يلعب الحبّ أهمية كبرى في حياتنا، بسبب قدرته على جعلنا نتحرك.. ونشعر.. ونفكّر.. ونأتي بأفعال جديدة لم نأتِ بمثلها من قبل
عبدالسادة البصري
استذكرتُ هذا القول للكاتب الفيلسوف رولاند دي سوسا بعد انتهائي من رحلةٍ أخذني بها الروائي محمد حيّاوي في روايته الأخيرة "بيت السودان"، حيث إنه يفتح لك بابها ـ الرحلة ـ من العنوان الذي يأخذك في مقارنةٍ لغوية اولاً بين "السودان" البلد، أم العشيرة، أم ذوي البشرة السوداء، لكنك ما أن تطأ العتبة، حتّى يعطيك مفتاح ما يريد: "فتشربتُ بالليل كلّه حتّى صرتُ سوداء" ويقصد "تلك السمراء ذات الشعر الأجعد".
وبواسطة هذا المدخل تُفكّ شفرة الحكاية، والبيت المقصود هنا هو النسوة ذوات البشرة السوداء، ويكون الحكي عن طريق الراوي العليم ـ ضمير المتكلم ـ وهو "علي أو علّاوي"، الولد الذي احتضنته "ياقوت" وربّته طفلًا ليقع في حبّها من دون أن يعلم بأنّها ليست أمّه التي ولدته، وهي واحدة من الحكايا الغامضة في الرواية التي تستمر منذ بدايتها حتّى إنقاذه من الحريق المفتعل على يد جماعة سيِّد محسن بتضحية لا مثيل لها، لكن هذا الاحتضان يتحول الى عشقٍ وولهٍ لا مثيل له بين الأم المفترضة والبطل!
أحداث الرواية تدور في أكثر من زمنٍ، فهي تبتدئ في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي وتستمر حتّى سقوط النظام في العام 2003 وارتداء البعض أقنعة تخفي تلونهم وما كانوا يضمرون من عداوةٍ وأمراض نفسية وانتهازية مقيتة!
الجدّة "عجيبة" التي تكبر النساء سنًا هي الوحيدة، كما توحي الرواية، تربطها صلة القربى بـ "ياقوت" كوالدتها أو مربيتها، أما بقية الفتيات الموجودات في البيت فلا تربطهن صلة قربى سوى عيشهن في بيتٍ واحد وامتهانهن الرقص والغناء، وهنا تظهر لعبة ابتكرها الكاتب وهي تقارب معانى اسمائهن "عجيبة، ياقوت، نعيّم، شمّة، فوز وغيرهن"، وأسماء الأخريات اللواتي يكون لهنّ مكان في قلب ياقوت أو يتصلن بها خلال مجريات الأحداث "عفاف، درّة، صبرية، نانسي" ليجد القارئ نفسه كمتلقٍ لحكاياتٍ اشتركت فيها نسوة يربطهن رباط خفي جدًّا لن يستطيع الوصول اليه إلاّ بعد الانتهاء من قراءة الرواية كاملة وتأمّل مجريات أحداثها.
وثمّة مقترب حكائي آخر يأخذنا فيه "حياوي" أيضًا متمثلًا بزقّورة أور وحارسها الأعمى "ضمد"، وهنا لعبة ثالثة ـ حارس أعمى في مقبرة أثريَّة، أيُعقل هذا؟!
والجواب نعم، يُعقل جدًّا إذا عرفنا بأنَّه فاقد للبصر فقط أما بصيرته فثاقبة ونافذة إلى درجه قيامه بفكّ شفرات الألواح الموجودة في المقبرة الملكيّة ويقارن ما فيها من نصوص مع ما يحدث على أرض الواقع كما لو كانت نبوءات كتبها الأولون لنا، ولم يكن وجود هذا الحارس هامشيًا في الحقيقة بل هو مرتبط بالأحداث وتفاعلاتها، ابتداءً من جلسات السمر التي يقيمونها في بيت السودان هو والدكتور رياض وسيِّد محسن و"زيدان" الحوذي الذي نكتشف بعد اختفائه إثر فشل انتفاضة 1991 وقمع المنتفضين بوحشية من قبل النظام، أنّه شيوعي وقد ربّى ابنته وعلّمها وفق مبادئه ومعتقداته، ولم نعرف مصيره حتى النهاية.
هل أُعدم، أم هاجر، أم غُيب! إذ يتركه الروائي لغزًا على الرغم من الحداث المتعاقبة التي تشهدها ابنته الوحيدة "عفاف" التي ترتبط في علاقة غامضة مع البطل "علّاوي" تتراوح بين الصديقة والزميلة والحبيبة، بعد أن تلجأ إلى بيت السودان وتقيم فيه تحت رعاية "ياقوت" نتيجة لاختفاء أبيها ومطاردتها من قبل أزلام النظام، ثم بعد ذلك ذهابها إلى بغداد ودراستها في الجامعة وانغمارها في النشاط الطلابي ضمن اتحاد الطلبة لتتحول إلى قائدة ومناضلة عنيدة ضد ما يحدث من ظلم واضطهاد في البلاد ورفضها احتلال العراق بالقوّة في العام 2003 حتى يتم اعتقالها على يد القوات الأميركية، نتيجة لدورها في أسر المجنّدة "نانسي" التي صودف أنّها ذات بشرة سوداء أيضًا.
وكي أعود مرّة أخرى لتقارب معاني الأسماء في هذه الرواية، ارتأيت أن أسأل الكاتب نفسه عن لعبته تلك فقال: "إنّ الاسماء في الرواية هي اشتقاقات خاصة جدًّا لتسقط إيحاءاتها على وعي القارئ" أي بمعنى أنّه تقصّد ذلك وبوعي تامٍ جدًّا.
ومن خلال تغلغلي في أحداث الرواية، التي تُعَدّ امتدادًا لثلاثية يكتبها الروائي تشكل كل من "خان الشابندر" و"بيت السودان" حلقتيها الأولى والثانية، وجدت أنه يشتغل في كلتيهما على الحلم المطلق بواسطة سرد الأحداث على لسان البطل ـ الراوي ـ وضمير أنا المتكلم، إذ يبدئ "علّاوي" البطل هنا حديثه في وصف رؤيا خاصّة لإحدى فتيات بيت السودان، وهما يجلسان على شفا حفرة كبيرة "خسف مهول" يضم واحة خضراء وعين ماء تجلس عندها سبع نسوة سوداوات هن فتيات بيت السودان نفسهن، وبطريقة إيحائية يسرد الحكاية كـ "فلاش باك" أي بطريقة الاستذكار الحلمي، لنعرف منه أنّه كان ابنًا لامرأة سوداء وعشيقًا لها في الوقت ذاته، لكنّه عشق طهراني صوفي، إذ لم يبيّن الكاتب متى أو أين أو كيف جاء هذا الولد الأبيض الوسيم الى بيت السودان لتحتضنه "ياقوت" وتربيه كابن وحبيب لها، سوى إشارة عابرة ترد ضمن مجريات الأحداث تذكر فيها "ياقوت" أنّهم وجدوه وليدًا ملفوفًا بقطعة قماش ومرميًا خلف سياج المستشفى، وفي الوقت ذاته، نراه يعتقد بأنّها ليست أمّه البيولوجية لأنّه يشتهيها جنسيًّا ويحلم بمراودتها، بل يتخيّلها في لحظات تلاصق وانجذاب، كما أنّها تحبّه وتغار عليه بطريقة الاشتهاء الممتنع، فتقمع رغباتها ونداء جسدها من دون رحمة وبكل ما تستطيع من قوّة، لكن يبقى عشقها له مكشوفًا للآخرين.
الرواية تبدأ بحلم وتنتهي بحلم دائري بواسطة الربط بين ما جاء في الصفحات الثلاث الأولى والصفحات الاخيرة منها، حيث نكتشف بأنّ كل ما جرى من أحداث عبارة عن حلمٍ متكون من عدة حكايات يرويها البطل "علّاوي" ـ الراوي ـ ليؤكد الروائي بواسطته عمله بدقّةٍ وهو أرخنة فترة زمنية تغيرت فيها ضمائر ووجوه وأشكال مدن وبيوت، وساد القتل والموت المجاني والخراب على الرغم مما بقي في نفوس البعض من محبّة ونكران ذات.
الحلم هنا مطلق وبالإمكان استمراريته وسرد أحداث أخرى وربطها ببعضها البعض إلى ما لا نهاية، إذ أنّ "علّاوي" الهائم بحبّه لـ "ياقوت" الأمّ والعشيقة وانشداده القويّ إليها من دون شعور، يؤكد قول المهاتما غاندي: "إنّ أصلب عود يلين بنار المحبّة، فإذا لم يلن فإنّ النّار غير كافية"، وهنا تتجسد طهرانية الحبّ التي تصنع المستحيل عندما قامت "ياقوت" أثناء هجوم المتطرفين الإسلاميين بقيادة السيِّد محسن وأغلاق أبواب بيت السودان بالألواح والمسامير وإضرام النّار فيه، بحجة تطهير المكان من الدنس حسب ادعائهم أو فريتهم، برمي "علّاوي" من السطح وإنقاذ حياته مقابل احتراقها وموتها.
وتقدّم الرواية نموذج رجل الدين سيِّد محسن هذا كشخصية ملتبسة ومريضة تسعى للانتقام من كل ما هو نزيه وجميل وغير مدنس، إذا كان في فترة سابقة من عيون النظام وعسسه، وعندما سقط ذلك النظام أخذ بتناول الخمر والعربدة ومضايقة فتيات بيت السودان ومراودة إحدى فتياته (شمّة) الجميلة التي تصده بشجاعة وتضطر سيِّدة البيت "ياقوت" إلى الانتصار لها، فتحدث مشاجرة كبيرة بينهما نتيجة لسلوكياته الملتوية تلك وتهتكه ولعبه لدور رجل الدين التقي نهارًا والسكير والمعربد ليلًا ثم تحوله بعد سقوط النظام إلى متشدد ومتطرف ومداهن باسم الدين.
لقد ترك المؤلف "علّاوي" حيًّا ليقوم بسرد الوقائع والأحداث لـ "عفاف" التي تحاول إفاقته من حلمه الذي يشبه المرض النفسي هنا نتيجة ما رآه من أهوال وفجيعته بفقدان "ياقوت" وبقية فتيات بيت السودان، على الرغم من محاولات عفاف المستميتة لإيقاظه من الحلم وإخراجه من المقبرة التي اتخذها ملاذًا ومداواته بالحب الذي اختلط بالحلم في الرواية ليكون مفتاحًا لحياة أخرى أكثر عدلًا: "مبيتك في المقبرة يفاقم أزمتك ولن ينسيك فجيعتك صدقني.. علاوي، أرجوك، كف عن الحديث عن ذلك الخسف، إنك تثير جنوني. لم يبق سوى أحدنا للآخر، إن خسرتك سأخسر نفسي أيضًا، لا أريد أن أسكن المقابر مثلك وأتعلق بوهم الخسف الذي يتراءى لك، ذهنك مريض يا حبيبي ويرسم لك الخيالات الوهمية التي ترغب فيها ليس إلا".
أي بمعنى أن الحكاية التي سردها لنا المؤلف، هي ما يدور في ذهن "علّاوي" في أثناء مكوثه في المقبرة من ذكريات أشبه بالحلم أو التهويمات إثر الصدمة النفسية الحادّة، لنجد المؤلف في آخر سطور الرواية يؤكد انفتاحها على عالم آخر سيأتي لاحقا:
"ألمح النساء السبع السوداوات يلوّحن لي من بعيد، وفي لحظة خاطفة دهمني طيف عابر مثل طائر، وهتف في أذني بنبرة حنون: اذهب مع عفاف يا حبيبي، لا تخف، ثم اختفى، وظل الصدى يتردد آفلاً وسط القبور، لا تخف.. لا تخف.. لا تخف".
وفي المحصلة، فإن الروائي يعيش حلم الواقع بواسطة تبنّيه الرؤية الكاملة لعمله، عندما يمنح البطل صفة "القارئ والكاتب والمثقف" في الوقت نفسه، أي أنّه يُسقط موشوره الحكائي ووعيه ورؤاه على وعي بطله في كل مرة وبواسطة هذا الحلم يشدنا إليه بقوّة ومتعة أيضًا.
محمد حيّاوي روائي من طراز خاص، يعمل منفردًا ليؤرخ بواسطة المنجز السردي والإبداعي حياة شعب كامل وفق وعيه المتقدم وفهمه الخاص للأحداث واضطراب العلاقات والسلوكيات وتأثيرات الحروب والعنف المدمر على الذات العراقية، أشدُّ على يديه بانتظار عمله "حلمه" المقبل.
عبدالسادة البصري
استذكرتُ هذا القول للكاتب الفيلسوف رولاند دي سوسا بعد انتهائي من رحلةٍ أخذني بها الروائي محمد حيّاوي في روايته الأخيرة "بيت السودان"، حيث إنه يفتح لك بابها ـ الرحلة ـ من العنوان الذي يأخذك في مقارنةٍ لغوية اولاً بين "السودان" البلد، أم العشيرة، أم ذوي البشرة السوداء، لكنك ما أن تطأ العتبة، حتّى يعطيك مفتاح ما يريد: "فتشربتُ بالليل كلّه حتّى صرتُ سوداء" ويقصد "تلك السمراء ذات الشعر الأجعد".
وبواسطة هذا المدخل تُفكّ شفرة الحكاية، والبيت المقصود هنا هو النسوة ذوات البشرة السوداء، ويكون الحكي عن طريق الراوي العليم ـ ضمير المتكلم ـ وهو "علي أو علّاوي"، الولد الذي احتضنته "ياقوت" وربّته طفلًا ليقع في حبّها من دون أن يعلم بأنّها ليست أمّه التي ولدته، وهي واحدة من الحكايا الغامضة في الرواية التي تستمر منذ بدايتها حتّى إنقاذه من الحريق المفتعل على يد جماعة سيِّد محسن بتضحية لا مثيل لها، لكن هذا الاحتضان يتحول الى عشقٍ وولهٍ لا مثيل له بين الأم المفترضة والبطل!
أحداث الرواية تدور في أكثر من زمنٍ، فهي تبتدئ في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي وتستمر حتّى سقوط النظام في العام 2003 وارتداء البعض أقنعة تخفي تلونهم وما كانوا يضمرون من عداوةٍ وأمراض نفسية وانتهازية مقيتة!
الجدّة "عجيبة" التي تكبر النساء سنًا هي الوحيدة، كما توحي الرواية، تربطها صلة القربى بـ "ياقوت" كوالدتها أو مربيتها، أما بقية الفتيات الموجودات في البيت فلا تربطهن صلة قربى سوى عيشهن في بيتٍ واحد وامتهانهن الرقص والغناء، وهنا تظهر لعبة ابتكرها الكاتب وهي تقارب معانى اسمائهن "عجيبة، ياقوت، نعيّم، شمّة، فوز وغيرهن"، وأسماء الأخريات اللواتي يكون لهنّ مكان في قلب ياقوت أو يتصلن بها خلال مجريات الأحداث "عفاف، درّة، صبرية، نانسي" ليجد القارئ نفسه كمتلقٍ لحكاياتٍ اشتركت فيها نسوة يربطهن رباط خفي جدًّا لن يستطيع الوصول اليه إلاّ بعد الانتهاء من قراءة الرواية كاملة وتأمّل مجريات أحداثها.
وثمّة مقترب حكائي آخر يأخذنا فيه "حياوي" أيضًا متمثلًا بزقّورة أور وحارسها الأعمى "ضمد"، وهنا لعبة ثالثة ـ حارس أعمى في مقبرة أثريَّة، أيُعقل هذا؟!
والجواب نعم، يُعقل جدًّا إذا عرفنا بأنَّه فاقد للبصر فقط أما بصيرته فثاقبة ونافذة إلى درجه قيامه بفكّ شفرات الألواح الموجودة في المقبرة الملكيّة ويقارن ما فيها من نصوص مع ما يحدث على أرض الواقع كما لو كانت نبوءات كتبها الأولون لنا، ولم يكن وجود هذا الحارس هامشيًا في الحقيقة بل هو مرتبط بالأحداث وتفاعلاتها، ابتداءً من جلسات السمر التي يقيمونها في بيت السودان هو والدكتور رياض وسيِّد محسن و"زيدان" الحوذي الذي نكتشف بعد اختفائه إثر فشل انتفاضة 1991 وقمع المنتفضين بوحشية من قبل النظام، أنّه شيوعي وقد ربّى ابنته وعلّمها وفق مبادئه ومعتقداته، ولم نعرف مصيره حتى النهاية.
هل أُعدم، أم هاجر، أم غُيب! إذ يتركه الروائي لغزًا على الرغم من الحداث المتعاقبة التي تشهدها ابنته الوحيدة "عفاف" التي ترتبط في علاقة غامضة مع البطل "علّاوي" تتراوح بين الصديقة والزميلة والحبيبة، بعد أن تلجأ إلى بيت السودان وتقيم فيه تحت رعاية "ياقوت" نتيجة لاختفاء أبيها ومطاردتها من قبل أزلام النظام، ثم بعد ذلك ذهابها إلى بغداد ودراستها في الجامعة وانغمارها في النشاط الطلابي ضمن اتحاد الطلبة لتتحول إلى قائدة ومناضلة عنيدة ضد ما يحدث من ظلم واضطهاد في البلاد ورفضها احتلال العراق بالقوّة في العام 2003 حتى يتم اعتقالها على يد القوات الأميركية، نتيجة لدورها في أسر المجنّدة "نانسي" التي صودف أنّها ذات بشرة سوداء أيضًا.
وكي أعود مرّة أخرى لتقارب معاني الأسماء في هذه الرواية، ارتأيت أن أسأل الكاتب نفسه عن لعبته تلك فقال: "إنّ الاسماء في الرواية هي اشتقاقات خاصة جدًّا لتسقط إيحاءاتها على وعي القارئ" أي بمعنى أنّه تقصّد ذلك وبوعي تامٍ جدًّا.
ومن خلال تغلغلي في أحداث الرواية، التي تُعَدّ امتدادًا لثلاثية يكتبها الروائي تشكل كل من "خان الشابندر" و"بيت السودان" حلقتيها الأولى والثانية، وجدت أنه يشتغل في كلتيهما على الحلم المطلق بواسطة سرد الأحداث على لسان البطل ـ الراوي ـ وضمير أنا المتكلم، إذ يبدئ "علّاوي" البطل هنا حديثه في وصف رؤيا خاصّة لإحدى فتيات بيت السودان، وهما يجلسان على شفا حفرة كبيرة "خسف مهول" يضم واحة خضراء وعين ماء تجلس عندها سبع نسوة سوداوات هن فتيات بيت السودان نفسهن، وبطريقة إيحائية يسرد الحكاية كـ "فلاش باك" أي بطريقة الاستذكار الحلمي، لنعرف منه أنّه كان ابنًا لامرأة سوداء وعشيقًا لها في الوقت ذاته، لكنّه عشق طهراني صوفي، إذ لم يبيّن الكاتب متى أو أين أو كيف جاء هذا الولد الأبيض الوسيم الى بيت السودان لتحتضنه "ياقوت" وتربيه كابن وحبيب لها، سوى إشارة عابرة ترد ضمن مجريات الأحداث تذكر فيها "ياقوت" أنّهم وجدوه وليدًا ملفوفًا بقطعة قماش ومرميًا خلف سياج المستشفى، وفي الوقت ذاته، نراه يعتقد بأنّها ليست أمّه البيولوجية لأنّه يشتهيها جنسيًّا ويحلم بمراودتها، بل يتخيّلها في لحظات تلاصق وانجذاب، كما أنّها تحبّه وتغار عليه بطريقة الاشتهاء الممتنع، فتقمع رغباتها ونداء جسدها من دون رحمة وبكل ما تستطيع من قوّة، لكن يبقى عشقها له مكشوفًا للآخرين.
الرواية تبدأ بحلم وتنتهي بحلم دائري بواسطة الربط بين ما جاء في الصفحات الثلاث الأولى والصفحات الاخيرة منها، حيث نكتشف بأنّ كل ما جرى من أحداث عبارة عن حلمٍ متكون من عدة حكايات يرويها البطل "علّاوي" ـ الراوي ـ ليؤكد الروائي بواسطته عمله بدقّةٍ وهو أرخنة فترة زمنية تغيرت فيها ضمائر ووجوه وأشكال مدن وبيوت، وساد القتل والموت المجاني والخراب على الرغم مما بقي في نفوس البعض من محبّة ونكران ذات.
الحلم هنا مطلق وبالإمكان استمراريته وسرد أحداث أخرى وربطها ببعضها البعض إلى ما لا نهاية، إذ أنّ "علّاوي" الهائم بحبّه لـ "ياقوت" الأمّ والعشيقة وانشداده القويّ إليها من دون شعور، يؤكد قول المهاتما غاندي: "إنّ أصلب عود يلين بنار المحبّة، فإذا لم يلن فإنّ النّار غير كافية"، وهنا تتجسد طهرانية الحبّ التي تصنع المستحيل عندما قامت "ياقوت" أثناء هجوم المتطرفين الإسلاميين بقيادة السيِّد محسن وأغلاق أبواب بيت السودان بالألواح والمسامير وإضرام النّار فيه، بحجة تطهير المكان من الدنس حسب ادعائهم أو فريتهم، برمي "علّاوي" من السطح وإنقاذ حياته مقابل احتراقها وموتها.
وتقدّم الرواية نموذج رجل الدين سيِّد محسن هذا كشخصية ملتبسة ومريضة تسعى للانتقام من كل ما هو نزيه وجميل وغير مدنس، إذا كان في فترة سابقة من عيون النظام وعسسه، وعندما سقط ذلك النظام أخذ بتناول الخمر والعربدة ومضايقة فتيات بيت السودان ومراودة إحدى فتياته (شمّة) الجميلة التي تصده بشجاعة وتضطر سيِّدة البيت "ياقوت" إلى الانتصار لها، فتحدث مشاجرة كبيرة بينهما نتيجة لسلوكياته الملتوية تلك وتهتكه ولعبه لدور رجل الدين التقي نهارًا والسكير والمعربد ليلًا ثم تحوله بعد سقوط النظام إلى متشدد ومتطرف ومداهن باسم الدين.
لقد ترك المؤلف "علّاوي" حيًّا ليقوم بسرد الوقائع والأحداث لـ "عفاف" التي تحاول إفاقته من حلمه الذي يشبه المرض النفسي هنا نتيجة ما رآه من أهوال وفجيعته بفقدان "ياقوت" وبقية فتيات بيت السودان، على الرغم من محاولات عفاف المستميتة لإيقاظه من الحلم وإخراجه من المقبرة التي اتخذها ملاذًا ومداواته بالحب الذي اختلط بالحلم في الرواية ليكون مفتاحًا لحياة أخرى أكثر عدلًا: "مبيتك في المقبرة يفاقم أزمتك ولن ينسيك فجيعتك صدقني.. علاوي، أرجوك، كف عن الحديث عن ذلك الخسف، إنك تثير جنوني. لم يبق سوى أحدنا للآخر، إن خسرتك سأخسر نفسي أيضًا، لا أريد أن أسكن المقابر مثلك وأتعلق بوهم الخسف الذي يتراءى لك، ذهنك مريض يا حبيبي ويرسم لك الخيالات الوهمية التي ترغب فيها ليس إلا".
أي بمعنى أن الحكاية التي سردها لنا المؤلف، هي ما يدور في ذهن "علّاوي" في أثناء مكوثه في المقبرة من ذكريات أشبه بالحلم أو التهويمات إثر الصدمة النفسية الحادّة، لنجد المؤلف في آخر سطور الرواية يؤكد انفتاحها على عالم آخر سيأتي لاحقا:
"ألمح النساء السبع السوداوات يلوّحن لي من بعيد، وفي لحظة خاطفة دهمني طيف عابر مثل طائر، وهتف في أذني بنبرة حنون: اذهب مع عفاف يا حبيبي، لا تخف، ثم اختفى، وظل الصدى يتردد آفلاً وسط القبور، لا تخف.. لا تخف.. لا تخف".
وفي المحصلة، فإن الروائي يعيش حلم الواقع بواسطة تبنّيه الرؤية الكاملة لعمله، عندما يمنح البطل صفة "القارئ والكاتب والمثقف" في الوقت نفسه، أي أنّه يُسقط موشوره الحكائي ووعيه ورؤاه على وعي بطله في كل مرة وبواسطة هذا الحلم يشدنا إليه بقوّة ومتعة أيضًا.
محمد حيّاوي روائي من طراز خاص، يعمل منفردًا ليؤرخ بواسطة المنجز السردي والإبداعي حياة شعب كامل وفق وعيه المتقدم وفهمه الخاص للأحداث واضطراب العلاقات والسلوكيات وتأثيرات الحروب والعنف المدمر على الذات العراقية، أشدُّ على يديه بانتظار عمله "حلمه" المقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق