ضوء غرفة مغلقة
دخل فتى صامتٌ غرفة مغلقة، ممتلئة بضوء النهار. لم يكن للغرفة باب، أو أنه كان مختفيًا. لم يجد سوى نافذة كالحليب تعلو كرسيًا، وطاولة سوداء لامعة قربها وُضعت مرآة كبيرة. كانت أرضية الغرفة عريضة زرقاء نقية كلون مساء صيفي، وعندما نظر من خلال زجاج النافذة رأى غصن شجيرة مورقة.
أحب الفتى الزجاج الذي عبره رأى لون الأوراق الصغيرة، وانعكاس الضوء الأخضر. كان الفتى يحلم، وعندما سار برفقة صديقه إلى المدرسة، صباح اليوم التالي، حدثه عن جمال ضوء ينعكس على شجيرة عندما تنظر إليها من زجاج نافذة داخل غرفة مغلقة، حدثه طويلًا عن عذوبة ملمس طاولة من خشب، ذات لون أسود. وكان صديق الفتى يصغي بانتباه غارقًا في تخيل حلم زميله.
في طريق العودة، بدأ الجوع يؤلم بطن الفتى صاحب الغرفة المغلقة، وتذكر أن ضوء الأحلام غريبٌ، وأنها بلا ظلال، وأن الغرفة تكاد تكون مثل لوحة، وأن ما جعله سعيدًا حينها النظافة التي غمرت وجه المرآة الناعم الفارغ كبداية الصباح، وكذلك وجود صفحة صفراء مفتوحة على الطاولة، التي لم يكن عليها أي أثر آخر، كأنما هو الوحيد الذي دخل الغرفة، ولن يحل محله أحد.
فتاة البحيرة
جلست فتاة واهنة على حجر برتقالي قرب بحيرة. كان الحجر صغيرًا مثل أمنية طفل في هدية عيد. وكانت الفتاة حزينة، لأن والدتها رحلت عن الدنيا منذ أسبوع، وهي لم تقو بعد على نسيان المرارة التي يخلفها وفاة شخص قريب. أخذت تنظر في يديها، وكان الليل قد أوشك أن يحل، فقامت وأسرعت إلى البيت. وأمام العتبة ظلت واقفة لبرهة. مر هواء خفيف حول أذن الفتاة، وتساقطت من ارتفاع خفيض ورقة عن غصن شجرة ليمون قريبة، وكان رأسها محنيًا لدرجة يصعب معها رؤية وجهها. لم ترغب الفتاة في رؤية البيت من الداخل، كانت في توق شديد إلى لمسة من شخص يحبها، وهي كانت تحس بذات الوقت بذلك الدفء الذي تتركه لمسات أمها على شعرها. فجأة سمعت صوت أمها، سمعته من أعماق قلبها، كأنما الحزن والتوق قد أعادا الحياة إلى والدتها. بدا للفتاة أن الموت أمر غير حقيقي، ثم رفعت رأسها، وأمسكت مقبض الباب بحيوية، لتلج البيت سعيدة مثلما تفعل كل مرة. إن صوت أمها، الذي جاءها من بعيد، لم يكن صوت ميت أبدًا. كان وقعه مريحًا، فقد شعرت الفتاة بالطمأنينة تغمرها، ومنذ تلك البرهة القصيرة، حافظت على أثر الصوت، حدّ أنها لم تخبر أحدًا، إذ كانت تظن أن الناس لن يصدقوها، إذا حاولت إقناعهم أن الموت أمر غير حقيقي كما يرى معظم البشر حال الحياة إزاء الموت.
المستأجر
استأجر البيت منذ سنة تقريبًا. هو يعمل موزع كتب لدى دار نشر متواضعة، لا يستغرق وصوله إليها مشيًا سوى ربع ساعة، والدار التي استأجرها كبيرة لكن باردة. أحيانًا يكتب قصائد طويلة غاضبة، ثم يندم حينما يقرأها لأصدقائه، إذ إنه يعتقد أن الغضب حالة عقلية غير سليمة أبدًا مثله مثل الحقد والكراهية، حتى إن دفعت القسوة الناس إلى الكذب وتبادل الأنانية الوضيعة. ومع ذلك بقي عدم الاطمئنان يحرق أيامه. وليس العمل الصعب والرتيب ذو المدخول القليل سببًا كافيًا لنظن أن عدم انسجامه أو فقدانه التدريجي للتمتع أثناء القيام بجولات تكاد تكون لانهائية، هي التي تعكر راحة باله، فالشاب الطويل القامة، يعاني من نقص شبه دائم في وقود التدفئة، فيضطر للبقاء في فراشه، ويُضاف إلى البرد، خشيته من كثرة الاختلاط وتردده المريب في غايات الناس، كما أنه لا يطيق الشوارع ممتلئة بهم غادين رائحين كما لو أنهم مجبرون على هكذا تحرك رتيب كل يوم. وهو يفضل داخل المنزل البقاء قرب نافذة المطبخ، أو في غرفة النوم، ذلك أن ضوء الشمس لا ينتشر في كامل المنزل، بل يأخذ جزءًا من الغرفة والمطبخ، ويحدث ذلك قبيل فترة الظهيرة إلى اكتمال غروب الشمس.
صباح اليوم، مد أصابعه أمام عينيه، تحت دفء شمس الظهيرة، وظل ينظر إليها فترة طويلة. تذكر قرية أبيه البعيدة، وكيف هم الآن مشغولون بتمديد أنابيب المياه لسقاية الأرض. شتاء هذه السنة جاف، ولربما إذا استمر انحباس المطر شهرين تاليين، تحل كارثة جديدة بأهله، فهم سبق أن استدانوا مبالغ كبيرة من البنك الزراعي الذي لا ترحم قوانينه تردي حال المزارعين.
عيون
أكثر ما كان يؤذي ويؤلم عينَيّ طالب كلية الحقوق في العاصمة الكبيرة التي تبعد عن منزل أهله مسافة ألف كيلومتر تقريبًا، وجود الحرس العسكري أمام مدخل ساحة الكلية. وهؤلاء الحرس، عدا فقدانهم أي نوع من تسلية تمنح بعض الهدوء إلى ملامح وجوههم، يخرج نوع من الدناءة من عيونهم عندما يفتشون الطلاب قبل دخولهم، أو يتأكدون من حملهم بطاقة التسجيل في الجامعة. إذ إنهم حقيقة غير مبالين بعملهم، عدا جهلهم بكل لباقة تحفظ ود التعامل، ويضاف إلى هذا إحساسهم أن هؤلاء الطلاب الذين يهرعون كل يوم إلى المكتبة أو قاعات المحاضرات، تافهون لا يصلحون للقيام بأي عمل ذي قيمة. يعتقد حراس الجامعة أن عملهم من المسؤولية وقوة النفوذ بمكان، حد إحساسهم أن أي حركة من قبلهم لهي حركة محسوبة، محل اعتبار كبير، فتراهم لذلك يقطبون حواجبهم، ويزمون شفاههم، مطيلين البرهة الكافية للتفتيش، أو يبالغون في مص الدخان من أعقاب السجائر ذات الأنواع الفاخرة، رغم كونهم فقراء كمعظم الطلاب، ومع ذلك يصرفون نقودًا غير قليلة على شراء تبغ مرتفع الثمن، وربما جعلهم منظر العلبة الراقية في زهو كبير يصرفهم عن إبداء التواضع واللطف، إلى مكان تغدو فيه النظرة المدخنة شتيمة أو صفعًا لخدود الطلبة المساكين الذي عدا قرفهم من الدراسة، يضطرون خانعين إلى خفض رؤوسهم وتقليص أجسادهم أثناء أدائهم واجبات التأكد من كونهم طلابًا لا غير. بعض الطلبة يتجاوزن السخط الصامت بابتكارهم قصصًا مملة تشبه اللغة التي يزرعها التلفزيون في رؤوس فارغة، لكنهم مع ذلك يدركون في قرارة أنفسهم أن الأمر لا ينحصر في قطيع من هؤلاء البائسين الذين انحدرت بهم الحال إلى إبداء مشاعرهم بطرق رديئة تشوه المشاعر، ذلك أن الطلبة كذلك مضطرون إلى شكل من التعامل لا يختلف في كثير عن نظرات التمثيل الكريهة التي يشعلها الحرس بهم وبأجسادهم كل صباح.
ضفة ثالثة
دخل فتى صامتٌ غرفة مغلقة، ممتلئة بضوء النهار. لم يكن للغرفة باب، أو أنه كان مختفيًا. لم يجد سوى نافذة كالحليب تعلو كرسيًا، وطاولة سوداء لامعة قربها وُضعت مرآة كبيرة. كانت أرضية الغرفة عريضة زرقاء نقية كلون مساء صيفي، وعندما نظر من خلال زجاج النافذة رأى غصن شجيرة مورقة.
أحب الفتى الزجاج الذي عبره رأى لون الأوراق الصغيرة، وانعكاس الضوء الأخضر. كان الفتى يحلم، وعندما سار برفقة صديقه إلى المدرسة، صباح اليوم التالي، حدثه عن جمال ضوء ينعكس على شجيرة عندما تنظر إليها من زجاج نافذة داخل غرفة مغلقة، حدثه طويلًا عن عذوبة ملمس طاولة من خشب، ذات لون أسود. وكان صديق الفتى يصغي بانتباه غارقًا في تخيل حلم زميله.
في طريق العودة، بدأ الجوع يؤلم بطن الفتى صاحب الغرفة المغلقة، وتذكر أن ضوء الأحلام غريبٌ، وأنها بلا ظلال، وأن الغرفة تكاد تكون مثل لوحة، وأن ما جعله سعيدًا حينها النظافة التي غمرت وجه المرآة الناعم الفارغ كبداية الصباح، وكذلك وجود صفحة صفراء مفتوحة على الطاولة، التي لم يكن عليها أي أثر آخر، كأنما هو الوحيد الذي دخل الغرفة، ولن يحل محله أحد.
فتاة البحيرة
جلست فتاة واهنة على حجر برتقالي قرب بحيرة. كان الحجر صغيرًا مثل أمنية طفل في هدية عيد. وكانت الفتاة حزينة، لأن والدتها رحلت عن الدنيا منذ أسبوع، وهي لم تقو بعد على نسيان المرارة التي يخلفها وفاة شخص قريب. أخذت تنظر في يديها، وكان الليل قد أوشك أن يحل، فقامت وأسرعت إلى البيت. وأمام العتبة ظلت واقفة لبرهة. مر هواء خفيف حول أذن الفتاة، وتساقطت من ارتفاع خفيض ورقة عن غصن شجرة ليمون قريبة، وكان رأسها محنيًا لدرجة يصعب معها رؤية وجهها. لم ترغب الفتاة في رؤية البيت من الداخل، كانت في توق شديد إلى لمسة من شخص يحبها، وهي كانت تحس بذات الوقت بذلك الدفء الذي تتركه لمسات أمها على شعرها. فجأة سمعت صوت أمها، سمعته من أعماق قلبها، كأنما الحزن والتوق قد أعادا الحياة إلى والدتها. بدا للفتاة أن الموت أمر غير حقيقي، ثم رفعت رأسها، وأمسكت مقبض الباب بحيوية، لتلج البيت سعيدة مثلما تفعل كل مرة. إن صوت أمها، الذي جاءها من بعيد، لم يكن صوت ميت أبدًا. كان وقعه مريحًا، فقد شعرت الفتاة بالطمأنينة تغمرها، ومنذ تلك البرهة القصيرة، حافظت على أثر الصوت، حدّ أنها لم تخبر أحدًا، إذ كانت تظن أن الناس لن يصدقوها، إذا حاولت إقناعهم أن الموت أمر غير حقيقي كما يرى معظم البشر حال الحياة إزاء الموت.
المستأجر
استأجر البيت منذ سنة تقريبًا. هو يعمل موزع كتب لدى دار نشر متواضعة، لا يستغرق وصوله إليها مشيًا سوى ربع ساعة، والدار التي استأجرها كبيرة لكن باردة. أحيانًا يكتب قصائد طويلة غاضبة، ثم يندم حينما يقرأها لأصدقائه، إذ إنه يعتقد أن الغضب حالة عقلية غير سليمة أبدًا مثله مثل الحقد والكراهية، حتى إن دفعت القسوة الناس إلى الكذب وتبادل الأنانية الوضيعة. ومع ذلك بقي عدم الاطمئنان يحرق أيامه. وليس العمل الصعب والرتيب ذو المدخول القليل سببًا كافيًا لنظن أن عدم انسجامه أو فقدانه التدريجي للتمتع أثناء القيام بجولات تكاد تكون لانهائية، هي التي تعكر راحة باله، فالشاب الطويل القامة، يعاني من نقص شبه دائم في وقود التدفئة، فيضطر للبقاء في فراشه، ويُضاف إلى البرد، خشيته من كثرة الاختلاط وتردده المريب في غايات الناس، كما أنه لا يطيق الشوارع ممتلئة بهم غادين رائحين كما لو أنهم مجبرون على هكذا تحرك رتيب كل يوم. وهو يفضل داخل المنزل البقاء قرب نافذة المطبخ، أو في غرفة النوم، ذلك أن ضوء الشمس لا ينتشر في كامل المنزل، بل يأخذ جزءًا من الغرفة والمطبخ، ويحدث ذلك قبيل فترة الظهيرة إلى اكتمال غروب الشمس.
صباح اليوم، مد أصابعه أمام عينيه، تحت دفء شمس الظهيرة، وظل ينظر إليها فترة طويلة. تذكر قرية أبيه البعيدة، وكيف هم الآن مشغولون بتمديد أنابيب المياه لسقاية الأرض. شتاء هذه السنة جاف، ولربما إذا استمر انحباس المطر شهرين تاليين، تحل كارثة جديدة بأهله، فهم سبق أن استدانوا مبالغ كبيرة من البنك الزراعي الذي لا ترحم قوانينه تردي حال المزارعين.
عيون
أكثر ما كان يؤذي ويؤلم عينَيّ طالب كلية الحقوق في العاصمة الكبيرة التي تبعد عن منزل أهله مسافة ألف كيلومتر تقريبًا، وجود الحرس العسكري أمام مدخل ساحة الكلية. وهؤلاء الحرس، عدا فقدانهم أي نوع من تسلية تمنح بعض الهدوء إلى ملامح وجوههم، يخرج نوع من الدناءة من عيونهم عندما يفتشون الطلاب قبل دخولهم، أو يتأكدون من حملهم بطاقة التسجيل في الجامعة. إذ إنهم حقيقة غير مبالين بعملهم، عدا جهلهم بكل لباقة تحفظ ود التعامل، ويضاف إلى هذا إحساسهم أن هؤلاء الطلاب الذين يهرعون كل يوم إلى المكتبة أو قاعات المحاضرات، تافهون لا يصلحون للقيام بأي عمل ذي قيمة. يعتقد حراس الجامعة أن عملهم من المسؤولية وقوة النفوذ بمكان، حد إحساسهم أن أي حركة من قبلهم لهي حركة محسوبة، محل اعتبار كبير، فتراهم لذلك يقطبون حواجبهم، ويزمون شفاههم، مطيلين البرهة الكافية للتفتيش، أو يبالغون في مص الدخان من أعقاب السجائر ذات الأنواع الفاخرة، رغم كونهم فقراء كمعظم الطلاب، ومع ذلك يصرفون نقودًا غير قليلة على شراء تبغ مرتفع الثمن، وربما جعلهم منظر العلبة الراقية في زهو كبير يصرفهم عن إبداء التواضع واللطف، إلى مكان تغدو فيه النظرة المدخنة شتيمة أو صفعًا لخدود الطلبة المساكين الذي عدا قرفهم من الدراسة، يضطرون خانعين إلى خفض رؤوسهم وتقليص أجسادهم أثناء أدائهم واجبات التأكد من كونهم طلابًا لا غير. بعض الطلبة يتجاوزن السخط الصامت بابتكارهم قصصًا مملة تشبه اللغة التي يزرعها التلفزيون في رؤوس فارغة، لكنهم مع ذلك يدركون في قرارة أنفسهم أن الأمر لا ينحصر في قطيع من هؤلاء البائسين الذين انحدرت بهم الحال إلى إبداء مشاعرهم بطرق رديئة تشوه المشاعر، ذلك أن الطلبة كذلك مضطرون إلى شكل من التعامل لا يختلف في كثير عن نظرات التمثيل الكريهة التي يشعلها الحرس بهم وبأجسادهم كل صباح.
ضفة ثالثة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق