اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

الشيخة سلمى | قصة قصيرة ...*متولي محمد متولي

⏪⏬
قبل غروب الشمس بقليل، ذهب سالم نحو نزلة الترعة؛ كان يعرف أن أصحابه هناك، فقد كانوا يجتمعون كل يوم في هذا المكان؛
لشوي البطاطا التي يسرقونها من أرض البر الثاني، صحيح أنه لم يذهب معهم هذه المرة؛ لكنه كان على ثقة من أنهم لن يطيب لهم أكلها إلا وهو معهم !
أدركهم وهم يجمعون الحطب؛ أشعلوا النار؛ وجلسوا حولها يتسامرون، قال أحدهم :
- سالم ليس له نصيب في البطاطا هذه المرة؛ فهو لم يأت ِمعنا !
- المرة السابقة صاحب الأرض كاد يمسك بي؛ ولو أمسكني فسيعلقني في شجرة الجميز !
ضحك أصحابه، وهم ينظرون إلى بدانته المفرطة؛ وقال آخر :
- كلما تذكرتك وأنت تجري .. .. أموت من كثرة الضحك .. .. والله العظيم شكلك يموت من الضحك وأنت تجري والفلاح يجري وراك !
لمحوا محمود الترامسي ينزل الترعة؛ كان يطمئن على الترمس الذي يغمره في ماء الترعة ! قال سالم متعجبا :
- ألا يخاف من الجارية .. .. كيف ينزل الماء والشمس قد غربت ؟!!
- يخاف ؟! .. .. ألا ترى عضلاته المفتولة .. .. يا ابني الجارية هي التي يجب أن تخاف منه .. ..
ضحك، وضحك الجميع، ثم فجأة تبخر الضحك في الهواء مع الدخان؛ وحل محله الذهول؛ واتسعت حدقتا عينيه وهو ينظر حيث كان يقف محمود الترامسي الذي اختفى فجأة؛ دون أن يترك أي أثر ! وكأنه فص ملح وذاب؛ وكأن الماء انشق وابتلعه؛ قام هو وأصحابه؛ وطافوا بأعينهم فيما حولهم فلم يجدوه !
في دقائق معدودة انتشر الخبر في الحارة؛ وخرج الجميع يبحثون لكن دون جدوى ! وبعد ثلاثة أيام وجدوا جثته طافية عند الجميزة؛ وعلى جسده ووجهه علامات حمراء غريبة ! البعض قال أنها آثار تعذيب الجارية له ! والبعض الآخر قال إنها آثار أنياب تمساح !
لم يكن محمود الترامسي أول من يغرق في هذا المكان؛ لقد غرق الكثير من شباب الحارة؛ وكل مرة تأتي الكراكات لتنظف الترعة؛ وترفع الوحل والطين الراكد؛ ولم يحدث قط أن وجدوا أثرا لجارية أو تمساح ! لكن الكثير من الأهالي يؤكدون وجود الجارية؛ وبعضهم يقسم أنه رآها رأي العين!
بمرور الأيام كان الجميع ينسون ما حدث؛ ويعودون إلى سيرتهم الأولى؛ فالترعة في هذه الأيام لا غنى عنها للكثير من الناس! وفي ظهر أحد الأيام الشديدة الحرارة؛ نزل الأولاد يسبحون ويغوصون في الترعة؛ كانوا يعومون مثل سرب البط والإوز الذي كان يعوم حولهم ويغطس ثم يطفو؛ وهو يلتهم الحبوب الخضراء الطافية على وجه الماء والتي يسمونها العدس الأخضر! كان الجميع في الماء ما عدا سالم الذي جلس فوق صخرة عالية؛ واكتفى بالمشاهدة؛ أشاروا إليه أكثر من مرة بالنزول معهم لكنه في كل مرة كان يأبى ؛ حاولوا إقناعه بأنهم سيعلمونه السباحة لكنه رفض مجرد المحاولة!
على الجهة الأخرى من الطريق ظهر ولد في مثل طول سالم؛ لكنه أنحف منه بكثير؛ كان يجر خلفه ثلاثة من الخيول القوية؛ شق الطريق دون تردد؛ فأجبر السيارات على التوقف؛ وعبر بالخيول نحو الترعة بخطى ثابتة ! وجهه كان صارما رغم صغر سنه!
ثم ما لبث أن نزل بخيوله في الماء؛ وبدأ ينظف جلودهم بقطعة قماش كانت معه؛ كل ذلك والأولاد في الماء لا يبدو منهم غير الرؤوس!
من فوق الصخرة العالية؛ صاح سالم محذرا أصحابه :
- إنكم تقتربون من الجميزة .. .. عودوا وإلا سحبتكم الجارية !
رد عليه أحدهم ساخرا :
- الجارية لا تخرج في النهار يا فالح .. ..
خرج الولد من الترعة ساحبا خلفه الخيول بعد أن نظفها جيدا؛ وبينما هو يسحبها بكل ثقة؛ حرن أحدها ورفض الخروج من الماء؛ فأخرج الولد سوطا كان يربطه على وسطه؛ وأوسع الفرس ضربا حتى أجبره على الخروج ، كان الفرس يقفز ؛ ويرفس بخلفيتيه وهو في قمة الهياج والثورة؛ حتى كاد يرفس ذلك المتحصن بصخرته العالية؛ فما كان من سالم إلا أن تراجع ليتفادى الضربة القاتلة؛ فانزلقت ساقه؛ وسقط في الماء!
طفق يضرب يمينا ويسارا بذراعيه ِ محاولا البقاء طافيا؛ لكنه لم يستطع! انتبه إليه أصحابه الذين كانوا قد ذهبوا سباحة إلى شجرة الجميز؛ وأصبحوا بعيدين عنه؛ سبحوا بأقصى طاقة لديهم ليدركوه قبل أن يغرق، لكنهم وصلوا بعد فوات الأوان! أخذوا يضربون الماء ويغطسون بحثا عنه؛ لكن كأن الماء انشق وابتلعه !
فجأة – وبعد أن اختفى تماما – سمعوا صراخه قادما من عند شجرة الجميز! رأوه وهو يطفو ثم يغطس عدة مرات؛ وكأن شيئا يجذبه للأسفل ! في نفس الوقت سمعوا صوتا جهوريا يصرخ فيهم محذرا :
- الجارية سحبته .. .. اخرجوا من الماء قبل أن تسحبكم !
خرجوا فزعين من الماء؛ وقد امتلأوا رعبا؛ الولد صاحب الخيول كان يضع كفيه الصغيرتين فوق رأسه من هول ما رأى؛ لم تكن ملامحه صارمة كما كانت من قبل؛ عادت لوجهه ملامح الأطفال! علامات الذعر بادية عليه؛ والدموع تنهمر من عينيه!
توقفت بعض السيارات؛ وتجمع الكثير من الناس؛ وشقت الزحام امرأتان؛ تحَلَّق الأولاد حول أصغرهما؛ قالوا وهم يبكون :
- ابنك سالم .. .. الجارية سحبته .. .. غرقته عند الجميزة !
لطمت المرأة وجهها؛ وأخذت تصرخ؛ أمسكت المرأة الأخرى بكتفها؛ وقالت لها :
- صدقيني يا ابنتي .. .. سالم بخير .. .. الجارية لن تقتله .. .. هي أعطتني الأمان من سنين .. .. اطمئني يا ابنتي !
ثم صرخت بأعلى صوتها في الواقفين :
- يا عالم .. .. يا خلق .. .. ألا يوجد بينكم شهم ينزل الترعة؛ ويفتش عن حفيدي .. .. انزلوا يا خلق انجدوه !
لم يتحرك منهم أحد؛ ظلوا في أماكنهم وكأن أقدامهم قد التصقت بالوحل والطين! فقد كانوا جميعا خائفين؛ انطلقت المرأتان تصرخان وتلطمان وجهيهما في يأس؛ وهما تحاولان النزول في الماء؛ والناس يمنعونهما ! فجأة على البر الثاني سمع الجميع صوت أحد الفلاحين ينادي :
- يا خلق .. .. اطمئنوا الولد موجود وراء الجميزة .. .. الولد بخير .. .. اطمئنوا !
لم يصدق أحد أذنيه؛ فالجميع كانوا يظنون أن سالما أصبح في عداد الأموات؛ المرأتان وحدهما كما يبدوا كانتا واثقتين أنه بخير! وما كان بكاؤهما إلا لحث الناس على البحث عنه!
قالت الكبرى وهي تمسح دموعها :
- ألم أقل لك .. .. سالم بخير .. .. ابنك بخير !
انطلقوا جميعا نحو الكوبري الخشبي المتهالك الذي يصل بين البرين؛ قابلهما الفلاح وهو يحمل جسد الصغير سالم؛ تهللت الوجوه عندما رأى الجميع صدر الصغير يعلو ويهبط؛ فزعت الأم عندما رأت آثار كف تبدو أصابعها على خده وكأنها آثار كي ٍّ بالنار من شدة الاحمرار! صاح بعض الأولاد بفزع :
- الجارية ضربته على وجهه !
صاح الفلاح معترضا :
- أنا الذي ضربته كفَّا ً حتى يفيق؛ ويخرج الماء الذي ابتلعه !
في الدار، بينما سالم راقد في سرير أبويه ذي الأعمدة النحاسية؛ تحلَّق إخوته التسعة حول طبلية كبيرة؛ عليها أرغفة خبز ناشفة؛ ووعاء به مش؛ وقلة من الفخار؛ وجلست جدته وأمه يتهامسان مع أبيه على حصيرة على الأرض؛ كانت الجدة تقول :
- أولاد الحلال أخبروني إن الشيخة سلمي قالت إن الجارية وفت بالعهد؛ لكن سالم إذا نزل الماء مرة أخرى فلن يخرج منه !
- والله يا أمي أنا محتارة أربطه في عمود السرير حتى لا يخرج .. .. طفل صغير كيف أحبسه في البيت ؟!
قال الأب متعجبا، وهو يضرب كفا بكف :
- والله يا جماعة كل هذا الكلام .. .. واعذريني يا خالتي .. .. هذا الكلام كله تخاريف .. .. و لا يوجد جارية و لا يحزنون .. .. والشيخة سلمى هذه مجرد دجال .. .. هو فيه رجل يسمي نفسه سلمى .. .. أكيد هو دجال ونصاب ومحتال !
- يا ابني الله لا يسيئك .. .. ألم تر أصابع الكف على خد ابنك .. .. ثم إن الشيخة سلمى ليس اسم مولانا إنما هو اسم الجنية .. .. الجن الخادم الذي يُعرِّفه الأسرار التي لا يعرفها غيره .. ..
- يا خالتي .. .. أصابع الكف الحمد لله آثارها راحت .. .. لم يعد لها وجود .. .. ثم إن الرجل الفلاح قال إن هو الذي ضربه كفا حتى يفيق ويخرج الماء الذي ابتلعه .. .. شغلوا عقولكم يا عالم كفاية خرافات .. .. والله العظيم النكسة التي أصابتنا سببها هذا الجهل وهذه الخرافات .. .. الله يكون في عونك يا عبد الناصر!
ثم قام الرجل غاضبا؛ ورفع غطاء الزير؛ وقال متعجبا :
- الزير فاضي .. .. موضوع سالم شغلكم عن ملوه !
- القلل مليئة .. .. ستكفينا حتى الغد .. .. لا تحمل همَّا !
ذهب الرجل؛ وارتمى على مرتبة على الأرض؛ ونام؛ ثم تبعه أولاده وبناته بعد أن انتهوا من تناول العشاء! وظلت المرأتان وحدهما تتهامسان؛ قالت الكبرى:
- ألا تذكرين وأنت صغيرة عندما حكيت لك أني رأيت الجارية عند الجميزة، وهي تمشط شعرها؛ كانت ستقتلني لولا أنني خلعت الكردان من رقبتي؛ والخلخال من رجلي؛ وأعطيتهما لها؛ عندها أعطتني الأمان أنا وكل سلسالي .. ..
- أذكر يا أمي .. .. أذكر .. .. سمعت هذه الحكاية ألف مرَّة !
- إذن .. .. بإذن الله غدا نأخذ الولد للشيخة سلمى ترقيه؛ وتعمل له حجاب يحميه !
- لكن .. .. هو حلف علي َّ بالطلاق ألا أذهب عند هذا الدجا ااااااال !
- دجال .. ..
- آسفة يا أمي .. .. لكن .. ..
- لا لكن .. .. و لا فاتن .. .. أنا سأذهب بنفسي بحبيب قلبي سالم .. .. وعليك يا فالحة أنت والأولاد تملأوا الزير والقلل والزلع من ( الطلمبة ) وإلا نموت من العطش !
- حاضر يا أمي .. .. تصبحي على خير!
- تصبحوا على الحديدة أنت والمحروس بعلك يا قلب أمك !
في الصباح مع شروق الشمس؛ وأبو سالم يفتح باب الدار؛ ألفى زوجته خلفه! وكأنها تريد أن تقول له شيئا؛ بادرها هو قائلا :
- ماذا تريدين ؟!
ردت بتلعثم :
- لا شيء .. .. كنت أطمئن .. .. عليك !
أحس َّ بما تريد أن تفاتحه فيه؛ فقال لها مؤكدا :
- لقد حلفت عليك بالطلاق .. .. إياك أن تطاوعي أمك؛ وتذهبي بسالم عند هذا الدجال!
- حاضر .. .. أنا أصلا ورائي غسيل ملابس؛ ومواعين؛ وملو الزير؛ والقلل .. .. يعني شغل يهد جبل .. .. اليوم كله سأقضيه أنا والأولاد عند ( الطلمبة ) !
خرج الرجل قاصدا عمله؛ وبينما هو يسير في شوارع الحارة التي لا يزيد عرض أحدها عن مترين أو ثلاثة! فوجئ بامرأتين تتعاركان بالأيدي؛ وكل منهما تريد إيقاع الأخرى على الأرض؛ وقف مذهولا لا يعرف ماذا يفعل؛ ثم تقدَّم منهما ليحجز بينهما؛ ويوقف هذا العراك العجيب! لكنه وفي ثوان معدودة وجد نفسه محشورا بينهما! وفجأة سقط الثلاثة على الأرض في الوحل والطين؛ توقفت المرأتان بعدما تمزق ثوب كل منهما؛ وبدت أجزاء من جسديهما! وانطلقت كل واحدة منهما نحو دارها في صمت! قام الرجل من على الأرض؛ وهو يسب ويلعن؛ فقد تمزق جلبابه الجديد؛ والتصق الطين به وبجسده؛ فاضطر إلى أن يعود إلى الدار؛ وهو يجرجر أذيال الحسرة؛ فزعت زوجته من منظره؛ وحسبته دخل في خناقة أو أن بعض البلطجية تعرضوا له! ومر في رأسها هاجس ؛ فسألته بذعر :
- ماذا جرى .. .. الجارية آذتك ؟!
- جارية .. .. قولي جاريتان .. .. الله يلعن النسوان .. .. ويلعن جيرتهم !
- لا يوجد في الدار ماء يكفي للاستحمام .. ..
- سأذهب لأستحم بماء ( الطلمبة ) وأنت جهزي لي غيارا؛ وأحضري لي الجلباب القديم.. .. بسرعة .. .. بسرعة .. .. تأخرت على شغلي !
- حاضر .. .. حاضر !
عشاءً عندما تشعل البيوت لمبات الجاز، والشموع؛ تبدو الحارة وكأنها بقعة بيضاء صغيرة في صفحة خضراء! إنها قرية وسط الأراضي الزراعية؛ ومع ذلك يطلقون عليها حارة شلهوب؛ شيوخ القرية وعجائزها يقولون أن شلهوب هذا هو أول من استوطن هذا المكان؛ فريق منهم يقول أنه أحد الصعاليك؛ وفريق يزعم أنه كان مجذوبا؛ وفريق ثالث يدعي أنه جان؛ لكنهم جميعا يتفقون على أنه الشخص الوحيد الذي أحبته الجارية؛ تلك الجنية التي اتخذت من جذع شجرة الجميز بيتا لها! وكانت تتسلل ليلا إلى داره القريبة من الترعة؛ تلك الدار التي تسكنها الآن الشيخة سلمى!
في تلك الليلة كانت الدار تعج بالمريدين الذين جاؤوا طمعا في البركة؛ والزوار الذين جاؤوا بمشاكلهم التي استعصى على أهل الطب حلها! والجدة التي جاءت بحفيدها؛ جلست هي الأخرى تنتظر دورها! وعندما حان الدور؛ ودخلت به على الشيخة سلمى؛ فوجئ الصغير بكهل يرتدي ملابس النساء؛ والكثير من الحلي والزينة! صحيح أن دخان المباخر كان كثيفا إلا أن وجهه بدا واضحا! ومن العجيب أنه ظل يحدق في وجه الصغير سالم؛ حتى أن ذلك الأخير من شدة خوفه أخذ يلتصق بجدته؛ وكأنه يريد أن يختبئ بداخلها ! سمعه يقول له بلهجة غريبة :
- جدتك أخذت لك الأمان .. .. من سيدة نساء الجان .. .. ولولا ذلك .. .. لكنت الآن في خبر كان !
سأله سالم وهو يلتصق أكثر بجدته؛ وكأنه يطلب منها الحماية :
- ممكن أسأل سؤال .. .. إذا كنت رجلا لماذا ترتدي مثل الحريم ؟
- شلهوب يا شلهوب .. .. الولد يظهر إنه مسه مجذوب !
صرخت الجدة؛ وضربت بيدها على صدرها؛ وهي تردد بفزع :
- مسه مجذوب .. .. استر يا رب .. .. استر يا رب .. .. والعمل يا شيخة سلمى ؟!
- علقي هذا الحجاب في رقبته وسيكون في أمان وسلام .. .. و لا يخلعه أبدا حتى عند دخول الحمام !
- الله يبارك فيك ِيا شيخة سلمى .. .. دكر البط المرجان أسبوع ويكون جاهز لأجل يليق بمقامك أنت والأحباب .
قبل أن يخرجا جذب سالم جدته من ملابسها؛ ففهمت أنه يريد أن يُسر لها أمرا؛ خفضت رأسها فاقترب من أذنها حتى لا يسمعه غيرها؛ وهمس قائلا :
- جدتي .. .. أليس هذا هو نفس الكردان الذي كنت ترتدينه يوم زفافك؛ لقد رأيته يزين رقبتك في صورة زفافك أنت والمرحوم جدي !
رفعت الجدة رأسها؛ ونظرت إلى رقبة الشيخة سلمى؛ فوجئت بأنه هو نفس الكردان؛ تساءلت في نفسها :
- كيف وصل إلى رقبة الشيخة .. .. أكيد الجارية أهدته إليها .. .. كراماتك يا شيخة سلمى!
خرجت الجدة بحفيدها؛ كانت الدنيا ظلاما خارج الدار؛ فأخرجت من سلتها لمبة الجاز؛ لكنها قبل أن تشعل فتيلها؛ فوجئت بوجه إحدى جاراتها وابنتها؛ كانتا قادمتين للشيخة لعمل حجاب يجلب عريسا ذا نسب وحسب؛ طال الكلام وتشابكت دروبه؛ وكان سالم قد أخذ لمبة الجاز من جدته ليحملها؛ ويخفف عنها؛ فاستغل انشغالها بالحديث مع الجارة وابنتها؛ وتسلل خفية؛ ودار حول الدار وهو يسكب الجاز على الجدار؛ صحيح أنها مبنية بالطوب اللبِن؛ لكن دعائمها كانت من الخوص والجريد وكذلك السقف! وما أسرع ما شبت النار؛ وبدأت ألسنة اللهب تزداد؛ والدخان يتصاعد ويملأ الأرجاء! وتسابقت كل بنات حواء في الخروج من الدار - التي باتت تحترق- وقد ملأن الفضاء صراخا من شدة الذعر الذي أصابهن!
على مقربة من باب الدار؛ اختبأ سالم خلف شجرة نبق تطل على الترعة؛ وعندما رأى الشيخة سلمى خارجة من الباب وهي في حالة من الخوف والهلع؛ تحمل على رأسها لفة كبيرة وثقيلة ؛ هجم عليها؛ وانتزع الكردان من رقبتها؛ ثم انحنى وأمسك بإحدى ساقيها يبحث عن الخلخال؛ فوقعت على الأرض وطارت اللفة التي معها وانفكت عقدتها؛ فظهرت محتوياتها الثمينة؛ والتي أخذت تلمع وتتلألأ أمام أعين الناس الذين كانوا قد تجمعوا بسبب الصراخ والدخان!
عاد سالم إلى شجرة النبق بعد أن أنهى ما أراد؛ واختبأ خلفها، أهل الحارة الذين تجمعوا انقسموا فريقين؛ فريق يريد أن يطفئ النار؛ والفريق الآخر يرفض ذلك ويرى في هذه النار خلاصهم من ذلك النصاب؛ لا سيما بعد أن رأوا بأعينهم الذهب والحلي والمال الذي في اللفة الكبيرة ! وسط هذه المعركة الكلامية الحامية الوطيس؛ رأى سالم أبويه وسط الناس يسألان بلهفة عنه وعن جدته؛ ورأى الجارة وابنتها، ولم ير جدته بينهم؛ فخرج مسرعا نحو الجارة يسألها بخوف :
- أين جدتي ؟!
- يا ملعون .. .. أين كنت أنت .. .. جدتك برج من رأسها طار عندما التفتت ولم تجدك .. .. ودخلت الدار تبحث عنك !
صرخ الولد بأعلى صوته؛ وانطلق يجري نحو الدار التي أصبحت جحيماً :
- جدتي .. .. جدتي !
لحقه أبوه؛ وأمسك به قبل أن يقذف نفسه في النار؛ أخرج سالم الكردان والخلخال والدموع تغسل وجهه وتبلل ملابسه؛ أمسك أبوه بهما؛ وهو لا يصدق عينيه؛ وسأله بذهول :
- كردان وخلخال جدتك .. .. أين وجدتهما ؟!
- أرجوك يا أبي .. .. لو أنك تحبني اتركني !
- أتركك ترمي نفسك في النار .. .. لا يا بني .. .. جدتك الله يرحمها .. .. لا يمكن أن يخرج أحد حيا من وسط هذا الجحيم !
- لن أذهب ناحية النار .. .. أريد فقط أن أذهب عند شجرة النبق !
رغم دهشته وذهوله؛ سار معه حتى الشجرة؛ وعندما وصلا؛ أمسك سالم الكردان والخلخال؛ وقذفهما في مياه الترعة أمام أبيه الذي كاد أن يُجن؛ وهو يرى ابنه يرمي الثروة الكبيرة التي لم يفرح بها أكثر من لحظات! سمع الاثنان صياح بعض الأولاد؛ فانطلق الجميع نحو الصوت؛ قذف سالم بنفسه في أحضان الجسد الراقد بين الحشائش؛ اطمأن إلى أن صدرها يعلو ويهبط؛ قال والدموع لا تزال تجري من عينيه:
- كان نفسي أرجع لك الكردان والخلخال يا جدتي !
- يا نور عيني .. .. أنت أغلى عندي من كنوز الدنيا كلها !
-
*متولي محمد متولي بصل
دمياط

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...