⏪⏬
كان الليل قد فرض سطوته عندما وصلت الحافلة إلى نهاية رحلتها ، الساعة تجاوزت منتصف الدائرة بقليل ، انسل التلاميذ من بابي الحافلة كل صوب بيته ، منهم من وجد أحد أفراد أسرته بانتظار وصوله كي يرافقه ومنهم من رافق زملاء يقيمون في ذات المكان ، وآخرين بقوا فرادى للتوجه إلى ديارهم . ليلة من ليالي نيسان حيث تظهر الغيوم فجأة وتختفي فجأة ، وعندما أمسك الأخوين داني وهاني بيدي بعضهما البعض ، لقد فقدا أبيهما منذ سنوات وحده داني يذكر ملامحه بينما كان هاني يرتع في بطن أمه ، ترك لهما إرثا جميلا وهو لون عينيه الزرقاوين فقبلا الإرث دون خلاف ( لو كان أبي مازال حيا لانتظرنا هنا ) حدث داني نفسه فقط واستمر في السير ، هما منذ سنة ونصف يعيشان مع أمهما في بيت زوجها الجديد ذو الشعر الأجعد والأنف المستطيل .
كانت حبات المطر قد بدأت تداعب رأسيهما ووجه الدرب الترابي الذي يتأرجح بين مد وجزر قبل أن يعلن نهاية الرحلة على ضوء القناديل المنبعثة من بيوت على جانبيه .
صوت الراديو الصغير يكسر حاجز الخوف والصمت في آن واحد فيرتفع حينا ويخفت حينا آخر .
هنا دار قديمة مهجورة منذ زمن طويل ، تراقبها شجرة الكينا التي ربما بلغت قرنا من العمر ، السكان يخشون المرور من أمامها وينسج الكبار حكايا كثيرة حول أشباح تظهر فجأة لمن يعبر وحيدا في ليل داكن السواد .
لم تغب تلك الحكايا عن ذاكرة داني لكنه فضل السكوت في هذه اللحظات كي لا يبعث الرعب في قلب شقيقه الصغير .
رفع صوت الراديو أكثر وأكثر وأصبحت الخطوات أسرع من ذي قبل ، بينما تشبث هاني بيده : ( اسمع يا داني هناك شخص ما يمشي أمامنا ) ... كبس داني على يد أخيه ولم يجب على سؤاله لكنه كان هو أيضا يسمع ذات الصوت لكنه لم ير أي شيء .
المسافة بدأت تكبر وتطول كعنق زرافة في أدغال إفريقية ، بينما خطوات الشبح تزداد طرقا للأرض ممتزجة بحبات المطر التي تأبى أن تتوقف ولعلها تريد مساندة الصغيرين كي يعبران من هنا بأمان .
انتهى للتو الدرب الرئيسي ووصلا إلى مفرق فرعي يؤدي إلى منزلهما ، في تلك اللحظة بدا الشبح وكأنه يفقد فريسته فأخذ يصفع التراب بقوة كي يعيدهما إلى المسار الأول : ( لقد أصبحت الخطوات خلفنا ... اسمع ... اسمع يا داني ) ... نظر داني إلى الخلف بلمحة سريعة : ( اصمت وأسرع يا هاني ) ، لكن الأصوات تعالت حتى تغلبت على صوت الراديو وأنين المطر ، اللون الأبيض يلوح لهما قريبا جدا : ( يا إلهي إنه يتبعنا ... يتبعنا ... ) قال داني في سره ثم تمتم ببعض المعوذات التي تعلمها من أمه وزاد من سرعته حتى كادت يده تفلت هاني لكنه أطبق عليها كعاصفة كانونية : ( داني ... داني انظر يكاد أن يمسك بي هذا الرجل الأبيض ) ... عندما التفت داني إلى الخلف كان الشيخ يدنو من أخيه أكثر فصرخ عليه : ( أركض أركض يا هاني ) ... لاح ضوء خافت من بعيد كان ينبعث من منزل الصغيرين ، تركا الطريق حالا وأصبحا يجريان في أرض محروثة وعرة ، تعثر الصغير فأقامه داني بقسوة هذه المرة ، لامجال للرحمة الآن ، صرخة مدوية ملأت المكان جعلت من الراديو يفلت من يد المراهق لكنه استمر في الجري رغم الحجارة التي حصلت على الكثير من أقدامهما الغضة .
الآن اختفى كل شيء : صوت الشبح ، الراديو ، المطر ، دنا البيت منهما كثيرا جدا ، على رأس المفرق الأخير كانت الأم تحمل فانوسا وتنتظر هناك : ( كيف كانت رحلتكم يا أولاد ) ... اللهاث منعهما من الجواب ، ارتمى هاني بين ذراعيها أما هاني فكان يتحسس قدمه التي فقدت فردة الحذاء فأمست عارية ، اتجه صوب غرفة أبيه وهو يقول : ( لا حكايا بعد الليلة يا أماه ... لا قصص أخرى أرجوك ) ، داني كان منهكا أكثر من أخيه فتوجه إلى غرفة أبيه ( زوج أمه ) ولم يكد يفتح الباب حتى فغر فاه ، لقد شاهد رأسه وقد بلله المطر بينما كان يخلع ثيابه البيضاء ولهاثه يسابق يديه ...
-
*وليد.ع. العايش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق