⏪⏬
مضى على تعيين الأستاذ ( حمدان العمر ) ، أكثر من ثلاث سنوات ، معلما وحيدا في قرية ( تل مكسور ) ، دون أن يطلب نقله إلى
قريته القريبة ، بالرغم من حاجة أبويه العجوزين ، إلى خدماته في الأرض التي يتملّكانها ، فهو يرى نفسه كل شيء في( تل مكسور ) ، فإذا انتقل إلى قريته ، ذهبت مكانته وهيبته ، ولسوف يضطر أن ينزل من عليائه ، ليعمل في الأرض ، بدافع الحياء والواجب أمام الحاح والديه .
لقد أوهم الجميع ـ بمن فيهم المختار ـ ( أبو قاسم ) بأنه رجل مسنود في المحافظة ، بأن أبرز لهم بطاقة غريبة ، على أنها بطاقة أمنية ، فانتشر صيته حتى شمل القرى المجاورة ، كما اشتهر بقسوته وبطشه ، وكثيرا ما كان يبتسم في سره ، حين يتذكر خوف الكبار منه قبل الصغار .
وماكان يغريه في البقاء في ( تل مكسور ) ، ما يلقاه من خدمة واهتمام وتبجيل ، فقد سكن في أحسن البيوت ، وأكل أشهى الطعام ، بفضل دعمه المزعوم .
ومن دواعي استمراريته في هذه القرية ، مغامراته الجنسية فيها ، فهو يستغل وضعه معلماوحيدا ، يستشيره الجميع في كل الأمور ، قانون ، سياسة ، زراعة ، وحتى أمور الدين ، وكثيرا ما كان يتبجح بمقولة ، ( من علمني حرفا ، كنت له عبدا ) ، مشددا بتلذذ عظيم على كلمة ( عبد) ، كل
هذا استخدمه طعما في اصطياد النساء الساذجات ،
بالإضافة إلى كونه عازبا لم يتجاوز الثلاثين، يعد نفسه متميزا بثقافته ، وعاداته ، وملبسه ، ومشربه ،ومن هذا المنطلق ، يصر على ارتداء طقمه البني ، وقميصه البرتقالي ، وربطة عنقه الحمراء ، في كل الأوقات ، وكان يطيل الوقت حين ينظف أسنانه ، ليراه أكبر عدد ممكن من الأهالي ، وإلى أن ينبثق الدم من لثته الملتهبة .
إنه يرى في شخصه ملكا ، في هذه القرية الغافلة . لكن ما ينغص عيشه هي ( خديجة ) والدة تلميذه ( جمع الخلف )
جمل نساء القرية ،الأرملة ، والوحيدة ، والتي تستطيع لو شاءت أن تتسلل إليه ، أو يتسلل إليها ، فالبيت قريب ، ولكنها
نفرت من كل المحاولات .
ذات يوم طرق بابها ، بعد منتصف الليل ، فرجع مغسولا ببصقة ، مازال يحس وقعها على وجهه ، مما جعله يتنازل ، وبدافع شهوته المتقدة نحوها ، ويعرض عليها الزواج ، فتعللت له بولدها ، وبأنها نذرت حياتها من أجله ، فأضحت جرحه الكبير ، وتحولت شهوته إلى جرح عميق ، انصب على ولدها ( جمعة ) ، فصار يضرب بعد الدلال .. رغم تفوقه ، فتنتقل شكواه ودموعه إلى أمه ، التي تشكو أمرها وأمر ابنها إلى الله .
كان الأستاذ ( حمدان ) يقف على الكرسي ، يتلصص من خلال النافذة ، مراقبا حركة التلاميذ في استراحتهم ، فما إن تبدر أية حركة من اللعب البريء من الصبي ، حتى يباغت بصوت الأستاذ المتجسس ، ويبدأ التحقيق معه ، وفي النهاية تكون العقوبة القاسية ، هي الجزاء المنتظر لهذا اليتيم
المسكين .
واليوم ... حدث ما يبرر كل حقد ( حمدان ) على تلميذه ( جمعة ) ، وشاهد من خلال النافذة ، التلاميذ يلعبون بكرة مصنوعة من الخرق البالية ، لأنه حرم عليهم اللعب بالكرة الحقيقية ، التي جمع ثمنها منهم ، ولما كان ( جمعة ) بينهم ، اندفع ( حمدان ) إلى الباحة الترابية ، وأطلق صفارة الإنذار ، فتجمد الدم في عروق الصغار ، اقترب من الكرة ، تفحصها جيدا ، ثم صرخ :
ـ من دس علم المدرسة ، مع هذه الخرق ؟.
خيم على رؤوسهم صمت رهيب ، وتوجه ( حمدان ) بنظره الحاقد صوب ( جمعة ) :
ـ أنت .. أليس كذلك ؟ .. قسما بالله سأسحقك .
وانبعث صوت الطفل ، مبهوتا لهذا الإتهام :
ـ لست أنا .. يا أستاذ !!
ـ اخرس يا كلب .. هذا عمل لا يقوم به سواك .
ـ وحق المصحف يا أستاذ ، أنا لا علاقة لي بصنع الكرة .
وعلى الفور ، أمر الأستاذ بعض التلاميذ ، فرفعوا قدمي ( جمعة ) إلى الأعلى ، وانهال عليه بعصاه الغليظة ، فانطلق صراخ الطفل ، بريئا ، لينتشر في أرجاء القرية المتناثرة البيوت ، فالتم الناس على صوت العويل ، وأسرع بعض الصبية ، فأخبروا الأرملة .
تحلق الأهالي رجالا ونساء وأطفال ، وجميعهم يسألون : ـ ماذا فعل ( جمعة ) .. ؟ .
وكان الصغار يتولون الجواب :
ـ لقد صنع من علم البلاد كرة .
والأستاذ ( حمدان ) منهمك بضرب الصغير ،غير عابىء بصراخه وتوسلاته :
ـ أستاذ .. دخيلك .. أبوس رجلك .. اتركني .
وقبل أن تجد توسلات الصغير ، مكانا في قلب الأستاذ ، الذي كان يزهو داخليا ، لأنه مركز لهذه الأحداث ، جاءه صوت ( خديجة ) ، الذي يميزه عن أصوات نساء الأرض :
ـ لماذا تضرب ولدي هكذا ، يا حضرة الأستاذ ؟!.
فزعق ( حمدان ) بوجهها :
ـ لأنه مجرم .. مخرب .. خائن .. هل فهكت ؟ .
اقترب الحاضرون أكثر من المعلم ، المتقطع الأنفاس :
- سأبعثه إلى السجن ، قسما سأبلغ السلطات عنه ، هذه جريمة لا يسكت عنها .
صرخت الأم بانفعال شديد :
ـ يعني ما حصل شيء ، ولد لا يفرق بين العلم ، وأية خرقة أخرى ...
زمجر المعلم المتلذذ بهذه المشاجرة الكلامية :
ـ ولد ..؟!! .. لا يعرف قيمة العلم ؟!.. هذا غير صحيح ، من منكم ـ وتوجه بكلامه للحاضرين :
ـ من منكم .. لا يعرف بأن العلم رمز للدولة ؟؟!!..
اقترب المختار ( أبو قاسم ) ، يرجوه :
ـ يا أستاذ ( حمدان ) ، هذا ولد .. يجب ألا تؤاخذه ، على هذه الغلطة .
صاح ( حمدان ) :
- حتى أنت يامختار ؟؟؟!!!...والله سأكتب تقريرا إلى مختلف
الجهات الأمنية ...
... سأذكر وجهت نظرك هذه يا أبا قاسم : ـ أنا يجب أن لا أتناقش معكم ، في هذا الموضوع .. أصلا ليس من قيمتي أن أتناقش مع أحدكم ، هذا موضوع خطير ، وأنتم لا تفهمون بالسياسة ، سأكتب ... ومن لا يعجبه سأذكر اسمه في التقرير ، فأنا لا يجوز لي التسامح في هذا الشأن ، وأنا لعلمكم كاتب تقارير ممتاز ، ومن لا يصدق فليذهب إلى قائد قطعتي في الجيش ، ويسأله عن تقاريري ، كان يضرب المثل بها ، أمام رفاقي ، ومن هذه الناحية ... أنا لن أخسر شيئا ، سوى كتابة التقرير ، ووضع توقيعي وخاتم المدرسة عليه ، ثم تأتي الدوريات .
ولما أراد المختار أن يتدخل مرة أخرى ، حدجه الأستاذ بنظرة ذات معنى ، وكتم بهجته ..بإرباكه .. وصرخ :
ـ أرجوك يا جناب المختار ، لا تتفوه بكلمة ستندم عليها ... ومسؤوليتك أن تبلغ عنه بنفسك .
نشر الخوف ظلاله على الجميع ، وتعثرت الكلمات على شفاههم ، مرت لحظات منحوته من دمع وظلام ، حار الواقفون ، وطال صمتهم ، فكر ( أبو عيشة ) أن يساند ( حمدان ) ، حتى لا يظل متعاليا عليه ، لكنه خجل من ( خديجة ) ، أرملة( نايف ) ابن عمه ، التي رآها واقفة بانكسار .
تردد أصحاب النخوة في مواقفهم ، وتقدم ( أبو نواف ) ، وطبع قبلة على شارب المعلم ، وتشجع ( أبو ممدوح ) ، فعزم على الجميع ، أن يتفضلوا إلى داره ، ليذبح خروفا إكراما للأستاذ ... هكذا راح يقسم .
وانكبت خالة الأرملة العجوز ، على يد ( حمدان ) ، تقبلها ، وتبللها بدموعها .
كثرت التوسلات ، وتعالت الأصوات ... مسترحمة ، مستعطفة ، حتى ( خديجة ) ... تهدجت كلماتها من الفزع .. وهي تتمتم :
ـ هذا طفل يا أستاذ ... لو كان رجلا ...
ولم تكمل كلامها ، حتى انتفش كالطاووس ، وهو يزعق بتلذذ :
ـ السلطات العليا وحدها ستقرر مصير ابن الخائن هذا ..
انصعقت ( خديجة ) ، توقعت كل شيء ، إلآ أن يتهم زوجها بالخيانة ، وحاولت أن تتمالك ، فلتصمت ... عن هذه الإهانة ، فالجميع يعرفون من هو زوجها ، المهم الآن ... أن تستعطف هذا الحاقد ، لأن مصير ولدها ( جمعة ) في خطر ، فابتلعت الإهانة ، وضغطت على جرحها ، وقالت :
ـ سامحك الله يا أستاذ ( حمدان ) ، لو كنت تعرف أي الرجال ، كان ( أبو جمعة ) ، لما اتهمته بالخيانة .
أدرك ( حمدان ) نقطة الضعف عند غريمته ، فعزم على تمريغ اسم المرحوم :
ـ لو لم يكن جبانا ، لما أنجب هذا الولد الخائن .
وهنا فقدت ( خديجة ) رشدها ، لم تعد تحتمل أكثر مما سمعت ، فصرخت كمجنونة ، واندفعت بتجاه( حمدان ) :
ـ اخرس ... اخرس ياكلب ، من أنت ، حتى تقول عن ( أبي جمعة ) جبان ؟؟؟!!!!.. متى أصبح الشهيد خائنا ؟!.. اذهب فاسأل تربة الجولان ، لتعرف من هو ( أبو جمعة ) ، أنت مجرد نذل .. حقير ، حاولت النيل من عرض هذا الشهيد ، الذي لا تساوي أنت وتقاريرك فردة حذائه .
واندفعت نحوه أكثر ، رافعة يدها بقوة ، تريد أن تصفعه
في تلك اللحظة ، عندما كان يتراجع( حمدان ) مذعورا كالفأر
شاهد جميع من كان حاضرا ، من أهالي ( تل مكسور ) يد ( خديجة ) الطاهرة ، تخفق في سماء القرية المكتنزة بالغيوم
بشموخ وكبرياء ، ترتفع تماما مثل علم البلاد .
-
*مصطفى الحاج حسين
حلب ..
مضى على تعيين الأستاذ ( حمدان العمر ) ، أكثر من ثلاث سنوات ، معلما وحيدا في قرية ( تل مكسور ) ، دون أن يطلب نقله إلى
قريته القريبة ، بالرغم من حاجة أبويه العجوزين ، إلى خدماته في الأرض التي يتملّكانها ، فهو يرى نفسه كل شيء في( تل مكسور ) ، فإذا انتقل إلى قريته ، ذهبت مكانته وهيبته ، ولسوف يضطر أن ينزل من عليائه ، ليعمل في الأرض ، بدافع الحياء والواجب أمام الحاح والديه .
لقد أوهم الجميع ـ بمن فيهم المختار ـ ( أبو قاسم ) بأنه رجل مسنود في المحافظة ، بأن أبرز لهم بطاقة غريبة ، على أنها بطاقة أمنية ، فانتشر صيته حتى شمل القرى المجاورة ، كما اشتهر بقسوته وبطشه ، وكثيرا ما كان يبتسم في سره ، حين يتذكر خوف الكبار منه قبل الصغار .
وماكان يغريه في البقاء في ( تل مكسور ) ، ما يلقاه من خدمة واهتمام وتبجيل ، فقد سكن في أحسن البيوت ، وأكل أشهى الطعام ، بفضل دعمه المزعوم .
ومن دواعي استمراريته في هذه القرية ، مغامراته الجنسية فيها ، فهو يستغل وضعه معلماوحيدا ، يستشيره الجميع في كل الأمور ، قانون ، سياسة ، زراعة ، وحتى أمور الدين ، وكثيرا ما كان يتبجح بمقولة ، ( من علمني حرفا ، كنت له عبدا ) ، مشددا بتلذذ عظيم على كلمة ( عبد) ، كل
هذا استخدمه طعما في اصطياد النساء الساذجات ،
بالإضافة إلى كونه عازبا لم يتجاوز الثلاثين، يعد نفسه متميزا بثقافته ، وعاداته ، وملبسه ، ومشربه ،ومن هذا المنطلق ، يصر على ارتداء طقمه البني ، وقميصه البرتقالي ، وربطة عنقه الحمراء ، في كل الأوقات ، وكان يطيل الوقت حين ينظف أسنانه ، ليراه أكبر عدد ممكن من الأهالي ، وإلى أن ينبثق الدم من لثته الملتهبة .
إنه يرى في شخصه ملكا ، في هذه القرية الغافلة . لكن ما ينغص عيشه هي ( خديجة ) والدة تلميذه ( جمع الخلف )
جمل نساء القرية ،الأرملة ، والوحيدة ، والتي تستطيع لو شاءت أن تتسلل إليه ، أو يتسلل إليها ، فالبيت قريب ، ولكنها
نفرت من كل المحاولات .
ذات يوم طرق بابها ، بعد منتصف الليل ، فرجع مغسولا ببصقة ، مازال يحس وقعها على وجهه ، مما جعله يتنازل ، وبدافع شهوته المتقدة نحوها ، ويعرض عليها الزواج ، فتعللت له بولدها ، وبأنها نذرت حياتها من أجله ، فأضحت جرحه الكبير ، وتحولت شهوته إلى جرح عميق ، انصب على ولدها ( جمعة ) ، فصار يضرب بعد الدلال .. رغم تفوقه ، فتنتقل شكواه ودموعه إلى أمه ، التي تشكو أمرها وأمر ابنها إلى الله .
كان الأستاذ ( حمدان ) يقف على الكرسي ، يتلصص من خلال النافذة ، مراقبا حركة التلاميذ في استراحتهم ، فما إن تبدر أية حركة من اللعب البريء من الصبي ، حتى يباغت بصوت الأستاذ المتجسس ، ويبدأ التحقيق معه ، وفي النهاية تكون العقوبة القاسية ، هي الجزاء المنتظر لهذا اليتيم
المسكين .
واليوم ... حدث ما يبرر كل حقد ( حمدان ) على تلميذه ( جمعة ) ، وشاهد من خلال النافذة ، التلاميذ يلعبون بكرة مصنوعة من الخرق البالية ، لأنه حرم عليهم اللعب بالكرة الحقيقية ، التي جمع ثمنها منهم ، ولما كان ( جمعة ) بينهم ، اندفع ( حمدان ) إلى الباحة الترابية ، وأطلق صفارة الإنذار ، فتجمد الدم في عروق الصغار ، اقترب من الكرة ، تفحصها جيدا ، ثم صرخ :
ـ من دس علم المدرسة ، مع هذه الخرق ؟.
خيم على رؤوسهم صمت رهيب ، وتوجه ( حمدان ) بنظره الحاقد صوب ( جمعة ) :
ـ أنت .. أليس كذلك ؟ .. قسما بالله سأسحقك .
وانبعث صوت الطفل ، مبهوتا لهذا الإتهام :
ـ لست أنا .. يا أستاذ !!
ـ اخرس يا كلب .. هذا عمل لا يقوم به سواك .
ـ وحق المصحف يا أستاذ ، أنا لا علاقة لي بصنع الكرة .
وعلى الفور ، أمر الأستاذ بعض التلاميذ ، فرفعوا قدمي ( جمعة ) إلى الأعلى ، وانهال عليه بعصاه الغليظة ، فانطلق صراخ الطفل ، بريئا ، لينتشر في أرجاء القرية المتناثرة البيوت ، فالتم الناس على صوت العويل ، وأسرع بعض الصبية ، فأخبروا الأرملة .
تحلق الأهالي رجالا ونساء وأطفال ، وجميعهم يسألون : ـ ماذا فعل ( جمعة ) .. ؟ .
وكان الصغار يتولون الجواب :
ـ لقد صنع من علم البلاد كرة .
والأستاذ ( حمدان ) منهمك بضرب الصغير ،غير عابىء بصراخه وتوسلاته :
ـ أستاذ .. دخيلك .. أبوس رجلك .. اتركني .
وقبل أن تجد توسلات الصغير ، مكانا في قلب الأستاذ ، الذي كان يزهو داخليا ، لأنه مركز لهذه الأحداث ، جاءه صوت ( خديجة ) ، الذي يميزه عن أصوات نساء الأرض :
ـ لماذا تضرب ولدي هكذا ، يا حضرة الأستاذ ؟!.
فزعق ( حمدان ) بوجهها :
ـ لأنه مجرم .. مخرب .. خائن .. هل فهكت ؟ .
اقترب الحاضرون أكثر من المعلم ، المتقطع الأنفاس :
- سأبعثه إلى السجن ، قسما سأبلغ السلطات عنه ، هذه جريمة لا يسكت عنها .
صرخت الأم بانفعال شديد :
ـ يعني ما حصل شيء ، ولد لا يفرق بين العلم ، وأية خرقة أخرى ...
زمجر المعلم المتلذذ بهذه المشاجرة الكلامية :
ـ ولد ..؟!! .. لا يعرف قيمة العلم ؟!.. هذا غير صحيح ، من منكم ـ وتوجه بكلامه للحاضرين :
ـ من منكم .. لا يعرف بأن العلم رمز للدولة ؟؟!!..
اقترب المختار ( أبو قاسم ) ، يرجوه :
ـ يا أستاذ ( حمدان ) ، هذا ولد .. يجب ألا تؤاخذه ، على هذه الغلطة .
صاح ( حمدان ) :
- حتى أنت يامختار ؟؟؟!!!...والله سأكتب تقريرا إلى مختلف
الجهات الأمنية ...
... سأذكر وجهت نظرك هذه يا أبا قاسم : ـ أنا يجب أن لا أتناقش معكم ، في هذا الموضوع .. أصلا ليس من قيمتي أن أتناقش مع أحدكم ، هذا موضوع خطير ، وأنتم لا تفهمون بالسياسة ، سأكتب ... ومن لا يعجبه سأذكر اسمه في التقرير ، فأنا لا يجوز لي التسامح في هذا الشأن ، وأنا لعلمكم كاتب تقارير ممتاز ، ومن لا يصدق فليذهب إلى قائد قطعتي في الجيش ، ويسأله عن تقاريري ، كان يضرب المثل بها ، أمام رفاقي ، ومن هذه الناحية ... أنا لن أخسر شيئا ، سوى كتابة التقرير ، ووضع توقيعي وخاتم المدرسة عليه ، ثم تأتي الدوريات .
ولما أراد المختار أن يتدخل مرة أخرى ، حدجه الأستاذ بنظرة ذات معنى ، وكتم بهجته ..بإرباكه .. وصرخ :
ـ أرجوك يا جناب المختار ، لا تتفوه بكلمة ستندم عليها ... ومسؤوليتك أن تبلغ عنه بنفسك .
نشر الخوف ظلاله على الجميع ، وتعثرت الكلمات على شفاههم ، مرت لحظات منحوته من دمع وظلام ، حار الواقفون ، وطال صمتهم ، فكر ( أبو عيشة ) أن يساند ( حمدان ) ، حتى لا يظل متعاليا عليه ، لكنه خجل من ( خديجة ) ، أرملة( نايف ) ابن عمه ، التي رآها واقفة بانكسار .
تردد أصحاب النخوة في مواقفهم ، وتقدم ( أبو نواف ) ، وطبع قبلة على شارب المعلم ، وتشجع ( أبو ممدوح ) ، فعزم على الجميع ، أن يتفضلوا إلى داره ، ليذبح خروفا إكراما للأستاذ ... هكذا راح يقسم .
وانكبت خالة الأرملة العجوز ، على يد ( حمدان ) ، تقبلها ، وتبللها بدموعها .
كثرت التوسلات ، وتعالت الأصوات ... مسترحمة ، مستعطفة ، حتى ( خديجة ) ... تهدجت كلماتها من الفزع .. وهي تتمتم :
ـ هذا طفل يا أستاذ ... لو كان رجلا ...
ولم تكمل كلامها ، حتى انتفش كالطاووس ، وهو يزعق بتلذذ :
ـ السلطات العليا وحدها ستقرر مصير ابن الخائن هذا ..
انصعقت ( خديجة ) ، توقعت كل شيء ، إلآ أن يتهم زوجها بالخيانة ، وحاولت أن تتمالك ، فلتصمت ... عن هذه الإهانة ، فالجميع يعرفون من هو زوجها ، المهم الآن ... أن تستعطف هذا الحاقد ، لأن مصير ولدها ( جمعة ) في خطر ، فابتلعت الإهانة ، وضغطت على جرحها ، وقالت :
ـ سامحك الله يا أستاذ ( حمدان ) ، لو كنت تعرف أي الرجال ، كان ( أبو جمعة ) ، لما اتهمته بالخيانة .
أدرك ( حمدان ) نقطة الضعف عند غريمته ، فعزم على تمريغ اسم المرحوم :
ـ لو لم يكن جبانا ، لما أنجب هذا الولد الخائن .
وهنا فقدت ( خديجة ) رشدها ، لم تعد تحتمل أكثر مما سمعت ، فصرخت كمجنونة ، واندفعت بتجاه( حمدان ) :
ـ اخرس ... اخرس ياكلب ، من أنت ، حتى تقول عن ( أبي جمعة ) جبان ؟؟؟!!!!.. متى أصبح الشهيد خائنا ؟!.. اذهب فاسأل تربة الجولان ، لتعرف من هو ( أبو جمعة ) ، أنت مجرد نذل .. حقير ، حاولت النيل من عرض هذا الشهيد ، الذي لا تساوي أنت وتقاريرك فردة حذائه .
واندفعت نحوه أكثر ، رافعة يدها بقوة ، تريد أن تصفعه
في تلك اللحظة ، عندما كان يتراجع( حمدان ) مذعورا كالفأر
شاهد جميع من كان حاضرا ، من أهالي ( تل مكسور ) يد ( خديجة ) الطاهرة ، تخفق في سماء القرية المكتنزة بالغيوم
بشموخ وكبرياء ، ترتفع تماما مثل علم البلاد .
-
*مصطفى الحاج حسين
حلب ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق