مهداة إلى أحبتي: صفاء وجورج (امتطوا قلوب الجبابرة وامضوا)
قال دون مقدمات, وقبل أن يسوي جلسته على الكرسي:
- أتتزوجينني؟
ابتسمتُ وأنا أتابع حركاته الباردة, وكلماته الجافة:
- عندي شقة... شقتي ضيقة نوعاً ما, غرفة... (استدرك, ومد يده إلى جيب قميصه الكحلي وأكمل)... خذي هذه صورة الشقة من الداخل (جر كرسيه نحوي كي أتمكن من رؤية الصورة, وأشار بأصابعه الطويلة) كما ترين غرفة, وصالة ضيقة هنا, وإذا ما اجتزت هذه العتبة, فستفضي بك إلى مطبخ ثم حديقة صغيرة, وهذه الصورة للشقة من الخارج... لن تزعجك النوافذ العالية.. فهذه وصية أبي حفاظاً على خصوصيتي.
احتفظت بابتسامتي أطول فترة ممكنة وأنا أنتظر نهاية مسرحيته..
قال: بماذا تفكرين؟
تجرعت رشفة من فنجان القهوة, ثم وضعته فوق الطاولة ذات الغطاء الأخضر الشاحب وقلت بعد تفكير:
- عرضك مرفوض... (وضحكت بخجل)
رد بسرعة:
- يبدو أن العمل في المشاغل الخاصة ياستهويك رغم نزق أصحابها من محدثي النعمة, وأكثر ما يعجبك هذه النصف الساعة بين الدوامين, والويل لمن يتجاوزها بدقيقة واحدة..
كان صوته جافاً مثل قادة الجيوش, كنت محاصرة بنزيف كلماته.. جالت عيناي في أرجاء المطعم الذي يشبهنا بكراسيه الخشبية التي قضت عمرها في مكان لا يتغير, ونادل عجوز يصفّ صحوناً شبه فارغة أمام رواد لا يملكون ثمن ما يشبعهم.. أما الستائرفقد نسيت لونها الحقيقي واحتفظت بالبصمات ولطخات الأطعمة والأتربة, النوافذ ضاقت على دخان الصدور الهاربة من سجنها بجنون.. توقفت عيناي فوق ملامح محدثي.. واجهتْ ابتسامتي تجهم وجهه فانتقلت إليه عدوى الابتسام, كم يشبه ملامح أبي المغلوب على أمره..
أبي أخرجني من المدرسة كي أساعده في سد الأفواه الجائعة.. اعترضت على قراره.. صرخت.. بكيت.. أضربت عن الطعام والكلام.. هربت إلى بيت خالتي الحنون.. لكن ذلك لم يغير في قراره شيء..
ساقني وراءه وعملت في مشغل (هدايا الحب والميلاد) أزخرف العلب الكرتونية, ألبسها المخمل الأحمر, وأغرز الورود والملائكة في قلبها.. ثم ترسل إلى السوق لتغرقها باللون الأحمر, فيتسابق الشباب لشرائها كي يقدمونها إلى أميرات قلوبهم اللواتي لن يتركن المدارس لسد جوعهم...
غرزت نظراتي في حرير عينيه وسألته:
- لماذا لم تكمل تعليمك؟
طلب من النادل العجوز المزيد من القهوة, تربعت ابتسامة حزينة فوق كرسيي خديه وقال:
- خفَّ نظر أمي, وتزوجت أختي, فلم يعد مناسباً عمل التطريز لكلتيهما, فعملت في تنظيف البيوت في شركة (نظافة بلا حدود) ضربت السجاد.. فركت البلاط.. جلست مع أطفال نسيهم أهلهم في زحمة أعمالهم.. مسحت الأحذية, جمعت المال, واشتريت هذه الشقة الضيقة ذات النوافذ العالية, وأقسمت أن تكون سيدتها فتاة ذاقت القهر والحرمان كي تحافظ عليها, وتعمل في سبيل توسيعها..
اعتدل في جلسته وأدار معصمه أمام وجهي وقال:
- بقي من استراحة ما بين الدوامين خمس دقائق.. أتتزوجينني؟
قلت بانفعال: أتزوجك.
ضحك بقلب طفل جميل ثم أخرج علبة صغيرة يغرق المخمل الأزرق في داخلها, وضعها أمامي.. قلبتها على وجوهها بمتعة ثم أعدتها إلى الكيس ومضينا إلى عملنا..
قال بحماس:
- لن نخرج أولادنا من المدرسة مهما ضاقت ظروفنا.
شاركته حماسه.
- سنجمع المال لهم منذ هذه اللحظة. (أكملت كلامي بطريقة مختلفة)..
- لكن هذه العلبة ليست من إنتاج مشغلنا, فمشغلنا مخمله أحمر و...
أسرع إلى مقاطعتي:
- كلامك صحيح, أنا أعمل مسوقاً لبضاعة المشغل الآخر بعد الدوامين, أي بعد الحادية عشر ليلاً.
قلت ونحن نخرج من باب المطعم:
- لو علم معملنا سيطردك أيها الماكر. أمسك يدي وأسرع في مشيته, وطيّر كلماته في الهواء:
- من أين سيعلم ذلك المخنث؟
قطعنا طريقاً عريضاً, نزرع ضحكاتنا المجلجلة غير آبهين بالمارة ولا بزعيق السيارات التي تنفث دخاناً أسود, كانت تبدّده خطواتنا.
قال دون مقدمات, وقبل أن يسوي جلسته على الكرسي:
- أتتزوجينني؟
ابتسمتُ وأنا أتابع حركاته الباردة, وكلماته الجافة:
- عندي شقة... شقتي ضيقة نوعاً ما, غرفة... (استدرك, ومد يده إلى جيب قميصه الكحلي وأكمل)... خذي هذه صورة الشقة من الداخل (جر كرسيه نحوي كي أتمكن من رؤية الصورة, وأشار بأصابعه الطويلة) كما ترين غرفة, وصالة ضيقة هنا, وإذا ما اجتزت هذه العتبة, فستفضي بك إلى مطبخ ثم حديقة صغيرة, وهذه الصورة للشقة من الخارج... لن تزعجك النوافذ العالية.. فهذه وصية أبي حفاظاً على خصوصيتي.
احتفظت بابتسامتي أطول فترة ممكنة وأنا أنتظر نهاية مسرحيته..
قال: بماذا تفكرين؟
تجرعت رشفة من فنجان القهوة, ثم وضعته فوق الطاولة ذات الغطاء الأخضر الشاحب وقلت بعد تفكير:
- عرضك مرفوض... (وضحكت بخجل)
رد بسرعة:
- يبدو أن العمل في المشاغل الخاصة ياستهويك رغم نزق أصحابها من محدثي النعمة, وأكثر ما يعجبك هذه النصف الساعة بين الدوامين, والويل لمن يتجاوزها بدقيقة واحدة..
كان صوته جافاً مثل قادة الجيوش, كنت محاصرة بنزيف كلماته.. جالت عيناي في أرجاء المطعم الذي يشبهنا بكراسيه الخشبية التي قضت عمرها في مكان لا يتغير, ونادل عجوز يصفّ صحوناً شبه فارغة أمام رواد لا يملكون ثمن ما يشبعهم.. أما الستائرفقد نسيت لونها الحقيقي واحتفظت بالبصمات ولطخات الأطعمة والأتربة, النوافذ ضاقت على دخان الصدور الهاربة من سجنها بجنون.. توقفت عيناي فوق ملامح محدثي.. واجهتْ ابتسامتي تجهم وجهه فانتقلت إليه عدوى الابتسام, كم يشبه ملامح أبي المغلوب على أمره..
أبي أخرجني من المدرسة كي أساعده في سد الأفواه الجائعة.. اعترضت على قراره.. صرخت.. بكيت.. أضربت عن الطعام والكلام.. هربت إلى بيت خالتي الحنون.. لكن ذلك لم يغير في قراره شيء..
ساقني وراءه وعملت في مشغل (هدايا الحب والميلاد) أزخرف العلب الكرتونية, ألبسها المخمل الأحمر, وأغرز الورود والملائكة في قلبها.. ثم ترسل إلى السوق لتغرقها باللون الأحمر, فيتسابق الشباب لشرائها كي يقدمونها إلى أميرات قلوبهم اللواتي لن يتركن المدارس لسد جوعهم...
غرزت نظراتي في حرير عينيه وسألته:
- لماذا لم تكمل تعليمك؟
طلب من النادل العجوز المزيد من القهوة, تربعت ابتسامة حزينة فوق كرسيي خديه وقال:
- خفَّ نظر أمي, وتزوجت أختي, فلم يعد مناسباً عمل التطريز لكلتيهما, فعملت في تنظيف البيوت في شركة (نظافة بلا حدود) ضربت السجاد.. فركت البلاط.. جلست مع أطفال نسيهم أهلهم في زحمة أعمالهم.. مسحت الأحذية, جمعت المال, واشتريت هذه الشقة الضيقة ذات النوافذ العالية, وأقسمت أن تكون سيدتها فتاة ذاقت القهر والحرمان كي تحافظ عليها, وتعمل في سبيل توسيعها..
اعتدل في جلسته وأدار معصمه أمام وجهي وقال:
- بقي من استراحة ما بين الدوامين خمس دقائق.. أتتزوجينني؟
قلت بانفعال: أتزوجك.
ضحك بقلب طفل جميل ثم أخرج علبة صغيرة يغرق المخمل الأزرق في داخلها, وضعها أمامي.. قلبتها على وجوهها بمتعة ثم أعدتها إلى الكيس ومضينا إلى عملنا..
قال بحماس:
- لن نخرج أولادنا من المدرسة مهما ضاقت ظروفنا.
شاركته حماسه.
- سنجمع المال لهم منذ هذه اللحظة. (أكملت كلامي بطريقة مختلفة)..
- لكن هذه العلبة ليست من إنتاج مشغلنا, فمشغلنا مخمله أحمر و...
أسرع إلى مقاطعتي:
- كلامك صحيح, أنا أعمل مسوقاً لبضاعة المشغل الآخر بعد الدوامين, أي بعد الحادية عشر ليلاً.
قلت ونحن نخرج من باب المطعم:
- لو علم معملنا سيطردك أيها الماكر. أمسك يدي وأسرع في مشيته, وطيّر كلماته في الهواء:
- من أين سيعلم ذلك المخنث؟
قطعنا طريقاً عريضاً, نزرع ضحكاتنا المجلجلة غير آبهين بالمارة ولا بزعيق السيارات التي تنفث دخاناً أسود, كانت تبدّده خطواتنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق