كانت تجلس على صخرة وهي منغمسة في تأمل الأمواج التي تبعت بعضها البعض للإعلان عن إنطلاق يوم جديد. كل موجة تمثل لها رحيل إلى وجهة أخرى. فاجأني ضحكها، على الرغم من شعورها بالوحدة إلا أنها كانت تنقلني إلى كوكب آخر يمثل تلك النفوس البريئة التي لا تهتم أبداً بما يدور حولها .كانت يدها الصغيرة ترفرف في كل مرة ترى فيها سفينة أو طيور النورس تقترب من المنارة القديمة. عكست حركات شعرها الطويل فرحتها في هذه اللحظات الأبدية. هدأت قليلا ، لم أكن أعرف ما جذبها من خلال النظر أمامها. كان الأفق الذي ظهر لها وكأنه لغز. إندمجت السماء مع البحر لتكوين تحفة فنية مبنية على جميع ظلال اللون الأزرق. الغيوم بأشكالها المختلفة كما تصورتها هذه الفتاة الصغيرة وانعكاس أشعة الشمس على سطح البحر ترمز إلى الجمال الإلهي. لا أحد يستطيع أن يكتشف السر العظيم لاهتمامها الكبير بالأصوات التي رافقت الأمواج وخاصة إيقاعها المتناغم. توجهت فجأة نحو الرمال ، وكان فستانها الأبيض الصغير يرقص مع الريح شبيها ببتلات رائعة لوردة. ركعت متحمسة لنحت الحبات الذهبية باحثة عن الأحجار،الأصداف والأعشاب البحرية. لا شيء يضاهي لحظة الهدوء التي جعلتني أشعر بها ، فكلنا لدينا القدرة على التخلص من العديد من متاعب الحياة بمجرد النظر إلى البحر ، فالروح تجد مصدر إلهامها وتصل إلى النقاء بفضل هذا المشهد الذي يدفعك للهروب بعيدا عن هذا العالم القاسي والحماقات التي يرتكبها الإنسان. هز حزن قلبي لبضع ثوان ، أتذكر طفولتي ، قريتي الصغيرة وعائلتي ، ولا سيما أسعد اللحظات التي عشتها. لكن بعض الجروح تبقى محفورة في الذاكرة. بالتأكيد ، أصعب شيء بالنسبة لي: التفجيرات في كل مكان ، خوف الأطفال وصراخهم ، دموع النساء ، صورة الجثث ، كل هذا لا يزال محفوراً في رأسي حتى الآن . هذه الصورة ، التي كانت رمادية اللون ، دمرت تماما جوهر الإنسانية. الحقيقة التي أزهقت كرامة الإنسان كان لها تأثير واحد فقط في الناس لتسبب شعورا بالمرارة وحالة من الذعر المستمر. كانت ازدواجية الموت والحياة أساس حياتهم اليومية ، لقد خلقت مقاومة وقوة شعب بأكمله تنبعان من إيمانهم بأن الأعمال الصغيرة هي التي ستؤدي إلى تغيير فعال في المستقبل.
فتحت عيني عندما سمعت ضوضاء، كان الصيادون يقتربون من قاربهم الصغير منطلقين ليوم آخر من الصيد. من بينهم ، كان هناك رجل مسن يعد الشباك ،مرونة أصابعه سمحت له بالعمل بسهولة . على الرغم من التجاعيد التي ظهرت بوضوح على يديه والتعب الذي ميز ملامح وجهه ،إلا أن أسلوب عمله أظهر صبره وشغفه الكبير بالمهمة التي قام بها. دعتني ألحان جميلة صادرة عن هذا الرجل إلى ضرورة الإصغاء إليها . كان في تزامن تام مع الإيقاع البطيء للأمواج. إنتقل الصيادون الآخرون نحو البحر لدفع قاربهم ليعلنوا مغامرة جديدة متبعين آمالهم وتطلعاتهم. تذكرت الطفلة الصغيرة، نظرت حولي، لم أجد شيئاً، لا هي ولا آثار نحتها. لم يكن سوى حلم جميل...
تعرّفت منذ دراستي العليا في معهد الفنون الجميلة على صديقة تدعى أنجيليين، لقد رافقتني كشريكة في جميع المشاريع المنفّذة في هذا السياق. تحقق حلمها من خلال إنشاء معرض فني خاص بها، وتعديل منزل والديها مع الحفاظ على أسلوبها بإضافة لمساتها الفنية.غالبًا ما عرضت عليّ العمل معًا. أحببت إستخدام الطين في صنع المنحوتات. إتّصلت بي لتخبرني عن مسابقة دولية منشورة على موقع معرض شهير. تطلّب ذلك تسجيلنا الإلكتروني وتقديم ملخّص لمشروعنا المشترك. وعدت بالاتصال بها في أقرب وقت ممكن.عدت بعد أسبوع إلى الميناء، لم أجد ذلك البحّار العجوز الذي رأيته في المرّة السابقة حيث كان ممسكا بورقة لم أتمكّن من رؤية محتواها لصغر حجمها و هاتفا بإسم المرأة عديد المرّات يتحدّث في حزن عميق إلى زميله و ملامح وجهه كانت توحي بكلّ ذلك. لم أعرف مادار بينهما من حديث ولكن الشئ الوحيد الذي رسخ في ذاكرتي هو إسمها لأنّه ردّده بصوت عال. ربّت صديقه على كتفه مطمئنا إيّاه ثم خاطبه حين همّ بالمغادرة.كن على ثقة، لاتخف ستجدها يا صديقي.في هذا اليوم وجدت صديقه. بادرت بالحديث إليه مع أنّني لاحظت إستغرابا على محيّاه عندما سألت عن قصّة البحّار. كان بالطبع على حقّ و متردّدا في كلامه. لم يرد قطّ الإفصاح عن قصّته إلّا بعدما قمت بإظهار هويّتي ليطمئن أكثر. تداركت موضّحة تعوّدت على المجيء إلى هذا المكان و عادة ماكنت ألمحه و هو بصدد الإنهماك في إصلاح شباك، منطلقا أو عائدا من رحلة صيد صحبتكم. هذا الحزن يعود إلى إختفاء إبنته الوحيدة منذ ثلاثين سنة خلال الحرب، وبشكل أدقّ في مخيّمات اللاجئين الذين وصلوا إلى هذه المدينة. هو يعيش الآن مع زوجته التي تمثل ملجأه الوحيد بعدها. لقد حاول البحث عنها في كل مكان ولكن للأسف. هكذا كان ردّه على إستفساري. سكتت للحظات لم أتخيّل أنّ الأمر سيكون بهذا التعقيد. أخذت رقم هاتف هذا السيّد بعد طلب الإذن منه. ودّعته وقد كنت شاكرة له على كلّ المعلومات التي مدّني بها. عندما عدت إلى منزلي شغلتني هذه القصّة. كان لي مقالا عاجلا عليّ إكماله طلبه مؤخراً مدير تحرير المجلة الإلكترونية التي أعمل بها. إنهمكت في كتابة المقال في المساء و بقيت حكاية البحّار تشغل تفكيري.
بينما كنت أتصفّح الآخبار، وقع ناظري على صورة طفلة تدعى مها. هناك مناطق معزولة عن العالم قبل مجيء الكورونا، دعك ممّن يتذمرّون لأنّهم أجبرو على البقاء في منازلهم وتعطّلت أشغالهم. منذ يومين هطلت الأمطار بكميّات هامّة فجرفها الوادي حين كانت في طريقها إلى مدرستها التي تبعد عديد الكيلومترات عن مقرّ سكناها، ليتها كانت الوحيدة التي تمرّ بتلك الرحلة ذهابا وإيابا مع إنعدام البنية التحتيّة اللازمة و المواصلات في تلك المنطقة المنعدمة وغيرها. فالمعاناة يعيشها المدرّس والتلميذ على حدّ السواء. لاتكترث الدولة إلى إيجاد حلول لهؤلاء المجاهدين، من البديهي أنّ الأشغال تكون على الأقل في فصل الربيع و الصيف. لكن الحكومة لا تنتبه إلى هذه الأمور إلاّ حين وقوع مصيبة و كارثة. أثارت وفاة البنيّة ضجّة إعلاميّة كبيرة حينها ثمّ لم نسمع أيّ خبر عن عائلتها. مئات العائلات تعيش عزلة حقيقيّة عن الحياة في هذه المناطق النّائية لكنّها تصرّ على تدريس أبنائها و لو كلّفها أحيانا حياة فلذات أكبادهم. فتطلّعاتهم و أحلامهم لايفقهها هؤلاء الساسة و لن تكون ضمن قائمة إهتمامتهم بالمرّة. مناطق يزورها السياسي للترويج لحملته الإنتخابية لا غير، يقوم بأخذ صورة مع طفلة و يعلّق فيما بعد على وسائل التواصل الإجتماعي" زيارتي إلى بعض مناطق الظلّ خلال حملتي الإنتخابيّة " ويا ليته يعلم أنّه الذلّ في حدّ ذاته. و لا ظلّ لهم يغرقهم في سباتهم سوى البقاء في أبراجهم العاجيّة.و الطفلة لا تأبه لتكنولوجياته التي تجهلها و لن تعلم بأن صورتها إنتشرت عبرالإنترنت أو بالأحرى ذلك آخر همّها. لا تستوي براءة طفل مفعم بالبهجة رغم ظرفه القاسي مع إبتسامة صفراء و خبث واضح. فمابلك بحالهم في هذا الوقت العصيب و لازال من هو قابع في بيته في ظروف جيّدة و يردّد هذه
.العزلة لا تطاق.
-
*قدس بن عبد الله
تونس
*قدس بن عبد الله
تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق