اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

مبدعين من فلسطين >غرباء ــ قصة قصيرة .. عدنان كنفاني

أخيراً حسمت أمري، وألقيت كل الأعباء جانباً، وجئت إلى هنا.
في آخر بيت من بيوت هذه الحارة القديمة المسدودة؛ مدرستي. أمضيت فيها أربع سنوات مرحلة الدراسة الإعدادية التي كانت معتَمَدة في ذلك الوقت، بعد أن حصلت على شهادة "السرتفيكا" الابتدائية.
لست أدري لماذا تتشكل مع تلك الصورة دائماً - وكأنهما شقيّ توأم- صورة "زكريا"!.
ذلك الشاب القادم من مدينة بعيدة نائية، استلم حصّته من إرث أبيه ويمم شطر هنا "العاصمة" ليبحث فيها عن حياة جديدة.

شمّر عن ساعديه، وأعلن استعداده لخوض معركة البقاء، بدأها باستثمار دكان مهملة صغيرة على ناصية السوق الشعبي المزدحم، أطلق عليها (المطعم الشعبي لصاحبه زكريا).

أربع سنوات أمضيتها في هذه المدرسة، كنت في مقتبل العمر، خفيفاً بلا مسؤولية، وطائشاً لا أضع شعرة في ميزان عواقب الأمور، أفيض نشاطاً وشقاوة ومشاكسة كما كان يردد في كل مناسبة الأستاذ "أكرم" معيد المدرسة.

في مكان حميم بكل ما فيه من حارات وأزقة وناس وبيوت، كانت أجمل حقبة من عمري.

بدا لي الزمن المتسارع وسط احتياجات وواجباتٍ لا تكفّ عن الإلحاح.. بعيداً، غارقاً وراء ضباب كثيف معبأ بأحداث تراكمت بشكل مدهش، تناثرت في أتونها الصاخب ذكريات أخرى تمسّ الروح، وكادت لولا الإرث الثقافي العاطفي النابض فينا أن تتلاشى.

كان ذلك منذ زمن بعيد، ومنذ ذلك الوقت وصورة هذا المكان، أكاد أتحسسها بين جزئيات الضباب المتراكم، ولا تفارق خيالاتي.

لكنني رغم ذلك وكلما حاولت أن أقصد هنا، لا أعرف كيف تتشتت إرادتي وسط مشاغل أخرى، والأيام تكرّ كحبات سبّحة بين يدي ناسك، لتتراكم على غير وعي مني إلى عشرين سنة.

الآن لم أجد غير وظيفة عادية، أستاذ مادة الكيمياء في مدرسة خاصّة بعد أن تلاشت كل أحلامي قبل خمسة شهور من تخرجي وحصولي على الدكتوراه في الكيمياء.

يومذاك قال لي مسؤول العلاقات العامة في الجامعة التي كنت أدرس فيها في ألمانيا عبر حديث عابر:

ـ عند تخرّجك تنتظرك فرص عمل كثيرة في مؤسساتنا، جنسية، وبيت، وسيارة، وراتب محترم.!!

وقبل أن أفكر بترتيب إجابة لبقة، قلت:

ـ بل سأعود إلى بلدي فهي تحتاجني أكثر.!!

بعد أيام جاء قرار ترحيلي من ألمانيا على أنني شخص غير مرغوب فيه، والاشتباه بأن لي نشاطات قد تمسّ أمن الدولة.

لماذا تُصارعنا المقادير يا زكريا.؟ لماذا نطلب حياتنا من مزاود غريبة.؟

عشرون سنة لم آت إلى هذا المكان الذي شدّني ويشدّني بتفاصيله الحميمة، وكومة من الذكريات لا تنسى كلما أخذني الوقت لأستعرض شريط الماضي.

مدرستي الثانوية كانت في هذه العاصمة أيضاً، ولكن في منطقة بعيدة عن هذا الحي، ودراستي في الجامعة لم تكن توفر لي وقتاً لزيارة هذا المكان، وعندما تخرّجت سافرت إلى ألمانيا لأكمل اختصاصي.

كنا نقصد أنا وأترابي "مطعم زكريا الشعبي" لنأكل فيه أي شيء يسد جوعنا، وزكريا بدماثته وطيبته يقبل منا قروشنا القليلة، يقبّلها ويضعها على رأسه، ولا يمنع عنّا حاجة لنا.

وعندما يتطوع أسامة -أكثرنا ثراءً- وهو "ابن رئيس أحد مراكز توزيع الإعاشة" ويدعونا لتناول وجبة من الفول أو الفتّة في مطعم زكريا؛ كنا نقيم طقوس فرح وحبور.

كنت أوفر خمسة القروش مصروفي اليومي، أقطع المسافة من بيتنا إلى المدرسة ذهاباً وعودة مشياً، أختصر المسافات وأسلك أزقّة وحواري وأسواق المدينة القديمة، كي أستطيع الحصول على وجبة فول أو فتّة في مطعم زكريا الشعبي.

أمّا شطائر الفلافل فقد كنت أتناولها في حالتين دائمتين، إما أثناء عودتي إلى البيت عندما تطلب مني أمي أن آكل أي شيء لأنها لم تطبخ، ولا يوجد في البيت ما نأكله.

أو في فترة الظهيرة، بين فترة الحصص الأربع الصباحية، وحصتيّ بعد العصر في أيام الدوام الطويل.

أغمض عينيّ، أغوص في كومات الضباب التي ما انفكت تتوضّع بيني وبين الإمساك بالتفاصيل الصغيرة الحميمة التي كثيراً ما عبّرت عن انشدادي إلى المكان هذا وما فيه، ومن فيه.

صورة ما فارقت خيالي، تخرج من ضباب الذاكرة وتتربّع بجلاء فوق هرم تلك الحقبة، أتابع دون أن أدرك في ذلك الوقت البعيد معنى المشادّة الحامية التي عشت فصولها بين زكريا وبين "أبو موسى" الغاضب صاحب الدكان وصاحب العمارة التي تقوم الدكان فيها، كلّ ما وصلني من خلال الصراخ والشتائم والتهديد إلحاح المالك على استرجاع الدكان، وأن يُخلي زكريا منها، بعد أن ازدهر العمل في المطعم، وصار قبلة للكثيرين ممن يرتادون السوق.

في آخر بيت من بيوت هذه الحارة الضيقة، كانت مدرستي.!!

عندما عزمت اكتشافها من جديد، لأتحسّس ذكرياتي الغابرات فيها، أوقفني جنزير مكين يكبّل مقبضي الباب عليه قفل كبير، وفضلات مبعثرة هنا وهناك.

تفحّصت الجنزير المعقود على مقبضيّ الباب فوجدته متيناً يعلو قفله الصدأ.

رجل ستينيّ خرج من البيت المجاور، نظر في وجهي متفحّصاً، وقال دون اكتراث:

ـ مغلقٌ منذ سنتين.. آيلٌ للسقوط.!!

عدت أدراجي، أفتقد وسط هذا الصمت المطبق - إلا من روائح مطابخ الجيران - صخب التلاميذ ساعة الانصراف.

أغرز وجهي على أرض الحارة الضيقة المرصوفة بحجارة سوداء مستطيلة.

قطّة تبحث عن قوت يومها في كيس مليء بالفضلات.

الأبواب الخشبية المنخفضة تحت قناطر حجرية ما زالت كما عرفتها منذ عشرين سنة تنبض بالحياة.

أغصان أشجار الكبّاد والنارنج الخضراء تبرز من فوق أسوار الأسطح وتتدلى تغطي تعب الجدران.

يظللني عناق الشرفات والنوافذ مع مثيلاتها من بيوت الضفّة المقابلة.

أسمع أنين خطواتي تلاحقها أنفاسي الحائرة، تاركاً ورائي بيتاً من تلك البيوت الشاميّة القديمة.. فسيحاً من طابقين ودرجاً خشبياً طويلاً يهتزّ تحت صخب خطواتنا، حجراتٍ كثيرةً تشكّلت بقدرة قادر كصفوف للتلاميذ، وغرفةً واسعة للأساتذة نستعملها أحياناً لتطبيق دروس الكيمياء العملية، وغرفةَ إدارة، في ركن منها حصيرة تُقام عليها الصلاة وقت الحاجة، ومطبخاً يستقلّ فيه "العم أبو كايد" آذن المدرسة، وحوائجه.

بيتاً كان قبل عشرين سنة.. مدرسة.!

فسحة سماوية تتوسطها بركة ماء فارغة، صيّرتها الحاجة وضيق المكان منصّة للخطابة، نتحلّق حولها في كل صباح نؤدي تحية العَلَم ونردّد النشيد.

شجرة كبّاد وليمونة، وأحواض كانت ذات وقت حضناً للزهور، ما بقي منها غير تراب جافّ.

ما زال كل شيء كما هو موشوماً في ذاكرتي منذ أكثر من عشرين سنة.

دكّان الخياط "أبو سمير" قبالة مئذنة المسجد الصغير الوطيئة.

بقالة الحاج رشدي.. معمل الحلاوة.. والركن الضيق، يشغله "صيّاح" مصلّح الساعات.

في آخر هذه الطريق، وعلى ناصية السوق الشعبي المكتظ بالناس، يقوم المطعم الشعبي لصاحبه زكريا.

وحكايات لا تنسى.

نركض ساعة الانصراف لنلقي التحية على زكريا، وابتسامته الطيّبة تتابع صخبنا.

عشرون سنة لم آت إلى هذا المكان، وها هي ذي خطواتي تحملني بطيئة إلى آخر الشارع، أمخر عباب الضباب، تظللني رهبة خفيّة.

يافطة كبيرة زاهية الألوان مرفوعة على هرم دكّان تحتلّ ناصية الشارع تبدو خالية من الزبائن:

(المطعم الحديث لصاحبه "موسى.!" أشهى المأكولات الشرقية والغربية.!)

في ركن الشارع البعيد، عربة زرقاء صغيرة، أمامها طاولة خشبية وطيئة وثلاثة كراسي من القش، مكتوب على واجهتها الأمامية بلون أحمر واضح: فلافل زكريا.!!

تسمّرت في مكاني مشدوهاً..

بدا لي وجه الألماني مسؤول العلاقات العامة أحمرَ..

يعلك بين شفتيه كلمة مقيتة، ألقتني أنا الغريب بعيداً عن "عالم ليس لي"، تصوّرته يحقق لي طموحي وأمنياتي.

أشرت إلى أول سيارة أجرة عابرة، مغادراً - دون أسف- المكان الذي أحببته أكثر من أيّ شيء.!!

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...