للاستجابة لالتماسك. ولهذا فأنت -في رأينا- تستحق أقصى عقوبة مقررة. هذا هو قرارنا بالإجماع) ص130.
الفصل السادس:
ولأنّ الغموض كان أحد ركائز اللجنة الأساسية؛ خرج البطل متثاقلًا واستفسر من الحارس عن معنى “أقصى عقوبة” عندهم، فقال له بكل بساطة: “تأكل نفسك“! فعاد إلى منزله مطمئن البال “مضيت أنصت للموسيقى التي ترددت نغماتها في جنبات الحجرة. وبقيت في مكاني، مطمئنًا منتشيًا، حتى انبلج الفجر. عندئذ، رفعت ذراعي المصابة إلى فمي، وبدأت آكل نفسي”.
رواية (اللجنة) هي إدانة ساخرة للأجهزة والأنظمة السياسية القمعيّة التي تهدر الإنسان وتصادر حقوقه وتدوس على أحلام المثقفين، في مستنقع من الكذب والألم، هي رواية عابرة للبلدان، موجودة في كل الأقطار، في تونس والمغرب وسورية ولبنان.. حيث الواقع مليء بالتناقضات والواقع المؤلم والساديّة والتعذيب، وحيث التشوهات النفسية والانكسارات الحياتيّة.
(اللجنة)، جدلية المثقف والسلطة، حيث الزور والتملّق والبهتان، جزء من هذا الخراب.
حصل صنع الله ابراهيم على جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2004. وهو كاتب مثير للجدل، وخصوصًا بعد رفضه استلام جائزة الرواية العربية عام 2003م، والتي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة، وتبلغ قيمتها 100 ألف جنية مصري.
أسامة سليم
كاتب تونسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق