ارتبط الحكي ارتباطا وثيقا بالخوف ، خصوصا الخوف من الموت ، فقد كان الإنسان البدائي يحكي ويؤلف القصص ، وكانت تدور في معظمها عن خوفه من الظاهرات الطبيعية ، يبذر فيها رغباته وغرائزه وخوفه المستمر من العالم المجهول ورعبه من الاختفاء النهائي عن العالم بالموت .
فكرة الموت محور ظاهري في قصص مفلح العدوان ، ثيمة واضحة منذ بداية مشواره . فمجموعة ( الرحى ، دار أزمنة ، الأردن 1994 ) بها أكثر من قصة عن الموت : لعازر ، حين بكى الملح ، التابوت ، معراج باتجاه اسرافيل . كذلك مجموعة ( موت عزرائيل ، المؤسسة العربية لدراسات والنشر ، بيروت 2000) بها أكثر من قصة عن
الموت : موت عزرائيل ، العكاز ، القزم . وأيضا مجموعة (في موت لا أعرف شعائره ، دار ميريت 2004 ، القاهرة ) قصصها تعتمد على فكرة الموت : في موت لا أعرف شعائره ، تناسخ ، مزمار تموز . كما لا تخلو معظم القصص في المجموعات الثلاث من كلمات الموت ومفرداته : القبر ، القبور ، غياهب القبور ، الكفن ، توابيت الجنائز ، شواهد ، الدود ، القتل ، قبض الروح ، إلخ ، .
حتى أن الراوي في قصص \"مزمار تموز\" من مجموعة ( في موت لا أعرف شعائره ) يتساءل مندهشا \" الموتى ، كيف لا يلحظهم أحد وهم في المدينة \" ص64 ، وقصة \"موت عزرائيل\" من المجموعة التي تحمل نفس العنوان .يموت عزرائيل الذي قبض أرواح كل البشر والملائكة ، وفي آخر شهقات الموت قال :\" آه لو كنت أدري أن هكذا كان عذابهم ما كنت فعلت\" ص52. وهناك قصص تبتعد قليلا عن الموت ، لكنها توحي به ، وتصب جميعها في صلب فكرة الموت .لكن لماذا تسلل الموت وطقوسه وظلماته ومشاكسته الدءوبة للراوي وصراعه المستمر معه في معظم
القصص؟والإجابة ، ولم لا ؟ أليس الموت إحدى الكوارث الكبرى المؤرقة للإنسان ؟ إنه الربان الأعمى الذي يقود دفة النهاية . من ثم ينبغي استكناه ماهيته ، والتسلل الى قلعته الحصينة ، فقد أوصانا البروفيسير في مسرحية( \"الطريق\" للكاتب النيجيري \"سونيكا\" ) على معرفة الموت لنقهر الخوف منه بالمعرفة ، ونصحنا من قبله الفيلسوف الرواقي \"سنيكا\" بأن المرء يتعين عليه أن يفكر فيه دوما ، فالذي لا يعرف الموت لا يعرف الحياة . كشف سر الموت يشد من أزرنا لمواجهته ، ومواجهة الحياة . وقبل هذا ، وذاك ، فمنطقتنا العربية ، والأفريقية ، لها تراث ضخم عن الموت ، وطقوسه ، وحكاياته ، ويحضرني الآن بعض أسماء كتب دارت حول الموت : \"التوهم\" للحارث المحاسبي ، \"التذكرة في أحوال الموتى\" للقرطبي ، معراج البسطامي ، و\"منامات الوهراني\" ، وغيرها كثير .
أنتقل الى ملمح ثان من ملامح قصص مفلح العدوان ، وأعني \"الماء\" أي الحياة . الماء يعني الحياة ، والحياة نقيض الموت . لكن الموت والحياة مشتبكان في أعمال الكاتب . لا يخفى أن أساطير التكوين في المنطقة ، وكما قال \"فراس السواح\" تنتمي الى زمرة أساطير الميلاد المائي . فالحالة السابقة تنتمي الى زمرة أساطيرنا التكوينية ، هي حالة من العماء المائي . يقول الراوي في قصة \"في موت لا أعرف شعائره\" من المجموعة التي بنفس العنوان\"عادت الظلمة..أحسست ببدائيتي وانحطاطي ، أمام قتامة العماء الأول ، حين لم تكن الأرض أرضا ، ولا السماء سماء \"ص21 ، ويبذر الكاتب في قصصه كلمات مثل : ذاكرة الماء ، ومعنى الماء ، والصلاة للماء ، والتعميد بالماء . فالماء \"ميلاد الحياة ، عرش السماء وميثاق الأرض\"(ص57،58 قصة واكتمل النصاب ، مجموعة موت عزرائيل ) . وفي نفس المجموعة ، موت عزرائيل ، يتساءل الراوي \"هل كان العرش قبل الماء؟أم قبل الماء جاء؟ما الماء؟\"ص35 .
في قصص مفلح العدوان نجد تمجيدا لقوى الماء ، فالماء يولد كل مظاهر الحياة ، كما يعني الغرق والنجاة في آن ،قصة\"واكتمل النصاب\" ، الماء الجسر الذي يربط الحي بالميت، رمز الحيوية والحياة الأبدية ، الموت في طقوسنا كما في القصص يرمز للطهارة والولادة والانبعاث ، وفي دلالة من دلالات الماء في القصص ، ألا يشير ولع الكاتب به واستحضاره بقوة في قصصه الى المكان الذي يعيش فيه-الأردن- وما يعانيه من ندرة الماء والتقارير التي تخبرنا عن قرب جفاف ذلك البلد في غضون سنوات ، إضافة الى ما تنقله لنا وكالات الأنباء وتصريحات وتحليلات المفكرين والسياسيين من أن الحروب القادمة ستكون حروبا مائية .
التراث ملمح ثالث في قصص مفلح العدوان ، ولعل من المستباح في كل زمان شرعية الكاتب في اللعب مع تراثه ، بالاقتباس مرة وبالتضمين مرات، بالمحاكاة ، أو الاستلهام، والتمثل ، وهما معا سدرة المنتهى ، فلا شيء بعد ذلك سوى النفي أو التجاوز ، وهما مضمرات في فعل الاستلهام والتمثل ، وبدون تحريك وتوظيف للتراث يصبح مع الوقت عقبة ، وبالتالي يصاب بالثبات والجمود ، تلك قناعتي الشخصية .
لكن ما مسوّغ هذه الصولة يا ترى ، وما مدى علاقتها بقصص مفلح العدوان ؟ بعد قراءتي لقصصه أدركت مدى إفادته من التراث سواء تراثنا خاصة ، أو التراث الإنساني عامة ، فهو بداية وظف واستلهم ما في الكتاب المقدس ، والأناجيل ، وأيضا القرآن الكريم ، ثم أساطير المنطقة وخصوصا أساطير التكوين ، والطوفان ، والفردوس المفقود ، والموت ، والقتل ..الخ . وهناك أسماء كان ولا يزال لها حضور قوي في ذاكرتنا التاريخية ، والمقدسة جاءت في سياق القصص : آدم وحواء ، قابيل وهابيل ، المسيح ، لعازر ، شعيب ، عمر ، أبو لهب ، الملائكة الأربعة إسرافيل ، جبرائيل ، عزرائيل ، ميكائيل ، ويحيى وزكريا ..الخ .
ليس هذا وحسب ، بل الجمل والفقرات خفرت بأسماء وأحداث تراثية ، وعلى سبيل المثال ، القصة الأولى من المجموعة \"الرحى\" حُملت فقراتها وعباراتها بعديد من الأحداث والأسماء التاريخية: ..\"حاورهم وهو في المهد\"ص10 ..\"خذوا ..هذا دمي فاشربوه\"ص25 ..\"لبيك لا شريك لك في القرى..لبيك\"ص37 . وفي قصة \"لعازر\" نقرأ هذه العبارة ؛\"لبثنا يوما أو بعض يوم \"ص25 ، وفي قصة \"أبناء شعيب\" نقرأ هذه
الفقرة ؛\"واخترقت حربة جساس ظهره\"ص52 ، و\"كما العنكب حين نسج خيوطه على بوابة لعازر\"ص61 ، و\"حين ألقوا على وجهه قميصه في المرة الثانية\"ص64 من قصة \"الصواع\".
ومجموعة \"موت عزرائيل\" تشتبك بعمق مع التراث ، كذلك مجموعة \"في موت لا أعرف شعائره\" نجد تضفير الجمل برموز مقدسة ، \"يحمل مزماره ، ويهش بموسيقاه على غنمه\"ص57 ، وتوظيف التراث في قصص مفلح العدوان يقودنا الى التكنيك في القصص ، وأول ما يلفت نظر القارىء تلك اللغة المسبوكة جيدا والمحملة برموز تراثية كما ذكرت ، وأيضا دربة في السرد ، وتجويد في الحوار ، أو الحوارات التي لعبت دورا كبيرا وأخذت مساحة لا بأس بها في القصص ، ويمكنني القول أن بعض القصص يمكن أن نطلق عليها قصصا ممسرحة، اعتمدت على كثرة الحوارات والشخصيات وزيادة النبرة الدرامية . مجموعة \"موت عزرائيل\" نموذج ، كذلك اعتمد الكاتب الإيقاع من خلال التكرار ، وتوزيع الكلمات على هيئة حروف كما في كتابات المتصوفة .
قصة\"جذاذات\"، مجموعة \"موت عزرائيل\" ، وأيضا هناك الخيوط المشتركة التي تربط القصص بعضها البعض ، كذلك يمكن ذكر أن العالم القصصي عند الكاتب يأخذ مفرداته ، ومرتكزاته من التراث من أجل أن ينسج عالما يحلق في أفق الأسطورة ، كما أن ملامح الجمال في هذا العالم تتجلى في نظامه وانسجامه الداخلي ، وهذا العالم أطر بلونين هما الأبيض والأسود ، تحركت داخلهما الأحداث ، وخيوط السرد ، وقد استبدل الكاتب بالأبيض والأسود ، الظل والنور في بعض القصص ، وتساءل الراوي في قصة \"القزم\" ، مجموعة \"موت عزرائيل\" ، من تآمر عليّ ، نوري أم ظلي ؟ص99.
هل الظل كان بمثابة الحاجز أو السياج أو البوابة الشائكة التي حالت بين الراوي وبين النور ذلك الدافىء الحنون ؟ على أية حال ، لقد استخدمهما مفلح العدوان بمهارة واتزان وأظهر من خلالهما حيرة الراوي في بحثه عن الحقيقة ، تلك الحقيقة التي سعى الراوي خلفها منذ أول قصة في مجموعة \"الرحى\" ، في قصة \"إنه الجوع يا معلم\"-الرحى- يقول الراوي \"إن الحفرة تتسع . تزداد عمقا كأنهم يريدون أن يدفنوا كل شىء يخصه : كراساته ، أفكاره ، تفاؤله ، بحثه عن الحقيقة ، وأمله في التغيير\"ص82. بحث الإنسان عن الحقيقة ارتبط بالأرض ، آدم عندما كان في الجنة وحاول أن يعرف نزل الى الأرض ، أو هذا كان عقابه ، ويسأل عزرائيل ، ويتعجب في نفس الوقت –قصة \"موت عزرائيل\"-\"وماذا أذنبوا لينتهوا ، ويزجّوا في القبور مع الدود والذباب ؟
ألأنهم حاولوا أن يسألوا ويفكروا ؟\"ص48 ، عذاب السؤال والبحث عن الحقيقة لا ينتهي دائما ، المعاناة والشقاء من أجل الوصول الى نبع المعرفة ، لذا نجد الراوي يسأل دائما : ما النور ، ما الشجر ، ما الأرض ، أين البداية من النهاية ، وهل المهم معرفة الحياة ؟ أم الأهم منها أن نبقى أحياء ؟ أسئلة لا تنتهي ، ومع ذلك ليست هناك إجابات واضحة ، فيخلص الراوي الى هذه النتيجة المؤلمة –قصة في موت لا أعرف شعائره- \" شارفت الأربعين ، ولم أجد أجوبة على أسئلتي\"ص9 ، لا جواب عن أسئلة الراوي لأن الإجابات سيخرج منها أسئلة جديدة ، كما أن الفنان الحقيقي يرفض الطريق السهل والإجابات الجاهزة ، ولعل الكاتب والمفكر الألماني \"ليسنج\" كان محقا عندما قال \"لو أعطاني الله الحقيقة لرفضتها لأني أحب البحث عنها\" و روح الفنان تبغي الإنعتاق من سجن الحدود والقيود والعادات والقوانين ، فتسعى الى نور لا نهائي ، وقبل هذا العلو على الصغائر ، لذلك نجد الراوي الذي قرر في الصفحات الأولى من مجموعة \" في موت لا أعرف شعائره\" ، إنه شارف على الأربعين ولم يجد إجابات عن أسئلته ، نجده في الصفحة الأخيرة من نفس المجموعة يقول إنه سيتفرغ للحقيقة والطبيعة ، الأولى يبحث عنها ، والثانية يسرح فيها ...
فكرة الموت محور ظاهري في قصص مفلح العدوان ، ثيمة واضحة منذ بداية مشواره . فمجموعة ( الرحى ، دار أزمنة ، الأردن 1994 ) بها أكثر من قصة عن الموت : لعازر ، حين بكى الملح ، التابوت ، معراج باتجاه اسرافيل . كذلك مجموعة ( موت عزرائيل ، المؤسسة العربية لدراسات والنشر ، بيروت 2000) بها أكثر من قصة عن
الموت : موت عزرائيل ، العكاز ، القزم . وأيضا مجموعة (في موت لا أعرف شعائره ، دار ميريت 2004 ، القاهرة ) قصصها تعتمد على فكرة الموت : في موت لا أعرف شعائره ، تناسخ ، مزمار تموز . كما لا تخلو معظم القصص في المجموعات الثلاث من كلمات الموت ومفرداته : القبر ، القبور ، غياهب القبور ، الكفن ، توابيت الجنائز ، شواهد ، الدود ، القتل ، قبض الروح ، إلخ ، .
حتى أن الراوي في قصص \"مزمار تموز\" من مجموعة ( في موت لا أعرف شعائره ) يتساءل مندهشا \" الموتى ، كيف لا يلحظهم أحد وهم في المدينة \" ص64 ، وقصة \"موت عزرائيل\" من المجموعة التي تحمل نفس العنوان .يموت عزرائيل الذي قبض أرواح كل البشر والملائكة ، وفي آخر شهقات الموت قال :\" آه لو كنت أدري أن هكذا كان عذابهم ما كنت فعلت\" ص52. وهناك قصص تبتعد قليلا عن الموت ، لكنها توحي به ، وتصب جميعها في صلب فكرة الموت .لكن لماذا تسلل الموت وطقوسه وظلماته ومشاكسته الدءوبة للراوي وصراعه المستمر معه في معظم
القصص؟والإجابة ، ولم لا ؟ أليس الموت إحدى الكوارث الكبرى المؤرقة للإنسان ؟ إنه الربان الأعمى الذي يقود دفة النهاية . من ثم ينبغي استكناه ماهيته ، والتسلل الى قلعته الحصينة ، فقد أوصانا البروفيسير في مسرحية( \"الطريق\" للكاتب النيجيري \"سونيكا\" ) على معرفة الموت لنقهر الخوف منه بالمعرفة ، ونصحنا من قبله الفيلسوف الرواقي \"سنيكا\" بأن المرء يتعين عليه أن يفكر فيه دوما ، فالذي لا يعرف الموت لا يعرف الحياة . كشف سر الموت يشد من أزرنا لمواجهته ، ومواجهة الحياة . وقبل هذا ، وذاك ، فمنطقتنا العربية ، والأفريقية ، لها تراث ضخم عن الموت ، وطقوسه ، وحكاياته ، ويحضرني الآن بعض أسماء كتب دارت حول الموت : \"التوهم\" للحارث المحاسبي ، \"التذكرة في أحوال الموتى\" للقرطبي ، معراج البسطامي ، و\"منامات الوهراني\" ، وغيرها كثير .
أنتقل الى ملمح ثان من ملامح قصص مفلح العدوان ، وأعني \"الماء\" أي الحياة . الماء يعني الحياة ، والحياة نقيض الموت . لكن الموت والحياة مشتبكان في أعمال الكاتب . لا يخفى أن أساطير التكوين في المنطقة ، وكما قال \"فراس السواح\" تنتمي الى زمرة أساطير الميلاد المائي . فالحالة السابقة تنتمي الى زمرة أساطيرنا التكوينية ، هي حالة من العماء المائي . يقول الراوي في قصة \"في موت لا أعرف شعائره\" من المجموعة التي بنفس العنوان\"عادت الظلمة..أحسست ببدائيتي وانحطاطي ، أمام قتامة العماء الأول ، حين لم تكن الأرض أرضا ، ولا السماء سماء \"ص21 ، ويبذر الكاتب في قصصه كلمات مثل : ذاكرة الماء ، ومعنى الماء ، والصلاة للماء ، والتعميد بالماء . فالماء \"ميلاد الحياة ، عرش السماء وميثاق الأرض\"(ص57،58 قصة واكتمل النصاب ، مجموعة موت عزرائيل ) . وفي نفس المجموعة ، موت عزرائيل ، يتساءل الراوي \"هل كان العرش قبل الماء؟أم قبل الماء جاء؟ما الماء؟\"ص35 .
في قصص مفلح العدوان نجد تمجيدا لقوى الماء ، فالماء يولد كل مظاهر الحياة ، كما يعني الغرق والنجاة في آن ،قصة\"واكتمل النصاب\" ، الماء الجسر الذي يربط الحي بالميت، رمز الحيوية والحياة الأبدية ، الموت في طقوسنا كما في القصص يرمز للطهارة والولادة والانبعاث ، وفي دلالة من دلالات الماء في القصص ، ألا يشير ولع الكاتب به واستحضاره بقوة في قصصه الى المكان الذي يعيش فيه-الأردن- وما يعانيه من ندرة الماء والتقارير التي تخبرنا عن قرب جفاف ذلك البلد في غضون سنوات ، إضافة الى ما تنقله لنا وكالات الأنباء وتصريحات وتحليلات المفكرين والسياسيين من أن الحروب القادمة ستكون حروبا مائية .
التراث ملمح ثالث في قصص مفلح العدوان ، ولعل من المستباح في كل زمان شرعية الكاتب في اللعب مع تراثه ، بالاقتباس مرة وبالتضمين مرات، بالمحاكاة ، أو الاستلهام، والتمثل ، وهما معا سدرة المنتهى ، فلا شيء بعد ذلك سوى النفي أو التجاوز ، وهما مضمرات في فعل الاستلهام والتمثل ، وبدون تحريك وتوظيف للتراث يصبح مع الوقت عقبة ، وبالتالي يصاب بالثبات والجمود ، تلك قناعتي الشخصية .
لكن ما مسوّغ هذه الصولة يا ترى ، وما مدى علاقتها بقصص مفلح العدوان ؟ بعد قراءتي لقصصه أدركت مدى إفادته من التراث سواء تراثنا خاصة ، أو التراث الإنساني عامة ، فهو بداية وظف واستلهم ما في الكتاب المقدس ، والأناجيل ، وأيضا القرآن الكريم ، ثم أساطير المنطقة وخصوصا أساطير التكوين ، والطوفان ، والفردوس المفقود ، والموت ، والقتل ..الخ . وهناك أسماء كان ولا يزال لها حضور قوي في ذاكرتنا التاريخية ، والمقدسة جاءت في سياق القصص : آدم وحواء ، قابيل وهابيل ، المسيح ، لعازر ، شعيب ، عمر ، أبو لهب ، الملائكة الأربعة إسرافيل ، جبرائيل ، عزرائيل ، ميكائيل ، ويحيى وزكريا ..الخ .
ليس هذا وحسب ، بل الجمل والفقرات خفرت بأسماء وأحداث تراثية ، وعلى سبيل المثال ، القصة الأولى من المجموعة \"الرحى\" حُملت فقراتها وعباراتها بعديد من الأحداث والأسماء التاريخية: ..\"حاورهم وهو في المهد\"ص10 ..\"خذوا ..هذا دمي فاشربوه\"ص25 ..\"لبيك لا شريك لك في القرى..لبيك\"ص37 . وفي قصة \"لعازر\" نقرأ هذه العبارة ؛\"لبثنا يوما أو بعض يوم \"ص25 ، وفي قصة \"أبناء شعيب\" نقرأ هذه
الفقرة ؛\"واخترقت حربة جساس ظهره\"ص52 ، و\"كما العنكب حين نسج خيوطه على بوابة لعازر\"ص61 ، و\"حين ألقوا على وجهه قميصه في المرة الثانية\"ص64 من قصة \"الصواع\".
ومجموعة \"موت عزرائيل\" تشتبك بعمق مع التراث ، كذلك مجموعة \"في موت لا أعرف شعائره\" نجد تضفير الجمل برموز مقدسة ، \"يحمل مزماره ، ويهش بموسيقاه على غنمه\"ص57 ، وتوظيف التراث في قصص مفلح العدوان يقودنا الى التكنيك في القصص ، وأول ما يلفت نظر القارىء تلك اللغة المسبوكة جيدا والمحملة برموز تراثية كما ذكرت ، وأيضا دربة في السرد ، وتجويد في الحوار ، أو الحوارات التي لعبت دورا كبيرا وأخذت مساحة لا بأس بها في القصص ، ويمكنني القول أن بعض القصص يمكن أن نطلق عليها قصصا ممسرحة، اعتمدت على كثرة الحوارات والشخصيات وزيادة النبرة الدرامية . مجموعة \"موت عزرائيل\" نموذج ، كذلك اعتمد الكاتب الإيقاع من خلال التكرار ، وتوزيع الكلمات على هيئة حروف كما في كتابات المتصوفة .
قصة\"جذاذات\"، مجموعة \"موت عزرائيل\" ، وأيضا هناك الخيوط المشتركة التي تربط القصص بعضها البعض ، كذلك يمكن ذكر أن العالم القصصي عند الكاتب يأخذ مفرداته ، ومرتكزاته من التراث من أجل أن ينسج عالما يحلق في أفق الأسطورة ، كما أن ملامح الجمال في هذا العالم تتجلى في نظامه وانسجامه الداخلي ، وهذا العالم أطر بلونين هما الأبيض والأسود ، تحركت داخلهما الأحداث ، وخيوط السرد ، وقد استبدل الكاتب بالأبيض والأسود ، الظل والنور في بعض القصص ، وتساءل الراوي في قصة \"القزم\" ، مجموعة \"موت عزرائيل\" ، من تآمر عليّ ، نوري أم ظلي ؟ص99.
هل الظل كان بمثابة الحاجز أو السياج أو البوابة الشائكة التي حالت بين الراوي وبين النور ذلك الدافىء الحنون ؟ على أية حال ، لقد استخدمهما مفلح العدوان بمهارة واتزان وأظهر من خلالهما حيرة الراوي في بحثه عن الحقيقة ، تلك الحقيقة التي سعى الراوي خلفها منذ أول قصة في مجموعة \"الرحى\" ، في قصة \"إنه الجوع يا معلم\"-الرحى- يقول الراوي \"إن الحفرة تتسع . تزداد عمقا كأنهم يريدون أن يدفنوا كل شىء يخصه : كراساته ، أفكاره ، تفاؤله ، بحثه عن الحقيقة ، وأمله في التغيير\"ص82. بحث الإنسان عن الحقيقة ارتبط بالأرض ، آدم عندما كان في الجنة وحاول أن يعرف نزل الى الأرض ، أو هذا كان عقابه ، ويسأل عزرائيل ، ويتعجب في نفس الوقت –قصة \"موت عزرائيل\"-\"وماذا أذنبوا لينتهوا ، ويزجّوا في القبور مع الدود والذباب ؟
ألأنهم حاولوا أن يسألوا ويفكروا ؟\"ص48 ، عذاب السؤال والبحث عن الحقيقة لا ينتهي دائما ، المعاناة والشقاء من أجل الوصول الى نبع المعرفة ، لذا نجد الراوي يسأل دائما : ما النور ، ما الشجر ، ما الأرض ، أين البداية من النهاية ، وهل المهم معرفة الحياة ؟ أم الأهم منها أن نبقى أحياء ؟ أسئلة لا تنتهي ، ومع ذلك ليست هناك إجابات واضحة ، فيخلص الراوي الى هذه النتيجة المؤلمة –قصة في موت لا أعرف شعائره- \" شارفت الأربعين ، ولم أجد أجوبة على أسئلتي\"ص9 ، لا جواب عن أسئلة الراوي لأن الإجابات سيخرج منها أسئلة جديدة ، كما أن الفنان الحقيقي يرفض الطريق السهل والإجابات الجاهزة ، ولعل الكاتب والمفكر الألماني \"ليسنج\" كان محقا عندما قال \"لو أعطاني الله الحقيقة لرفضتها لأني أحب البحث عنها\" و روح الفنان تبغي الإنعتاق من سجن الحدود والقيود والعادات والقوانين ، فتسعى الى نور لا نهائي ، وقبل هذا العلو على الصغائر ، لذلك نجد الراوي الذي قرر في الصفحات الأولى من مجموعة \" في موت لا أعرف شعائره\" ، إنه شارف على الأربعين ولم يجد إجابات عن أسئلته ، نجده في الصفحة الأخيرة من نفس المجموعة يقول إنه سيتفرغ للحقيقة والطبيعة ، الأولى يبحث عنها ، والثانية يسرح فيها ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق