مرتديًا الزي العسكري وجالساً على كرسي القطار ينظر من شباكه المحطم إلا من بعض الأخشاب والتي تطل على استحياء كأثر لشباك قديم، يتذكر ما مر به من أحداث طوال تلك الفترة التي قضاها في التجنيد، ويتذكر اشتياقه لأهله وأصدقائه.
"العمدة" كما كان يطلق عليه كلقب وليس وظيفة كان رجلاً جميل الوجه ذا عيون واسعة وشارب جميل مفتول العضلات أقني الأنف طويل القامة، دقيق القسمات،
وكان دائماً نزيهًا ويحب الملابس الجميلة الواسعة والتي هي عبارة عن جلباب بلدي والاحذية الغالية، وكان يعشق الذهاب للأفراح والطبل البلدي والرقص بالعصا وكانت الأفراح في هذا الوقت لا يذهب إليها إلا الأغنياء فقط.
عرض عليه كبار القرية الزواج من بناتهم لكن أختار ابنة عم له، وتزوجها وأنجب منها بنتًا مثل القمر سماها "نجاة" حيث كانت توجد مطربة مشهورة بهذا الاسم، ثم بفعل أعمال السحر شبت المشاكل بينه وبين زوجته كما تشب النار في الهشيم بعيد عن أعين الناس، وماتت "نجاة" فأنفصل عن هذه السيدة، وظل بدون زواج وقتًا طويلًا يتعدى العامين.
وفي إحدى سهراته عرض عليه صديق من قرية مجاورة الزواج من فتاة جميلة وصغيرة في السن، وتحت الحاجة للاستقرار وحتى يبتعد عن ضغط والديه للزواج بأخرى وافق على هذا الزواج.
ولسبب ما يتعلق بالعصبية للعائلة وبناتها لم يوافق والده على هذه الزيجة فطرده من البيت حيث الاراضي الزراعية الواسعة والاموال الكثيرة، بعدما تزوج من هذه الفتاة، بدأ رحلة الاعتماد على النفس بالسفر للعمل في القاهرة والاسكندرية في كار المعمار والبناء والحفر.
وكان لم يذهب للجيش لاعتقاد سائد في هذا الوقت أن من يذهب للجيش لا يرجع، فقبض عليه في احدى المرات لأنه لم يؤد الخدمة العسكرية، وتدرب في مركز الاستقبال فالتحق بأحد أسلحة الجيش علي قناة السويس، ثم نزل في أجازه للسلام على أهله بعد ثلاثة شهور من التدريب في الجندية.
وصل إلى المنزل في الظهيرة واستقبله أهله بالأفراح وزوجته؛ حيث ذهبت في تلك الفترة للمعيشة بدار والديه كنوع من العادات والتقاليد والحماية حتى إذا رحلت الشمس انطلق إلى القرية حيث أصدقاء الصبا، ووصل إلي حيث يلتقي بهم.
حمد الله على السلامة، الجيش خدك مننا، والله لك وحشه ولجلساتك الحلوة وأحاجيك الجميلة، تفضل أجلس.
وأنتم والله، أنا أتشوق للجلوس معكم، ولأجل كدا بمجرد وصولي والانتهاء من السلام على أهلي جئت إليكم، وأتشوق لسماع الجديد في القرية.
وهو منهمك في إعداد الشاي على نار الخطب وبقايا الأخشاب رد عليه صاحب المقهى
"القرية كما هي لم يتغير منها شيء حتى لو ابتعدت عنها 100سنة".
وهذا ما حدث له على لسان "العمدة"، واستمر السامر...
" تأخرت بالقرية إلي الساعات الأولى من الصباح، كنا ندخن السجائر اللف ونشرب الشاي المغلي ونتحدث أحاديث شتى عن القرية والعفاريت في قهوة صغيرة مضاءة بلمبة كيروسين وهذا قبل دخول الكهرباء إلي قريتنا النائية في أقصي صعيد مصر، وكنت قد تجندت بالجيش وهذه أول أجازة لي، فقضيت هذا اليوم مع الأصدقاء من أهل بلدتنا، وعند منتصف الليل أخذ الاصدقاء بالاستئذان واحدًا تلو الآخر، حتي لم يبقى غيري وصاحب القهوة الرجل العجوز أحمر الوجه، فأعطاني سيجارة محشوة بالحشيش كنوع من الضيافة والاعتزاز بي، وما إن انتهيت من تدخينها حتى بادرني بالقول هيا بنا لقد تأخر الوقت.
كان سكني يبعد عن القرية بضع كيلو مترات وسط الحقول، وكان الطريق من القرية إلى بيتي لا يزيد اتساعه عن المتر محاط بعيدان الذرة من الجهتين كثعبان من كثرة التواءاته يكاد لا يظهر حيث عيدان الذرة تتمايل وتهتز مع نسمات الفجر وتقترب رؤوسها من بعض كأنها تتهامس.
سكون لا يقطعه سوى همسات عيدان الذرة وترحيبها بنسمات الهواء، في منتصف الطريق وجدت أمامي حمامة بيضاء تسير أمامي بلا خوف مني، لماذا لا أصطادها وتكون وجبة عشاء لذيذة يكسر فقر هذا الزمان من ستينات القرن الماضي، كلما أُهمّ بضربها بالعصا التي معي لا تصيبها، ثم تركت الطريق الضيق إلي حيث مزارع الذرة، قلت:
"لن أتركك حتى أصطادك ونسيت كل ما حولي ونسيت الليل الذي يلملم ذيله مهرولاً لعالم أخر، فلم أعد أفكر إلا بها، حتى وصلنا أسفل مجموعة من أشجار النخيل حيث يزيد علي ظلام الليل ظلام ظلها الذي يخفي النجوم نظرت إليها فوجدتها تحولت إلى فتاة غاية في الروعة والحسن ذات ابتسامة خلابة تشير لي بالاقتراب، وقبل أن أبادر بالذهاب إليها تذكرت كلام الصحاب على المقهى الريفي البسيط عن الجِنّية التي تخرج للناس وتغويهم حتى يقتربوا منها فيصابوا بالجنون أو يختفوا"
هرولت بأقصى ما لدي من قوة في اتجاه منزلي تضربني عيدان الذرة وأضربها إلى أن وصلت إلى باب منزلي والتقطت أنفاسي، وقلت لنفسي لابد أن تهدأ، كيف تحكي لهم بالنهار عن شجاعتك العسكرية وتفتخر بشاربك رمز القوة والرجولة وتخاف من عفريت، أجل هذا لا يصح، عدلت من ملابسي وهندامي وطرقت الباب مع صوت كحة عال مصطنع، وجاءني صوتها من داخل الكوخ الذي يطلق عليه مجازاً بيت:
أيوة. حمد الله على السلامة، العشاء جاهز، لقد أرسل لنا والدك زوجاً من الحمام فطهوته وانتظرتك.
كيف حالك؟ لقد تأخرت في القرية لعلك...
فقاطعتني مبتسمة:
"نعم أعلم، إنك لا تحب المكوث في الدار كثيراً، وتعشق الحرية كالطير"
فابتسمت مغمغماً بصوت هامس "ما أحلاها لولا أني أخاف الجنون".
"العمدة" كما كان يطلق عليه كلقب وليس وظيفة كان رجلاً جميل الوجه ذا عيون واسعة وشارب جميل مفتول العضلات أقني الأنف طويل القامة، دقيق القسمات،
وكان دائماً نزيهًا ويحب الملابس الجميلة الواسعة والتي هي عبارة عن جلباب بلدي والاحذية الغالية، وكان يعشق الذهاب للأفراح والطبل البلدي والرقص بالعصا وكانت الأفراح في هذا الوقت لا يذهب إليها إلا الأغنياء فقط.
عرض عليه كبار القرية الزواج من بناتهم لكن أختار ابنة عم له، وتزوجها وأنجب منها بنتًا مثل القمر سماها "نجاة" حيث كانت توجد مطربة مشهورة بهذا الاسم، ثم بفعل أعمال السحر شبت المشاكل بينه وبين زوجته كما تشب النار في الهشيم بعيد عن أعين الناس، وماتت "نجاة" فأنفصل عن هذه السيدة، وظل بدون زواج وقتًا طويلًا يتعدى العامين.
وفي إحدى سهراته عرض عليه صديق من قرية مجاورة الزواج من فتاة جميلة وصغيرة في السن، وتحت الحاجة للاستقرار وحتى يبتعد عن ضغط والديه للزواج بأخرى وافق على هذا الزواج.
ولسبب ما يتعلق بالعصبية للعائلة وبناتها لم يوافق والده على هذه الزيجة فطرده من البيت حيث الاراضي الزراعية الواسعة والاموال الكثيرة، بعدما تزوج من هذه الفتاة، بدأ رحلة الاعتماد على النفس بالسفر للعمل في القاهرة والاسكندرية في كار المعمار والبناء والحفر.
وكان لم يذهب للجيش لاعتقاد سائد في هذا الوقت أن من يذهب للجيش لا يرجع، فقبض عليه في احدى المرات لأنه لم يؤد الخدمة العسكرية، وتدرب في مركز الاستقبال فالتحق بأحد أسلحة الجيش علي قناة السويس، ثم نزل في أجازه للسلام على أهله بعد ثلاثة شهور من التدريب في الجندية.
وصل إلى المنزل في الظهيرة واستقبله أهله بالأفراح وزوجته؛ حيث ذهبت في تلك الفترة للمعيشة بدار والديه كنوع من العادات والتقاليد والحماية حتى إذا رحلت الشمس انطلق إلى القرية حيث أصدقاء الصبا، ووصل إلي حيث يلتقي بهم.
حمد الله على السلامة، الجيش خدك مننا، والله لك وحشه ولجلساتك الحلوة وأحاجيك الجميلة، تفضل أجلس.
وأنتم والله، أنا أتشوق للجلوس معكم، ولأجل كدا بمجرد وصولي والانتهاء من السلام على أهلي جئت إليكم، وأتشوق لسماع الجديد في القرية.
وهو منهمك في إعداد الشاي على نار الخطب وبقايا الأخشاب رد عليه صاحب المقهى
"القرية كما هي لم يتغير منها شيء حتى لو ابتعدت عنها 100سنة".
وهذا ما حدث له على لسان "العمدة"، واستمر السامر...
" تأخرت بالقرية إلي الساعات الأولى من الصباح، كنا ندخن السجائر اللف ونشرب الشاي المغلي ونتحدث أحاديث شتى عن القرية والعفاريت في قهوة صغيرة مضاءة بلمبة كيروسين وهذا قبل دخول الكهرباء إلي قريتنا النائية في أقصي صعيد مصر، وكنت قد تجندت بالجيش وهذه أول أجازة لي، فقضيت هذا اليوم مع الأصدقاء من أهل بلدتنا، وعند منتصف الليل أخذ الاصدقاء بالاستئذان واحدًا تلو الآخر، حتي لم يبقى غيري وصاحب القهوة الرجل العجوز أحمر الوجه، فأعطاني سيجارة محشوة بالحشيش كنوع من الضيافة والاعتزاز بي، وما إن انتهيت من تدخينها حتى بادرني بالقول هيا بنا لقد تأخر الوقت.
كان سكني يبعد عن القرية بضع كيلو مترات وسط الحقول، وكان الطريق من القرية إلى بيتي لا يزيد اتساعه عن المتر محاط بعيدان الذرة من الجهتين كثعبان من كثرة التواءاته يكاد لا يظهر حيث عيدان الذرة تتمايل وتهتز مع نسمات الفجر وتقترب رؤوسها من بعض كأنها تتهامس.
سكون لا يقطعه سوى همسات عيدان الذرة وترحيبها بنسمات الهواء، في منتصف الطريق وجدت أمامي حمامة بيضاء تسير أمامي بلا خوف مني، لماذا لا أصطادها وتكون وجبة عشاء لذيذة يكسر فقر هذا الزمان من ستينات القرن الماضي، كلما أُهمّ بضربها بالعصا التي معي لا تصيبها، ثم تركت الطريق الضيق إلي حيث مزارع الذرة، قلت:
"لن أتركك حتى أصطادك ونسيت كل ما حولي ونسيت الليل الذي يلملم ذيله مهرولاً لعالم أخر، فلم أعد أفكر إلا بها، حتى وصلنا أسفل مجموعة من أشجار النخيل حيث يزيد علي ظلام الليل ظلام ظلها الذي يخفي النجوم نظرت إليها فوجدتها تحولت إلى فتاة غاية في الروعة والحسن ذات ابتسامة خلابة تشير لي بالاقتراب، وقبل أن أبادر بالذهاب إليها تذكرت كلام الصحاب على المقهى الريفي البسيط عن الجِنّية التي تخرج للناس وتغويهم حتى يقتربوا منها فيصابوا بالجنون أو يختفوا"
هرولت بأقصى ما لدي من قوة في اتجاه منزلي تضربني عيدان الذرة وأضربها إلى أن وصلت إلى باب منزلي والتقطت أنفاسي، وقلت لنفسي لابد أن تهدأ، كيف تحكي لهم بالنهار عن شجاعتك العسكرية وتفتخر بشاربك رمز القوة والرجولة وتخاف من عفريت، أجل هذا لا يصح، عدلت من ملابسي وهندامي وطرقت الباب مع صوت كحة عال مصطنع، وجاءني صوتها من داخل الكوخ الذي يطلق عليه مجازاً بيت:
أيوة. حمد الله على السلامة، العشاء جاهز، لقد أرسل لنا والدك زوجاً من الحمام فطهوته وانتظرتك.
كيف حالك؟ لقد تأخرت في القرية لعلك...
فقاطعتني مبتسمة:
"نعم أعلم، إنك لا تحب المكوث في الدار كثيراً، وتعشق الحرية كالطير"
فابتسمت مغمغماً بصوت هامس "ما أحلاها لولا أني أخاف الجنون".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق