⏪ - أبْيَضْ على وزن أفْعَل .. ممنوعٌ من الصّرف
النَّص من نسج الخيال فلا وجودَ في الواقع للأشخاص وسائرِ الإشارات والأماكن الواردة في الموضوع وأي شبهٍ مع أشخاصٍ أو أحداث؟ إنما هو محضُ صدفة.. وحسب
كنتُ أرفعُ رأسي أراقبُ لوحةَ المُؤشّر، تتوالى شواهدُها فتضيءُ وتنطفىء الواحد تلو الآخر، وأنا أنتظرُ وصولَ المصعد يتوجّه من الأعلى إلى الأسفل، حينما دخلتْ بابَ المبنى سيدة شابة، أقبلتْ نحوي بخطواتٍ رشيقة، فألقتْ عليّ التحيّة عندما وصلتْ إلى جواري. تردَّدَتْ قليلاً ثم سألتْني بحياءٍ ملحوظ: هل أنتم سكانُ المبنى الجدد؟ فابتسمتُ لها وأجبتُها: نعم يا سيّدتي.
ولمّا فاجَأتْني بالسؤال وكنتُ أراها للمرّةِ الأولى؟ فقد بادلتُها النّظرَ بارتباكِ المتردّدِ الخجول، بفعلِ التشدد في التّربيةِ التي تلقيتُها في صباحِ طفولتي، وفجرِ شبابي عن العفّةِ والحياء، والمهابة البالغة في استطلاع تكاوين النّساء.
هكذا رحتُ أعاينُ شكلَها بتحفّظٍ واحتشام، وأختلسُ النّظرَ إليها أتأملُ نعومة وجهِها العاجيّ المشرق، وقامتها الممشوقة وفمها الثّمل السّكران، وعينيها السوداوينِ الناعستين، توحيانِ بخفرٍ طفوليٍّ لا لبسَ فيه، خال من الزّيف والضغينةِ والدّهاء؛ وقد حرَّضني فيها شكلُ المرأة المثيرة، وتوقُ الرّجلِ المخنوق بفعل التّربية الصارمة، وتحاشي التّدقيقِ في تفاصيلِ النّساء.
ثم لعنتُ الشيطانَ في سِرّي. الشيطان مكسر العصا في الأوقات الحرِجة، واستعذتُ بالله من شرِّ النّظرةِ الملتبسة والنّفسِ الأمّارةِ بالسوء، ولمّا يمضِ على إقامتنا في المبنى إلاّ أياما قليلة. لعلّها فاتحة لم تُحْتَسَبْ في السّكنِ الجديد؟
أو تجربة مضافة إلى تجاربِ الماضي الحلوة أو المّرة، بوحيٍ من التشدّد في التربية بعيداً من الجرأةِ أو الاعتراض، وكيف لا ينبغي أن نشتهي نساءَ الغَير، ما نهى عنه السيد المسيح وأنكرتْه كتب السّماء؛ ولو أباحته بعض ديانات الهند القديمة، التي كانت تقدِّس الرغبة، وتمارس شعائرها في المعابد.
وحينما وصلَ المصعد ومرَّتْ إزائي؟ كان عطرُها المنعش النفّاذ يتردّدُ في أنفي، ويفتِكُ بمناعتي ونوازعِ خيالي وضعفي، وقد فتحتُ لها البابَ ودعوتُها بإشارةٍ من يدي، وانحناءة من رأسي لا تكلُّف فيها.. لتتفضلَ بالدّخولِ قبلي.
ثم ولّيتُ نظري بعيدا هرباً من عينيها الطاغيتين، وسألتُها: أيّ طبقةٍ يا سيّدتي؟ لكنّها عاجلتْني بردٍ أخرس، وهي تلقي بسبابتِها على الرّقم أربعة في لوحةِ التّحكم؛ وقالت: إنها تسكنُ في الطبقةِ الرابعة شرقي؛ ويبدو أنها كانت تعرف الشقّة التي تركَها ساكنوها، حيث حللنا مكانهم فلم تسلني عن سكني.
كنتُ مربَكاً في الحقيقة أتجنبُ النَّظر إليها مباشرة، فرُحتُ أراقب أرقام الطوابق تشعُّ للحظة.. ثم تخبو؛ حينما عرّفتني بنفسِها بكلماتٍ واضحة، توحي ببراءة تعاملها ونقاء سريرتها، أن اسمها صفاء معلمةُ الصّفِ الأوّل تكميلي، في ثانوية مستديرة الغدير.. الواقعة على أطرافِ الضّاحيةِ الجنوبية. مدرسة مختلطة للبنين والبنات، وتتولى تدريسَ مادتيّ التاريخ والعربي.
وقبلَ أن يتوقّفَ المصعد؟ أضافتْ تقولُ ببشاشةٍ: زورونا يا جار النّبي أوصى بالجارِ السّابع. تبسَّمتُ لها وأجبتُها ممازحاً: لكننا نقيمُ في الطّبقة التاسعة يا سيّدتي، فلم تنتبهْ للإشارة وكان المصعد قد توقّف، حينما فتحتِ البابَ وهي تودّعني بإشارةٍ من يدِها، وإيماءةٍ من رأسِها قائلة من جديد: شرفونا يا جار.
هكذا تمّ التّعارفُ بيني وبين جارةٍ، تقطنُ الطّبقة الرابعة واسمُها صفاء، معلمة في ثانوية مستديرة الغدير، ولمّا يمضِ على انتقالِنا إلى البيتِ الجديد إلاّ ثلاث ليالٍ لا تزيد. ثم توالتِ الأيامُ ونحن نلتقي في المصعدِ أحياناً، أو على الطريق المؤدية إلى المبنى، وكثيراً ما التقيتُها في الجوارِ وعندَ البقّال.
كنّا ونحن نلتقي نتبادلُ التحيَّة، وبضعَ كلماتٍ مقتضبة معظمها كيف الحال يا جار، أو كيف الحال يا جارة؟ وكلّما فاجأتْني مقابلتُها كانت تتجدّدُ دواعي لعنتي للشيطان. حتى غمرتْني الفرحةُ في "سرِّي" ذاتَ مساء، وزوجتي تخبرُني أن جارةً لنا واسمُها صفاء، تمتهنُ التّعليم وتقطنُ الرّابع، ستزورُنا غدا لتشربَ القهوةَ معنا وتتعرفَ إلينا. وهكذا أقبلتْ صفاء تزورُنا في الوقتِ المحدّد برفقةِ ابنِها. فتى وسيم اكتسبَ من أمِّه جمالَ الطلة وطاعة العينين.
كنتُ أشاركُ زوجتي وجارتَها الجلسة، حينما استأذنتِ الزائرة بالتّدخين مع القهوة. وتبسمتُ لها قائلاً: إن أحداً منا لا يشكو من الحساسيّة أو الرّبو، وهي في بيتِها ويمكنُها أن تتصرفَ براحتِها، من دون حرج.. ولا اعتراض.
وهكذا راحتْ تدخّنُ بنهم المدمنين، وتتبادلُ الحديثَ مع زوجتي عن ذويها في شمال البلاد، وزوجها المسافر يطمرهم بمال الاغتراب. وعن إعداد الحلوى وأصناف الطعام، وما شاهدتاه ليلةَ رأسِ السّنة في برنامج أحمر بالخطّ العريض؟ ومأساة الفتاة المنكودة صاحبة القرطين يغرِّرُ بها صديقُها، ولمّا استسلمتْ له وحملتْ ذرِّيته تنكر لها، فلجأت إلى مقاضاته في المحاكم.
وابنُ السيّدة الضيفة يجلسُ إلى جواري. لا ينفكُّ يتحرّكُ في كلّ اتّجاه، وقد شعرتُ بعبءِ الجلسةِ من أجلِه، وهو يتململُ من الضّجر والضّيق، ويستطلع مفتشا بعينيه عمّا يسترعي انتباهه في أرجاء المنزل، كبعضِ الرّسوم المعلقة على الجدار وعليها صور أطفال، تراءى لي أنّهم يثيرون حسدَه بسعادتهم.
هكذا توجهتُ إلى المطبخ وأحضرتُ للفتى الزائر، كوباً من عصيرِ البرتقال أعدَدْتُه بنفسي، وبعض أصنافِ الحلوى؛ كانتْ قد هَيَّأتْها زوجتي خصيصاً للزّيارة.. وقلتُ في نفسي: من حقِّ الفتى علينا أن ألاطفَه قليلاً وأهتَمَّ به لعلي أسلِّيه قليلا أو أفيده..؟ فَرُحْتُ أتحدثُ إليه وأسألُه عن عمرِه وصفِّه، ومدرستِه في مستديرة الغدير، وعن رفاقِه ونشاطاتِه في الرياضة وهواياتِه الأخرى.
فأخبرني أنه يهوى كرةَ القدم ومشاهدة أفلام الكاراتيه، وينتسبُ إلى نادٍ في الجوار يمارسُ فيه السباحةَ والجيدو، وأنّه حصلَ على الحزامِ الأخضر ومداليةٍ فضيّةٍ في السّباحة. ثم سألتُه عن فعليّ الكونِ والمُلك أيهما تعلَّم تصريفه أولاً؟ وماذا يعرفُ عن الحساب والجذرِ التّربيعي والمثلثات، وأدواتِ النّصبِ والجزمِ تدخلُ على المضارع، وهل درسَ المبتدأ والخبر؟
كانت أمّه منشغلة مع زوجتي، لكنّها كانت تسترقُ السّمعَ لما يدورُ من حديثٍ بيننا، حينما تدخّلتْ وردّتْ بالنّيابة عنه، بأنه مشاغبٌ لكنّه من أشطر طلابِ الصف بالعربي. وهكذا وجدتُ الفرصة مناسبة لممازحته وسؤاله: ما الأصح قوله: صَفارُ البيضِ، أبيضٌ أم أبيضاً أو أبيضٍ؟ فتدخلتْ أمُّه على الفور قبل أن يتورطَ بالإجابة تقولُ له: انتبهْ إلى الممنوع من الصّرف على وزن أفعل.
وردّ الفتى من فورِه بالقول: بل "صفارُ البيضِ أبيضَ".. بالفتحة، لأنّه على وزن أفعل كالأصفر والأسود والأحمر والأزرق.. كلُّها ممنوعة من الصّرف على وزن أفعل.. كما قالتِ الماما. وحينما شدّدت له على لفظ: صفارُ البيض؟ لعله يغيِّر رأيه..؟ التفتتْ أمُّه ناحيتي وتبسّمتْ لي، كأنها تَشْمَتُ بي وتشهدُ على خيبتي في امتحان ابنها..! قائلة لي: أرأيتَ بعينِك شطارتَه بالعّربي..!؟
وهكذا بفعلِ التّربية والحشمة والحياء والعهدِ بين الجيران، وحقِّ الجارِعلى الجار في سائرِ الطّبقات، ودلالِ المرأة وسحرِ البسمة والعيونِ النّاعسة، والفمِ السّكران والعطرِ الذي يفتِكُ بالأعصاب، وكلّ تفاصيلِ الأنثى المثيرة المُحْرِجَة والمشاعرِ المَوْءُودَة، وكل الممنوعِ من الصرف من أسماءِ العَلَم.
ومن الأبيض الحليب والأزرق البحري، فالأصفر الهادىء والأحمر القاني. ومن عتمةِ القلب.. والأسود القطران، ومختلف ألوانِ الطّيف والأوزانِ.
مِنْ حفِظْتَ شَيئًا وغابَتْ عنك أشياءُ. والصِّبَا وَالجَـمَالُ مُـلْكُ يَدَيْـكِ أيُّ تَـاجٍ أعَـزُّ مِـنْ تَاجَيْـكِ، ومِن قَتَلَ الوَرْدُ نَفْسَـهُ حَسَداً وَألْقَـى دِمَـاهُ فِـي وَجْنَتَيْـكِ.
من إخفاق الحصري القيرواني: يهوى صنما للفتنة ولا يتعبَّدُه، وخيبةِ بشارة وريثِ الأمارة، وشماتِة الحسن بن هانىء.. ومن شدّة خيبتي وانكساري.
من أجلِ ذلك كله؟ انتقمتُ لنفسي فخنقتُ الشيطانَ في داخلي بلا رفقٍ به، وصرفتُه عن قلبي وفكري، وأجبتُها بحسرةٍ تنهشُني، وتقتلُ رغبةً سفكتْها تفاصيلُ المرأةِ وعينيها الفاتنين في نفسي؛ إي والله يا سيِّدتي رأيتُ بأمِّ بعيني.
إسم الله عليهِ وعليكِ. لكنَّ الفضلَ كلّ الفضلِ يا سيِّدتي إنما يعودُ لكِ وحدكِ.
-
*إبراهيم يوسف
لبنان
النَّص من نسج الخيال فلا وجودَ في الواقع للأشخاص وسائرِ الإشارات والأماكن الواردة في الموضوع وأي شبهٍ مع أشخاصٍ أو أحداث؟ إنما هو محضُ صدفة.. وحسب
كنتُ أرفعُ رأسي أراقبُ لوحةَ المُؤشّر، تتوالى شواهدُها فتضيءُ وتنطفىء الواحد تلو الآخر، وأنا أنتظرُ وصولَ المصعد يتوجّه من الأعلى إلى الأسفل، حينما دخلتْ بابَ المبنى سيدة شابة، أقبلتْ نحوي بخطواتٍ رشيقة، فألقتْ عليّ التحيّة عندما وصلتْ إلى جواري. تردَّدَتْ قليلاً ثم سألتْني بحياءٍ ملحوظ: هل أنتم سكانُ المبنى الجدد؟ فابتسمتُ لها وأجبتُها: نعم يا سيّدتي.
ولمّا فاجَأتْني بالسؤال وكنتُ أراها للمرّةِ الأولى؟ فقد بادلتُها النّظرَ بارتباكِ المتردّدِ الخجول، بفعلِ التشدد في التّربيةِ التي تلقيتُها في صباحِ طفولتي، وفجرِ شبابي عن العفّةِ والحياء، والمهابة البالغة في استطلاع تكاوين النّساء.
هكذا رحتُ أعاينُ شكلَها بتحفّظٍ واحتشام، وأختلسُ النّظرَ إليها أتأملُ نعومة وجهِها العاجيّ المشرق، وقامتها الممشوقة وفمها الثّمل السّكران، وعينيها السوداوينِ الناعستين، توحيانِ بخفرٍ طفوليٍّ لا لبسَ فيه، خال من الزّيف والضغينةِ والدّهاء؛ وقد حرَّضني فيها شكلُ المرأة المثيرة، وتوقُ الرّجلِ المخنوق بفعل التّربية الصارمة، وتحاشي التّدقيقِ في تفاصيلِ النّساء.
ثم لعنتُ الشيطانَ في سِرّي. الشيطان مكسر العصا في الأوقات الحرِجة، واستعذتُ بالله من شرِّ النّظرةِ الملتبسة والنّفسِ الأمّارةِ بالسوء، ولمّا يمضِ على إقامتنا في المبنى إلاّ أياما قليلة. لعلّها فاتحة لم تُحْتَسَبْ في السّكنِ الجديد؟
أو تجربة مضافة إلى تجاربِ الماضي الحلوة أو المّرة، بوحيٍ من التشدّد في التربية بعيداً من الجرأةِ أو الاعتراض، وكيف لا ينبغي أن نشتهي نساءَ الغَير، ما نهى عنه السيد المسيح وأنكرتْه كتب السّماء؛ ولو أباحته بعض ديانات الهند القديمة، التي كانت تقدِّس الرغبة، وتمارس شعائرها في المعابد.
وحينما وصلَ المصعد ومرَّتْ إزائي؟ كان عطرُها المنعش النفّاذ يتردّدُ في أنفي، ويفتِكُ بمناعتي ونوازعِ خيالي وضعفي، وقد فتحتُ لها البابَ ودعوتُها بإشارةٍ من يدي، وانحناءة من رأسي لا تكلُّف فيها.. لتتفضلَ بالدّخولِ قبلي.
ثم ولّيتُ نظري بعيدا هرباً من عينيها الطاغيتين، وسألتُها: أيّ طبقةٍ يا سيّدتي؟ لكنّها عاجلتْني بردٍ أخرس، وهي تلقي بسبابتِها على الرّقم أربعة في لوحةِ التّحكم؛ وقالت: إنها تسكنُ في الطبقةِ الرابعة شرقي؛ ويبدو أنها كانت تعرف الشقّة التي تركَها ساكنوها، حيث حللنا مكانهم فلم تسلني عن سكني.
كنتُ مربَكاً في الحقيقة أتجنبُ النَّظر إليها مباشرة، فرُحتُ أراقب أرقام الطوابق تشعُّ للحظة.. ثم تخبو؛ حينما عرّفتني بنفسِها بكلماتٍ واضحة، توحي ببراءة تعاملها ونقاء سريرتها، أن اسمها صفاء معلمةُ الصّفِ الأوّل تكميلي، في ثانوية مستديرة الغدير.. الواقعة على أطرافِ الضّاحيةِ الجنوبية. مدرسة مختلطة للبنين والبنات، وتتولى تدريسَ مادتيّ التاريخ والعربي.
وقبلَ أن يتوقّفَ المصعد؟ أضافتْ تقولُ ببشاشةٍ: زورونا يا جار النّبي أوصى بالجارِ السّابع. تبسَّمتُ لها وأجبتُها ممازحاً: لكننا نقيمُ في الطّبقة التاسعة يا سيّدتي، فلم تنتبهْ للإشارة وكان المصعد قد توقّف، حينما فتحتِ البابَ وهي تودّعني بإشارةٍ من يدِها، وإيماءةٍ من رأسِها قائلة من جديد: شرفونا يا جار.
هكذا تمّ التّعارفُ بيني وبين جارةٍ، تقطنُ الطّبقة الرابعة واسمُها صفاء، معلمة في ثانوية مستديرة الغدير، ولمّا يمضِ على انتقالِنا إلى البيتِ الجديد إلاّ ثلاث ليالٍ لا تزيد. ثم توالتِ الأيامُ ونحن نلتقي في المصعدِ أحياناً، أو على الطريق المؤدية إلى المبنى، وكثيراً ما التقيتُها في الجوارِ وعندَ البقّال.
كنّا ونحن نلتقي نتبادلُ التحيَّة، وبضعَ كلماتٍ مقتضبة معظمها كيف الحال يا جار، أو كيف الحال يا جارة؟ وكلّما فاجأتْني مقابلتُها كانت تتجدّدُ دواعي لعنتي للشيطان. حتى غمرتْني الفرحةُ في "سرِّي" ذاتَ مساء، وزوجتي تخبرُني أن جارةً لنا واسمُها صفاء، تمتهنُ التّعليم وتقطنُ الرّابع، ستزورُنا غدا لتشربَ القهوةَ معنا وتتعرفَ إلينا. وهكذا أقبلتْ صفاء تزورُنا في الوقتِ المحدّد برفقةِ ابنِها. فتى وسيم اكتسبَ من أمِّه جمالَ الطلة وطاعة العينين.
كنتُ أشاركُ زوجتي وجارتَها الجلسة، حينما استأذنتِ الزائرة بالتّدخين مع القهوة. وتبسمتُ لها قائلاً: إن أحداً منا لا يشكو من الحساسيّة أو الرّبو، وهي في بيتِها ويمكنُها أن تتصرفَ براحتِها، من دون حرج.. ولا اعتراض.
وهكذا راحتْ تدخّنُ بنهم المدمنين، وتتبادلُ الحديثَ مع زوجتي عن ذويها في شمال البلاد، وزوجها المسافر يطمرهم بمال الاغتراب. وعن إعداد الحلوى وأصناف الطعام، وما شاهدتاه ليلةَ رأسِ السّنة في برنامج أحمر بالخطّ العريض؟ ومأساة الفتاة المنكودة صاحبة القرطين يغرِّرُ بها صديقُها، ولمّا استسلمتْ له وحملتْ ذرِّيته تنكر لها، فلجأت إلى مقاضاته في المحاكم.
وابنُ السيّدة الضيفة يجلسُ إلى جواري. لا ينفكُّ يتحرّكُ في كلّ اتّجاه، وقد شعرتُ بعبءِ الجلسةِ من أجلِه، وهو يتململُ من الضّجر والضّيق، ويستطلع مفتشا بعينيه عمّا يسترعي انتباهه في أرجاء المنزل، كبعضِ الرّسوم المعلقة على الجدار وعليها صور أطفال، تراءى لي أنّهم يثيرون حسدَه بسعادتهم.
هكذا توجهتُ إلى المطبخ وأحضرتُ للفتى الزائر، كوباً من عصيرِ البرتقال أعدَدْتُه بنفسي، وبعض أصنافِ الحلوى؛ كانتْ قد هَيَّأتْها زوجتي خصيصاً للزّيارة.. وقلتُ في نفسي: من حقِّ الفتى علينا أن ألاطفَه قليلاً وأهتَمَّ به لعلي أسلِّيه قليلا أو أفيده..؟ فَرُحْتُ أتحدثُ إليه وأسألُه عن عمرِه وصفِّه، ومدرستِه في مستديرة الغدير، وعن رفاقِه ونشاطاتِه في الرياضة وهواياتِه الأخرى.
فأخبرني أنه يهوى كرةَ القدم ومشاهدة أفلام الكاراتيه، وينتسبُ إلى نادٍ في الجوار يمارسُ فيه السباحةَ والجيدو، وأنّه حصلَ على الحزامِ الأخضر ومداليةٍ فضيّةٍ في السّباحة. ثم سألتُه عن فعليّ الكونِ والمُلك أيهما تعلَّم تصريفه أولاً؟ وماذا يعرفُ عن الحساب والجذرِ التّربيعي والمثلثات، وأدواتِ النّصبِ والجزمِ تدخلُ على المضارع، وهل درسَ المبتدأ والخبر؟
كانت أمّه منشغلة مع زوجتي، لكنّها كانت تسترقُ السّمعَ لما يدورُ من حديثٍ بيننا، حينما تدخّلتْ وردّتْ بالنّيابة عنه، بأنه مشاغبٌ لكنّه من أشطر طلابِ الصف بالعربي. وهكذا وجدتُ الفرصة مناسبة لممازحته وسؤاله: ما الأصح قوله: صَفارُ البيضِ، أبيضٌ أم أبيضاً أو أبيضٍ؟ فتدخلتْ أمُّه على الفور قبل أن يتورطَ بالإجابة تقولُ له: انتبهْ إلى الممنوع من الصّرف على وزن أفعل.
وردّ الفتى من فورِه بالقول: بل "صفارُ البيضِ أبيضَ".. بالفتحة، لأنّه على وزن أفعل كالأصفر والأسود والأحمر والأزرق.. كلُّها ممنوعة من الصّرف على وزن أفعل.. كما قالتِ الماما. وحينما شدّدت له على لفظ: صفارُ البيض؟ لعله يغيِّر رأيه..؟ التفتتْ أمُّه ناحيتي وتبسّمتْ لي، كأنها تَشْمَتُ بي وتشهدُ على خيبتي في امتحان ابنها..! قائلة لي: أرأيتَ بعينِك شطارتَه بالعّربي..!؟
وهكذا بفعلِ التّربية والحشمة والحياء والعهدِ بين الجيران، وحقِّ الجارِعلى الجار في سائرِ الطّبقات، ودلالِ المرأة وسحرِ البسمة والعيونِ النّاعسة، والفمِ السّكران والعطرِ الذي يفتِكُ بالأعصاب، وكلّ تفاصيلِ الأنثى المثيرة المُحْرِجَة والمشاعرِ المَوْءُودَة، وكل الممنوعِ من الصرف من أسماءِ العَلَم.
ومن الأبيض الحليب والأزرق البحري، فالأصفر الهادىء والأحمر القاني. ومن عتمةِ القلب.. والأسود القطران، ومختلف ألوانِ الطّيف والأوزانِ.
مِنْ حفِظْتَ شَيئًا وغابَتْ عنك أشياءُ. والصِّبَا وَالجَـمَالُ مُـلْكُ يَدَيْـكِ أيُّ تَـاجٍ أعَـزُّ مِـنْ تَاجَيْـكِ، ومِن قَتَلَ الوَرْدُ نَفْسَـهُ حَسَداً وَألْقَـى دِمَـاهُ فِـي وَجْنَتَيْـكِ.
من إخفاق الحصري القيرواني: يهوى صنما للفتنة ولا يتعبَّدُه، وخيبةِ بشارة وريثِ الأمارة، وشماتِة الحسن بن هانىء.. ومن شدّة خيبتي وانكساري.
من أجلِ ذلك كله؟ انتقمتُ لنفسي فخنقتُ الشيطانَ في داخلي بلا رفقٍ به، وصرفتُه عن قلبي وفكري، وأجبتُها بحسرةٍ تنهشُني، وتقتلُ رغبةً سفكتْها تفاصيلُ المرأةِ وعينيها الفاتنين في نفسي؛ إي والله يا سيِّدتي رأيتُ بأمِّ بعيني.
إسم الله عليهِ وعليكِ. لكنَّ الفضلَ كلّ الفضلِ يا سيِّدتي إنما يعودُ لكِ وحدكِ.
-
*إبراهيم يوسف
لبنان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق