بقلم: عبدالمجيد جرادات
|
صدرت رواية "الأرملة السوداء" في مطلع العام 2011، وفي ذلك الحين احتفل أصدقاء صبحي فحماوي في مدينة القاهرة بإشهار هذه الرواية، يومها، قال الناقد الدكتور مدحت الجيار: "جاءت هذه الرواية مُعززة باختيارات سردية، وُظفت في المكان المناسب لتعطي نتاجا ًيُقدّم صورة مؤثرة، وهي تبحث في تجليات العلاقات الإنسانية والفكرية والتبادلية بين الرجل والمرأة، وقد استندت على ذائقة حكائية، وأبرزت دور السلطة الناعمة للمرأة من خلال حكي متواصل، يُمتع القارئ ويجعله يُتابع القراءة دون توقف ومن دون ملل".
تميّزت رواية "الأرملة السوداء" بأسلوب السرد الساخر، واستلهام روح ألف ليلة وليلة للبناء عليها، وجسدت طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة (شهريار وشهرزاد) وبمنهجية تُشخص الحال، وتخلو من مبدأ الانحياز لأي طرف على حساب الطرف الآخر، مع التركيز على إثارة جوانب "الوعي الإنساني"، الذي يُعزز أهمية العلاقة التكاملية بين الطرفين.
وبحسب ما ذهب إليه الروائي فإن المكان الذي تدور فيه أحداث روايته "الأرملة السوداء" هو مدينة عمان التي يستحضر فيها شخصية شهريار الحداثي، ولم تتوقف سيرة شهريار عند حد التسمية، فبعد أن كبر واشتد عوده، ودرس في "مدرسة الإشرفية التابعة لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين"، والتي كان يصعد إليها كل صباح من جبل النظيف المتواضع الارتفاع، مع رفاقه سيراً على الأقدام، وهم يتسلقون جبل الإشرافية المتعالي بارتفاعاته الشاهقة، والذي يُطل من مسجد أبو درويش على جبال عمان السبعة، وكأنه رأس ربة عمون الجميلة الشامخ في مجابهة الريح والعواصف، بينما بطنها الولود ينتفخ حاملاً بجبل النظيف، وهي تمدد رجليها العاريتين في ينابيع رأس العين الرقراقة.
لا يعرف شهريار كيف تستطيع السيارات تسلق هذا الشارع المعبد رأسياً ليصعد بها الناس إلى السماء، فيسكنون الغيوم الملبدة هناك، ويرتعب وهو يسأل نفسه: كيف تقبض مكابحُ الحافلات هذه الهياكل الحديدية الساقطة عليهم من السماء، وهي نازلة "كجلمود صخر حطه السيل من علِ".
وعند المساء تجدهم يهبطون عائدين مثقلين بأحمال كتبهم، وهم مقبوضون خوفاً من الانزلاقات المرورية في شوارع سحيقة الانحدار.. يهبطون فيها وكأنهم ينزلقون في منحدرات "جبل الألعاب الروسي" لمدينة ملاه مجنونة تقذفهم من قمة الجبل السماوي إلى "مقبرة مصدار عيشة"، التي تتناثر شواهد قبورها هنا وهناك، مثل الفطر البري السام الذي ينبلج بصفرته من الأرض الرطبة عند قوس قزح، فيتلاعبون هناك بين الموتى، ويتباطحون مع أشباح وهمية، فتقع كتبهم بين شواهدها المتناثرة بين الأشواك العشبية الجافة، وتهرب عنزتان كانتا ترعيان الأوراق المتطايرة إلى جوارهم لتلحقان بقطيع الراعي المختفي عن الأنظار، فينهض الموتى على ضجيج الأولاد، ويتسلون فرحين بشيطنتهم، بينما يقول كبيرهم أن لا شيء يعمر الحياة مثل مطاردة الأطفال على سطحها!
وفي وصفه لجانب من معاناة أبناء الشعب الفلسطيني، الذين تشردوا وهُجروا من أراضيهم، يقول صبحي فحماوي: الرياح العاتية تصفُق صفيح بيوت جبل النظيف، فيتناثر فتاته حول حجارة المقبرة، وكانت شواهدها تنبت في البيوت الصفيحية التي رماها حظها العاثر بين القبور، بعد أن عصفت بها رياح النكبة الفلسطينية، فتناثرت قطعاً مُفتّتة في كل أرجاء الكرة الأرضية.
ومن بين القبور يشاهِد الأطفال المتصائحون قمة جبل آخر، يقف متعالياً في المجرة الفضائية، التي درسوها في المدرسة، فقالوا إنه كوكب المريخ، واختلفوا فيما بينهم، وأخيراً صمتوا في مواجهة رجل كبير يمر في الزحام، وهو يقول لهم: لا مانع أن نسميه جبل المريخ، ومن يومها سُمي بهذا الاسم، فركب جبل المريخ فوق جبل النظيف، وبقي جبل الإشرفية المغرور بأناقته راكباً فوق الجميع!
كان شهريار يسير في الشارع الرئيس لمخيم الوحدات مرافقاً لوالده سراج البدر وسط أكوام من غرف سكنية طوبية شاحبة متراكمة فوق بعضها بعضاً، ذات اليمين وذات اليسار. وكانت ملابس غسيل منشورة على حبال الشرفات الطوبية غير المقصورة هنا وهناك، وبطانيات وكالة الغوث السوداء تتدلى من إحدى الشرفات المكسرة حوافها، وهي تنقط ماءً على الدكان الذي تحتها، وطائرة ورقية ساقطة ما زالت ترتجف متكهربة بين أسلاك الكهرباء. (ص 31).
عمال المياومة يكتظون في الساحة الواسعة بين السيارات، التي تتوقف ثم تنطلق عند إشارات المرور المتشعبة، مقابل شركة الدخان القديمة، يتجمعون ويتباعدون على مفارق الطرق، معظمهم من الوافدين العرب، المضطرين للأعمال الشاقة، تحت ضغط عدم القدرة على تحصيل حقوقهم في فرص العمل داخل أوطانهم، وإرهاب الفاقة والفقر والاضطهاد والقهر والتشريد من حيتان وقروش أقطارهم، يتراكضون هنا وهناك بملابسهم المهنية الرثة، بحثاً عن فرصة في سوق العمل. (ص 33).
يقول فحماوي "إن مشكلة ازدحام السير في عمان الكبرى التي يسكنها الملايين لا يحلها سوى قطار تحت الأرض يبدأ من صويلح غرباً، ولا ينتهي عند العبدلي، ثم قاع المدينة، فالمحطة شرقاً، بل يستمر حتى يصل إلى الزرقاء. (ص 40).
وفي إحدى المحطات يتابع المشهد قائلاً: وصل شهريار إلى "مطعم الفوّال شحيط"، المكتظ بالرواد في قاع عمارة مقابلة للمحكمة، وعلى بابه لافتة مقتبسة بتصرُّف من أغنية لأم كلثوم تقول: "مخطرتش على بالك يوم... تفطر عندي"! حيث يلتقي هناك كل صباح بعض موظفي المحكمة وزملاء المهنة، فيتحلقون حول إحدى الطاولات، ويأخذون بالمزاح وسرد حكايات طريفة، ولو أن معظمها سخيف وغير طريف. (ص 43).
ويُعاين فحماوي طبيعة العلاقة بين أبناء الشعبين الفلسطيني والأردني، حيث يذكر: "صار البيت الجميل مكوناً من جزئين، وحديقة واسعة بالنسبة للذي كان.. وعندها صار شهزمان مؤهلاً للزواج، فخطب عروساً جميلة من إحدى عائلات مدينة الرمثا تدعى مزيونة، تعرف عليها عندما زار بيت أخيها الرمثاوي صالح، الذي يعمل معه في استيراد السيارات الألمانية المستعملة، وعملوا له عرساً بهيجاً في "فندق عمرة"، جمع "الدقامسة مع المقادسة"، واحتشد عدد من الكركية بدعوة من الشاب قيس الكركي الذي اشترك مع شهزمان في محل قطع سيارات في قطر، فكانت هذه العلاقة سبباً للمصاهرة بالزواج من أخته جلنار.
وحضر الحفل عدد كبير من الخلايلة، الذين "لهم في كل عُرس قُرص"، والجبالية الذين اغتنوا وصاروا "فوق فوق" بعد العصر الصفيحي حول مقبرة عيشة. واكتظت القاعة (بالبحارة) الرماثنة "الزعبية والفلاحين"، من تجار السيارات وعائلاتهم، الذين أحضروا معهم "فرقة الرمثا للفنون الشعبية" فدبكت دبكات تأخذ العقل داخل قاعات الفندق، والتي لم يشاهدوا خارجها أن سيارات الحضور قد أغلقت الطرقات في منطقة الدوّار السادس في جبل عمان، وجاءت شرطة السير لتنظم المرور، فنزلت مخالفات مخالفات مخالفات، مما زاد الدوّار تعقيداً"! (ص 113).
في الصفحة 196، ينتقل السارد إلى الدوار الثالث في جبل عمان، ليُعاين واقع الشركات التي أفلست، وافتتحت مكانها ملاهي ليلية. ويعلق ساخرا على هذه الملاهي الليلية بقوله: "إنما على كيف كيفك."، وفي تعليقه على ما آلت إليه الأحوال هناك، نقرأ عبارات ساخرة، تكشف العديد من الجوانب السلبية والمعاناة التي تدفع البعض للبحث عن قوت يومهم وهم يسيرون في جنح الظلام.
بالعودة إلى فكرة الرواية، نجد أنها تبدأ بعرض مفصل درامي عن رغبة الرجل، وميله للشعور بالأحقية من أجل السيطرة على المرأة، وقد استعان السارد بعبارات جاذبة، تجعل الرجل يتساوق مع بطل الرواية بشيء من الحذر والقلق، وبعد الدخول في تفاصيل الحياة اليومية بين الرجل والمرأة بكل تناقضاتها، يذكر فحماوي أن المرأة تبدو أكثر تأثيرا ً وحضوراً في حياة المجتمع عموماً، وبنظرة استشرافية، نقرأ في رواية "الأرملة السوداء"، أن تطورات الزمن تُشير إلى أن الرجل سيبدأ بالتخلّي التدريجي عن دور قيادته للمرأة، معترفاً بأن المرأة بصدد إثبات وجودها وممارسة مهام الإدارة والقيادة في أكثر من اتجاه.
إلى جانب الأمثلة التي أوردها فحماوي في روايته "الأرملة السوداء" حول مواقع عدة وأماكن مختلفة في بادية الأردن ومدنه وقراه، فقد وثق وقائع معاصرة، عرفنا من خلالها أن كتاباته، هي نتاج تفاعله مع بيئته، وهو المُبدع في تحليل الوقائع والأحداث، ويعتمد على دقة وموضوعية مشاهداته وانطباعاته المعززة بمخزونه المعرفي.
في تحليله لنصوص رواية "الأرملة السوداء"، يقول الأستاذ الدكتور محمد صالح الشنطي "إن هذه الرواية ذات حمولة رؤيوية متكاثرة، ولعل من أهم منابعها الرئيسة، لغتها التي تحررت من القيود التقليدية، وفي إشارته للمكان، يقول الدكتور الشنطي، إن صبحي فحماوي حرص على رسم خريطة المكان بدقة متناهية، ففي مقابل الصعود المرهق مشياً على الأقدام في جبل النظيف، فهو يواصل الصعود بسيارته على سفح عبدون الشرقي، الذي يبدأ متشعباً، ثم تتضخم المباني وتتجمل كلما ارتفعنا للإعلى.
نعرف أن مؤلف هذه الرواية باحث متميّز في التراث الحضاري، وبحكم عشقه للترحال والسفر، فإنه يُحلق في فضاءات الأدب العالمي، بعد أن يتمثل أرقى الأوجه الإيجابية، التي اعتاد أن يُترجمها إلى نصوص تتحقق فيها متعة وقيمة الفائدة وجماليات التلقي، وهذا ما مكّنه من تعزيز رواية "الأرملة السوداء" بالكثير من الحقائق العلمية والإنسانية والفلسفية التي توّصل إليها معظم العلماء على مر التاريخ البشري، فتكاملت بذلك بنية النص البلاغي في روايته هذه.
يتجلى أسلوب فحماوي بمفرداته وحكاياته، وجهوده متواصلة في مهمة البحث عن مشاهدات أو لقطات ترى النور بعد أن يُعيد تشكيل مفرداتها بمنهجية تنسجم مع ذائقة القراء، إذ يقول في مناسبة أخرى إنّ "القصة هي روح الرواية" والرواية من وجهة نظره هي إضاءة للتاريخ الحقيقي.
وفي نتاجه الفكري، نلمح أصالة العروبة، والتركيز على معاناة الشعب الفلسطيني، إذ يقول في مقابلة منشورة في جريدة الرأي يوم 23/7/2017 (أنا عروبي، وانتمائي لفلسطين بسبب أن شعبها يعاني من الحصار المستمر والتضييق؛ حيث تقسو عليه الظروف، وتتكالب حوله الوحوش).
في قفلة الرواية، يُطل السارد بفكرة تصالحية، إذ يُشير بشيء من الرمزية، أنه وبعد أن نظرت محكمة الجنايات بقضية شائكة بين مدعية ومُدعى عليه، فقد قضت المحكمة بدفع تعويض كبير للمدعية حسب بنود القانون، وهكذا فإن شهريار أعاد للمرأة كرامتها المهدورة، ثم يُضيف في صفحة 252 قائلا :ً "الصدفة الغريبة والمفرحة كانت خبر مناقشة رسالتي الدكتوراة لكل من شهريار وشهرزاد، حيث تقدم كل منهما في كليته في الجامعة الأردنية بأوراق زاخرة بمعلومات علمية وعملية حصل كل منهما على نتيجة متفوقة". وكانت الفرحة الكبرى أن قررا الاحتفال معاً بتخرجهما دكتوراً ودكتورة في مقر (جمعية حماية الإنسان): كانت الحفلة مدهشة وبادرة تؤكد تضامن الرجل والمرأة في حياتهما المشتركة، وبحسب ما أفاد به السارد، فقد حضر حفل التخرج لفيف من الأصدقاء، فشكلوا داخل الجميعة نواة جديدة للمحبة القائمة على العلم والعمل والمساواة بين الرجل والمرأة.
من كل ما ذكرنا وما لم نذكره هنا، مما سرده فحماوي في هذه الرواية، تتضح معالم عمّان، وتتضح قدرة الروائي على رسم المكان العمّاني بكل تجلياته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق