بقلم: د. ماجدة صلاح
يُعدّ تحديد مفهوم دقيق للصورة الفنية من الأمور الشائكة، فاختلاف المفاهيم بين النقاد زادها صعوبة وتعقيدا. فهناك من يرى أنها تقوم على الخيال، فهي بهذا المفهوم تعني إنتاج الخيال المطلق. في حين ربطها بعضهم بما هو حسي أو مدرك بإحدى الحواس الخمس، ويحرّك خيال المتلقي باستدعاء معلومات ترجع إلى الذاكرة، فيثير تصوّره الحسي للأشياء، وتُعدّ الاستعارة والتشبيه وغيرهما من آليات الصورة. وبهذا التعريف توّسع مفهوم الصورة الفنيّة.
والملاحظ إهمال النقاد للصورة الفنية في الأعمال النثرية، إذ لم تحصل على الاهتمام الذي حظيت به في الشعر، وذلك لارتباط الصورة بالشعر منذ القدم، فلم تنل حقها من الدراسة في النثر على وجه العموم، وفي الرواية بوجه خاص. رغم وجود صور فنية تحاكي الصور الفنية في الشعر. على أنه ينبغي "أن تقدّر في
السياق الكلي للرواية، حتى يتم تثبيت وظيفتها في البنية الكلية للعمل وتأثيره". فهي لا تكتفي بإكساب النّص جمالية بما تحمله من دلالات مكتنزة مضمرة تحث القارئ على استكناه دلالاتها وفك شفراتها، لكنها تضطلع بوظائف متعددة، وغايات يطمح الكاتب للوصول إليها.
وقد لعبت الصورة في روايات فحماوي دورا مركزيّا مهمّا، إذ نهضت بوظائف مختلفة، وأشكال متعددة، فجاءت مرتبطة بموضوع الروايات الرئيس ومحورها، إذ تمكّن الروائي من خلق صور تقوم بمهمة الكشف عن التحوّل الفظيع الذي عاشه الفلسطيني من جوانب الحياة المختلفة، فقد أظهرت ما كان عليه حال الفلسطيني، وما آل إليه.
يقول السارد في وصف معسكر الحصار (رواية حرمتان ومحرم): "والشارع شبه ترابي، تنبعث رماله من كل جروحه، ويتمدد مثقلا بأوساخه كعمود فقري مهترئ... ". صورة حية متحركة، أنسن فيها الكاتب الجماد (شارع المعسكر)، مسقطا عليه صفات البشر، فهو يئن من جروحه، مثقل بالأوساخ، مشبها إياه بالعمود الفقري المهترئ، الذي لا يقوى على حمل الجسد، من كثرة الحفر المنتشرة على طول الشارع.
وبالانزياح تمكّن الروائي من أن يسقط مرارة العيش والحياة القاسية على الشارع الذي صار يحس ويئن متأثرا بمأساة العابرين والمقيمين عليه، عاكسا حجم المعاناة التي يعيشونها. فروائح رماله ممزوجة برائحة جروح السكان، تضامنا معهم، دالة على عمق معاناتهم في هذه المعسكرات التي لا تصلح مكانا للسكن. فمهما اختلفت مواقع المعسكرات جغرافيّا، وتباينت، فإنها تتحد في شكلها وتتساوى في وضعها البائس وفي عدم صلاحية الإقامة فيها. والصورة هنا تشبيهية، إذ اتكأ الكاتب على التشبيه لبيان عدم صلاحية الشارع. فجاءت الصورة موضّحة وكاشفة وضع المعسكر.
وفي موضع آخر يأتي بصورة مناقضة للصورة السابقة، يقول السارد:
"عادت الحرمتان للمرة الثانية مع محرمهما إلى معسكر الحصار المكتظ باللاجئين المعتّقين، كانت الحالة يرثى لها، والتراب والنفايات تهاجم الطرقات والشوارع، والجرافة كاتربلر عملاقة تنفلت من عقالها، وتجرف العمارات وتعتدي على قيعانها، وأطفال متراكضون هنا وهناك، يرجمون الجرافة بالحجارة، وآخرون يحملون لافتة عريضة محمولة من طرفيها المثبتين بعصاتين صغيرتين، ومكتوب عليها: لا تُجرّفونا، نريد أن نعيش... ".
يضعنا السارد في مواجهة صورة مخالفة للصورة الأولى، لشوارع المعسكر ذاتها، فالرمال والأتربة التي كانت تئن وتخرج من جروح الشارع، تحوّلت إلى عدوانية، تهاجم الطريق، فقد ضاقت ذرعا بالوضع، وقد لامس الكاتب الواقع، إذ سئم العالم من اللاجئين، وانقلبوا ضدهم. فإسناد الأفعال إلى غير فاعليها نفث الحياة في الجمادات، فصار(التراب والنفايات تهاجم الطرقات والشوارع). وشبّه الجرافة بدابة تحاول الانفلات من عقالها؛ لتنقضّ وتهجم على كل ما تقع عليه عينها، فكل شيء يتآمر على اللاجئ المغلوب على أمره، يقاتله ويعتدي على حياته ويتحكم بمصيره. ومجيء الأفعال بصيغة المضارعة منحت الصورة حركيّة وتجددا واستمرارية (تهاجم ـ تنفلت ـ تجرف ـ تعتدي ـ يرجمون ــ يحملون) وهي ألفاظ تنتمي إلى حقل الحرب والدمار. وصف دقيق رسم صورة متكاملة بكل تفاصيلها لما يجري من اعتداءات على اللاجئين غير الآمنين في معسكراتهم.
يصوّر الروائي الوضع البائس والظروف التي يعيشها الفلسطيني في مخيمات اللجوء، ويخص بهذه الصورة طرقات المخيم الترابية الضيقة، التي تغطيها العتمة وتفترشها الحفر والمستنقعات، ومما زاد من المشقة والضيق إنشاء العدو (المحاسيم) الحواجز العسكرية التي باعدت المسافات وضاعفت المعاناة اليومية. فاللاجئون غير قادرين على المطالبة بشق طريق، أو بتسويته ؛ ليخفف من معاناتهم ويصلون إلى بيوتهم بسرعة ويسر!
"فالطرقات الصخرية الضيقة داخل المخيم التفافية، ومنذ ذلك التاريخ والطرقات الالتفافية تتطوّر، وتنتشر وتتضخم أوداجها، وتتليّف في ربوع الوطن، مثل مرض تليّف الكبد، فتصير فلسطين كلها مصابة بمرض تليّف الطرق الالتفافية" (الإسكندرية 2050).
إن العقبات التي يضعها العدو الصهيوني أمام الفلسطيني تشكّل مأساة أخرى تنضاف إلى مآسيه، ومن خلال هذا المقطع يصوّر السارد بطريقة حسية، وضع الطرقات في فلسطين والحواجز المقامة عليها، مستعينا بالتشبيه، إذ شبّه كثرة الحواجز الجاثمة على كل بضعة أمتار، والتي أدت إلى زيادة المسافة، والوقت والجهد، شبهها بمرض "تليّف الكبد" الذي ينهك جسد المريض، وفي كثير من الأحيان يؤدي إلى وفاته، وقد وضع التشبيه المعنوي في إطار حسيّ، لتجسيد المعاناة، فأنسن الطرق التي ضاجت وهلكت من الحواجز المقامة عليها، وأدت إلى تضخمها والتفافها، كما بيّن حال الطرق المفتقرة إلى أدنى المواصفات والمعايير المتبعة - في حال وجدت طرق أصلا - حيث تباعدت الأماكن وطالت المسافات التي كان يقطعها الفلسطيني للوصول إلى بيته.
وبتضافر التشبيه والوصف رسم السارد صورة كلية لشوارع المعسكر بالكلمات. والملاحظ أن الروائي ركّز على الطرق، مصورا إياها من زوايا متعددة بصور بمختلفة، وأساليب متنوّعة، مجانبا التكرار.
- تصوير الإرهاب الصهيوني:
عمِد الروائي إلى الصور الفنية لتصوير المشاهد المؤلمة التي عاشها الفلسطيني على يد جنود الاحتلال الصهيوني الذي لم يستثن أحدا من أذاه ووحشيته، فجاءت الصور معبّرة ومؤثرة في نقل مأساة الفلسطيني وقت التهجير وبعده. فالعدو الصهيوني لم يرحم الفلسطينيين الذين بقوا في بلادهم، ولا الذين هجّروا عنها، فكان جحيم الصهاينة ملازما لهم، إذ مارسوا على المهجّرين وسائل التعذيب المختلفة.
تتذكّر صالحة السمراء وهي واحدة من الذين عانوا من بطش الاحتلال وهم في طريقهم إلى رحلة الشقاء، طريق الهجرة إلى خارج الوطن، تتذكر ساعتها الذهبية الأصلية التي أهداها لها عريسها محمود، وكيف أخذتها المجنّدة الإسرائيلية على الحاجز العسكري من غير وجه حق وتحت تهديد السلاح، إذ "نتشت من أذنيها حلقتي الذهب، فقطعت حلمتيهما، فصرخت من ألم الوجع، وارتعبت وهي تشاهد الدم ينزف على كتفيها.. تحسستهما فإذ بهما مقطوعتين من أسفل..ذُهلت للحمها المقطوع، وللدم الذي صبغ راحتي يديها، أكثر مما عزت عليها غلاوة الذهب المسلوب، وفقر ما بعد السلب، ولكنها أطبقت فمها بيدها الدامية، أمام فوّهة الرشاش المغروس في حلقها، لتفدي روحها بذهبها المغتصب" (سروال بلقيس).
تُظهر الصورة الحقد الصهيوني على أبناء الشعب الفلسطيني. فها هي المجنّدة تجرّد صالحة قرطها المصنوع من الذهب، تنتزعه بلا شفقة أو رحمة، فتجتث معه جزءا من أذنيها بطريقة وحشية تشي بحجم الغل المكتنز في قلوب الصهاينة تجاه الفلسطيني، واختيار كلمة (نتشت) يدل على أن المجندة باغتت صالحة وأخذت حلقها على حين غفلة منها، ولم تطلب منها خلعه من أذنيها بلطف، وهذه الكلمة أشد وقعا وألما في الدلالة على قسوة هذا الفعل. وقد اجتمع الألم والدم والقهر والذل على صالحة. فأدّت الصورة مهمة وظيفية، تبيّن من خلالها لحظات وقوف المهجّرين على الحاجز العسكري، وطريقة تعامل جنود الاحتلال معهم، التي تفتقر للإنسانية والتحضّر، وكيف يتم نهب كل الممتلكات الشخصية للفلسطيني عنوة وبطريقة بشعة.
- صورة الأم ورضيعها:
من الصور المؤلمة التي لخصت معاناة الفلسطيني خلال التهجير، صورة الأم وهي تحمل رضيعها وتسير في قوافل المهجّرين، إذ رصد الروائي مشهدا مؤثرا لامرأة فلسطينية تحاول النجاة بوليدها من تحت القذائف والصواريخ التي غطت سماء فلسطين، المنهمرة عليهم كالمطر، يصف السارد ذلك المشهد، وهو يسترجع لحظات التهجير وقصف طائرات العدو للمهجّرين، وذلك بعد أن ركب مشهور الطائرة لأول مرة وهو في طريقه إلى مصر للدراسة، غير آبه لهزهزات الطائرة التي أقلعت من مطار قلنديا في القدس يقول:
"فكانت طائرة حربية تتسلى بقصف قوافل الفلسطينيين المهجّرين عام 1948، الحاملين أطفالهم بأسنانهم، وهم هاربون من حمم براكين الاحتلال الغاشم، مثل القطط التي تنقل أطفالها بأسنانها من مكان الخطر، وبين روائح القتلى المجندلين، أم لطفل رضيع، أطفأتها طلقة قناص، فأردتها قتيلة على قارعة الطريق، والدم ينزف متخثرا من جيوبها المخروقة، والذباب يدوي على جثتها النازفة، بينما يبقى رضيعها ملتصقا بها، ويداه متشبثتان بثديها الذي برد، وهو يرضع رضعته الأخيرة التي لم يكملها بعد! الطائرات المشوهة بدماء الضحايا تلاعبهم(الاستغماية)، ثم تفاجئهم من خلف جبل، وتتمرجل عليهم، فتقصفهم وهم هاربون في الوديان، لتزيد من ذعرهم، وتتعجل التخلص منهم، بإخراجهم من حدود فلسطين الخضراء، إلى الصحارى العربية ذات الرمال المتحركة" (الإسكندرية 2050).
مشهد آخر من المشاهد التي حدثت أثناء رحلة تهجير الشعب الفلسطيني، صورة لا تخلو من سخرية تثير مشاعر الألم والأسى والحزن، لامرأة تحاول النجاة بوليدها من براثن القذائف وزخات الرصاص المتساقط، الآتي من كل حدب وصوب، من الجو والأرض، استهدفتها طلقة قناص اخترقت جسدها المتعب فكانت كفيلة بإنهاء حياتها وإبعادها قسريا عن الحياة وعن رضيعها الذي ظلّت حريصة على انتشاله من الموت المتربص بهم من كل زاوية، تركت بلا إرادة منها طفلها الرضيع بلا حول له ولا قوة. لقد فارقت حياة البؤس والشقاء وبقي طفلها ممسكا بيديه الصغيرتين ثديها، محاولا سد رمقه، وقد برد جسدها وحليبها، وما يدري ذاك الرضيع أنها الرضعة الأخيرة. صورة مأساوية تُظهر جبروت العدو الذي لا يرحم، فالأم ممددة على الطريق والذباب يدوي فوقها، ودماؤها تجلطت، ولا يزال طفلها متشبثا بالبقاء في حضنها. مشهد حي بتفاصيله الدقيقة، والأفعال المضارعة (ينزف، يبقى، يرضع، يدوي، تتمرجل، تلاعب، تفاجئ) التي منحته الحركة وجعلته نابضا نازفا رغم توقف نبض الأم. ولعب الانزياح دورا في إبراز وكشف بشاعة العدو وطرقه الوحشية في إرهاب المهجّرين، وتبدو السخرية في (طائرات مشوّهة، تلاعبهم الاستغماية، تتمرجل). جاءت الصورة مغلفة بالسخرية من شدة الألم. متلائمة مع سياق الرواية.
- صورة الطفل :
جريمة أخرى يرتكبها العدو بحق أبناء فلسطين، وهذه المرة يصور الراوي مشهد الطفل نضال شلهوب الذي قُتل برصاص قناص وهو منهمك بأكل رغيف خبز بالشطة ليسد جوعه ولحقه صديقه وابن جيرانه جعفر الأسمر، الذي ركض باتجاه نضال عندما سمع إطلاق النار، في محاولة منه إنقاذ صديقه "التفت إلى الوراء فشاهد ابن جيرانهم نضال يسقط مصابا بعيار ناري، هجم ليسعف رفيقه، وركض باتجاهه، وما تزال تنطلق رصاصات متفرقة نحو المكان، كان يشعر بالخوف في لحظات، وتتملكه الشجاعة في لحظات أخرى (... ) أحاسيس متداخلة وممزوجة ومجعلكة ومشوهة..".
رصاصة واحدة كانت كفيلة بإنهاء حياة طفل في عمر الزهور، طفل يمسك رغيفا لسد جوعه، وكأن دبابات العدو جائعة وقد أغراها الرغيف بيد نضال ففتح شهيتها لقتل الأبرياء لتقضي نهمها وحبها للدماء وقتل الأرواح، يقف جعفر الأسمر حائرا تتجاذبه الأفكار كرّ وفرّ، بين إنقاذ صديقه أو النجاة بنفسه، لكن دم الشباب فار في عروقه، وراودته أفكار متضاربة، جعلته يُقبل على صديقه "عاد جعفر الأسمر، وهجم باتجاه صديقه نضال شلهوب، ووضع يده تحت رقبة الطفل الذي كان يتلوى على الأرض، ولكنه لا يصرخ يبدو أن الإصابة بسيطة..لا، لا، قد تكون قاتلة، والصبي قد أسقط في يديه، أدخل الطفل جعفر الأسمر يده اليسرى تحت فخذي صديقه نضال شلهوب، وهمّ برفعه إلى أعلى ليأخذه إلى أهله، أو إلى أقرب مستشفى يعالج الإصابة، ولكنه فوجئ برصاصات تخترق جسده هو شخصيا... ! لا، لا، لم تكن رصاصات موجعة، ذلك لأنه لم يحس بها مؤلمة، شعر بأن شيئا ساخنا يخترق جسده، فتهاوى الطفل، وأنزل حمولته، وأقعى مسجيا رفيق عمره على الأرض....".
يكمل الراوي الصورة بإيقاع سريع من خلال الأفعال المتتالية للدلالة على سرعة عملية القنص، إذ لم تمهله رصاصات العدو الصهيوني وقتا لحمل صديقه أو تفقّد إصابته، وكأنها كانت في انتظاره لتكمل وجبتها من القتل، وتتواصل أجزاء الصورة عبر وصف الحدث الجلل الذي ألمّ بالصبيين" كانت مجرد طلقات تشبه بَرَد الشتاء، الذي يضرب الأرض بقوة، إلى أن ارتميا فوق بعضهما والدماء نقطتان.. لم تكونا بقعتي دماء، بل نقطتين حمراوين قد جفتا؛ ذلك لأن الطفلين كانا يعانيان من فقر دم حاد، فلم ينزفا كثيرا... " (حرمتان ومحرم).
يواصل الراوي تصوير مشهد الصبيين بكلماته، أحدهما يحمل رغيف خبز يسكت به صرخات الجوع داخل معدته، وقد اخترقت رصاصة آثمة جسده النحيل فارتمى على الأرض، وصديق عمره القصير يحاول انتشاله وإسعافه لإنقاذ حياته فيرتمي على الأرض فوق صديقه بعد أن داهمته رصاصة غادرة اخترقت جسده فاختلط دم الصبيين، الذي لم يكن كثيرا، سالت نقطتان فقط من دمائهما، إذ كانا مصابين بفقر الدم وسوء التغذية من سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
صورة تشبيهية يرسمها الراوي لاستشهاد طفلين، تنبض ألما بتفاصيلها الدقيقة، من خلال الأفعال المتتالية التي تبيّن سرعة إطلاق الرصاص على جعفر ومن قبله صديقه نضال، وتوضح بجلاء وحشيّة العدو الصهيوني، واستهدافه لإطفال فلسطين وقتلهم عن سبق إصرار وترصّد، فالاحتلال لا يفرّق بين كبير وصغير، بل إنه يتقصّد الأطفال خوفا من أن يصبحوا مقاومين لهم.
وفي صورة أخرى لا تقل قسوة عن سابقاتها، يرصد السارد بكلماته، لحظات الألم والعذاب الذي عاشها الفلسطينيون، فالمقيم لم ينج أيضا من بطش وجبروت آلة القتل الصهيونية، فمن المشاهد التي فضحت إجرام الصهاينة، واستهدافه لكل فلسطيني صورة أم ترضع طفلتها في فناء بيتها، والتي لم تكن في قوافل المهجّرين، ولا من المقاومين، ورغم ذلك اخترقت رصاصة رأس الطفلة لتستقر في قلب الأم، في مشهد خاطف سريع كسرعة إطلاق الرصاصة التي لم تخطئ هدفها، يقول السارد:"
فبينما كانت أمها ترضعها في فناء البيت، اخترقت رأس الطفلة مرورا بفمها وثدي أمها رصاصة واحدة موحّدة... انطفأ الثدي، وبردت الأم وسقطت زهرتها قبل أن تعقد ثمرتها" (حرمتان ومحرم). رصاصة واحدة أسكتت نبض قلبين، أم ورضيعتها، وغيبتهما عن الحياة. وبالانزياح في قوله: (انطفأ الثدي، سقطت زهرتها) أعطى دلالات أخرى وصور حية للمشهد، فإسناد الانطفاء إلى الثدي دل على إنتهاء الحياة وحلول العتمة والظلمة، وشبه الطفلة بالزهرة التي قطفت، وسقطت عن ساقها، وهكذا استطاع السارد تصوير المشهد بدقة حية معبرة.
- تصوير طالبة الصف:
يستمر الروائي في تصوير مشاهد البؤس التي رافقت الفلسطيني في حلّه وترحاله، إذ يصوّر السارد حال أهل معسكر الحصار، ومعاناتهم اليومية، يقول:
"وفي معسكر الحصار المحتل، كما في سائر بقاع الإقليم الفلسطيني المكتظ، صار المارون ينطفئون مثل الشموع على الطرقات، وداخل البوابات، وفي صف المدرسة تنقصف زهرة برية؛ فتاة بعمر الزهور، كانت تتلقى درسها مع رفيقاتها الطالبات، وترفع ذراعها داخل الصف، مشيرة بإصبعها: أنا معلمتي.. أنا معلمتي... ولكنها ويا حسرة قلب معلمتها، ماتت وهي رافعة أصبعها،. .. دوّت طلقة زائرة من الشبّاك، مخترقة جسدها الطري، وسكنت قلبها الرضيع، طلقة نفذت إليها من النافذة، اغتصبت روحها حيث سكنت، فسكنت الطفلة على درج مكتبها، وانكسرت الزنبقة على حضن أوراقها التي تعلمها القراءة والكتابة..!" (حرمتان ومحرم).
صورة أخرى ينقلها الروائي بكلماته، صورة طفلة داخل صفها تتلقى العلم، متفوقة في دراستها، لم تخطئها رصاصة الاحتلال التي اخترقت جسدها الغض من نافذة الفصل لتستقر فيه، وتطفئ براءتها، فيد العدو طويلة طرشاء تصل إلى أي مكان يتواجد فيه الفلسطيني، يقتلون في الشوارع، وعلى البوابات، وفي المدارس، كيف لا يقتل ويتلذذ في التنكيل بهم وقد أسقط من حساباته حقوق الإنسان والطفولة، متجاوزا القوانين والأعراف الدولية، مشهد يدمي القلوب النابضة، لم تشفع لها طفولتها وبراءتها، فماتت كآلاف الأطفال الفلسطينيين الذين اخترقت أجسادهم رصاصات الصهاينة فأودت بحياتهم. وقد شبّه موت الناس على الطرقات بانطفاء الشموع، كما لعب الوصف الدقيق دورا مهما في نقل الصورة بأدق تفاصيلها والتي جعلتها حية كأننا نراها.
ولا تقف الصورة عند حدود تشبيه شيء بشيء آخر، أو استبدال شيء بشيء آخر، ولكنها قد تكون أية كلمة حسيّة تستدعي استجابة الحواس.
- تصوير قوافل المهجرين:
وفي صورة أخرى، يشبه السارد جموع المهاجرين المحاصرين بنيران العدو بالجراد الصحراوي، إذ "كانت النيران تحاصر جموع المهجّرين من اليمين، ومن اليسار، ومن الخلف، وكأننا قطعان من الجراد الصحراوي المتقافز، هروبا من النيران الزاحفة عليه من الجهات الثلاث! فتضطرنا للهروب إلى الأمام" (عذبة)، لإجبارهم على المغادرة، وعدم التفكير في العودة إلى أرض الوطن. يريد العدو ضمان رحيلهم، لذلك تبعتهم طائراته وهي ترميهم بنيرانها المستعرة الحاقدة، التي قتلت بعضهم، وفرّقت مَن تبقّى منهم تاركة إياهم في حالة مأساوية يرثى لها، ووضع إنساني يدمي القلوب النابضة الحية، فـ "هذا طفل فقد الاتصال مع أمه وعائلته، يبكي تائها بين التائهين، وتلك امرأة قطعت قذيفة (السلبند) ساقيها، فقذفت رضيعها إلى مكان بعيد، وهي تزحف نحوه، والدماء تسيل من مقطعي فخذيها!" (عذبة).
صورة أخرى لا تقل قسوة وعنفا عن الصور السابقة، طفل تائه يبحث عن عائلته بين بقايا المنكوبين، وسط النيران الملتهبة، والأشلاء الممزقة المتفرقة، وامرأة فقدت ساقيها حين أصابتها قذيفة، والدم ينزف منها، ومن قوة الضربة وشدة الألم قذفت رضيعها خوفا عليه، وراحت تزحف نحوه ودمها يسقي الأرض العطشى، وقد استعان السارد بالسرد الذي شكّل بنية تصويرية من خلال الأحداث، والأفعال المضارعة التي منحت الصورة حركية (يبكي، تزحف، تسيل) وهي أفعال تنتمي إلى حقل الألم والمعاناة. مما جعل هذه الصورة المأساوية تفيض ألما وبؤسا، ناطقة وشاهدة على وحشية العدو الصهيوني وطغيانه، كاشفة في الوقت ذاته عن تجرّده من الإنسانية، وإصراره على إبادة الشعب الفلسطيني.
يستعين الروائي بالتشبيه والمجاز والاستعارة لإبراز المعاناة التي يعيشها من بقي من الفلسطينيين، فنراه يصوّر حال الفلسطيني الملاحق من قبل العدو الصهيوني والجهات المانحة، وما يلاقيه من تفنن في أساليب التعذيب والقتل، يقول الراوي العليم:
"أنت تستغرب هذه اللعبة القذرة، التي يلعبها القط والفأر، فبعد أن ينقض عليه ويحطم مجاذيفه، يستمتع بملاعبته السادية، فيتركه يفلت من بين يديه (...) أنت لا تعرف لماذا يتركه وهو طوع بنانه، بينما يركض المسكين على الأرض هاربا من قدره المحتوم، قبل أن يلحق به المجرم ويعيد التقاطه وعضعضته، ثم يتركه ليستمتع بآخر بصيص ضوء حياة، قبل أن يتناوله ويزدرده. هكذا تلحق بك الجهات المانحة، وأنت أمامها مذعورا!" (الإسكندرية 2050).
فما يفعله جنود العدو بالمهجّرين وهم في طريق الهجرة شبيه بلعبة القط والفأر، فمن ينج من القتل يتفنن العدو في التنكيل به، فسادية العدو الصهيوني تجعله مستمتعا بتعذيب الشعب الفلسطيني، ببث الرعب في نفسه، وتنغيص عيشه والتمثيل به. إذ يلاحق من نجا منهم ويُمسك به، ثم يتركه ليمارس عليه ساديته، بالتلذذ في تعذيبه، وهكذا تتكرر محاولات هروب المهجّر حتى تستنزف قواه، وتنهار أعصابه، وتُقتل إنسانيته وتهدر كرامته قبل الإجهاز عليه. هي حرب نفسية يستخدمها العدو الحريص على إلحاق أكبر قدر من الضرر النفسي والألم الجسدي بالفلسطينيين، فالموت في هذه الظروف راحة للإنسان من العذاب، والعدو لا ينشد الراحة لهم، حتى لو كانت بالموت السريع.
إنها لعبة الكبار، تلك الدول التي تدعي دعمها لحقوق الإنسان، ومساندة الفلسطيني، إذ تمد له فتات المساعدات بيد، وتقتله بالاتفاق مع العدو باليد الأخرى.
كانت رحلة التهجير شاقة مؤلمة، نفسيا وجسديا، والناجون منهم أقاموا لهم خياما ومعسكرات، فأخذ المهجّرون يجمعون ما تبقّى من أفراد عائلاتهم الممزقة، التي شبهها السارد بمكعبات الأطفال "وهكذا كان الناس يجمّعون أشلاء أسرهم تجميعا، مثل مكعبات الأطفال المسماة (الليجو)" (عذبة)، يوضح هذا التشبيه فظاعة العدو وفداحة المصاب الذي ألمّ بالمهجّرين، الذين كانوا لعبة في يد الصهاينة يتسلون بتعذيبهم وتقتيلهم وتمزيقهم، وتفريق شملهم.
وفي موضع آخر، يشبّه السارد حال الفلسطيني وهو يدور في الطرق الالتفافية ليصل إلى مكان رزقه ومبتغاه، بأمنا هاجر "التي راحت تسعى بين الصفا والمروة، باحثة عن نقطة ماء، تبل ريق ابنها إسماعيل... كل هذا كي نصل إلى السوق، وعندما نصلها نجدهم قد منعوا عربات الخضار من الوقوف في السوق" (حرمتان ومحرم). إنها الحواجز والعقبات التي جعلت الوصول إلى السوق أو المكان الذي يقصده الفلسطيني من الأمور المتعذرَة العسيرة. استطاع الروائي بهذا التصوير أن يظهر حجم المعاناة التي يتكبّدها الإنسان الفلسطيني في سبيل الحصول على ضروريات الحياة.
أمّا عن حال المهجّرين اللاجئين فقد شُبهت خيامهم بمهاجع الجنود المنهزمين.."ومَن لم يُقتل منهم وبقي حيّا، فليُطرد شر طرد، لينام مشرّدا في الصحاري العربية، فصارت لُطع الخيام هذه مثل مهاجع الجنود المنهزمين، المتراجعين خلف خط الدفاع الثاني والعشرين، تجدهم ينامون داخلها أناء الليل، وينغلون خارجها أثناء النهار" (سروال بلقيس).
سرد يبيّن ما آل إليه حال الفلسطيني بعد إجباره على ترك أرضه بقوة السلاح، إذ استقرّ بهم الحال في خيام شبيهة بمهاجع جنود منهزمين، دلالة على الحالة النفسية الصعبة التي عاشها ويعيشها اللاجئون، كرامة مهدورة، ونفسية مأزومة، وظروف معيشية متعسّرة. وفي اختياره للكلمات تمكّن من بيان صعوبة الحياة الجديدة التي يعيشونها من خلال (المنهزمين، المتراجعين، ينغلون) التي تدل على القهر والانهزام والاحباط.
ولتصوير معاناة العامل الفلسطيني في الكسّارات، وعمله الشاق المستمر، فقد شبهه بعاملات النمل اللاتي لا يتوقفن عن السعي والعمل.
"هكذا يمر العمّال الرجال مثل عاملات النمل، ولا يتوقفون في ذهابهم وإيابهم الذي تذيبه الشمس تحت الرقابة المشددة من صاحب العمل الجالس في ظل عريشة بائسة" (عذبة). فرغم العمل في الكسّارات الشاق، فإن أشعة الشمس اللاهبة، والرقابة الصارمة على العمال ضاعفت من معاناتهم وشقائهم.
ويشبه أجواء العمل في الكسّارات وما تحدثه من تلوث وغبار يغطي الأفق بالحصيرة. "وبينما زوبعة دوامة تدور وتدور في خرائب الكسّارة باتجاه عنان السماء، مثل حصيرة ملفوفة عمودية الطول اللانهائي اللعنة، (...) والزوبعة اللولبية المستدقة من أسفل مثل قلم رصاص، والمفتوحة في أعالي السماء، مثل بوابة جهنم، ما تزال تتنقّل متعفرتة من موقعها إلى أراض أخرى مجاورة" (سروال بلقيس).
تحت هذا الجو الملوث، والوضع المزري يعمل اللاجئون، فالغبار الناتج عن تكسير الحجارة كالحصيرة التي تحجب الرؤية، فالفضاء منغلق على العمال بسحاب من الغبار والأتربة، محدثة زوبعة كقلم الرصاص حدة من الأسفل لتكبر صعودا وتنفتح كبوابة جهنم. استخدم الروائي تشبيهات تبيّن قسوة الظروف التي يعمل تحتها اللاجئ، المفتقدة لأدوات السلامة وإجراءاتها، التي تضمن للعامل منهم روحه وجسده.
وباجتماع التشبيهات والصور الجزئية وتلاحمها، تكوّنت الصورة الكلية لأجواء العمل في الكسّارات.
انصبّ غضب اليهود وحقدهم على العالم على الشعب الفلسطيني بعد أن زوّدهم الإنجليز بالسلاح، وقد شبّه السارد هجومهم عليه بهجوم وانقضاض التماسيح على الغزلان "فينقضّوا بتزويد الإنجليز والحلفاء على سكّان حيفا، مثل انقضاض تماسيح المستنقعات الساكنة على غزلان الغابة المتطاردة خلف بعضها بعضا في مجموعات مندحرة" (على باب الهوى) حيث كان اليهود مستضعفين، فقويت شوكتهم بالدعم الذي قُدّم لهم، فصاروا كتماسيح المستنقعات المتربصة بغزلان الغابة، تنقضّ عليها على حين غفلة، فتقتلها من غير رحمة أو شفقة، وهكذا فعل الصهاينة بسكان حيفا حين هاجموهم فقتلوا عددا كبيرا منهم، ولحقوا بمن نجا بروحه. وفي هذا التشبيه ما يبرز وحشية الاحتلال وهمجيته التي لا تختلف عن وحشية الحيوانات الشرسة.
ويشبّه الجرافات الإسرائيلية في اندفاعها نحو الأشجار لإقتلاعها من جذورها، بالديناصورات المتوحشة" التي خرجت من مختبرات جيراسك، وفلتت في شوارع المدينة..! تنطلق الجرافات من عقالها فتمحو الأشجار من على وجه الأرض" (حرمتان ومحرم). فهي كالحيوان المتوحّش الذي أفلت من عقاله ليأكل الأخضر واليابس، وعبّر عن الطريقة البشعة في تجريف الأراضي الزراعية من خلال التلاعب بالكلمات، فالجرافات لم تجرّف الأرض، لكنها محت الأشجار تماما، واقتلعتها من جذورها.
يُعدّ تحديد مفهوم دقيق للصورة الفنية من الأمور الشائكة، فاختلاف المفاهيم بين النقاد زادها صعوبة وتعقيدا. فهناك من يرى أنها تقوم على الخيال، فهي بهذا المفهوم تعني إنتاج الخيال المطلق. في حين ربطها بعضهم بما هو حسي أو مدرك بإحدى الحواس الخمس، ويحرّك خيال المتلقي باستدعاء معلومات ترجع إلى الذاكرة، فيثير تصوّره الحسي للأشياء، وتُعدّ الاستعارة والتشبيه وغيرهما من آليات الصورة. وبهذا التعريف توّسع مفهوم الصورة الفنيّة.
والملاحظ إهمال النقاد للصورة الفنية في الأعمال النثرية، إذ لم تحصل على الاهتمام الذي حظيت به في الشعر، وذلك لارتباط الصورة بالشعر منذ القدم، فلم تنل حقها من الدراسة في النثر على وجه العموم، وفي الرواية بوجه خاص. رغم وجود صور فنية تحاكي الصور الفنية في الشعر. على أنه ينبغي "أن تقدّر في
السياق الكلي للرواية، حتى يتم تثبيت وظيفتها في البنية الكلية للعمل وتأثيره". فهي لا تكتفي بإكساب النّص جمالية بما تحمله من دلالات مكتنزة مضمرة تحث القارئ على استكناه دلالاتها وفك شفراتها، لكنها تضطلع بوظائف متعددة، وغايات يطمح الكاتب للوصول إليها.
وقد لعبت الصورة في روايات فحماوي دورا مركزيّا مهمّا، إذ نهضت بوظائف مختلفة، وأشكال متعددة، فجاءت مرتبطة بموضوع الروايات الرئيس ومحورها، إذ تمكّن الروائي من خلق صور تقوم بمهمة الكشف عن التحوّل الفظيع الذي عاشه الفلسطيني من جوانب الحياة المختلفة، فقد أظهرت ما كان عليه حال الفلسطيني، وما آل إليه.
يقول السارد في وصف معسكر الحصار (رواية حرمتان ومحرم): "والشارع شبه ترابي، تنبعث رماله من كل جروحه، ويتمدد مثقلا بأوساخه كعمود فقري مهترئ... ". صورة حية متحركة، أنسن فيها الكاتب الجماد (شارع المعسكر)، مسقطا عليه صفات البشر، فهو يئن من جروحه، مثقل بالأوساخ، مشبها إياه بالعمود الفقري المهترئ، الذي لا يقوى على حمل الجسد، من كثرة الحفر المنتشرة على طول الشارع.
وبالانزياح تمكّن الروائي من أن يسقط مرارة العيش والحياة القاسية على الشارع الذي صار يحس ويئن متأثرا بمأساة العابرين والمقيمين عليه، عاكسا حجم المعاناة التي يعيشونها. فروائح رماله ممزوجة برائحة جروح السكان، تضامنا معهم، دالة على عمق معاناتهم في هذه المعسكرات التي لا تصلح مكانا للسكن. فمهما اختلفت مواقع المعسكرات جغرافيّا، وتباينت، فإنها تتحد في شكلها وتتساوى في وضعها البائس وفي عدم صلاحية الإقامة فيها. والصورة هنا تشبيهية، إذ اتكأ الكاتب على التشبيه لبيان عدم صلاحية الشارع. فجاءت الصورة موضّحة وكاشفة وضع المعسكر.
وفي موضع آخر يأتي بصورة مناقضة للصورة السابقة، يقول السارد:
"عادت الحرمتان للمرة الثانية مع محرمهما إلى معسكر الحصار المكتظ باللاجئين المعتّقين، كانت الحالة يرثى لها، والتراب والنفايات تهاجم الطرقات والشوارع، والجرافة كاتربلر عملاقة تنفلت من عقالها، وتجرف العمارات وتعتدي على قيعانها، وأطفال متراكضون هنا وهناك، يرجمون الجرافة بالحجارة، وآخرون يحملون لافتة عريضة محمولة من طرفيها المثبتين بعصاتين صغيرتين، ومكتوب عليها: لا تُجرّفونا، نريد أن نعيش... ".
يضعنا السارد في مواجهة صورة مخالفة للصورة الأولى، لشوارع المعسكر ذاتها، فالرمال والأتربة التي كانت تئن وتخرج من جروح الشارع، تحوّلت إلى عدوانية، تهاجم الطريق، فقد ضاقت ذرعا بالوضع، وقد لامس الكاتب الواقع، إذ سئم العالم من اللاجئين، وانقلبوا ضدهم. فإسناد الأفعال إلى غير فاعليها نفث الحياة في الجمادات، فصار(التراب والنفايات تهاجم الطرقات والشوارع). وشبّه الجرافة بدابة تحاول الانفلات من عقالها؛ لتنقضّ وتهجم على كل ما تقع عليه عينها، فكل شيء يتآمر على اللاجئ المغلوب على أمره، يقاتله ويعتدي على حياته ويتحكم بمصيره. ومجيء الأفعال بصيغة المضارعة منحت الصورة حركيّة وتجددا واستمرارية (تهاجم ـ تنفلت ـ تجرف ـ تعتدي ـ يرجمون ــ يحملون) وهي ألفاظ تنتمي إلى حقل الحرب والدمار. وصف دقيق رسم صورة متكاملة بكل تفاصيلها لما يجري من اعتداءات على اللاجئين غير الآمنين في معسكراتهم.
يصوّر الروائي الوضع البائس والظروف التي يعيشها الفلسطيني في مخيمات اللجوء، ويخص بهذه الصورة طرقات المخيم الترابية الضيقة، التي تغطيها العتمة وتفترشها الحفر والمستنقعات، ومما زاد من المشقة والضيق إنشاء العدو (المحاسيم) الحواجز العسكرية التي باعدت المسافات وضاعفت المعاناة اليومية. فاللاجئون غير قادرين على المطالبة بشق طريق، أو بتسويته ؛ ليخفف من معاناتهم ويصلون إلى بيوتهم بسرعة ويسر!
"فالطرقات الصخرية الضيقة داخل المخيم التفافية، ومنذ ذلك التاريخ والطرقات الالتفافية تتطوّر، وتنتشر وتتضخم أوداجها، وتتليّف في ربوع الوطن، مثل مرض تليّف الكبد، فتصير فلسطين كلها مصابة بمرض تليّف الطرق الالتفافية" (الإسكندرية 2050).
إن العقبات التي يضعها العدو الصهيوني أمام الفلسطيني تشكّل مأساة أخرى تنضاف إلى مآسيه، ومن خلال هذا المقطع يصوّر السارد بطريقة حسية، وضع الطرقات في فلسطين والحواجز المقامة عليها، مستعينا بالتشبيه، إذ شبّه كثرة الحواجز الجاثمة على كل بضعة أمتار، والتي أدت إلى زيادة المسافة، والوقت والجهد، شبهها بمرض "تليّف الكبد" الذي ينهك جسد المريض، وفي كثير من الأحيان يؤدي إلى وفاته، وقد وضع التشبيه المعنوي في إطار حسيّ، لتجسيد المعاناة، فأنسن الطرق التي ضاجت وهلكت من الحواجز المقامة عليها، وأدت إلى تضخمها والتفافها، كما بيّن حال الطرق المفتقرة إلى أدنى المواصفات والمعايير المتبعة - في حال وجدت طرق أصلا - حيث تباعدت الأماكن وطالت المسافات التي كان يقطعها الفلسطيني للوصول إلى بيته.
وبتضافر التشبيه والوصف رسم السارد صورة كلية لشوارع المعسكر بالكلمات. والملاحظ أن الروائي ركّز على الطرق، مصورا إياها من زوايا متعددة بصور بمختلفة، وأساليب متنوّعة، مجانبا التكرار.
- تصوير الإرهاب الصهيوني:
عمِد الروائي إلى الصور الفنية لتصوير المشاهد المؤلمة التي عاشها الفلسطيني على يد جنود الاحتلال الصهيوني الذي لم يستثن أحدا من أذاه ووحشيته، فجاءت الصور معبّرة ومؤثرة في نقل مأساة الفلسطيني وقت التهجير وبعده. فالعدو الصهيوني لم يرحم الفلسطينيين الذين بقوا في بلادهم، ولا الذين هجّروا عنها، فكان جحيم الصهاينة ملازما لهم، إذ مارسوا على المهجّرين وسائل التعذيب المختلفة.
تتذكّر صالحة السمراء وهي واحدة من الذين عانوا من بطش الاحتلال وهم في طريقهم إلى رحلة الشقاء، طريق الهجرة إلى خارج الوطن، تتذكر ساعتها الذهبية الأصلية التي أهداها لها عريسها محمود، وكيف أخذتها المجنّدة الإسرائيلية على الحاجز العسكري من غير وجه حق وتحت تهديد السلاح، إذ "نتشت من أذنيها حلقتي الذهب، فقطعت حلمتيهما، فصرخت من ألم الوجع، وارتعبت وهي تشاهد الدم ينزف على كتفيها.. تحسستهما فإذ بهما مقطوعتين من أسفل..ذُهلت للحمها المقطوع، وللدم الذي صبغ راحتي يديها، أكثر مما عزت عليها غلاوة الذهب المسلوب، وفقر ما بعد السلب، ولكنها أطبقت فمها بيدها الدامية، أمام فوّهة الرشاش المغروس في حلقها، لتفدي روحها بذهبها المغتصب" (سروال بلقيس).
تُظهر الصورة الحقد الصهيوني على أبناء الشعب الفلسطيني. فها هي المجنّدة تجرّد صالحة قرطها المصنوع من الذهب، تنتزعه بلا شفقة أو رحمة، فتجتث معه جزءا من أذنيها بطريقة وحشية تشي بحجم الغل المكتنز في قلوب الصهاينة تجاه الفلسطيني، واختيار كلمة (نتشت) يدل على أن المجندة باغتت صالحة وأخذت حلقها على حين غفلة منها، ولم تطلب منها خلعه من أذنيها بلطف، وهذه الكلمة أشد وقعا وألما في الدلالة على قسوة هذا الفعل. وقد اجتمع الألم والدم والقهر والذل على صالحة. فأدّت الصورة مهمة وظيفية، تبيّن من خلالها لحظات وقوف المهجّرين على الحاجز العسكري، وطريقة تعامل جنود الاحتلال معهم، التي تفتقر للإنسانية والتحضّر، وكيف يتم نهب كل الممتلكات الشخصية للفلسطيني عنوة وبطريقة بشعة.
- صورة الأم ورضيعها:
من الصور المؤلمة التي لخصت معاناة الفلسطيني خلال التهجير، صورة الأم وهي تحمل رضيعها وتسير في قوافل المهجّرين، إذ رصد الروائي مشهدا مؤثرا لامرأة فلسطينية تحاول النجاة بوليدها من تحت القذائف والصواريخ التي غطت سماء فلسطين، المنهمرة عليهم كالمطر، يصف السارد ذلك المشهد، وهو يسترجع لحظات التهجير وقصف طائرات العدو للمهجّرين، وذلك بعد أن ركب مشهور الطائرة لأول مرة وهو في طريقه إلى مصر للدراسة، غير آبه لهزهزات الطائرة التي أقلعت من مطار قلنديا في القدس يقول:
"فكانت طائرة حربية تتسلى بقصف قوافل الفلسطينيين المهجّرين عام 1948، الحاملين أطفالهم بأسنانهم، وهم هاربون من حمم براكين الاحتلال الغاشم، مثل القطط التي تنقل أطفالها بأسنانها من مكان الخطر، وبين روائح القتلى المجندلين، أم لطفل رضيع، أطفأتها طلقة قناص، فأردتها قتيلة على قارعة الطريق، والدم ينزف متخثرا من جيوبها المخروقة، والذباب يدوي على جثتها النازفة، بينما يبقى رضيعها ملتصقا بها، ويداه متشبثتان بثديها الذي برد، وهو يرضع رضعته الأخيرة التي لم يكملها بعد! الطائرات المشوهة بدماء الضحايا تلاعبهم(الاستغماية)، ثم تفاجئهم من خلف جبل، وتتمرجل عليهم، فتقصفهم وهم هاربون في الوديان، لتزيد من ذعرهم، وتتعجل التخلص منهم، بإخراجهم من حدود فلسطين الخضراء، إلى الصحارى العربية ذات الرمال المتحركة" (الإسكندرية 2050).
مشهد آخر من المشاهد التي حدثت أثناء رحلة تهجير الشعب الفلسطيني، صورة لا تخلو من سخرية تثير مشاعر الألم والأسى والحزن، لامرأة تحاول النجاة بوليدها من براثن القذائف وزخات الرصاص المتساقط، الآتي من كل حدب وصوب، من الجو والأرض، استهدفتها طلقة قناص اخترقت جسدها المتعب فكانت كفيلة بإنهاء حياتها وإبعادها قسريا عن الحياة وعن رضيعها الذي ظلّت حريصة على انتشاله من الموت المتربص بهم من كل زاوية، تركت بلا إرادة منها طفلها الرضيع بلا حول له ولا قوة. لقد فارقت حياة البؤس والشقاء وبقي طفلها ممسكا بيديه الصغيرتين ثديها، محاولا سد رمقه، وقد برد جسدها وحليبها، وما يدري ذاك الرضيع أنها الرضعة الأخيرة. صورة مأساوية تُظهر جبروت العدو الذي لا يرحم، فالأم ممددة على الطريق والذباب يدوي فوقها، ودماؤها تجلطت، ولا يزال طفلها متشبثا بالبقاء في حضنها. مشهد حي بتفاصيله الدقيقة، والأفعال المضارعة (ينزف، يبقى، يرضع، يدوي، تتمرجل، تلاعب، تفاجئ) التي منحته الحركة وجعلته نابضا نازفا رغم توقف نبض الأم. ولعب الانزياح دورا في إبراز وكشف بشاعة العدو وطرقه الوحشية في إرهاب المهجّرين، وتبدو السخرية في (طائرات مشوّهة، تلاعبهم الاستغماية، تتمرجل). جاءت الصورة مغلفة بالسخرية من شدة الألم. متلائمة مع سياق الرواية.
- صورة الطفل :
جريمة أخرى يرتكبها العدو بحق أبناء فلسطين، وهذه المرة يصور الراوي مشهد الطفل نضال شلهوب الذي قُتل برصاص قناص وهو منهمك بأكل رغيف خبز بالشطة ليسد جوعه ولحقه صديقه وابن جيرانه جعفر الأسمر، الذي ركض باتجاه نضال عندما سمع إطلاق النار، في محاولة منه إنقاذ صديقه "التفت إلى الوراء فشاهد ابن جيرانهم نضال يسقط مصابا بعيار ناري، هجم ليسعف رفيقه، وركض باتجاهه، وما تزال تنطلق رصاصات متفرقة نحو المكان، كان يشعر بالخوف في لحظات، وتتملكه الشجاعة في لحظات أخرى (... ) أحاسيس متداخلة وممزوجة ومجعلكة ومشوهة..".
رصاصة واحدة كانت كفيلة بإنهاء حياة طفل في عمر الزهور، طفل يمسك رغيفا لسد جوعه، وكأن دبابات العدو جائعة وقد أغراها الرغيف بيد نضال ففتح شهيتها لقتل الأبرياء لتقضي نهمها وحبها للدماء وقتل الأرواح، يقف جعفر الأسمر حائرا تتجاذبه الأفكار كرّ وفرّ، بين إنقاذ صديقه أو النجاة بنفسه، لكن دم الشباب فار في عروقه، وراودته أفكار متضاربة، جعلته يُقبل على صديقه "عاد جعفر الأسمر، وهجم باتجاه صديقه نضال شلهوب، ووضع يده تحت رقبة الطفل الذي كان يتلوى على الأرض، ولكنه لا يصرخ يبدو أن الإصابة بسيطة..لا، لا، قد تكون قاتلة، والصبي قد أسقط في يديه، أدخل الطفل جعفر الأسمر يده اليسرى تحت فخذي صديقه نضال شلهوب، وهمّ برفعه إلى أعلى ليأخذه إلى أهله، أو إلى أقرب مستشفى يعالج الإصابة، ولكنه فوجئ برصاصات تخترق جسده هو شخصيا... ! لا، لا، لم تكن رصاصات موجعة، ذلك لأنه لم يحس بها مؤلمة، شعر بأن شيئا ساخنا يخترق جسده، فتهاوى الطفل، وأنزل حمولته، وأقعى مسجيا رفيق عمره على الأرض....".
يكمل الراوي الصورة بإيقاع سريع من خلال الأفعال المتتالية للدلالة على سرعة عملية القنص، إذ لم تمهله رصاصات العدو الصهيوني وقتا لحمل صديقه أو تفقّد إصابته، وكأنها كانت في انتظاره لتكمل وجبتها من القتل، وتتواصل أجزاء الصورة عبر وصف الحدث الجلل الذي ألمّ بالصبيين" كانت مجرد طلقات تشبه بَرَد الشتاء، الذي يضرب الأرض بقوة، إلى أن ارتميا فوق بعضهما والدماء نقطتان.. لم تكونا بقعتي دماء، بل نقطتين حمراوين قد جفتا؛ ذلك لأن الطفلين كانا يعانيان من فقر دم حاد، فلم ينزفا كثيرا... " (حرمتان ومحرم).
يواصل الراوي تصوير مشهد الصبيين بكلماته، أحدهما يحمل رغيف خبز يسكت به صرخات الجوع داخل معدته، وقد اخترقت رصاصة آثمة جسده النحيل فارتمى على الأرض، وصديق عمره القصير يحاول انتشاله وإسعافه لإنقاذ حياته فيرتمي على الأرض فوق صديقه بعد أن داهمته رصاصة غادرة اخترقت جسده فاختلط دم الصبيين، الذي لم يكن كثيرا، سالت نقطتان فقط من دمائهما، إذ كانا مصابين بفقر الدم وسوء التغذية من سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
صورة تشبيهية يرسمها الراوي لاستشهاد طفلين، تنبض ألما بتفاصيلها الدقيقة، من خلال الأفعال المتتالية التي تبيّن سرعة إطلاق الرصاص على جعفر ومن قبله صديقه نضال، وتوضح بجلاء وحشيّة العدو الصهيوني، واستهدافه لإطفال فلسطين وقتلهم عن سبق إصرار وترصّد، فالاحتلال لا يفرّق بين كبير وصغير، بل إنه يتقصّد الأطفال خوفا من أن يصبحوا مقاومين لهم.
وفي صورة أخرى لا تقل قسوة عن سابقاتها، يرصد السارد بكلماته، لحظات الألم والعذاب الذي عاشها الفلسطينيون، فالمقيم لم ينج أيضا من بطش وجبروت آلة القتل الصهيونية، فمن المشاهد التي فضحت إجرام الصهاينة، واستهدافه لكل فلسطيني صورة أم ترضع طفلتها في فناء بيتها، والتي لم تكن في قوافل المهجّرين، ولا من المقاومين، ورغم ذلك اخترقت رصاصة رأس الطفلة لتستقر في قلب الأم، في مشهد خاطف سريع كسرعة إطلاق الرصاصة التي لم تخطئ هدفها، يقول السارد:"
فبينما كانت أمها ترضعها في فناء البيت، اخترقت رأس الطفلة مرورا بفمها وثدي أمها رصاصة واحدة موحّدة... انطفأ الثدي، وبردت الأم وسقطت زهرتها قبل أن تعقد ثمرتها" (حرمتان ومحرم). رصاصة واحدة أسكتت نبض قلبين، أم ورضيعتها، وغيبتهما عن الحياة. وبالانزياح في قوله: (انطفأ الثدي، سقطت زهرتها) أعطى دلالات أخرى وصور حية للمشهد، فإسناد الانطفاء إلى الثدي دل على إنتهاء الحياة وحلول العتمة والظلمة، وشبه الطفلة بالزهرة التي قطفت، وسقطت عن ساقها، وهكذا استطاع السارد تصوير المشهد بدقة حية معبرة.
- تصوير طالبة الصف:
يستمر الروائي في تصوير مشاهد البؤس التي رافقت الفلسطيني في حلّه وترحاله، إذ يصوّر السارد حال أهل معسكر الحصار، ومعاناتهم اليومية، يقول:
"وفي معسكر الحصار المحتل، كما في سائر بقاع الإقليم الفلسطيني المكتظ، صار المارون ينطفئون مثل الشموع على الطرقات، وداخل البوابات، وفي صف المدرسة تنقصف زهرة برية؛ فتاة بعمر الزهور، كانت تتلقى درسها مع رفيقاتها الطالبات، وترفع ذراعها داخل الصف، مشيرة بإصبعها: أنا معلمتي.. أنا معلمتي... ولكنها ويا حسرة قلب معلمتها، ماتت وهي رافعة أصبعها،. .. دوّت طلقة زائرة من الشبّاك، مخترقة جسدها الطري، وسكنت قلبها الرضيع، طلقة نفذت إليها من النافذة، اغتصبت روحها حيث سكنت، فسكنت الطفلة على درج مكتبها، وانكسرت الزنبقة على حضن أوراقها التي تعلمها القراءة والكتابة..!" (حرمتان ومحرم).
صورة أخرى ينقلها الروائي بكلماته، صورة طفلة داخل صفها تتلقى العلم، متفوقة في دراستها، لم تخطئها رصاصة الاحتلال التي اخترقت جسدها الغض من نافذة الفصل لتستقر فيه، وتطفئ براءتها، فيد العدو طويلة طرشاء تصل إلى أي مكان يتواجد فيه الفلسطيني، يقتلون في الشوارع، وعلى البوابات، وفي المدارس، كيف لا يقتل ويتلذذ في التنكيل بهم وقد أسقط من حساباته حقوق الإنسان والطفولة، متجاوزا القوانين والأعراف الدولية، مشهد يدمي القلوب النابضة، لم تشفع لها طفولتها وبراءتها، فماتت كآلاف الأطفال الفلسطينيين الذين اخترقت أجسادهم رصاصات الصهاينة فأودت بحياتهم. وقد شبّه موت الناس على الطرقات بانطفاء الشموع، كما لعب الوصف الدقيق دورا مهما في نقل الصورة بأدق تفاصيلها والتي جعلتها حية كأننا نراها.
ولا تقف الصورة عند حدود تشبيه شيء بشيء آخر، أو استبدال شيء بشيء آخر، ولكنها قد تكون أية كلمة حسيّة تستدعي استجابة الحواس.
- تصوير قوافل المهجرين:
وفي صورة أخرى، يشبه السارد جموع المهاجرين المحاصرين بنيران العدو بالجراد الصحراوي، إذ "كانت النيران تحاصر جموع المهجّرين من اليمين، ومن اليسار، ومن الخلف، وكأننا قطعان من الجراد الصحراوي المتقافز، هروبا من النيران الزاحفة عليه من الجهات الثلاث! فتضطرنا للهروب إلى الأمام" (عذبة)، لإجبارهم على المغادرة، وعدم التفكير في العودة إلى أرض الوطن. يريد العدو ضمان رحيلهم، لذلك تبعتهم طائراته وهي ترميهم بنيرانها المستعرة الحاقدة، التي قتلت بعضهم، وفرّقت مَن تبقّى منهم تاركة إياهم في حالة مأساوية يرثى لها، ووضع إنساني يدمي القلوب النابضة الحية، فـ "هذا طفل فقد الاتصال مع أمه وعائلته، يبكي تائها بين التائهين، وتلك امرأة قطعت قذيفة (السلبند) ساقيها، فقذفت رضيعها إلى مكان بعيد، وهي تزحف نحوه، والدماء تسيل من مقطعي فخذيها!" (عذبة).
صورة أخرى لا تقل قسوة وعنفا عن الصور السابقة، طفل تائه يبحث عن عائلته بين بقايا المنكوبين، وسط النيران الملتهبة، والأشلاء الممزقة المتفرقة، وامرأة فقدت ساقيها حين أصابتها قذيفة، والدم ينزف منها، ومن قوة الضربة وشدة الألم قذفت رضيعها خوفا عليه، وراحت تزحف نحوه ودمها يسقي الأرض العطشى، وقد استعان السارد بالسرد الذي شكّل بنية تصويرية من خلال الأحداث، والأفعال المضارعة التي منحت الصورة حركية (يبكي، تزحف، تسيل) وهي أفعال تنتمي إلى حقل الألم والمعاناة. مما جعل هذه الصورة المأساوية تفيض ألما وبؤسا، ناطقة وشاهدة على وحشية العدو الصهيوني وطغيانه، كاشفة في الوقت ذاته عن تجرّده من الإنسانية، وإصراره على إبادة الشعب الفلسطيني.
يستعين الروائي بالتشبيه والمجاز والاستعارة لإبراز المعاناة التي يعيشها من بقي من الفلسطينيين، فنراه يصوّر حال الفلسطيني الملاحق من قبل العدو الصهيوني والجهات المانحة، وما يلاقيه من تفنن في أساليب التعذيب والقتل، يقول الراوي العليم:
"أنت تستغرب هذه اللعبة القذرة، التي يلعبها القط والفأر، فبعد أن ينقض عليه ويحطم مجاذيفه، يستمتع بملاعبته السادية، فيتركه يفلت من بين يديه (...) أنت لا تعرف لماذا يتركه وهو طوع بنانه، بينما يركض المسكين على الأرض هاربا من قدره المحتوم، قبل أن يلحق به المجرم ويعيد التقاطه وعضعضته، ثم يتركه ليستمتع بآخر بصيص ضوء حياة، قبل أن يتناوله ويزدرده. هكذا تلحق بك الجهات المانحة، وأنت أمامها مذعورا!" (الإسكندرية 2050).
فما يفعله جنود العدو بالمهجّرين وهم في طريق الهجرة شبيه بلعبة القط والفأر، فمن ينج من القتل يتفنن العدو في التنكيل به، فسادية العدو الصهيوني تجعله مستمتعا بتعذيب الشعب الفلسطيني، ببث الرعب في نفسه، وتنغيص عيشه والتمثيل به. إذ يلاحق من نجا منهم ويُمسك به، ثم يتركه ليمارس عليه ساديته، بالتلذذ في تعذيبه، وهكذا تتكرر محاولات هروب المهجّر حتى تستنزف قواه، وتنهار أعصابه، وتُقتل إنسانيته وتهدر كرامته قبل الإجهاز عليه. هي حرب نفسية يستخدمها العدو الحريص على إلحاق أكبر قدر من الضرر النفسي والألم الجسدي بالفلسطينيين، فالموت في هذه الظروف راحة للإنسان من العذاب، والعدو لا ينشد الراحة لهم، حتى لو كانت بالموت السريع.
إنها لعبة الكبار، تلك الدول التي تدعي دعمها لحقوق الإنسان، ومساندة الفلسطيني، إذ تمد له فتات المساعدات بيد، وتقتله بالاتفاق مع العدو باليد الأخرى.
كانت رحلة التهجير شاقة مؤلمة، نفسيا وجسديا، والناجون منهم أقاموا لهم خياما ومعسكرات، فأخذ المهجّرون يجمعون ما تبقّى من أفراد عائلاتهم الممزقة، التي شبهها السارد بمكعبات الأطفال "وهكذا كان الناس يجمّعون أشلاء أسرهم تجميعا، مثل مكعبات الأطفال المسماة (الليجو)" (عذبة)، يوضح هذا التشبيه فظاعة العدو وفداحة المصاب الذي ألمّ بالمهجّرين، الذين كانوا لعبة في يد الصهاينة يتسلون بتعذيبهم وتقتيلهم وتمزيقهم، وتفريق شملهم.
وفي موضع آخر، يشبّه السارد حال الفلسطيني وهو يدور في الطرق الالتفافية ليصل إلى مكان رزقه ومبتغاه، بأمنا هاجر "التي راحت تسعى بين الصفا والمروة، باحثة عن نقطة ماء، تبل ريق ابنها إسماعيل... كل هذا كي نصل إلى السوق، وعندما نصلها نجدهم قد منعوا عربات الخضار من الوقوف في السوق" (حرمتان ومحرم). إنها الحواجز والعقبات التي جعلت الوصول إلى السوق أو المكان الذي يقصده الفلسطيني من الأمور المتعذرَة العسيرة. استطاع الروائي بهذا التصوير أن يظهر حجم المعاناة التي يتكبّدها الإنسان الفلسطيني في سبيل الحصول على ضروريات الحياة.
أمّا عن حال المهجّرين اللاجئين فقد شُبهت خيامهم بمهاجع الجنود المنهزمين.."ومَن لم يُقتل منهم وبقي حيّا، فليُطرد شر طرد، لينام مشرّدا في الصحاري العربية، فصارت لُطع الخيام هذه مثل مهاجع الجنود المنهزمين، المتراجعين خلف خط الدفاع الثاني والعشرين، تجدهم ينامون داخلها أناء الليل، وينغلون خارجها أثناء النهار" (سروال بلقيس).
سرد يبيّن ما آل إليه حال الفلسطيني بعد إجباره على ترك أرضه بقوة السلاح، إذ استقرّ بهم الحال في خيام شبيهة بمهاجع جنود منهزمين، دلالة على الحالة النفسية الصعبة التي عاشها ويعيشها اللاجئون، كرامة مهدورة، ونفسية مأزومة، وظروف معيشية متعسّرة. وفي اختياره للكلمات تمكّن من بيان صعوبة الحياة الجديدة التي يعيشونها من خلال (المنهزمين، المتراجعين، ينغلون) التي تدل على القهر والانهزام والاحباط.
ولتصوير معاناة العامل الفلسطيني في الكسّارات، وعمله الشاق المستمر، فقد شبهه بعاملات النمل اللاتي لا يتوقفن عن السعي والعمل.
"هكذا يمر العمّال الرجال مثل عاملات النمل، ولا يتوقفون في ذهابهم وإيابهم الذي تذيبه الشمس تحت الرقابة المشددة من صاحب العمل الجالس في ظل عريشة بائسة" (عذبة). فرغم العمل في الكسّارات الشاق، فإن أشعة الشمس اللاهبة، والرقابة الصارمة على العمال ضاعفت من معاناتهم وشقائهم.
ويشبه أجواء العمل في الكسّارات وما تحدثه من تلوث وغبار يغطي الأفق بالحصيرة. "وبينما زوبعة دوامة تدور وتدور في خرائب الكسّارة باتجاه عنان السماء، مثل حصيرة ملفوفة عمودية الطول اللانهائي اللعنة، (...) والزوبعة اللولبية المستدقة من أسفل مثل قلم رصاص، والمفتوحة في أعالي السماء، مثل بوابة جهنم، ما تزال تتنقّل متعفرتة من موقعها إلى أراض أخرى مجاورة" (سروال بلقيس).
تحت هذا الجو الملوث، والوضع المزري يعمل اللاجئون، فالغبار الناتج عن تكسير الحجارة كالحصيرة التي تحجب الرؤية، فالفضاء منغلق على العمال بسحاب من الغبار والأتربة، محدثة زوبعة كقلم الرصاص حدة من الأسفل لتكبر صعودا وتنفتح كبوابة جهنم. استخدم الروائي تشبيهات تبيّن قسوة الظروف التي يعمل تحتها اللاجئ، المفتقدة لأدوات السلامة وإجراءاتها، التي تضمن للعامل منهم روحه وجسده.
وباجتماع التشبيهات والصور الجزئية وتلاحمها، تكوّنت الصورة الكلية لأجواء العمل في الكسّارات.
انصبّ غضب اليهود وحقدهم على العالم على الشعب الفلسطيني بعد أن زوّدهم الإنجليز بالسلاح، وقد شبّه السارد هجومهم عليه بهجوم وانقضاض التماسيح على الغزلان "فينقضّوا بتزويد الإنجليز والحلفاء على سكّان حيفا، مثل انقضاض تماسيح المستنقعات الساكنة على غزلان الغابة المتطاردة خلف بعضها بعضا في مجموعات مندحرة" (على باب الهوى) حيث كان اليهود مستضعفين، فقويت شوكتهم بالدعم الذي قُدّم لهم، فصاروا كتماسيح المستنقعات المتربصة بغزلان الغابة، تنقضّ عليها على حين غفلة، فتقتلها من غير رحمة أو شفقة، وهكذا فعل الصهاينة بسكان حيفا حين هاجموهم فقتلوا عددا كبيرا منهم، ولحقوا بمن نجا بروحه. وفي هذا التشبيه ما يبرز وحشية الاحتلال وهمجيته التي لا تختلف عن وحشية الحيوانات الشرسة.
ويشبّه الجرافات الإسرائيلية في اندفاعها نحو الأشجار لإقتلاعها من جذورها، بالديناصورات المتوحشة" التي خرجت من مختبرات جيراسك، وفلتت في شوارع المدينة..! تنطلق الجرافات من عقالها فتمحو الأشجار من على وجه الأرض" (حرمتان ومحرم). فهي كالحيوان المتوحّش الذي أفلت من عقاله ليأكل الأخضر واليابس، وعبّر عن الطريقة البشعة في تجريف الأراضي الزراعية من خلال التلاعب بالكلمات، فالجرافات لم تجرّف الأرض، لكنها محت الأشجار تماما، واقتلعتها من جذورها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق