1
قصة الأعوام الخمسة ...
2
مقطع الزّاغ ...
___________
أمن المعقول أن أكون قد تراجعت ؟! ، منذ سنوات وأنا أتأنّى وأدرس هذه القصة بنت الخمس سنوات .
منذ ذلك الحين ، كنت في نظر الكثيرين
أفضل قاص في البلد ، وكان الجميع يتوقّع
لي مستقبلاً عظيماً ، وكان يرحّب بي أينما
حللت ، ويتهافت عليّ المهتمّون بالأدب .
ويوم منحت الجائزة الأولى في مسابقة القصة ، قررت أن أعتكف في غرفتي ، يجبُ
عليّ أن أخطط لمستقبل عظيم ، أن أكون القاص الأوّل في بلدي هذا ليس كلّ شيء ..
حلمي أن أكون أعظم كاتب في العالم .
سأمتنع عن مقابلة الأصدقاء والمعارف ،
سأكفّ عن المشاركة في المهرجانات والنشر،
كلّ هذا مضيعة للوقت ، سأستثمر وقتي .. أغيب عن الأنظار مدّة ثمّ أفاجئ العالم بعمل
عظيم يكون خطوة باتّجاه العالمية .
سأتوقّف أيضاً عن الكتابة ريثما أطّلع وبعمق على الآثار الأدبية العظيمة ، عربيّة وعالميّة ، فإذا كنت - ولم أقرأ بعد أكثر من
خمسمائة كتاب - في مستوى مدهش ، فماذا
سيحدث إن قرأت آلاف الكتب ؟ .. حينها تتضافر الموهبة العظيمة التي أملكها مع الثقافة العميقة الواسعة ، لتكوّنا الشّيء الرّائع الذي أحلم به .
من أجل كلّ ماذكرت ، انقطعتُ عن العالم ، وانكببتُ في غرفتي الصّغيرة على
القراءة ليلاً ونهاراً ، التهمتُ كلّ كتبي ، واندفعتُ إلى المكتبة الوطنيّة ، والمركز الثّقافي .
وطرق الأصدقاء بابي مرّات عديدة ، لكنّني لم أفتح ، وحين ملّوا لم يعكّر صفو
وحدتي أيّ واحد منهم .
وزّعتُ وقتي على هذا النّحو : أستيقظ صباحاً لأذهب إلى وظيفتي ، ولكوني أعمل موظّفاً إدارياً لم يسند إليه أيّ عمل ، أخذتُ أقرأ الجّرائد والمجلّات الأدبية هناك ، وحين
أعود إلى غرفتي ، أتناول طعامي وأنا أقرأ ،
أجلس إلى طاولتي المهترئة ، أحتسي الشّاي
وأنا غارق في المطالعة لساعات عديدة متواصلة ، ثمّ أنهض إلى سريري المنهك .. وأنام ساعتين ، وأعاود الأكل وشرب الشّاي
مع القراءة ، ثمّ أعود إلى النّوم حتّى الصّباح.
كانت فكرة الكتابة تراودني ، فأردع نفسي وأطوي رغبتي وأقول :
- أنا الآن في مرحلة التّخزين ، وقريباً ستأتي
لحظة الإبداع الرّائعة ، ولذلك لن أستنزف قريحتي ، سأرتوي من الأدب العظيم لأكتب
أعظم منه ، لن أسمح لفكرة الكتابة أن تسيطر عليَّ ، أنا صائم عن الكتابة ، وهو صوم ضروري وصحّي ، ولن أضعف أمام
شيطان الإبداع .
رميتُ بالقلم في سلّة المهملات ، وقررتُ
ألّا أدخل إلى غرفتي قلماً .. وفي الوظيفة
سأترك القلم في درج المكتب .
كنتُ أطّلع أحياناً على مايكتبه النّقاد عن
قصصي السّابقة في الجّرائد والمجلّات ، فأضحك في سرّي :
- إنّهم لم ينسوني .. ولكن ماذا سيفعلون حين سيقرؤن قصصي العظيمة غداً ؟ .
لم أمتنع عن الكتابة فحسب ، بل امتنعت
عن الحبّ أيضاً ، أليس الحبّ مضيعة للوقت ؟.. لم أعد أمنح ( رهام ) زميلتي في
الوظيفة ، أيّ فرصة للكلام ، حتى لا تعطّلني
عن قراءة الصّحف والمجلات وحين سألتني
مستفسرة ، نهرتها .. وحين أصرّت على توضيح موقفي منها ، أجبتها بصراحة تامة:
- آنسة( رهام ).. كلّ مافي الأمر أنّني أعتذر عن تضيعة الوقت معك في ثرثرة لا طائل
وراءها .
وكبتُّ كلّ شعور بالتّعاطف معها ، حين
رأيت وجهها يمتقع ويشحب ، وطلائع الدّموع تسيل على خدّيها .
وبعد أيام انتقلت إلى الغرفة المجاورة ،
ولم تلبث أن أعلنت خطبتها على الأستاذ ( عامر ) شريكها في الغرفة .. ومع أنّ قلبي
بكى ، إلّا أنّني أقنعت نفسي بأنّ مافعلتهُ كان
خيراً لي .
كلّ هذا في سبيل الهدف النّبيل ، الذي
أقدمُ عليه .. غداً حين أصبح أكبر كاتب في
العالم ، سوف يتهافت عليّ النّسوة ، حينها
سأختار فتاة أوربّية ، شقراء بعيون خضر
وقوام رشيق .
كلّ ما أخشاه الآن سوء التّرجمة ، المترجم
السّيء يقتل أعظم النّصوص ، يجب أن لا أسمح لكلّ من هبَّ ودبَّ بترجمة أعمالي .
قرأت كلّ شيء صدر من قصّة ورواية
في الأدب العربي ، إلى جانب الدّراسات النّقديّة ، واطّلعتُ على أهم المنجزات العالمية في القصّة والرّواية والنّقد .
ولم يبقَ أمامي سوى الكتب التي تصدر
حديثاً ، ولذا سأرجئ التّفكير في الكتابة ريثما أنتهي من الإطّلاع على ما يصدر هذه
الأيام .
تمنيّتُ أن تتوقّف المطابع عن إصدار الكتب
الجّديدة ، حتى أستريح وأكتب قصّة واحدة
على الأقل ، كم ستكون القصّة عظيمة بعد هذا الإنقطاع الطّويل .
سأرغم جميع نقّاد العالم على الإعتراف
بي كأعظم كاتب ، ويجب أن بتوّج هذا الاعتراف ، بمنحي جائزة ( نوبل ) في نفس
العام .
فكرة القصّة جاهزة في ذهني منذ سنوات
، وأنا كلّ يوم أؤجّل كتابتها وأقول :
- انتطر .. ريثما تقرأ هذه الرّواية العظيمة ، وكتابتكَ للقصّة بعد قراءتها أفضل .
هكذا .. في كلّ يوم ، أقنع نفسي بالانتظار
، ريثما أنتهي من رواية أو مجموعة قصصيّة
أو كتاب نقدي ، لعلّ،قصّتي تكون أرقى بعد
قراءة هذه الأعمال ، وأقرأ من هنا ومن هناك
، في المسرح والشّعر والملحمة ، فكلّ شيء
يفيد .
وفي ذات يوم .. تنبّهتُ على حقيقةٍ أفزعتني ، فلم تعد الرّغبة في الكتابة تلسع
أعماقي ، إنّ الجّمرة خبت ، بل انطفأت ، أسرعتُ ، واشتريتُ قلماً ودفتراً ، وقرّرتُ
إخراج القصّة التي حبستها طويلاً من سجنها ، إنّها قصّة الأعوام الخمسة .. وخلال
خمس ساعات فرغت من كتابتها ، شعرتُ
بغبطةٍ لا توصف ، لا شكّ،أنّها قصّة عظيمة وخالدة .
تذكّرتُ أصدقائي ، اشتقتُ إلى جلساتهم
الدّافئة ، بودّي أن أصفعهم بقصّتي هذه ، وعندما اجتمعنا والتمّ شملنا ، اغتنمتُ الفرّصة وقرأت قصّتي .
وكم كانت خيبتي مريرة ، حين اتّفقوا
جميعاً على أنّ مستوايّ قد تراجع عمّا كتبته،
منذ خمس سنوات .. أردتُ أن أصرخَ في
وجوههم المقرفة :
- أنتم جهلة .. قصّتي عظيمة .. إنّها تضاهي
أعظم مافي الأدب العالمي ، لقد كتبتها بعد
أن هضمتُ آلاف الكتب ، فأين ذهبت خبرتي
وثقافتي ، أين ذهب لقبي كأفضل كاتب في
بلدي ؟؟!!.
مصطفى الحاج حسين .
ــــــــــــــــــ
2
مقطع الزّاغ ...
كان " سامح " يتقدمنا بعدة أمتار ، حين بدأنا ندخل متسللين إلى" مقطع الزَّاغ " ،
ومنذ أن خطونا إليه ، تسرّبت إلى أجسادنا
برودة عفنة ، فشعرنا بالرّاحة والنّشوة ، لأنّ حرارة الجّو في الخارج كانت خانقة .
اجتزنا الطّريق الضّيقة المتعرّجة مبتهجينَ ، ولكنّ إحساساً داخلياً بالانقباضِ والوحشةِ أخذ يراودنا .
قبعت الظّلمة في المكان ، غير أنّ الجّدران الحوّارية البيضاء خفّفت منها فبدا
المكان أشبه بكهفٍ مسحور .
صاح 'عثمان " :
- انتبهوا من الجنّ والعفاريت .
وتردّد صوته مختلطاً بقهقهات"سعيد الجّدع"
، الذي ظهر من خلال ضحكته شيء غير طبيعي ، يشير إلى خوفه وفزعه . وعندما سكتت الجّدران عن ترديد صدى الضّحكة ..
قال :
- أنا لا أخاف منها .. ففي رقبتي سلسال مكتوب عليه (( الله - محمد )) وهو يحميني من الشّياطين .
قلتُ معلقاً على كلامه ، وقد أخذ الممرّ الضّيق بالاتّساع والعتمة تتضاعف ، بينما الانحدار نحو الدّاخل يزداد حدّة :
- لكنّ سلسالكَ هذا لا يحميكَ من أرواح الأموات المنتشرة قبورهم على سفح الجّبل.
صرخ "عمر" وكان يمشي خلفنا :
- ياأولاد الحرام ، اتركونا من سيرة الأموات والجّن وإلّا سأرجع إلى الحارة .
البرودة تزداد قوّة وحلكة كلّما توغّلنا ،
لدرجة أنّنا شعرنا بقشعريرة البرد تسري في
عروقنا ، بينما كان الماء ينزُّ من السّقوف والجّدران مخرجاً خريراً منبعثاً من الأعماق
يتناهى إلى أسماعنا .
صاح "سامح" أبن عمّي فجأة ، بصوت مليءٍ بالدّهشة والفرح :
- يا جماعة .. أشمُّ رائحة نار .
فأسرعنا نهبط فرحين ، وحقيبة" سامح " المدّرسية كانت تتأرجح خلف ظهري ، فقد
كنتُ أحبّ دائماً حملها معي ، ليظنّ من يراني بأنّي طالب مدرسة .
زعق "عثمان" :
- رائع عندي سيكارتان " ناعورة " ولا أملك
شعلة .
وصلنا إلى ساحة مترامية الأطراف ، يبدو أنّها في القاع تماماً . فسرقت عيوننا نار متأججة يتحلّق حولها ثلاثة شبّان . إلى
جوارهم تناثرت زجاجات العرق .
انكمشنا في أماكننا جامدين ، بينما تتفرسنا أنظار الشّباب بدهشة وبهجة واضحتين .
قال أحدهم ، وكان يدعى" جمعة زقّان " ، بصوت خرجت بحة المشروب معه :
- تفضلوا ياحلوين .. تعالوا .. لا تخافوا ، لا
يوجد بيننا غريب .. كلنا أولاد حارة .
بقينا على وقفتنا خائفين ، ودقات قلوبنا تطرق صاخبة عنيفة .. إنّ " جمعة زقّان " هذا نعرفه تماماً ، ونعرف شلّته أيضاً
، فكلهم مجرمون ، يغتصبون الأولاد . وكثيراً
ما حذرني والدي منهم .
صاح الثاني ، واسمه " حمّود النّازل " ، وهو ذو يد مقطوعة :
- تعالوا .. دخنوا واشربوا العرق . وكرع جرعة من زجاجته ، ثمّ أردف قائلاً :
- "تقبروني ما أحلاكم " .
صرخ الثّالث ، وكان يدعى " لطوف النّابح "
، وكان له صوت يشبه نباح كلب ، يخرج من
تحت شفته المشرومة :
- هربتم من المدرسة يا عكاريت ، جئتم وألله
بعثكم لنا ، الحرارة متوتّرة معنا .
قال ذلك ونهض نحونا . صرخ أحدنا بفزع :
- اهربوا .. اهربوا قبل أن يمسكوا بنا .
انطلقنا راكضين صوب الخلف ، كان الانحدار صعباً هذه المرّة ، وليس من صالحنا
، وبدأت أقدامهم بدبيبها المرعب تضطرب خلفنا ، ونحن نلهث مذعورين، قلوبنا ترتجف
بشدّة لم نعهدها ، وأنفاسنا تضيق حتى كأنها
سوف تتفجر ، والحقائب خلف ظهورنا تزيد
من توترنا وخوفنا بتأرجحها ، مما جعلني أندم على حملها في هذه المرّة ، وخطر لي أن أرميها لإبن عمّي " سامح " ، لكن لا مجال الآن ، ونحن نهرب مذعورين .
انبعثت صرخة ذعر حارقة من خلفي . لقد سقط " سامح ' ابن عمي في أيديهم ، تفاقم الفزع فينا ، أسرعنا بكلّ ما نستطيع ،
صاعدين متوقعين أن تمتد يد غليظة الأصابع فتمسك بنا من ياقاتنا ، كنت الأخير
خلف رفاقي ، وكان صراخ " سامح " وعويله
المجنونان يدفعانني لبذل طاقتي النهائية في الصّعود .
أخيراً وصلنا إلى فوهة " المقطع " ، استدرنا للخلف ، كانت أصوات الأقدام قد انقطعت ولم نر أحداً . لقد عادوا ليفترسوا
" سامحاً " الذي لم نعد نسمع له أيّ صوت.
توقفنا على مسافة غير بعيدة ، وصدورنا تعلو وتهبط مسرعة كخوفنا ، وأجسادنا مغسولة بعرقنا الحارق ، كصوت
" سامح " حين أمسكوا به .
قال " عمر " يخاطبني بصوت متهدّج :
- " رضوان " .. عليك أن تخبر بيت عمّك حتى ينقذوا ابنهم .
قاطعه " عثمان " :
- ماذا ؟ .. إذا قمنا بتبليغهم يافهيم فسوف يعلم أهلنا بهربنا من المدرسة .
قلت وقد بدأ التّعب يزايلني :
- ليس أمامنا وسيلة لانقاذ " سامح " غير تبليغ عمّي ، وبسرعة قبل أن يقوموا باغتصابه .
ضحك " سعيد الجّدع " ( صياد الجرابيع )
وعلّق على كلامي :
- منذ اليوم صار لقب " سامح " ( مفعول به)
قهقه " عثمان " حتّى آلمته خاصرته ، وقال:
- لأوّل مرّة يهرب من المدرسة فيتعرّض للإغتصاب .. وتابع قهقهته .
صرخ " عمر " بانزعاج :
- أنتم حقراء .. أولاد كلب ، تضحكون بينما لا نعرف ماذا جرى " لسامح " .
تخيّلت " جمعة زقّان " صاحب الرأس الكبيرة ، والأنف الممطوط ، وهو يشمّر " كلابيته " وينزّل " شرواله " واضعاً سكينه فوق عنق " سامح " ، بينما يحاول أفراد العصابة جاهدين تثبيت " سامح " .
- أنا ذاهب لإبلاغ " عمّي قدّور " .
قال " عمر " وهو يتبوّل من الرّعبة :
- اذهب بعجلة .. أمّا نحن فسنبقى هنا لنراقب الوضع ، فربما يأخذوا " سامحاً " إلى
مكان آخر .
رميت حقيبة " سامح " من خلف ظهري
وانطلقت كالصاروخ ، منحدراً من قمة الجبل
نحو البلدة .
في غمرة هذه الأحداث ، وهذا الانفعال،
كانت تداهمني موجات من الفرح ، فأنا لا أحبّ " سامحاً " منذ وعيت الدّنيا بسبب امتيازه عنّي بدخوله المدرسة .
غير أنني سرعان ما كظمت فرحي هذا،
وعاودتني حالة الخوف والقلق ، " فسامح "
ابن عمّي قبل أيّ شيء آخر ، وقد هرب من
المدرسة لأوّل مرّة لارضائي بعد أن هدّدته بالزّعل فوافق . ثمّ ماذا سيكون موقفي من
أبي وعمّي " قدّور " إن أعترف " سامح " بأنّي سبب هروبه من المدرسة ؟ .
في الطّريق ، بينما كنت أركض بين الأزقة ، وعند المنعطف تماماً ، برز والدي " بشرواله " وسترته " الكاكية " المعهودة ، توقفت في مكاني ، تجمّدت أمام نظرته الصّارمة .
- هارب من الشّغل " يابندوق " ؟!.
حافظت على صمتي المبدّد بلهاثي ، ماذا أقول ؟..هل أخبره بما يحدث " لسامح"
، لم أكن أتوقّع رؤيته ، فلم أرتّب كذبة في ذهني تنطلي عليه .. وتأكّدت أنّه ترك عمله ليبحث عنّي .
- عاقل باابن " القحبة " ، تتظاهر بالمسكنة ،
والله لأريك نجوم الظّهر .
وهوت كفّه، ثقيلة خشنة ، صفعتني بقوة،
تطاير الشّرر من عينيّ ، ترنّحت ، سقطت ، ركلني ، جاءت ركلته على خاصرتي ، طارت
فردة " الصّرماية " الحمراء من قدمه ، نهضتُ ، فقذفني بها على رأسي .
- آخ يا " يوب " التّوبة . وحق المصحف ماعدت أهرب .
- امشِ إلى الدّار ياابن " الجحشة " بدّي ألعن
أبوك على أبو أمك .
سبقته بعدّة خطوات ، خائفاً من ضربة
مفاجئة ، ولهذا كنت ألتفت خلفي لأتأكّد من
بعد المسافة عنه ، بينما أتنشّق مخاطي المختلط بالدّم المتدفق من أنفي .
سبقني صراخي إلى الدّار ، ففتحت أختي" مريم " الباب ، واستقبلتني أمي بوجهها الشّاحب ، وعينيها الفزعتين ، فتعالى بكائي ،
وتضاعف تأوّهي :
- ياأمّي ... خاصرتي .
وقفت أمّي حائلاً بيني وبين أبي ، وقالت تسأله :
- خير إن شاء الله .. ماذا فعل " رضوان "
حتى تعاقبه ؟.
وأتاها صوته ليرعب " مريم " وتنكمش على نفسها :
- ابن " الصّرماية " هرب من الشّغل . قال ذلك وهو بالكاد يلتقط أنفاسه.
- يلعن " أبو الشغل " ستقتل الصبي ، الولد لا يحبّ صنعة العمارة .
صرخ أبي وقد زاده غضباً كلام أمي :
- كلامك هذا يشجّعه على الهرب ، عليَّ الحرام والطلاق بالثلاثة سأشتري له قيداً وجنزيراً .
توقفتُ عن البكاء برهة ، مددتُ رأسي من وراء أمي ، وقلت :
- أنا لا أريد أن أشتغل في العمارة . أرسلوني
لعند الخياط فلا أهرب .
هجم نحوي ، صوّب ركلة إلى مؤخرتي :
- عليّ الكفر لن أتركك تشتغل إلّا في العمارة ياكلب ، هذه صنعتي وستعمل بها .
ثمّ تابع قوله الصّارخ :
- تحرّك أمامي ألى الورشة .
صاحت أمي :
- ألا ترى دمه .. أتركه ليوم غد .
عدّل أبي " جمدانته " فوق رأسه وقال :
- أنا ذاهب للشغل ، وعندما أرجع سيكون لي
معك الحساب .
سحبتني أمي من يدي ، أدخلتني الغرفة الشّمالية ، أخذت تمسح دموعي ومخاطي الدّامي .. وهي تقول:
- ألم أنصحكَ بعدم الهرب ؟.
صحتُ بصوتٍ مخنوقٍ :
- أنا لا أطيق العمل في العمارة .. لماذا لم تدخلوني المدرسة مثل " سامح " ؟ .
لم أكد أذكر اسم " سامح " حتى قفزتُ من مكاني ، غير عابئ باندهاش أمي ونداءاتها هي وأختي " مريم " ، صرختُ وأنا
أجتاز عتبة الدّار :
- يجب أن أبلّغ عمّي " قدّور " لينقذ ابنه " سامح " .. لقد تأخرت .. لقد تأخرت .
مصطفى الحاج حسين .
حلب
قصة الأعوام الخمسة ...
2
مقطع الزّاغ ...
___________
أمن المعقول أن أكون قد تراجعت ؟! ، منذ سنوات وأنا أتأنّى وأدرس هذه القصة بنت الخمس سنوات .
منذ ذلك الحين ، كنت في نظر الكثيرين
أفضل قاص في البلد ، وكان الجميع يتوقّع
لي مستقبلاً عظيماً ، وكان يرحّب بي أينما
حللت ، ويتهافت عليّ المهتمّون بالأدب .
ويوم منحت الجائزة الأولى في مسابقة القصة ، قررت أن أعتكف في غرفتي ، يجبُ
عليّ أن أخطط لمستقبل عظيم ، أن أكون القاص الأوّل في بلدي هذا ليس كلّ شيء ..
حلمي أن أكون أعظم كاتب في العالم .
سأمتنع عن مقابلة الأصدقاء والمعارف ،
سأكفّ عن المشاركة في المهرجانات والنشر،
كلّ هذا مضيعة للوقت ، سأستثمر وقتي .. أغيب عن الأنظار مدّة ثمّ أفاجئ العالم بعمل
عظيم يكون خطوة باتّجاه العالمية .
سأتوقّف أيضاً عن الكتابة ريثما أطّلع وبعمق على الآثار الأدبية العظيمة ، عربيّة وعالميّة ، فإذا كنت - ولم أقرأ بعد أكثر من
خمسمائة كتاب - في مستوى مدهش ، فماذا
سيحدث إن قرأت آلاف الكتب ؟ .. حينها تتضافر الموهبة العظيمة التي أملكها مع الثقافة العميقة الواسعة ، لتكوّنا الشّيء الرّائع الذي أحلم به .
من أجل كلّ ماذكرت ، انقطعتُ عن العالم ، وانكببتُ في غرفتي الصّغيرة على
القراءة ليلاً ونهاراً ، التهمتُ كلّ كتبي ، واندفعتُ إلى المكتبة الوطنيّة ، والمركز الثّقافي .
وطرق الأصدقاء بابي مرّات عديدة ، لكنّني لم أفتح ، وحين ملّوا لم يعكّر صفو
وحدتي أيّ واحد منهم .
وزّعتُ وقتي على هذا النّحو : أستيقظ صباحاً لأذهب إلى وظيفتي ، ولكوني أعمل موظّفاً إدارياً لم يسند إليه أيّ عمل ، أخذتُ أقرأ الجّرائد والمجلّات الأدبية هناك ، وحين
أعود إلى غرفتي ، أتناول طعامي وأنا أقرأ ،
أجلس إلى طاولتي المهترئة ، أحتسي الشّاي
وأنا غارق في المطالعة لساعات عديدة متواصلة ، ثمّ أنهض إلى سريري المنهك .. وأنام ساعتين ، وأعاود الأكل وشرب الشّاي
مع القراءة ، ثمّ أعود إلى النّوم حتّى الصّباح.
كانت فكرة الكتابة تراودني ، فأردع نفسي وأطوي رغبتي وأقول :
- أنا الآن في مرحلة التّخزين ، وقريباً ستأتي
لحظة الإبداع الرّائعة ، ولذلك لن أستنزف قريحتي ، سأرتوي من الأدب العظيم لأكتب
أعظم منه ، لن أسمح لفكرة الكتابة أن تسيطر عليَّ ، أنا صائم عن الكتابة ، وهو صوم ضروري وصحّي ، ولن أضعف أمام
شيطان الإبداع .
رميتُ بالقلم في سلّة المهملات ، وقررتُ
ألّا أدخل إلى غرفتي قلماً .. وفي الوظيفة
سأترك القلم في درج المكتب .
كنتُ أطّلع أحياناً على مايكتبه النّقاد عن
قصصي السّابقة في الجّرائد والمجلّات ، فأضحك في سرّي :
- إنّهم لم ينسوني .. ولكن ماذا سيفعلون حين سيقرؤن قصصي العظيمة غداً ؟ .
لم أمتنع عن الكتابة فحسب ، بل امتنعت
عن الحبّ أيضاً ، أليس الحبّ مضيعة للوقت ؟.. لم أعد أمنح ( رهام ) زميلتي في
الوظيفة ، أيّ فرصة للكلام ، حتى لا تعطّلني
عن قراءة الصّحف والمجلات وحين سألتني
مستفسرة ، نهرتها .. وحين أصرّت على توضيح موقفي منها ، أجبتها بصراحة تامة:
- آنسة( رهام ).. كلّ مافي الأمر أنّني أعتذر عن تضيعة الوقت معك في ثرثرة لا طائل
وراءها .
وكبتُّ كلّ شعور بالتّعاطف معها ، حين
رأيت وجهها يمتقع ويشحب ، وطلائع الدّموع تسيل على خدّيها .
وبعد أيام انتقلت إلى الغرفة المجاورة ،
ولم تلبث أن أعلنت خطبتها على الأستاذ ( عامر ) شريكها في الغرفة .. ومع أنّ قلبي
بكى ، إلّا أنّني أقنعت نفسي بأنّ مافعلتهُ كان
خيراً لي .
كلّ هذا في سبيل الهدف النّبيل ، الذي
أقدمُ عليه .. غداً حين أصبح أكبر كاتب في
العالم ، سوف يتهافت عليّ النّسوة ، حينها
سأختار فتاة أوربّية ، شقراء بعيون خضر
وقوام رشيق .
كلّ ما أخشاه الآن سوء التّرجمة ، المترجم
السّيء يقتل أعظم النّصوص ، يجب أن لا أسمح لكلّ من هبَّ ودبَّ بترجمة أعمالي .
قرأت كلّ شيء صدر من قصّة ورواية
في الأدب العربي ، إلى جانب الدّراسات النّقديّة ، واطّلعتُ على أهم المنجزات العالمية في القصّة والرّواية والنّقد .
ولم يبقَ أمامي سوى الكتب التي تصدر
حديثاً ، ولذا سأرجئ التّفكير في الكتابة ريثما أنتهي من الإطّلاع على ما يصدر هذه
الأيام .
تمنيّتُ أن تتوقّف المطابع عن إصدار الكتب
الجّديدة ، حتى أستريح وأكتب قصّة واحدة
على الأقل ، كم ستكون القصّة عظيمة بعد هذا الإنقطاع الطّويل .
سأرغم جميع نقّاد العالم على الإعتراف
بي كأعظم كاتب ، ويجب أن بتوّج هذا الاعتراف ، بمنحي جائزة ( نوبل ) في نفس
العام .
فكرة القصّة جاهزة في ذهني منذ سنوات
، وأنا كلّ يوم أؤجّل كتابتها وأقول :
- انتطر .. ريثما تقرأ هذه الرّواية العظيمة ، وكتابتكَ للقصّة بعد قراءتها أفضل .
هكذا .. في كلّ يوم ، أقنع نفسي بالانتظار
، ريثما أنتهي من رواية أو مجموعة قصصيّة
أو كتاب نقدي ، لعلّ،قصّتي تكون أرقى بعد
قراءة هذه الأعمال ، وأقرأ من هنا ومن هناك
، في المسرح والشّعر والملحمة ، فكلّ شيء
يفيد .
وفي ذات يوم .. تنبّهتُ على حقيقةٍ أفزعتني ، فلم تعد الرّغبة في الكتابة تلسع
أعماقي ، إنّ الجّمرة خبت ، بل انطفأت ، أسرعتُ ، واشتريتُ قلماً ودفتراً ، وقرّرتُ
إخراج القصّة التي حبستها طويلاً من سجنها ، إنّها قصّة الأعوام الخمسة .. وخلال
خمس ساعات فرغت من كتابتها ، شعرتُ
بغبطةٍ لا توصف ، لا شكّ،أنّها قصّة عظيمة وخالدة .
تذكّرتُ أصدقائي ، اشتقتُ إلى جلساتهم
الدّافئة ، بودّي أن أصفعهم بقصّتي هذه ، وعندما اجتمعنا والتمّ شملنا ، اغتنمتُ الفرّصة وقرأت قصّتي .
وكم كانت خيبتي مريرة ، حين اتّفقوا
جميعاً على أنّ مستوايّ قد تراجع عمّا كتبته،
منذ خمس سنوات .. أردتُ أن أصرخَ في
وجوههم المقرفة :
- أنتم جهلة .. قصّتي عظيمة .. إنّها تضاهي
أعظم مافي الأدب العالمي ، لقد كتبتها بعد
أن هضمتُ آلاف الكتب ، فأين ذهبت خبرتي
وثقافتي ، أين ذهب لقبي كأفضل كاتب في
بلدي ؟؟!!.
مصطفى الحاج حسين .
ــــــــــــــــــ
2
مقطع الزّاغ ...
كان " سامح " يتقدمنا بعدة أمتار ، حين بدأنا ندخل متسللين إلى" مقطع الزَّاغ " ،
ومنذ أن خطونا إليه ، تسرّبت إلى أجسادنا
برودة عفنة ، فشعرنا بالرّاحة والنّشوة ، لأنّ حرارة الجّو في الخارج كانت خانقة .
اجتزنا الطّريق الضّيقة المتعرّجة مبتهجينَ ، ولكنّ إحساساً داخلياً بالانقباضِ والوحشةِ أخذ يراودنا .
قبعت الظّلمة في المكان ، غير أنّ الجّدران الحوّارية البيضاء خفّفت منها فبدا
المكان أشبه بكهفٍ مسحور .
صاح 'عثمان " :
- انتبهوا من الجنّ والعفاريت .
وتردّد صوته مختلطاً بقهقهات"سعيد الجّدع"
، الذي ظهر من خلال ضحكته شيء غير طبيعي ، يشير إلى خوفه وفزعه . وعندما سكتت الجّدران عن ترديد صدى الضّحكة ..
قال :
- أنا لا أخاف منها .. ففي رقبتي سلسال مكتوب عليه (( الله - محمد )) وهو يحميني من الشّياطين .
قلتُ معلقاً على كلامه ، وقد أخذ الممرّ الضّيق بالاتّساع والعتمة تتضاعف ، بينما الانحدار نحو الدّاخل يزداد حدّة :
- لكنّ سلسالكَ هذا لا يحميكَ من أرواح الأموات المنتشرة قبورهم على سفح الجّبل.
صرخ "عمر" وكان يمشي خلفنا :
- ياأولاد الحرام ، اتركونا من سيرة الأموات والجّن وإلّا سأرجع إلى الحارة .
البرودة تزداد قوّة وحلكة كلّما توغّلنا ،
لدرجة أنّنا شعرنا بقشعريرة البرد تسري في
عروقنا ، بينما كان الماء ينزُّ من السّقوف والجّدران مخرجاً خريراً منبعثاً من الأعماق
يتناهى إلى أسماعنا .
صاح "سامح" أبن عمّي فجأة ، بصوت مليءٍ بالدّهشة والفرح :
- يا جماعة .. أشمُّ رائحة نار .
فأسرعنا نهبط فرحين ، وحقيبة" سامح " المدّرسية كانت تتأرجح خلف ظهري ، فقد
كنتُ أحبّ دائماً حملها معي ، ليظنّ من يراني بأنّي طالب مدرسة .
زعق "عثمان" :
- رائع عندي سيكارتان " ناعورة " ولا أملك
شعلة .
وصلنا إلى ساحة مترامية الأطراف ، يبدو أنّها في القاع تماماً . فسرقت عيوننا نار متأججة يتحلّق حولها ثلاثة شبّان . إلى
جوارهم تناثرت زجاجات العرق .
انكمشنا في أماكننا جامدين ، بينما تتفرسنا أنظار الشّباب بدهشة وبهجة واضحتين .
قال أحدهم ، وكان يدعى" جمعة زقّان " ، بصوت خرجت بحة المشروب معه :
- تفضلوا ياحلوين .. تعالوا .. لا تخافوا ، لا
يوجد بيننا غريب .. كلنا أولاد حارة .
بقينا على وقفتنا خائفين ، ودقات قلوبنا تطرق صاخبة عنيفة .. إنّ " جمعة زقّان " هذا نعرفه تماماً ، ونعرف شلّته أيضاً
، فكلهم مجرمون ، يغتصبون الأولاد . وكثيراً
ما حذرني والدي منهم .
صاح الثاني ، واسمه " حمّود النّازل " ، وهو ذو يد مقطوعة :
- تعالوا .. دخنوا واشربوا العرق . وكرع جرعة من زجاجته ، ثمّ أردف قائلاً :
- "تقبروني ما أحلاكم " .
صرخ الثّالث ، وكان يدعى " لطوف النّابح "
، وكان له صوت يشبه نباح كلب ، يخرج من
تحت شفته المشرومة :
- هربتم من المدرسة يا عكاريت ، جئتم وألله
بعثكم لنا ، الحرارة متوتّرة معنا .
قال ذلك ونهض نحونا . صرخ أحدنا بفزع :
- اهربوا .. اهربوا قبل أن يمسكوا بنا .
انطلقنا راكضين صوب الخلف ، كان الانحدار صعباً هذه المرّة ، وليس من صالحنا
، وبدأت أقدامهم بدبيبها المرعب تضطرب خلفنا ، ونحن نلهث مذعورين، قلوبنا ترتجف
بشدّة لم نعهدها ، وأنفاسنا تضيق حتى كأنها
سوف تتفجر ، والحقائب خلف ظهورنا تزيد
من توترنا وخوفنا بتأرجحها ، مما جعلني أندم على حملها في هذه المرّة ، وخطر لي أن أرميها لإبن عمّي " سامح " ، لكن لا مجال الآن ، ونحن نهرب مذعورين .
انبعثت صرخة ذعر حارقة من خلفي . لقد سقط " سامح ' ابن عمي في أيديهم ، تفاقم الفزع فينا ، أسرعنا بكلّ ما نستطيع ،
صاعدين متوقعين أن تمتد يد غليظة الأصابع فتمسك بنا من ياقاتنا ، كنت الأخير
خلف رفاقي ، وكان صراخ " سامح " وعويله
المجنونان يدفعانني لبذل طاقتي النهائية في الصّعود .
أخيراً وصلنا إلى فوهة " المقطع " ، استدرنا للخلف ، كانت أصوات الأقدام قد انقطعت ولم نر أحداً . لقد عادوا ليفترسوا
" سامحاً " الذي لم نعد نسمع له أيّ صوت.
توقفنا على مسافة غير بعيدة ، وصدورنا تعلو وتهبط مسرعة كخوفنا ، وأجسادنا مغسولة بعرقنا الحارق ، كصوت
" سامح " حين أمسكوا به .
قال " عمر " يخاطبني بصوت متهدّج :
- " رضوان " .. عليك أن تخبر بيت عمّك حتى ينقذوا ابنهم .
قاطعه " عثمان " :
- ماذا ؟ .. إذا قمنا بتبليغهم يافهيم فسوف يعلم أهلنا بهربنا من المدرسة .
قلت وقد بدأ التّعب يزايلني :
- ليس أمامنا وسيلة لانقاذ " سامح " غير تبليغ عمّي ، وبسرعة قبل أن يقوموا باغتصابه .
ضحك " سعيد الجّدع " ( صياد الجرابيع )
وعلّق على كلامي :
- منذ اليوم صار لقب " سامح " ( مفعول به)
قهقه " عثمان " حتّى آلمته خاصرته ، وقال:
- لأوّل مرّة يهرب من المدرسة فيتعرّض للإغتصاب .. وتابع قهقهته .
صرخ " عمر " بانزعاج :
- أنتم حقراء .. أولاد كلب ، تضحكون بينما لا نعرف ماذا جرى " لسامح " .
تخيّلت " جمعة زقّان " صاحب الرأس الكبيرة ، والأنف الممطوط ، وهو يشمّر " كلابيته " وينزّل " شرواله " واضعاً سكينه فوق عنق " سامح " ، بينما يحاول أفراد العصابة جاهدين تثبيت " سامح " .
- أنا ذاهب لإبلاغ " عمّي قدّور " .
قال " عمر " وهو يتبوّل من الرّعبة :
- اذهب بعجلة .. أمّا نحن فسنبقى هنا لنراقب الوضع ، فربما يأخذوا " سامحاً " إلى
مكان آخر .
رميت حقيبة " سامح " من خلف ظهري
وانطلقت كالصاروخ ، منحدراً من قمة الجبل
نحو البلدة .
في غمرة هذه الأحداث ، وهذا الانفعال،
كانت تداهمني موجات من الفرح ، فأنا لا أحبّ " سامحاً " منذ وعيت الدّنيا بسبب امتيازه عنّي بدخوله المدرسة .
غير أنني سرعان ما كظمت فرحي هذا،
وعاودتني حالة الخوف والقلق ، " فسامح "
ابن عمّي قبل أيّ شيء آخر ، وقد هرب من
المدرسة لأوّل مرّة لارضائي بعد أن هدّدته بالزّعل فوافق . ثمّ ماذا سيكون موقفي من
أبي وعمّي " قدّور " إن أعترف " سامح " بأنّي سبب هروبه من المدرسة ؟ .
في الطّريق ، بينما كنت أركض بين الأزقة ، وعند المنعطف تماماً ، برز والدي " بشرواله " وسترته " الكاكية " المعهودة ، توقفت في مكاني ، تجمّدت أمام نظرته الصّارمة .
- هارب من الشّغل " يابندوق " ؟!.
حافظت على صمتي المبدّد بلهاثي ، ماذا أقول ؟..هل أخبره بما يحدث " لسامح"
، لم أكن أتوقّع رؤيته ، فلم أرتّب كذبة في ذهني تنطلي عليه .. وتأكّدت أنّه ترك عمله ليبحث عنّي .
- عاقل باابن " القحبة " ، تتظاهر بالمسكنة ،
والله لأريك نجوم الظّهر .
وهوت كفّه، ثقيلة خشنة ، صفعتني بقوة،
تطاير الشّرر من عينيّ ، ترنّحت ، سقطت ، ركلني ، جاءت ركلته على خاصرتي ، طارت
فردة " الصّرماية " الحمراء من قدمه ، نهضتُ ، فقذفني بها على رأسي .
- آخ يا " يوب " التّوبة . وحق المصحف ماعدت أهرب .
- امشِ إلى الدّار ياابن " الجحشة " بدّي ألعن
أبوك على أبو أمك .
سبقته بعدّة خطوات ، خائفاً من ضربة
مفاجئة ، ولهذا كنت ألتفت خلفي لأتأكّد من
بعد المسافة عنه ، بينما أتنشّق مخاطي المختلط بالدّم المتدفق من أنفي .
سبقني صراخي إلى الدّار ، ففتحت أختي" مريم " الباب ، واستقبلتني أمي بوجهها الشّاحب ، وعينيها الفزعتين ، فتعالى بكائي ،
وتضاعف تأوّهي :
- ياأمّي ... خاصرتي .
وقفت أمّي حائلاً بيني وبين أبي ، وقالت تسأله :
- خير إن شاء الله .. ماذا فعل " رضوان "
حتى تعاقبه ؟.
وأتاها صوته ليرعب " مريم " وتنكمش على نفسها :
- ابن " الصّرماية " هرب من الشّغل . قال ذلك وهو بالكاد يلتقط أنفاسه.
- يلعن " أبو الشغل " ستقتل الصبي ، الولد لا يحبّ صنعة العمارة .
صرخ أبي وقد زاده غضباً كلام أمي :
- كلامك هذا يشجّعه على الهرب ، عليَّ الحرام والطلاق بالثلاثة سأشتري له قيداً وجنزيراً .
توقفتُ عن البكاء برهة ، مددتُ رأسي من وراء أمي ، وقلت :
- أنا لا أريد أن أشتغل في العمارة . أرسلوني
لعند الخياط فلا أهرب .
هجم نحوي ، صوّب ركلة إلى مؤخرتي :
- عليّ الكفر لن أتركك تشتغل إلّا في العمارة ياكلب ، هذه صنعتي وستعمل بها .
ثمّ تابع قوله الصّارخ :
- تحرّك أمامي ألى الورشة .
صاحت أمي :
- ألا ترى دمه .. أتركه ليوم غد .
عدّل أبي " جمدانته " فوق رأسه وقال :
- أنا ذاهب للشغل ، وعندما أرجع سيكون لي
معك الحساب .
سحبتني أمي من يدي ، أدخلتني الغرفة الشّمالية ، أخذت تمسح دموعي ومخاطي الدّامي .. وهي تقول:
- ألم أنصحكَ بعدم الهرب ؟.
صحتُ بصوتٍ مخنوقٍ :
- أنا لا أطيق العمل في العمارة .. لماذا لم تدخلوني المدرسة مثل " سامح " ؟ .
لم أكد أذكر اسم " سامح " حتى قفزتُ من مكاني ، غير عابئ باندهاش أمي ونداءاتها هي وأختي " مريم " ، صرختُ وأنا
أجتاز عتبة الدّار :
- يجب أن أبلّغ عمّي " قدّور " لينقذ ابنه " سامح " .. لقد تأخرت .. لقد تأخرت .
مصطفى الحاج حسين .
حلب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق