خالد جودة أحمد
يشغل المستقبل أفئدة الناس، ويحاولون سبر غوره، وطرق طرقاته المجهولة بوسائل متعددة منذ عهود البشرية الأولي. وفي عالمنا المعاصر تأسس علم "المستقبليات" للإجابة عن أسئلة حائرة تبحث عن الاستقرار، وكما كان للعلم هذا الدور في بصيرة المستقبل، كان للأدب محاولاته كذلك،
يتحدث الكاتب رفقي بدوي عن استشراف "الآن القريب"، لدي نقده للرواية المهمة والتي ترقي للعالمية قولًا واحدًا، "السيد من حقل السبانخ" للكاتب الراحل صبرى موسى، يقول: إنها رواية مستقبلية، هكذا
منحها الكاتب تلك الصفة، وأرى أنها رواية "الآن" حيث إن الوقائع في تحليلها تعطي نتائج المستقبل، طالما أن المقدمات صحيحة، فالنتيجة منطقيًا صحيحة حيث نتائج الهندسة الوراثية وعلومها، والفضاء، وصعود الإنسان على سطح الكواكب، والتفجيرات الذرية في الماضي والآن، يحيل إلى الآن القادم القريب، بسيطرة الإنسان علي الفضاء والإقامة فيه كملاذ بعد انتفاء الحياة على الأرض الخراب – نتيجة للحرب الإلكترونية المتوقعة - في الآن القريب.
نحن نقرأ الرواية ونقرأ الآن (الواقع) والآن القريب (المستقبل)، ليست رواية تتحدث عن عالم مجهول أو تطورات علمية مذهلة، بل علم مفرداته وعناصره قد تم تطبيقها، وهو في مسيرته لا نكوص ... يقوم العقل باستشراف الآن القريب، وقد تولد لديه حزن علي مصيره المحتوم.
وما سبق نموذج حول الفرق بين النبوءة والاستشراف، فالمفهوم الأخير يجني الشواهد والفروض العلمية، ويؤسس عنها ويثمرها بالخيال الأدبي ليكون الاستشراف المستقبلي، أي يرصد ظاهرة علمية آخذة في النمو والوضوح، لتشكل بعد ذلك اتجاهًا يؤثر أبلغ الأثر في حياة الإنسانية، وهنا يتحقق الدور المهم والذي يعد من أهم ادوار المبدع الثقافية على المستوى الاجتماعي، حيث يمثل دور "زرقاء اليمامة" التي تحذر قومها من أخطار قادمة رغم خفائها وتسترها إلا للعين المبدعة ذات البصيرة النافذة، ويبدو هذا في قمة الأهمية في التوقيت المرتبط بهذا الاستشراف، فكلنا يداهمه الخطر ويجرفه الطوفان لدى اشتعاله وغضبه القريب، لكن فارق التوقيت وملكة الخيال هي التي تعبد الطريق نحو بناء سيناريوهات للتعامل مع الآن القريب، الأمر الذي لفت نظر الناثر والشاعر نزار قباني ليصف دور المبدع والكاتب النبيل بأنه جهاز الرصد الذي يرصد نبض الزلزال قبل نشوبه، وأنه يسبق في ذلك الآخرين ولو بنصف ثانية.
ومن جزئية إيضاح الفرق بين النبوءة والاستشراف، يستند البعض للتفرقة أيضًا بين القصة العلمية وقصة الخيال العلمي، فالنوع الأول تقدم الظاهرة العلمية في ثوب أدبي، فهي قصة تعليمية لها بعدها التربوي، وتستعمل على سبيل المنهج للتدريس وتقريب المفاهيم العلمية لشداتها النبلاء، وتلك القصة مقدرة ولها مكانتها وأهميتها، ولكن النوع الآخر يرتقي في أهميته من كونه لا يستند وفقط لفرضية علمية ماثلة في الواقع بل يؤسس عنها عالمًا روائيًا خصبًا جديدًا يزخر بالتفاصيل المشوقة، وقد عبر عنها الناقد د. عبدالبديع عبدالله في مقاله المعنون: "مأساة المتمرد هومو في رواية السيد من حقل السبانخ".
ونسرد جوانب من هذه العوالم كما وردت بالمقال بتصرف: "... والرواية لم تقف عند حدود رسم أشكال حياة غير مألوفة بل أعطت الكثير من الاختراعات الآلية والمعملية لإثارة الخيال الإنساني، وعدد الناقد تلك الصور من المعمورة البشرية الحديثة أو البيضة الكبري البلاستيكية المعلقة في الفضاء بعد الحرب الإلكترونية الأولى، وحقل الاستنبات الضوئي القائم بإنتاج السبانخ بلا عيدان، والسيارة الكبسولة، والقطار الهوائي، ومتحف البشرية البائدة من ناطحات سحاب خربة، ومستشفيات لتجريب الحقن التي تحوي ميكروبات تلك الحضارة المنهارة والاستمتاع بتلك الأمراض الأرضية ثم العلاج والنقاهة، والاستنساخ من خلال الزواج المعملي، وتوليد الطاقة من أشعة الشمس وإذابة الغيوم الكثيفة بأجهزة إشعاعية وتحويلها إلى طاقة تمتصها فوهات الأجهزة المحيطة بمنشآت منطقة الفيوم، والعقل الإلكتروني الشامل الذي يعرف كل شيء ويجيب عن كل سؤال، والآلات التي تخترع نفسها وتطور نفسها بنفسها، وأجهزة التتبع الفورية، وتطوير الأقمار الصناعية، وملهى المناقشات العامة، وصالون الحب الحر، ...".
أما الناقد حسين عيد ففي مقاله المعنون: "قراءة في رواية السيد من حقل السبانخ أو يوتوبيا عصر العلم"، فيقدم الشكل التوضيحي للهيكل الإداري لكوكب الأرض في القرن الرابع والعشرين، موضحًا تفريعات اللجان الرئيسية والمناطق والأقاليم، والذي صاغه من أجواء الرواية وعوالمها الخصبة.
وهنا نأتي للتفرقة الثالثة بين أدب الخيال العلمي والفانتازيا، حيث يرى البعض أن "الفانتازيا" أدب الخيال المحض أو الموغل في الخيال يفارق أدب الخيال العلمي، حيث لا يقوم على حقيقة علمية نابضة في الحاضر، بل يقدم ما يفارق الواقع ويناهضه ويخرج عن التصديق، بينما يرى المتحمسون لهذا النوع من الأدب أنه يقدم خيالًا لكن عينه على الواقع شارحًا مشكلاته من طريق غير مباشر، وأن الخيال ملح الحياة عندما تحتدم وتتأزم سبل الوجود الإنساني الكريم، وربما يفسر هذا سر الكتابة الجديدة في هذا المجال وفئة الشباب في الإقبال على هذا اللون قراءة وتأليفًا.
ولا شك أن هناك تفريعات وأنواعًا منوعه في رحاب الفانتازيا، فمنها الراقية والكوكبية والمظلمة، لكن السمت للبنية الروائية في تلك الروايات يأتي من بناء عوالم روائية عجائبية ومطولة وجديدة مفعمة بالتفاصيل الكثيفة جدًا، وبناء عوالم الرواية معلوم للروائي بصفة عامة، لكنه في الفانتازيا لازما وزاخرا لدرجة صدور كتب مستقلة خاصة بتلك العوالم والأجناس والأماكن والأزمنه إلى آخر تلك التفاصيل المدهشة، حيث هذه الروايات من هذا اللون تصدر في أجزاء مسلسلة.
وفي رواية السيد "هومو" نجد هذا البناء الغرائبي المحكم للمستقبل بشكل أثار انتباه النقاد، وترحيبهم وسخائهم في مديح حقيقي للرواية، وقد يلجأ الدارس للتمييز بين المفاهيم لتحقيق سهولة الدرس الأدبي، لكن من وجهة نظري أن سرد الخيال العلمي، يشتمل نصيبًا، ويحوي مزيجًا من خليط فانتازي ساحر أيضًا ولو من خلال تلك العوالم السخية في بعض أجزائها، وحيث يصعب في بعض النصوص فصل مكونات هذا المزيج المبهر الذي يشير للموهبة الأدبية.
وتبقي الخاتمة التي وصفها الناقد د. عمر شهريار في مقاله المعنون: "الإنسان الملاك.. والخروج من فردوس عصر العسل"، حيث قال: "تأتي نهاية الرواية لتكسر أفق توقع القراء، حيث يكتشف الخارجون أنهم خرجوا إلى عالم لا يمكن العيش فيه، حيث أصبحت الطبيعة متوحشة بشكل مذهل، نتيجة الإشعاعات التي لوثت الكرة الأرضية في الحرب الإلكترونية، فالنباتات أصبحت متوحشة وتلتهم ما حولها من كائنات، والسحب تمر محملة بدرجة حرارة غير عادية تحرق كل الكائنات، وبمجرد مرورها تنمو هذه النباتات بسرعة غير عادية، فقد تغيرت الطبيعة بشكل جذري".
وأشار النقاد حينما وضعوا "هومو" تحت مجهر النقد الأدبي إلي فكرة "التشيؤ" وقتل الإنسانية، ولهم الحق حيث تحول الإنسان إلي شيء تحكمه الآلة ينضب فؤاده من المشاعر الإنسانية، وروحه من الوجدان الحي الفاعل، في ظل تقدم علمي يحيل الإنسانية إلى نمطية بغيضة، وإحكام تراتبي ممل، ونفي للمغامرة المحبوبة التي تشعل رغبة الحياة.
وأرى أن السيد "هومو" وقع بين مطرقة هذا التقدم العلمي العاصف والمقولب للإنسانية ومسخها لتنحدر نحو الآلية، وبين سندان التوحش البدائي للبشرية المنهارة، وتلك الطبيعة الجهمة المخيفة المفترسة الملوثة.
إن ضمير الرواية في تأويلي – والتأويل حق أصيل للقارئ - تحذيري يقول للإنسانية أن تنتبه للتقدم العلمي لتجعله أكثر إنسانية، فيكون وسطًا بين صوبة الأحلام القاتلة للروح، والطبيعة الفاقدة لسحرها الذي تغنت بها مواكب جبران وفيروز يومًا:
ليس في الغابات حزنٌ.. لا ولا فيها الهمومْ
فإذا هبّ نسيمٌ.. لم تجىءْ معه السمومْ
ليس حزن النفس إلا.. ظلُّ وهمٍ لا يدومْ
وغيوم النفس تبدو.. من ثناياها النجومْ
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا يمحو المحنْ
وأنين الناي يبقى.. بعد أن يفنى الزمنْ.
خالد جودة أحمد
يشغل المستقبل أفئدة الناس، ويحاولون سبر غوره، وطرق طرقاته المجهولة بوسائل متعددة منذ عهود البشرية الأولي. وفي عالمنا المعاصر تأسس علم "المستقبليات" للإجابة عن أسئلة حائرة تبحث عن الاستقرار، وكما كان للعلم هذا الدور في بصيرة المستقبل، كان للأدب محاولاته كذلك،
يتحدث الكاتب رفقي بدوي عن استشراف "الآن القريب"، لدي نقده للرواية المهمة والتي ترقي للعالمية قولًا واحدًا، "السيد من حقل السبانخ" للكاتب الراحل صبرى موسى، يقول: إنها رواية مستقبلية، هكذا
منحها الكاتب تلك الصفة، وأرى أنها رواية "الآن" حيث إن الوقائع في تحليلها تعطي نتائج المستقبل، طالما أن المقدمات صحيحة، فالنتيجة منطقيًا صحيحة حيث نتائج الهندسة الوراثية وعلومها، والفضاء، وصعود الإنسان على سطح الكواكب، والتفجيرات الذرية في الماضي والآن، يحيل إلى الآن القادم القريب، بسيطرة الإنسان علي الفضاء والإقامة فيه كملاذ بعد انتفاء الحياة على الأرض الخراب – نتيجة للحرب الإلكترونية المتوقعة - في الآن القريب.
نحن نقرأ الرواية ونقرأ الآن (الواقع) والآن القريب (المستقبل)، ليست رواية تتحدث عن عالم مجهول أو تطورات علمية مذهلة، بل علم مفرداته وعناصره قد تم تطبيقها، وهو في مسيرته لا نكوص ... يقوم العقل باستشراف الآن القريب، وقد تولد لديه حزن علي مصيره المحتوم.
وما سبق نموذج حول الفرق بين النبوءة والاستشراف، فالمفهوم الأخير يجني الشواهد والفروض العلمية، ويؤسس عنها ويثمرها بالخيال الأدبي ليكون الاستشراف المستقبلي، أي يرصد ظاهرة علمية آخذة في النمو والوضوح، لتشكل بعد ذلك اتجاهًا يؤثر أبلغ الأثر في حياة الإنسانية، وهنا يتحقق الدور المهم والذي يعد من أهم ادوار المبدع الثقافية على المستوى الاجتماعي، حيث يمثل دور "زرقاء اليمامة" التي تحذر قومها من أخطار قادمة رغم خفائها وتسترها إلا للعين المبدعة ذات البصيرة النافذة، ويبدو هذا في قمة الأهمية في التوقيت المرتبط بهذا الاستشراف، فكلنا يداهمه الخطر ويجرفه الطوفان لدى اشتعاله وغضبه القريب، لكن فارق التوقيت وملكة الخيال هي التي تعبد الطريق نحو بناء سيناريوهات للتعامل مع الآن القريب، الأمر الذي لفت نظر الناثر والشاعر نزار قباني ليصف دور المبدع والكاتب النبيل بأنه جهاز الرصد الذي يرصد نبض الزلزال قبل نشوبه، وأنه يسبق في ذلك الآخرين ولو بنصف ثانية.
ومن جزئية إيضاح الفرق بين النبوءة والاستشراف، يستند البعض للتفرقة أيضًا بين القصة العلمية وقصة الخيال العلمي، فالنوع الأول تقدم الظاهرة العلمية في ثوب أدبي، فهي قصة تعليمية لها بعدها التربوي، وتستعمل على سبيل المنهج للتدريس وتقريب المفاهيم العلمية لشداتها النبلاء، وتلك القصة مقدرة ولها مكانتها وأهميتها، ولكن النوع الآخر يرتقي في أهميته من كونه لا يستند وفقط لفرضية علمية ماثلة في الواقع بل يؤسس عنها عالمًا روائيًا خصبًا جديدًا يزخر بالتفاصيل المشوقة، وقد عبر عنها الناقد د. عبدالبديع عبدالله في مقاله المعنون: "مأساة المتمرد هومو في رواية السيد من حقل السبانخ".
ونسرد جوانب من هذه العوالم كما وردت بالمقال بتصرف: "... والرواية لم تقف عند حدود رسم أشكال حياة غير مألوفة بل أعطت الكثير من الاختراعات الآلية والمعملية لإثارة الخيال الإنساني، وعدد الناقد تلك الصور من المعمورة البشرية الحديثة أو البيضة الكبري البلاستيكية المعلقة في الفضاء بعد الحرب الإلكترونية الأولى، وحقل الاستنبات الضوئي القائم بإنتاج السبانخ بلا عيدان، والسيارة الكبسولة، والقطار الهوائي، ومتحف البشرية البائدة من ناطحات سحاب خربة، ومستشفيات لتجريب الحقن التي تحوي ميكروبات تلك الحضارة المنهارة والاستمتاع بتلك الأمراض الأرضية ثم العلاج والنقاهة، والاستنساخ من خلال الزواج المعملي، وتوليد الطاقة من أشعة الشمس وإذابة الغيوم الكثيفة بأجهزة إشعاعية وتحويلها إلى طاقة تمتصها فوهات الأجهزة المحيطة بمنشآت منطقة الفيوم، والعقل الإلكتروني الشامل الذي يعرف كل شيء ويجيب عن كل سؤال، والآلات التي تخترع نفسها وتطور نفسها بنفسها، وأجهزة التتبع الفورية، وتطوير الأقمار الصناعية، وملهى المناقشات العامة، وصالون الحب الحر، ...".
أما الناقد حسين عيد ففي مقاله المعنون: "قراءة في رواية السيد من حقل السبانخ أو يوتوبيا عصر العلم"، فيقدم الشكل التوضيحي للهيكل الإداري لكوكب الأرض في القرن الرابع والعشرين، موضحًا تفريعات اللجان الرئيسية والمناطق والأقاليم، والذي صاغه من أجواء الرواية وعوالمها الخصبة.
وهنا نأتي للتفرقة الثالثة بين أدب الخيال العلمي والفانتازيا، حيث يرى البعض أن "الفانتازيا" أدب الخيال المحض أو الموغل في الخيال يفارق أدب الخيال العلمي، حيث لا يقوم على حقيقة علمية نابضة في الحاضر، بل يقدم ما يفارق الواقع ويناهضه ويخرج عن التصديق، بينما يرى المتحمسون لهذا النوع من الأدب أنه يقدم خيالًا لكن عينه على الواقع شارحًا مشكلاته من طريق غير مباشر، وأن الخيال ملح الحياة عندما تحتدم وتتأزم سبل الوجود الإنساني الكريم، وربما يفسر هذا سر الكتابة الجديدة في هذا المجال وفئة الشباب في الإقبال على هذا اللون قراءة وتأليفًا.
ولا شك أن هناك تفريعات وأنواعًا منوعه في رحاب الفانتازيا، فمنها الراقية والكوكبية والمظلمة، لكن السمت للبنية الروائية في تلك الروايات يأتي من بناء عوالم روائية عجائبية ومطولة وجديدة مفعمة بالتفاصيل الكثيفة جدًا، وبناء عوالم الرواية معلوم للروائي بصفة عامة، لكنه في الفانتازيا لازما وزاخرا لدرجة صدور كتب مستقلة خاصة بتلك العوالم والأجناس والأماكن والأزمنه إلى آخر تلك التفاصيل المدهشة، حيث هذه الروايات من هذا اللون تصدر في أجزاء مسلسلة.
وفي رواية السيد "هومو" نجد هذا البناء الغرائبي المحكم للمستقبل بشكل أثار انتباه النقاد، وترحيبهم وسخائهم في مديح حقيقي للرواية، وقد يلجأ الدارس للتمييز بين المفاهيم لتحقيق سهولة الدرس الأدبي، لكن من وجهة نظري أن سرد الخيال العلمي، يشتمل نصيبًا، ويحوي مزيجًا من خليط فانتازي ساحر أيضًا ولو من خلال تلك العوالم السخية في بعض أجزائها، وحيث يصعب في بعض النصوص فصل مكونات هذا المزيج المبهر الذي يشير للموهبة الأدبية.
وتبقي الخاتمة التي وصفها الناقد د. عمر شهريار في مقاله المعنون: "الإنسان الملاك.. والخروج من فردوس عصر العسل"، حيث قال: "تأتي نهاية الرواية لتكسر أفق توقع القراء، حيث يكتشف الخارجون أنهم خرجوا إلى عالم لا يمكن العيش فيه، حيث أصبحت الطبيعة متوحشة بشكل مذهل، نتيجة الإشعاعات التي لوثت الكرة الأرضية في الحرب الإلكترونية، فالنباتات أصبحت متوحشة وتلتهم ما حولها من كائنات، والسحب تمر محملة بدرجة حرارة غير عادية تحرق كل الكائنات، وبمجرد مرورها تنمو هذه النباتات بسرعة غير عادية، فقد تغيرت الطبيعة بشكل جذري".
وأشار النقاد حينما وضعوا "هومو" تحت مجهر النقد الأدبي إلي فكرة "التشيؤ" وقتل الإنسانية، ولهم الحق حيث تحول الإنسان إلي شيء تحكمه الآلة ينضب فؤاده من المشاعر الإنسانية، وروحه من الوجدان الحي الفاعل، في ظل تقدم علمي يحيل الإنسانية إلى نمطية بغيضة، وإحكام تراتبي ممل، ونفي للمغامرة المحبوبة التي تشعل رغبة الحياة.
وأرى أن السيد "هومو" وقع بين مطرقة هذا التقدم العلمي العاصف والمقولب للإنسانية ومسخها لتنحدر نحو الآلية، وبين سندان التوحش البدائي للبشرية المنهارة، وتلك الطبيعة الجهمة المخيفة المفترسة الملوثة.
إن ضمير الرواية في تأويلي – والتأويل حق أصيل للقارئ - تحذيري يقول للإنسانية أن تنتبه للتقدم العلمي لتجعله أكثر إنسانية، فيكون وسطًا بين صوبة الأحلام القاتلة للروح، والطبيعة الفاقدة لسحرها الذي تغنت بها مواكب جبران وفيروز يومًا:
ليس في الغابات حزنٌ.. لا ولا فيها الهمومْ
فإذا هبّ نسيمٌ.. لم تجىءْ معه السمومْ
ليس حزن النفس إلا.. ظلُّ وهمٍ لا يدومْ
وغيوم النفس تبدو.. من ثناياها النجومْ
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا يمحو المحنْ
وأنين الناي يبقى.. بعد أن يفنى الزمنْ.
خالد جودة أحمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق