⏪⏬ابن تومرت (473 - 524 هـ = 1080 - 1130م)
ابن تومرت ومنهجه في التغيير، مقال د.راغب السرجاني، يتناول منهج محمد بن تومرت وانحرافاته العقدية والفكرية مثل ادعاء العصمة وأنه المهدي، واستحلال دماءكانت دولة المرابطين تتَّجه بقوَّة نحو هاوية سحيقة وكارثة محقَّقة، وكان لا بُدَّ أن تتحقَّق سُنَّة الله تعالى بتغيير هؤلاء واستبدالهم بغيرهم، وهذا ما تمَّ بالفعل؛ إذ قام سنة (512هـ= 1118م) رجل من قبائل مصمودة الأمازيغية (البربرية) يُدعى محمد بن تومرت بثورة على المرابطين، وكان محمد بن تومرت صاحب منهج في التغيير والإصلاح مختلف بالكلية عن منهج الشيخ عبد الله بن ياسين -رحمه الله.وقد وُلِدَ محمد بن تومرت هذا سنة (473 هـ= 1080 م) [1]، ونشأ في بيت متدين في قبيلة مصمودة[2]، وقد نسب هو نفسه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب[3]، لكن غالبَ الأمر أنه من قبائل الأمازيغ (البربر) في هذه المنطقة، وقد ظلَّ محمد بن تومرت في هذا البيت إلى سنة (500هـ= 1107م)، وكان قد بلغ من العمر آنذاك 27 سنة، وكان شغوفًا بالعلم، وكانت عادة الطلاب في ذلك الزمن أن يتجوَّلوا في سائر البلاد الإسلامية؛ ليتعلموا من علماء المسلمين في مختلف الأقطار؛ ولهذا فقد سافر محمد بن تومرت في سنة (500هـ= 1107م) إلى قرطبة وتلقَّى العلم هناك، ولم يكتفِ بذلك بل عاد وسافر إلى بلاد المشرق، فذهب إلى الإسكندرية ثم إلى مكة، حيث أدَّى فريضة الحج، وهناك تتلمذ على أيدي علماء مكة فترة من الزمان، ثم رحل إلى بغداد وقضى فيها عشر سنوات كاملة؛ يتلقَّى العلم على أيدي علماء بغداد جميعهم، وكانت بغداد تموج آنذاك بتيارات مختلفة من علماء السُّنَّة والشيعة والمعتزلة.. وغيرهم الكثير ممن أخذ وتلقَّى على أيديهم العلم.
وذهب محمد بن تومرت بعد ذلك إلى المشرق، وتَذْكُر بعض المصادر أنه تلقَّى العلم على الإمام أبي حامد الغزالي -رحمه الله- إلا أن هذا غير صحيح بيقين[4]- وعاد بعدها إلى الإسكندرية ثم إلى بلاد المغرب العربي[5]، ويصف ابنُ خلدون محمد بن تومرت بعد عودته تلك في سنة (512 هـ= 1118م) وكان قد بلغ من العمر 39 سنة، فيقول: أصبح محمد بن تومرت «بحرًا متفجرًا من العلم، وشهابًا واريًا من الدين»[6]. يعني أنه جمع علومًا كثيرة وأفكارًا جمَّة من تيارات إسلامية مختلفة، وأصبح بالفعل من كبار علماء المسلمين في هذه الآونة.
منهج التغيير عند ابن تومرت
في طريق عودته من بلاد العراق والشام مكث محمد بن تومرت فترة في الإسكندرية يُكمل فيها تعليمه، وهناك بدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن خلال سيرته ورغم أنه -كما ذكرنا- كان عالِمًا كبيرًا، إلاَّ أنه كان شديدًا غاية الشِّدَّة في إنكار المنكر والأمر بالمعروف، شِدَّة تصل إلى حدِّ التنفير، فكان يَنْفرُ عنه كثير من الناس حينما يأمرهم بالمعروف أو ينهاهم عن المنكر، حتى إنه خرج من الإسكندرية مطرودًا منها، طرده واليها بعدما خشي منه، ثم ركب في سفينة متَّجهة إلى بلاد المغرب العربي، وعلى السفينة -أيضًا- ظلَّ ابن تومرت على حِدَّته في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فمنع الخمور على ظهر السفينة، وأمر بقراءة القرآن.
واشتدَّ على الناس واختلف معهم كثيرًا، فألقوه في عُرض البحر، وتركوه وساروا إلى بلاد المغرب، وهو يسبح بإزاء السفينة نصف يوم كامل، فلما رأوا ذلك اشفقوا عليه، وأنزلوا مَنْ أخذه من البحر وعظم في صدورهم، ولم يزالوا مكرمين له إلى أن نزل من بلاد المغرب[7]، وفي تونس تنتهي رحلته فينزل إلى بلد تُسَمَّى المهدية، ولما انتهى إلى المهدية نزل بمسجد مغلق، وهو على الطريق، وجلس في طاق شارع إلى المحجة ينظر إلى المارة فلا يرى منكرًا من آلة الملاهي، أو أواني الخمر إلا نزل إليها وكسرها، فتسامع الناس به في البلد فجاءوا إليه وقرءوا عليه كتبًا من أصول الدين[8].
كان ابن تومرت يُرِيد تغيير المنكر كله تغييرًا جذريًّا ودفعة واحدة، والحقُّ أن هذا أمر مخالف لسُنَن الله تعالى؛ فحين بدأ الرسول r بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة لم يأمر بهذا التغيير الجذري المفاجئ ولا سعى إليه، بل إن الأمور كانت تتنزل عليه r من عند الله U بصورة متدرِّجَة؛ فقد نزل أمر اجتناب الربا على درجات متسلسلة، ومراعية للتدرُّج مع الناس، وكذلك كان الأمر في تحريم الخمور وتجريمها، والناس قبل ذلك لم تكن تعرف لكليهما حرمة، حتى في أمر الجهاد والقتال في سبيل الله؛ فلم يتنزل هذا التكليف دفعة واحدة.
تلك الأمور التي فقهها جيدًا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- حين تولَّى الخلافة الأموية؛ فقد كانت هناك كثير من المنكرات في دمشق وما حولها من البلاد، وكان ابن عمر بن عبد العزيز -رحمهما الله- شديدًا في الحقِّ، فأراد أن يُغَيِّرَ كل هذه المنكرات مستقويًا بسلطان أبيه، إلاَّ أنه وجد أباه عمر بن عبد العزيز يسير فيها بطريقة متدرِّجة فشقَّ ذلك عليه، فذهب إليه، وقال له: يا أبي؛ أنت تملك الأمور الآن، ولك هيمنة على بلاد المسلمين، فيجب أن تُغَيِّرَ هذا المنكر كله، وتُقيم الإسلام كما ينبغي أن يُقام. فقال له عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: يا بُنَيَّ؛ لو حملتُ الناس على الحقِّ جملةً واحدة تركوه جملةً واحدة[9].
لكن محمد بن تومرت لم يكن ينحو مثل هذا المنحى، إنما يُريد أن يُغَيِّرَ كل شيء تغييرًا جذريًّا، بل وبأسلوب فظٍّ شديد، وقد قال جَلَّ شأنه يخاطب نبيَّه الكريم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. خطابٌ لشخصه r؛ وهو المؤيَّد بالوحي، وأحكم الخلق، وأعلم البشر جميعًا: إن دعوتَ إلى الله U بفظاظة وغلظة انفضَّ الناس عنك، فما البال بعموم الناس من دونه؟!
ابن تومرت وعبد المؤمن بن علي
ولما كان ابن تومرت في بجاية قابل رجلاً، كان يُريد هو -أيضًا- ما كان يُريده ابن تومرت في أوَّل رحلته في طلب العلم إلى الأقطار الإسلامية المختلفة، ذلك الرجل كان يُدعى عبد المؤمن بن علي، وفي أول لقاء له به سأله عن سبب تركه لبلاده وسياحته في البلاد، فأجابه بأنه يبحث عن العلم والدين، فردَّ عليه محمد بن تومرت بأن بضاعتك وما تبغيه لديَّ، فالتقيا كثيرًا، وقد أخذ محمد بن تومرت يُعَلِّمُه من علمه ما أعجب عبد المؤمن بن علي كثيرًا، وتآخيا في الله، وظلاَّ معًا في طريقهما لم يفترقَا حتى مات محمد بن تومرت على نحو ما سيأتي بيانه[10].
أخذ عبد المؤمن بن علي العلم من ابن تومرت مع الطريقة الفظَّة في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ الاثنان معًا يدعوان إلى الله U في بلاد المغرب العربي، وقد انضمَّ إليهما خمسة آخرون، وأصبحوا بذلك سبعة أفراد بمحمد بن تومرت نفسه[11]، وعلى هذه الحال وجد محمد بن تومرت ومن معه أن المنكرات قد كثُرت بصورة لافتة في بلاد المرابطين، ووجد أن الخمور قد تفشَّت حتى في مراكش، تلك العاصمة التي أسَّسها يوسف بن تاشفين رحمه الله من قبل، وكانت ثغرًا من ثغور الإسلام، كما رأى الولاةَ وقد بدءوا يظلمون الناس، ويفرضون عليهم الضرائب، ويأكلون أموال اليتامى، ووجد -أيضًا- ذاك السفور والاختلاط قد انتشر وصار شيئًا مألوفًا بين الناس؛ حتى إنه شاهد بنفسه امرأة سافرة وقد خرجت في فوج كبير، وعليه حراسة مما يماثل أفواج الملوك، وحينما سأل عن صاحبة هذا الفوج وتلك المرأة السافرة، علم أنها أخت أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فأنكر ذلك عليها إنكارًا شديدًا؛ حتى إن بعض المصادر تثبت أنه وأصحابه كانوا يضربون وجوه مطاياها حتى أوقعوها من عليه[12].
هذا هو المنهج الذي سلكه محمد بن تومرت قاصدًا به الإصلاح والتغيير، وهو -بلا أدنى شكٍّ- مخالف تمامًا للنهج القويم، ونهج رسول الله r في العمل ذاته على نحو ما رأينا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
[1] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/201، فقد قال: «ثم مات المهدي وكان عمره إحدى وخمسين سنة، وقيل: خمسًا وخمسين سنة». وعلى هذا فهو إمَّا مولود في 469 أو 473هـ، وفي مولده اختلاف كبير غير هذا.
[2] ابن خلدون تاريخ ابن خلدون، 6/236.
[3] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص245، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/236، ويقول الذهبي في سير أعلام النبلاء، 19/539: «المدعي أنه علوي حسني، وأنه الإمام المعصوم المهدي».
[4] يقول الأستاذ عبد الله عنان مفندًا هذه المقولة: «ونحن نقف قليلاً عند هذه الرواية، التي يُرَدِّدها كثير من مؤرِّخي المشرق والمغرب؛ إذ متى وأين كان هذا اللقاء؟ وفي أي الظروف؟ لقد خرج ابن تومرت من وطنه في طلب العلم سنة 500 أو 501هـ، وقضى فترة في الأندلس، وفي المهدية، وفي الإسكندرية، ثم سافر لقضاء فريضة الحج، وقصد على إثر ذلك إلى بغداد، وإذًا فيكون من المرجَّح أنه لم يصل إليها قبل سنة 504 أو 505هـ، وقد كان الإمام الغزالي ببغداد يضطلع بالتدريس في المدرسة النظامية بين سنتي 484، 488هـ=1091، 1095م، وفي سنة 488هـ غادر العاصمة العباسية في رحلته التأملية الشهيرة التي استطالت حتى 499هـ، والتي زار فيها دمشق وبيت المقدس والإسكندرية ومكة والمدينة، وإذًا فيكون من المستحيل ماديًّا أن يكون ابن تومرت -الذي غادر وطنه لأول مرة في سنة 500هـ- قد استطاع أن يلتقي بالغزالي في بغداد أو غيرها من المدن التي زارها في خلال رحلته، ثم إنه ليس من المحتمل أن يكون هذا اللقاء قد وقع عند عودة الغزالي؛ ذلك أنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، ثم رحل منها إلى نيسابور، حيث قام بالتدريس فيها استجابة لدعوة السلطان ملك شاه، ثم غادرها بعد قليل إلى مسقط رأسه طوس، وانقطع بها للعبادة والتأليف حتى توفي في جمادى الثانية 505هـ= ديسمبر سنة 1112م.
ويتضح من ذلك جليًّا بطلان قصة اللقاء بين ابن تومرت والإمام الغزالي من الناحية التاريخية، وفضلاً عن ذلك فإنه يوجد دليل مادي آخر على بطلان هذه القصة أو الأسطورة؛ ذلك أنها تُقرن بواقعة أخرى خُلاصتها أن ابن تومرت حينما لقي الإمام الغزالي، وأخبره بما وقع من إحراق المرابطين لكتابه إحياء علوم الدين بالمغرب والأندلس، تغيَّر وجهه، ورفع يده إلى الدعاء، والطلبة يُؤَمِّنُون، فقال: «اللهم مزِّق ملكهم كما مزَّقوه، وأذهب دولتهم كما أحرقوه». وأن ابن تومرت رجا الإمام عندئذ أن يدعو الله أن يكون ذلك على يده، فاستجاب الإمام، ودعا الله بذلك.
وينقض هذه الواقعة من أساسها أن قرار المرابطين بحرق كتاب الإحياء قد صدر لأول مرة في سنة 503هـ في أوائل عهد علي بن يوسف، وذلك حسبما يخبرنا ابن القطان، أعني بعد أن غادر الغزالي بغداد إلى نيسابور لآخر مرة، وقبيل وفاته بنحو عام، فأين إذًا ومتى كان لقاء ابن تومرت به؟ وكيف نستطيع إزاء هذه المفارقات الزمنية، أن نصدق تلك القصة التي نُسجت حول حرق كتاب الإحياء؟
هي أسطورة إذًا، نُسجت كما نسجت نسبة ابن تومرت إلى آل البيت؛ لتغدو هالة تُحيط بشخصه وسيرته، وتُذكي عناصر الخفاء والقدسية حول شخصه وإمامته، وقد اختير الإمام الغزالي لبطولتها بالذات لتبوُّئِه يومئذ أسمى مكانة من العلم والدين والورع في العالم الإسلامي... ومن ثمَّ فإنا نجد كثيرًا من المؤرخين والمفكرين يرفضون هذه الأسطورة والأخذ بها، فابن الأثير ينفيها بصراحة ويقول لنا: «والصحيح أن ابن تومرت لم يجتمع به أي: بالغزالي». ويُبْدِي ابن خلدون ريبة فيها، ويحملها على محمل الزعم، وكذلك يُعاملها لسان الدين بن الخطيب، وكذلك فإن البحث الحديث يُنكرها وينفيها، ومن أصحاب هذا الرأي المستشرق الألماني ميللر، والعلامة المستشرق إجناس جولدسيهر... على أن ذلك كله لا يعني أن ابن تومرت لم يتأثَّر في تعاليمه الدينية بآراء الغزالي ونظرياته...». محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 4/161-163.
[5] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص245، وتاريخ ابن خلدون، 6/226، والسلاوي: الاستقصا، 2/78.
[6] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/226.
[7] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص246.
[8] السلاوي: الاستقصا، 2/79.
[9] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 6/419.
[10] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص247، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 1/227، والسلاوي: الاستقصا، 2/80، ومنهم من قال: إنه لقيه بملالة على بعد فرسخ من بجاية. ومنهم من قال: بفنزارة من بلاد متيجة. انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص100.
[11] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان: 5/49، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/543، والسلاوي: الاستقصا، 2/83.
[12] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية، 12/231، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.
⏪⏬بين علي بن يوسف بن تاشفين ومحمد بن تومرت
سمع علي بن يوسف بن تاشفين بمحمد بن تومرت وبدعوته، وبمنطق سليم فكَّرَ الخليفة في عقد مناظرة بين محمد بن تومرت وبين علماء دولة المرابطين، يكون مقرُّها قصر الخليفة نفسه، فقدم محمد بن تومرت على رأس أتباعه الستة، وأتى علماءُ دولة المرابطين، وكان على رأسهم كبير العلماء وقاضي القضاة مالك بن وهيب، وبدأ الفريقان في المناظرة.ونظرة أولية إلى فكرة عَقْد مثل هذه المناظرة يُوحي بأن علي بن يوسف بن تاشفين كان رجلاً ما زال يحمل من الخير الكثير، وإلاَّ فإنه -وعلى أقلِّ تقدير- كان من الممكن أن يفتعل مثل هذه المناظرة ويقوم بعدها بسجن محمد بن تومرت، أو قتله أو فعل أيِّ شيء آخر من هذا القبيل، خاصَّة وهو ذلك الثائر على الحاكم، والذي يُريد قلب وتغيير نظام الحُكم، وهذا ما سيزداد تأكيدًا في نهاية هذه المناظرة في صالح الأمير على نحو ما سيأتي.
وفي هذه المناظرة تفوَّق محمد بن تومرت على علماء دولة المرابطين تفوُّقًا ملحوظًا؛ فقد كان -كما ذكرنا- من كبار العلماء المتشبِّعين بالعلم، وكان كما وصفه ابن خلدون بحرًا متفجِّرًا من العلم وشهابًا في الدين، وهو الذي أمضى عشر سنين في بغداد يتعلَّم علم المجادلة، وفنون المحاورة على يد العقليين من المعتزلة وغيرهم، فاستطاع ابن تومرت أن يحاجَّ علماء دولة المرابطين جميعًا في كل القضايا التي أُثيرت بينه وبينهم، حتى بكى علي بن يوسف بن تاشفين في مجلسه؛ لما رأى من كثرة المعاصي في دولته، وهو لا يدري عنها شيئًا، أو هو يدري عنها لكنه لم يُغَيِّرْها، بكى من الخشية لَمَّا سمع حجج وأقاويل ابن تومرت، لكن ذلك لم يشفع له عنده، وظلَّت الحِدَّة واضحة جلية في كلامه وحديثه مع الأمير.
وكان علماء الدولة ووزراؤها يعلمون أنه يُحَرِّض الناس على الخروج على الحاكم، فأَسَرَّ مالك بن وهيب قاضي القضاة في أُذنِ علي بن يوسف بن تاشفين؛ بأنَّ عليه أن يعتقل هذا الرجل، ويُنفق عليه دينارًا كل يوم في السجن، وإلا ستمرُّ عليك الأيام فتُنفق عليه كل خزائنك دون أن تقدر عليه؛ لكن الوزير أشار على علي بن يوسف بن تاشفين بعدم فعل ذلك؛ خاصَّة وأنه جلس في مجلسه وبكى من خشية الله U حين سمع كلماته، فلا يُعقل أن تأتي بعد ذلك وتعتقله، فتَحْدُث بذلك بلبلة عند عموم الناس، كما أنه بمَنْ معه سبعة نفر فقط، أمَّا أنت فحاكم دولة ضخمة، وهي دولة المرابطين؛ فكيف تخشى من هذا الرجل؟!
وازن عليُّ بن يوسف بن تاشفين بين رأي مالك بن وهيب قاضي القضاة وبين رأي الوزير، واستقرَّ أخيرًا على ترك محمد بن تومرت؛ خشية أن يأثم إن حبسه دون وجه حقٍّ؛ فالرجل ما زال به خير، وكان من الممكن أن يُصلح أمره إذا حاول معه محمد بن تومرت ومَنْ معه بالتي هي أحسن، لكنه لم يفعل[1].
جماعة الموحدين
ما أن خرج محمد بن تومرت من مجلس الأمير علي بن يوسف بن تاشفين من مراكش حتى نزل على صديق له في بلد مجاور، وذهبوا بعدها إلى قرية في عمق الجبل اسمها تينملل، وهي التي ستكون عاصمة للدولة التي سوف يُؤَسِّسها محمد بن تومرت بعد ذلك[2].
وكان محمد بن تومرت زاهدًا أشدَّ الزهد، وكان لا يحمل في يده إلا عصا وركوة[3]، ولا يأكل إلا القليل من الطعام، وكان -كما ذكرنا- صاحب علم غزير، فبدأ الناسُ في هذه القرية الصغيرة يلتفُّون حوله ويسمعون لكلامه، وبدأ يُؤَثِّر فيهم بشكل طبيعي؛ لِمَا كانوا عليه من المعاصي والمنكرات، تلك التي انتشرت في بلاد المرابطين، ثم بدأ يُكَوِّن حوله جماعة بدأت صغيرة، وقد سمَّاها جماعة الموحدين[4]، وهي تسمية خطيرة لما سنعلمه بعد قليل.
دعوة ابن تومرت وطريقة تربيته
ابن تومرت ومنهجه في التغييريذكر عبد الواحد المراكشي مراحل دعوة ابن تومرت وتربيته الناس في تينملل، فيقول: «من هذا الموضع قامت دعوته وبه قبره، ولما نزله اجتمع إليه وجوه المصامدة، فشرع في تدريس العلم والدعاء إلى الخير من غير أن يُظهر إمرة ولا طلبة ملك، وألَّف لهم عقيدة بلسانهم، وكان أفصح أهل زمانه في ذلك اللسان، فلمَّا فهموا معاني تلك العقيدة زاد تعظيمهم له، وأُشربت قلوبهم محبته، وأجسامهم طاعته، فلما استوثق منهم دعاهم إلى القيام معه؛ أولاً على صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا غير، ونهاهم عن سفك الدماء، ولم يأذن لهم فيها، وأقاموا على ذلك مدة، وأمر رجالاً منهم ممن استصلح عقولهم بنصب الدعوة واستمالة رؤساء القبائل، وجعل يذكر المهدي ويُشَوِّق إليه، وجمع الأحاديث التي جاءت فيه من المصنفات، فلمَّا قَرَّر في نفوسهم فضيلة المهدي ونسبه ونعته، ادعى ذلك لنفسه، وقال: أنا محمد بن عبد الله. ورفع نسبه إلى النبي r وصرح بدعوى العصمة لنفسه، وأنه المهدي المعصوم، وروى في ذلك أحاديث كثيرة؛ حتى استقر عندهم أنه المهدي، وبسط يده فبايعوه على ذلك، وقال: أبايعكم على ما بايع عليه أصحاب رسولِ الله r رسولَ الله. ثم صنَّف لهم تصانيف في العلم منها: كتاب سماه (أعز ما يطلب)، وعقائد في أصول الدين، وكان على مذهب أبي الحسن الأشعري في أكثر المسائل، إلا في إثبات الصفات، فإنه وافق المعتزلة في نفيها، وفي مسائل قليلة غيرها، وكان يُبطن شيئًا من التشيُّع، غير أنه لم يَظهر منه إلى العامة شيء»[5].
انحرافات ابن تومرت العقائدية والمنهجية
قويت شوكة محمد بن تومرت، وبمجرَّد أن قويت شوكته ظهرت عليه انحرافات عقائدية خطيرة؛ فقد كان لأخذه العلم من تيارات مختلفة تُمَثِّل سنةة وشيعة ومعتزلة، وغيرهم في بلاد الشام وبغداد ومكة ومصر وغيرها من البلاد، كان من جرَّاء ذلك أن ظهر عليه خليط من العقائد المختلفة؛ والتي تمثَّلت فيما يلي:
ادعى العصمة
وعند أهل السنة والجماعة أن العصمة لم تَثْبُت إلاَّ للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولم يقولوا بها لغيرهم، حتى لكبار الصحابة الذين خَصَّهم الله بالفضل؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم[6]؛ فابن تومرت بهذا النهج قد وافق الرافضة الاثني عشرية، الذين قالوا بالعصمة لأئمتهم؛ حيث يقولون بوجوب عصمتهم من الكبائر والصغائر والنسيان، كما قالوا: إن الإمام كالنبي، يجب أن يكون معصومًا من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سنِّ الطفولة إلى الموت، عمدًا وسهوًا، كما يجب أن يكون معصومًا من السهو والخطأ والنسيان[7].
وهكذا نرى محمد بن تومرت قد اشتطَّ كثيرًا في القول بالعصمة لنفسه، وهذا -بلا شكٍّ- انحراف عقدي خطير؛ لأن الاعتراف بعصمته أو عصمة غيره يُوجب الإيمان بكل ما يقوله، فقد أعطاه ذلك معنى النبوة، وإن لم يُعطه لفظها.
ادعى أن المرابطين من المجسمة
كان المرابطون يُثبتون لله تعالى صفاته كما هي، لكن محمد بن تومرت أخذ فكر المعتزلة في نفي الصفات عن الله U، وهي قضية جدليَّة طويلة لا نُريد الخوض في تفصيلاتها، وخلاصة الأمر في ذلك أنه لما أثبت أنَّ المرابطين يُثبتون الصفات لله U، ادَّعى أنهم من المجسمة؛ وتبعًا لهذا الادعاء فقد قال بكفر المرابطين، وادَّعى أن علي بن يوسف بن تاشفين ومَنْ معه من الولاة والعلماء، ومَنْ يعمل تحت حكمهم ومَنْ يَرضى بحُكمهم، هو من الكافرين[8].
وهذا منحى خطير؛ إذ إنه كفَّر حُكَّام الدولة التي كان يعيش فيها، وهي دولة المرابطين التي تشمل بلاد الأندلس وبلاد المغرب في ذلك الوقت.
فكان يقول لأتباعه: «واشتغِلُوا بتعليم التوحيد فإنه أساس دينكم، حتى تنفوا عن الخالق الشبيه والشريك والنقائص، والآفاق والحدود والجهات، ولا تجعلوه -سبحانه- في مكان أو جهة، فإنه تعالى موجود قبل الأمكنة والجهات، فمن جعله في جهة ومكان فقد جسَّمه، ومَنْ جسمه فقد جعله مخلوقًا، ومن جعله مخلوقًا فهو كعابد وثن»[9].
لقد تبنَّى ابن تومرت منهج المعتزلة في الأسماء والصفات؛ حيث نفى كل ما عساه أن يُوهم الشبه والمثلية لله سبحانه، حتى ولو كان ذلك من الأسماء والصفات الثابتة لله تعالى في الكتاب والسُّنَّة؛ ولهذا سَمَّى أصحابه بالموحدين؛ لأنهم في رأيه هم الذين يُوَحِّدُون الله لنفيهم الصفات عنه U، كما كان يُسَمِّي أتباعه بالمؤمنين، ويقول لهم: «ما على وجه الأرض مَنْ يُؤمن إيمانكم»[10].
استحل دماء المرابطين
وتبعًا لهذا التكفير السابق لغير الموحدين استحلَّ محمد بن تومرت دماء المرابطين؛ ومِنْ ثَمَّ فقد أمر بالخروج عليهم وقتلهم، وأنه ليس هناك إثم في ذلك؛ بل إن في قتلهم إحرازًا لثواب عظيم[11]، وهنا يَبُرز أحد أخلاق محمد بن تومرت فقد كان متساهلاً في الدماء، وهي خاصية من خصائص الخوارج، الذين تَعَلَّم على أيدي بعضهم -كما ذكرنا- أثناء رحلته لطلب العلم.
كان ابن تومرت يهدف إلى هدم دولة المرابطين من جذورها، وبناء دولة الموحدين على أنقاضها مهما كَلَّفه ذلك؛ وقد استباح في سبيل ذلك الدماء والأرواح والأموال، وكانت غايته تلك مبرِّرَة -من وجهة نظره- لكل وسيلة، فكان لا يتردَّد في قتل مَنْ يشكُّ في إيمانه بما يدَّعيه من مبادئ، حتى ولو كان من أتباعه؛ فقد قام ابن تومرت بما سمِّي التمييز؛ أي: تمييز أتباعه الصادقين من المداهنين والمنافقين والمخالفين، فيقتلهم على الفور ليظلَّ صَفُّه قويًّا[12].
ومن المعلوم أنَّ من أهمِّ مقاصد الشريعة الإسلامية الحفاظ على النفس، وما فعله هذا الآثِم إنما هو اعتداء بغير حقِّ على أنفسٍ حرَّم الله إزهاقها، وفي فعله هذا انحراف واضحٌ عن الشرع، وارتكاب متعمَّد للكبائر، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله؛ حيث يقول -سبحانه- في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]، وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى أن قال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]، والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدًّا... منها: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ[13]»[14].
إن أمر القتل في غاية الخطورة ولا يستحلُّه إلاَّ مَنْ تجرَّد من كل معاني الأخلاق والرحمة ومن كل المعاني الإنسانية.
وفي البخاري ومسلم أن رسول الله r قال:"لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؛ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"[15].
يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله: «إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب -بغير حقٍّ- ولكنها -كذلك- جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم، إنها تنكُّر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها؛ ومن ثَمَّ قُرنت بالشرك في مواضع كثيرة؛ واتجه بعضهم -ومنهم ابن عباس- إلى أنه لا توبة منها.. ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] [النساء: 116].. فرجَا للقاتل التائب المغفرة.. وفسَّر الخلود بأنه الدهر الطويل. والذين تربَّوْا في مدرسة الإسلام الأولى، كانوا يَرَوْنَ قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم -قبل إسلامهم- يمشون على الأرض -وقد دخلوا في الإسلام- فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة، ولكنهم لا يُفَكِّرُون في قتلهم، لا يُفَكِّرُون مرَّة واحدة؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشدِّ الحالات وجدًا ولذعًا ومرارة؛ بل إنهم لم يُفَكِّرُوا في إنقاصهم حقًّا واحدًا من حقوقهم، التي يُخَوِّلها لهم الإسلام»[16].
كان لا بُدَّ لنا من هذا الوقفة مع هذا الأمر الخطير؛ أمر الدماء التي استحلَّها هذا الآثم المخادع، أمَّا عملية التمييز التي سبق الإشارة إليها فقد استعان فيها ابن تومرت برجل على شاكلته يُسَمَّى أبو عبد الله بن محسن الونشريشي، وكان يُلَقِّبه بالبشير؛ إمعانًا في خداع الناس وإضلالهم، وقد طلب ابن تومرت من هذا الفاسق أن يُخفي علمه وحفظه للقرآن، ويظهر أمام القبائل كأنه مجنون يسيل لعابه على وجهه.
قال الذهبي: «فلمَّا كان عام تسعة عشر وخمسمائة (519 هـ) خرج يومًا، فقال: تعلمون أن البشير -يُريد الونشريشي- رجل أُمِّيٌّ، ولا يثبت على دابَّة، فقد جعله الله مُبَشِّرًا لكم، مُطَّلِعًا على أسراركم، وهو آية لكم قد حفظ القرآن، وتعلَّم الركوب، وقال: اقرأ. فقرأ الختمة في أربعة أيام، وركب حصانًا وساقه، فبُهِتُوا، وعَدُّوها آية لغباوتهم، فقام خطيبًا، وتلا: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، وتلا: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، فهذا البشير مُطَّلع على الأنفس مُلْهَم، ونبيكم r يقول: «إِنَّ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مُحَدَّثِينَ، وَإِنَّ عُمَرَ مِنْهُمْ»[17].
وقد صَحِبَنَا أقوام أطلعه الله على سِرِّهم، ولا بُدَّ من النظر في أمرهم، وتَيَمُّمِ العدل فيهم، ثم نودي في جبال المصامدة: مَنْ كان مطيعًا للإمام فليأت. فأقبلوا يهرعون، فكانوا يُعْرَضون على البشير، فيُخرج قومًا على يمينه، ويَعدُّهم من أهل الجنة، وقومًا على يساره، فيقول: هؤلاء شاكُّون في الأمر. وكان يُؤْتَى بالرجال منهم، فيقول: هذا تائب رُدُّوه على اليمين تاب البارحة. فيعترف بما قال، واتفقت له فيهم عجائب، حتى كان يُطلق أهل اليسار، وهم يعلمون أن مآلهم إلى القتل، فلا يفرُّ منهم أحد، وإذا تجمَّع منهم عدَّة، قتلهم قراباتُهم حتى يقتل الأخ أخاه!» [18].
وأورد ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) هذا الأمر فقال: «وكان الونشريشي يلزم الاشتغال بالقرآن والعلم في السرِّ؛ بحيث لا يعلم أحدٌ ذلك منه، فلمَّا كان سنُّه تسع عشرة، وخاف المهدي -ابن تومرت- من أهل الجبل، خرج يومًا لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنسانًا حسن الثياب، طيب الريح، فأظهر أنه لا يعرفه، وقال: مَنْ هذا؟ فقال: أنا أبو عبد الله الونشريشي. فقال له المهدي: إن أمرك لعجبٌ! ثم صلَّى، فلما فرغ من صلاته نادى في الناس فحضروا، فقال: إنَّ هذا الرجل يزعم أنه الونشريشي فانظروه، وحقِّقُوا أمره. فلما أضاء النهار عرفوه، فقال له المهدي: ما قِصَّتُك؟ قال: إنني أتاني الليلة مَلَكٌ من السماء، فغسل قلبي، وعَلَّمَنِي الله القرآن والموطأ، وغيره من العلوم والأحاديث. فبكى المهدي بحضرة الناس، ثم قال له: نحن نمتحنك. فقال: افعل.
وابتدأ يقرأ القرآن قراءة حسنة من أيِّ موضع سُئِلَ، وكذلك الموطأ، وغيره من كتب الفقه والأصول، فعَجِبَ الناسُ من ذلك، واستعظموه، ثم قال لهم: إن الله تعالى قد أعطاني نورًا أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار، وتتركوا أهل الجنة، وقد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر التي في المكان الفلاني يشهدون بصدقي.
فسار المهدي والناس معه وهم يبكون إلى تلك البئر، وصَلَّى المهدي عند رأسها، وقال: يا ملائكة الله؛ إن أبا عبد الله الونشريشي قد زعم كيت وكيت. فقال مَنْ بها: صدق. وكان قد وضع فيها رجالاً يشهدون بذلك، فلمَّا قيل ذلك من البئر، قال المهدي: إن هذه مطهرة مقدسة قد نزل إليها الملائكة، والمصلحة أن تُطَمَّ لئلاَّ يقع فيها نجاسة، أو ما لا يجوز. فألقَوْا فيها من الحجارة والتراب ما طَمَّهَا -وبهذا يكون قد قتل الرجال الذين اتَّفق معهم على هذا القول؛ لئلاَّ يُفْتَضح أمره- ثم نادى في أهل الجبل بالحضور إلى ذلك المكان، فحضروا للتمييز، فكان الونشريشي يعمد إلى الرجل الذي يخاف ناحيته، فيقول: هذا من أهل النار. فيُلْقَى من الجبل مقتولاً، وإلى الشاب الغرِّ ومَنْ لا يخشى، فيقول: هذا من أهل الجنة. فيُتْرَك على يمينه، فكان عدة القتلى سبعين ألفًا، فلما فرغ من ذلك أَمِنَ على نفسه وأصحابه»[19].
هذا فِعْلُ ابن تومرت بمَنْ معه، فكيف يكون فعله بالمرابطين؟!
ولقد رُويت عنه كثير من الأخبار التي احتال فيها؛ حتى ظهر وكأنه يعلم الغيب، ولا نشك أن له عيونًا وأتباعًا، كما لا شك في أنه شخصية قوية ذات بصر وخبرة وفراسة، يروي المراكشي واقعة منها فيقول: «أخبرني مَنْ رآه -ممن أثق إليه- يضرب الناسَ على الخمر بالأكمام والنعال وعسب النخل؛ متشبِّهًا في ذلك بالصحابة. ولقد أخبرني بعض مَنْ شهده وقد أتى برجل سكران، فأمر بحدِّه، فقال: رجلٌ من وجوه أصحابه يُسَمَّى يوسف بن سليمان: لو شدَّدْنَا عليه حتى يُخبرنا من أين شربها لنَحْسم هذه العلةَ من أصلها. فأَعْرَض عنه، ثم أعاد عليه الحديث، فأعرض عنه، فلما كان في الثالثة قال له: أرأيت لو قال لنا: شربتُها في دار يوسف بن سليمان. ما نحن صانعون؟ فاستحيا الرجل وسكت، ثم كُشف على الأمر، فإذا عبيدُ ذلك الرجل سقَوه، فكان هذا من جملة ما زادهم به فتنة وتعظيمًا، إلى أشياءَ كان يُخبر بها فتقع كما يُخبر، ولم يزل كذلك وأحوالُه صالحة، وأصحابه ظاهرون، وأحوال المرابطين المذكورين تَخْتَلُّ، وانتقاض دولتهم يتزيد، إلى أن تُوُفِّيَ ابن تومرت... بعد أن أسس الأمور، وأحكم التدبير، ورسم لهم ما هم فاعلوه»[20].
كذلك يروي الذهبي في سير أعلام النبلاء: «وقد بلغني فيما يُقال: أن ابنَ تُومرت أخفى رجالاً في قبور دَوَارِسَ[21]، وجاء في جماعة لِيُرِيهم آية، يعني فصاحَ: أيُّها الموتى أجيبوا. فأجابوه: أنتَ المهدي المعصومُ، وأنت وأنت.. ثم إنه خاف من انتشارِ الحيلة، فخسف فوقهم القبور فماتوا»[22].
وقفة مع ابن تومرت وجماعته
كان محمد بن تومرت في جماعته الجديدة يقتل العشرات من المخالفين له، حتى من فرقته وجماعته (الموحدين)، فالذي يُخَالِفُه في الرأي ليس له من دواء إلاَّ القتل، وهو أمر في غاية الغرابة؛ نظرًا لما عنده من العلم الغزير، وأغرب منه كان ادعاؤه بعض الخوارق، وأنه هو المهدي المنتظر!
ولا شكَّ في أنْ يعتقدَ صِدْقَه وما يذهب إليه من أقواله تلك كثيرٌ من الناس؛ وذلك -كما ذكرنا- لانشغال علماء الدولة بالأمور الفرعية عن تعليم هؤلاء الناس أصول العقائد وأصول العبادات، فقد أقام العلماء جدارًا عازلاً بينهم وبين العامَّة، الذين لا يعرفون أين الحقُّ وأين الباطل، والذين لا يستطيعون أن يُمَيِّزُوا بين الغثِّ والسمين.
ومن هنا حين رأى مثل هؤلاء الناس رجلاً مثل محمد بن تومرت في شخص العالم الكبير، وهو يروي من أحاديث رسول الله r عن فلان وفلان، ثم هو يحفظ كتاب الله U، ويعلم سِيَرَ الصالحين والسابقين، ويعلم فقه كذا وكذا، حين رأوا ذلك ما كان منهم إلا أن يسمعوا ويطيعوا لما يقوله، وما يمليه عليهم عالمهم ومعلمهم، وقد اعتقدوا جميعًا بعصمته، واعتقدوا جميعًا بِحلِّ قتل المرابطين، بل والثواب الجزيل على قتلهم.
ولنا أن نتخيَّل مثل هذا الأمر في حقِّ المرابطين، الذين فتحوا البلاد، وأقاموا صرح الإسلام في بلاد المغرب والأندلس لسنوات وسنوات، الآن وبعد ظهور بعض المنكرات في بلادهم، وبعد انشغالهم بالجهاد عن التعليم، أصبحوا يُكَفَّرون وتُحَلُّ دماؤهم، ويُقَاتَلون من قِبَلِ جماعة الموحِّدِين، ذلك الاسم (الموحِّدين) الذي يُشير بقوَّة إلى أن غيرهم كفار وليسوا بموحدين أو مسلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
[1] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص251، وابن كثير: البداية والنهاية، 12/231، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.
[2] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/50، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/455.
[3] الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء والدلو الصغيرة. المعجم الوسيط 1/371.
[4] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/51.
[5] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص254، وابن الأثير: الكامل 9/196.
[6] انظر: ابن تيمية: منهاج أهل السنة، 7/59.
[7] انظر: أبو حامد الغزالي: فضائح الباطنية، ص142، والخميني: الحكومة الإسلامية، ص52، ومن المفيد أن ننقل قول الخميني: «وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم والأئمة ع كانوا قبل هذا العالم أنوارًا، فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله».
[8] انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/550، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.
[9] ابن تومرت: أعز ما يُطلب، ص204، نقلاً عن الصلابي: دولة الموحدين، ص41.
[10] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص255.
[11] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص260، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/228.
[12] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/199، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/228.
[13] رواه الترمذي: كتاب الديات، باب في تشديد قتل المؤمن 1395 عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، والنسائي 3987، وصححه الألباني انظر: صحيح الجامع 5077.
[14] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 2/376.
[15] البخاري: كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} المائدة: 45 6484، عن عبد الله بن مسعود t، ومسلم: كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم 1676 واللفظ له.
[16] سيد قطب: في ظلال القرآن، 2/736.
[17] والحديث رواه أبو هريرة t قال: قال رسول الله: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ». البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي t 3486 واللفظ له، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة y، باب من فضائل عمر t 2398.
[18] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/546.
[19] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/198، 199.
[20] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص260-262.
[21] دوارس جمع دارس: وهو العافي وذهاب الأثر ومتقادم العهد. ابن منظور: لسان العرب، مادة درس 6/79، والمعجم الوسيط 1/279.
[22] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/551
بين علي بن يوسف بن تاشفين ومحمد بن تومرت
سمع علي بن يوسف بن تاشفين بمحمد بن تومرت وبدعوته، وبمنطق سليم فكَّرَ الخليفة في عقد مناظرة بين محمد بن تومرت وبين علماء دولة المرابطين، يكون مقرُّها قصر الخليفة نفسه، فقدم محمد بن تومرت على رأس أتباعه الستة، وأتى علماءُ دولة المرابطين، وكان على رأسهم كبير العلماء وقاضي القضاة مالك بن وهيب، وبدأ الفريقان في المناظرة.
ونظرة أولية إلى فكرة عَقْد مثل هذه المناظرة يُوحي بأن علي بن يوسف بن تاشفين كان رجلاً ما زال يحمل من الخير الكثير، وإلاَّ فإنه -وعلى أقلِّ تقدير- كان من الممكن أن يفتعل مثل هذه المناظرة ويقوم بعدها بسجن محمد بن تومرت، أو قتله أو فعل أيِّ شيء آخر من هذا القبيل، خاصَّة وهو ذلك الثائر على الحاكم، والذي يُريد قلب وتغيير نظام الحُكم، وهذا ما سيزداد تأكيدًا في نهاية هذه المناظرة في صالح الأمير على نحو ما سيأتي.
وفي هذه المناظرة تفوَّق محمد بن تومرت على علماء دولة المرابطين تفوُّقًا ملحوظًا؛ فقد كان -كما ذكرنا- من كبار العلماء المتشبِّعين بالعلم، وكان كما وصفه ابن خلدون بحرًا متفجِّرًا من العلم وشهابًا في الدين، وهو الذي أمضى عشر سنين في بغداد يتعلَّم علم المجادلة، وفنون المحاورة على يد العقليين من المعتزلة وغيرهم، فاستطاع ابن تومرت أن يحاجَّ علماء دولة المرابطين جميعًا في كل القضايا التي أُثيرت بينه وبينهم، حتى بكى علي بن يوسف بن تاشفين في مجلسه؛ لما رأى من كثرة المعاصي في دولته، وهو لا يدري عنها شيئًا، أو هو يدري عنها لكنه لم يُغَيِّرْها، بكى من الخشية لَمَّا سمع حجج وأقاويل ابن تومرت، لكن ذلك لم يشفع له عنده، وظلَّت الحِدَّة واضحة جلية في كلامه وحديثه مع الأمير.
وكان علماء الدولة ووزراؤها يعلمون أنه يُحَرِّض الناس على الخروج على الحاكم، فأَسَرَّ مالك بن وهيب قاضي القضاة في أُذنِ علي بن يوسف بن تاشفين؛ بأنَّ عليه أن يعتقل هذا الرجل، ويُنفق عليه دينارًا كل يوم في السجن، وإلا ستمرُّ عليك الأيام فتُنفق عليه كل خزائنك دون أن تقدر عليه؛ لكن الوزير أشار على علي بن يوسف بن تاشفين بعدم فعل ذلك؛ خاصَّة وأنه جلس في مجلسه وبكى من خشية الله U حين سمع كلماته، فلا يُعقل أن تأتي بعد ذلك وتعتقله، فتَحْدُث بذلك بلبلة عند عموم الناس، كما أنه بمَنْ معه سبعة نفر فقط، أمَّا أنت فحاكم دولة ضخمة، وهي دولة المرابطين؛ فكيف تخشى من هذا الرجل؟!
وازن عليُّ بن يوسف بن تاشفين بين رأي مالك بن وهيب قاضي القضاة وبين رأي الوزير، واستقرَّ أخيرًا على ترك محمد بن تومرت؛ خشية أن يأثم إن حبسه دون وجه حقٍّ؛ فالرجل ما زال به خير، وكان من الممكن أن يُصلح أمره إذا حاول معه محمد بن تومرت ومَنْ معه بالتي هي أحسن، لكنه لم يفعل[1].
جماعة الموحدين
ما أن خرج محمد بن تومرت من مجلس الأمير علي بن يوسف بن تاشفين من مراكش حتى نزل على صديق له في بلد مجاور، وذهبوا بعدها إلى قرية في عمق الجبل اسمها تينملل، وهي التي ستكون عاصمة للدولة التي سوف يُؤَسِّسها محمد بن تومرت بعد ذلك[2].
وكان محمد بن تومرت زاهدًا أشدَّ الزهد، وكان لا يحمل في يده إلا عصا وركوة[3]، ولا يأكل إلا القليل من الطعام، وكان -كما ذكرنا- صاحب علم غزير، فبدأ الناسُ في هذه القرية الصغيرة يلتفُّون حوله ويسمعون لكلامه، وبدأ يُؤَثِّر فيهم بشكل طبيعي؛ لِمَا كانوا عليه من المعاصي والمنكرات، تلك التي انتشرت في بلاد المرابطين، ثم بدأ يُكَوِّن حوله جماعة بدأت صغيرة، وقد سمَّاها جماعة الموحدين[4]، وهي تسمية خطيرة لما سنعلمه بعد قليل.
دعوة ابن تومرت وطريقة تربيته
ابن تومرت ومنهجه في التغييريذكر عبد الواحد المراكشي مراحل دعوة ابن تومرت وتربيته الناس في تينملل، فيقول: «من هذا الموضع قامت دعوته وبه قبره، ولما نزله اجتمع إليه وجوه المصامدة، فشرع في تدريس العلم والدعاء إلى الخير من غير أن يُظهر إمرة ولا طلبة ملك، وألَّف لهم عقيدة بلسانهم، وكان أفصح أهل زمانه في ذلك اللسان، فلمَّا فهموا معاني تلك العقيدة زاد تعظيمهم له، وأُشربت قلوبهم محبته، وأجسامهم طاعته، فلما استوثق منهم دعاهم إلى القيام معه؛ أولاً على صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا غير، ونهاهم عن سفك الدماء، ولم يأذن لهم فيها، وأقاموا على ذلك مدة، وأمر رجالاً منهم ممن استصلح عقولهم بنصب الدعوة واستمالة رؤساء القبائل، وجعل يذكر المهدي ويُشَوِّق إليه، وجمع الأحاديث التي جاءت فيه من المصنفات، فلمَّا قَرَّر في نفوسهم فضيلة المهدي ونسبه ونعته، ادعى ذلك لنفسه، وقال: أنا محمد بن عبد الله. ورفع نسبه إلى النبي r وصرح بدعوى العصمة لنفسه، وأنه المهدي المعصوم، وروى في ذلك أحاديث كثيرة؛ حتى استقر عندهم أنه المهدي، وبسط يده فبايعوه على ذلك، وقال: أبايعكم على ما بايع عليه أصحاب رسولِ الله r رسولَ الله. ثم صنَّف لهم تصانيف في العلم منها: كتاب سماه (أعز ما يطلب)، وعقائد في أصول الدين، وكان على مذهب أبي الحسن الأشعري في أكثر المسائل، إلا في إثبات الصفات، فإنه وافق المعتزلة في نفيها، وفي مسائل قليلة غيرها، وكان يُبطن شيئًا من التشيُّع، غير أنه لم يَظهر منه إلى العامة شيء»[5].
انحرافات ابن تومرت العقائدية والمنهجية
قويت شوكة محمد بن تومرت، وبمجرَّد أن قويت شوكته ظهرت عليه انحرافات عقائدية خطيرة؛ فقد كان لأخذه العلم من تيارات مختلفة تُمَثِّل سنةة وشيعة ومعتزلة، وغيرهم في بلاد الشام وبغداد ومكة ومصر وغيرها من البلاد، كان من جرَّاء ذلك أن ظهر عليه خليط من العقائد المختلفة؛ والتي تمثَّلت فيما يلي:
ادعى العصمة
وعند أهل السنة والجماعة أن العصمة لم تَثْبُت إلاَّ للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولم يقولوا بها لغيرهم، حتى لكبار الصحابة الذين خَصَّهم الله بالفضل؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم[6]؛ فابن تومرت بهذا النهج قد وافق الرافضة الاثني عشرية، الذين قالوا بالعصمة لأئمتهم؛ حيث يقولون بوجوب عصمتهم من الكبائر والصغائر والنسيان، كما قالوا: إن الإمام كالنبي، يجب أن يكون معصومًا من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سنِّ الطفولة إلى الموت، عمدًا وسهوًا، كما يجب أن يكون معصومًا من السهو والخطأ والنسيان[7].
وهكذا نرى محمد بن تومرت قد اشتطَّ كثيرًا في القول بالعصمة لنفسه، وهذا -بلا شكٍّ- انحراف عقدي خطير؛ لأن الاعتراف بعصمته أو عصمة غيره يُوجب الإيمان بكل ما يقوله، فقد أعطاه ذلك معنى النبوة، وإن لم يُعطه لفظها.
ادعى أن المرابطين من المجسمة
كان المرابطون يُثبتون لله تعالى صفاته كما هي، لكن محمد بن تومرت أخذ فكر المعتزلة في نفي الصفات عن الله U، وهي قضية جدليَّة طويلة لا نُريد الخوض في تفصيلاتها، وخلاصة الأمر في ذلك أنه لما أثبت أنَّ المرابطين يُثبتون الصفات لله U، ادَّعى أنهم من المجسمة؛ وتبعًا لهذا الادعاء فقد قال بكفر المرابطين، وادَّعى أن علي بن يوسف بن تاشفين ومَنْ معه من الولاة والعلماء، ومَنْ يعمل تحت حكمهم ومَنْ يَرضى بحُكمهم، هو من الكافرين[8].
وهذا منحى خطير؛ إذ إنه كفَّر حُكَّام الدولة التي كان يعيش فيها، وهي دولة المرابطين التي تشمل بلاد الأندلس وبلاد المغرب في ذلك الوقت.
فكان يقول لأتباعه: «واشتغِلُوا بتعليم التوحيد فإنه أساس دينكم، حتى تنفوا عن الخالق الشبيه والشريك والنقائص، والآفاق والحدود والجهات، ولا تجعلوه -سبحانه- في مكان أو جهة، فإنه تعالى موجود قبل الأمكنة والجهات، فمن جعله في جهة ومكان فقد جسَّمه، ومَنْ جسمه فقد جعله مخلوقًا، ومن جعله مخلوقًا فهو كعابد وثن»[9].
لقد تبنَّى ابن تومرت منهج المعتزلة في الأسماء والصفات؛ حيث نفى كل ما عساه أن يُوهم الشبه والمثلية لله سبحانه، حتى ولو كان ذلك من الأسماء والصفات الثابتة لله تعالى في الكتاب والسُّنَّة؛ ولهذا سَمَّى أصحابه بالموحدين؛ لأنهم في رأيه هم الذين يُوَحِّدُون الله لنفيهم الصفات عنه U، كما كان يُسَمِّي أتباعه بالمؤمنين، ويقول لهم: «ما على وجه الأرض مَنْ يُؤمن إيمانكم»[10].
استحل دماء المرابطين
وتبعًا لهذا التكفير السابق لغير الموحدين استحلَّ محمد بن تومرت دماء المرابطين؛ ومِنْ ثَمَّ فقد أمر بالخروج عليهم وقتلهم، وأنه ليس هناك إثم في ذلك؛ بل إن في قتلهم إحرازًا لثواب عظيم[11]، وهنا يَبُرز أحد أخلاق محمد بن تومرت فقد كان متساهلاً في الدماء، وهي خاصية من خصائص الخوارج، الذين تَعَلَّم على أيدي بعضهم -كما ذكرنا- أثناء رحلته لطلب العلم.
كان ابن تومرت يهدف إلى هدم دولة المرابطين من جذورها، وبناء دولة الموحدين على أنقاضها مهما كَلَّفه ذلك؛ وقد استباح في سبيل ذلك الدماء والأرواح والأموال، وكانت غايته تلك مبرِّرَة -من وجهة نظره- لكل وسيلة، فكان لا يتردَّد في قتل مَنْ يشكُّ في إيمانه بما يدَّعيه من مبادئ، حتى ولو كان من أتباعه؛ فقد قام ابن تومرت بما سمِّي التمييز؛ أي: تمييز أتباعه الصادقين من المداهنين والمنافقين والمخالفين، فيقتلهم على الفور ليظلَّ صَفُّه قويًّا[12].
ومن المعلوم أنَّ من أهمِّ مقاصد الشريعة الإسلامية الحفاظ على النفس، وما فعله هذا الآثِم إنما هو اعتداء بغير حقِّ على أنفسٍ حرَّم الله إزهاقها، وفي فعله هذا انحراف واضحٌ عن الشرع، وارتكاب متعمَّد للكبائر، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله؛ حيث يقول -سبحانه- في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]، وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى أن قال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]، والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدًّا... منها: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ[13]»[14].
إن أمر القتل في غاية الخطورة ولا يستحلُّه إلاَّ مَنْ تجرَّد من كل معاني الأخلاق والرحمة ومن كل المعاني الإنسانية.
وفي البخاري ومسلم أن رسول الله r قال:"لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؛ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"[15].
يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله: «إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب -بغير حقٍّ- ولكنها -كذلك- جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم، إنها تنكُّر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها؛ ومن ثَمَّ قُرنت بالشرك في مواضع كثيرة؛ واتجه بعضهم -ومنهم ابن عباس- إلى أنه لا توبة منها.. ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] [النساء: 116].. فرجَا للقاتل التائب المغفرة.. وفسَّر الخلود بأنه الدهر الطويل. والذين تربَّوْا في مدرسة الإسلام الأولى، كانوا يَرَوْنَ قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم -قبل إسلامهم- يمشون على الأرض -وقد دخلوا في الإسلام- فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة، ولكنهم لا يُفَكِّرُون في قتلهم، لا يُفَكِّرُون مرَّة واحدة؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشدِّ الحالات وجدًا ولذعًا ومرارة؛ بل إنهم لم يُفَكِّرُوا في إنقاصهم حقًّا واحدًا من حقوقهم، التي يُخَوِّلها لهم الإسلام»[16].
كان لا بُدَّ لنا من هذا الوقفة مع هذا الأمر الخطير؛ أمر الدماء التي استحلَّها هذا الآثم المخادع، أمَّا عملية التمييز التي سبق الإشارة إليها فقد استعان فيها ابن تومرت برجل على شاكلته يُسَمَّى أبو عبد الله بن محسن الونشريشي، وكان يُلَقِّبه بالبشير؛ إمعانًا في خداع الناس وإضلالهم، وقد طلب ابن تومرت من هذا الفاسق أن يُخفي علمه وحفظه للقرآن، ويظهر أمام القبائل كأنه مجنون يسيل لعابه على وجهه.
قال الذهبي: «فلمَّا كان عام تسعة عشر وخمسمائة (519 هـ) خرج يومًا، فقال: تعلمون أن البشير -يُريد الونشريشي- رجل أُمِّيٌّ، ولا يثبت على دابَّة، فقد جعله الله مُبَشِّرًا لكم، مُطَّلِعًا على أسراركم، وهو آية لكم قد حفظ القرآن، وتعلَّم الركوب، وقال: اقرأ. فقرأ الختمة في أربعة أيام، وركب حصانًا وساقه، فبُهِتُوا، وعَدُّوها آية لغباوتهم، فقام خطيبًا، وتلا: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، وتلا: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، فهذا البشير مُطَّلع على الأنفس مُلْهَم، ونبيكم r يقول: «إِنَّ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مُحَدَّثِينَ، وَإِنَّ عُمَرَ مِنْهُمْ»[17].
وقد صَحِبَنَا أقوام أطلعه الله على سِرِّهم، ولا بُدَّ من النظر في أمرهم، وتَيَمُّمِ العدل فيهم، ثم نودي في جبال المصامدة: مَنْ كان مطيعًا للإمام فليأت. فأقبلوا يهرعون، فكانوا يُعْرَضون على البشير، فيُخرج قومًا على يمينه، ويَعدُّهم من أهل الجنة، وقومًا على يساره، فيقول: هؤلاء شاكُّون في الأمر. وكان يُؤْتَى بالرجال منهم، فيقول: هذا تائب رُدُّوه على اليمين تاب البارحة. فيعترف بما قال، واتفقت له فيهم عجائب، حتى كان يُطلق أهل اليسار، وهم يعلمون أن مآلهم إلى القتل، فلا يفرُّ منهم أحد، وإذا تجمَّع منهم عدَّة، قتلهم قراباتُهم حتى يقتل الأخ أخاه!» [18].
وأورد ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) هذا الأمر فقال: «وكان الونشريشي يلزم الاشتغال بالقرآن والعلم في السرِّ؛ بحيث لا يعلم أحدٌ ذلك منه، فلمَّا كان سنُّه تسع عشرة، وخاف المهدي -ابن تومرت- من أهل الجبل، خرج يومًا لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنسانًا حسن الثياب، طيب الريح، فأظهر أنه لا يعرفه، وقال: مَنْ هذا؟ فقال: أنا أبو عبد الله الونشريشي. فقال له المهدي: إن أمرك لعجبٌ! ثم صلَّى، فلما فرغ من صلاته نادى في الناس فحضروا، فقال: إنَّ هذا الرجل يزعم أنه الونشريشي فانظروه، وحقِّقُوا أمره. فلما أضاء النهار عرفوه، فقال له المهدي: ما قِصَّتُك؟ قال: إنني أتاني الليلة مَلَكٌ من السماء، فغسل قلبي، وعَلَّمَنِي الله القرآن والموطأ، وغيره من العلوم والأحاديث. فبكى المهدي بحضرة الناس، ثم قال له: نحن نمتحنك. فقال: افعل.
وابتدأ يقرأ القرآن قراءة حسنة من أيِّ موضع سُئِلَ، وكذلك الموطأ، وغيره من كتب الفقه والأصول، فعَجِبَ الناسُ من ذلك، واستعظموه، ثم قال لهم: إن الله تعالى قد أعطاني نورًا أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار، وتتركوا أهل الجنة، وقد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر التي في المكان الفلاني يشهدون بصدقي.
فسار المهدي والناس معه وهم يبكون إلى تلك البئر، وصَلَّى المهدي عند رأسها، وقال: يا ملائكة الله؛ إن أبا عبد الله الونشريشي قد زعم كيت وكيت. فقال مَنْ بها: صدق. وكان قد وضع فيها رجالاً يشهدون بذلك، فلمَّا قيل ذلك من البئر، قال المهدي: إن هذه مطهرة مقدسة قد نزل إليها الملائكة، والمصلحة أن تُطَمَّ لئلاَّ يقع فيها نجاسة، أو ما لا يجوز. فألقَوْا فيها من الحجارة والتراب ما طَمَّهَا -وبهذا يكون قد قتل الرجال الذين اتَّفق معهم على هذا القول؛ لئلاَّ يُفْتَضح أمره- ثم نادى في أهل الجبل بالحضور إلى ذلك المكان، فحضروا للتمييز، فكان الونشريشي يعمد إلى الرجل الذي يخاف ناحيته، فيقول: هذا من أهل النار. فيُلْقَى من الجبل مقتولاً، وإلى الشاب الغرِّ ومَنْ لا يخشى، فيقول: هذا من أهل الجنة. فيُتْرَك على يمينه، فكان عدة القتلى سبعين ألفًا، فلما فرغ من ذلك أَمِنَ على نفسه وأصحابه»[19].
هذا فِعْلُ ابن تومرت بمَنْ معه، فكيف يكون فعله بالمرابطين؟!
ولقد رُويت عنه كثير من الأخبار التي احتال فيها؛ حتى ظهر وكأنه يعلم الغيب، ولا نشك أن له عيونًا وأتباعًا، كما لا شك في أنه شخصية قوية ذات بصر وخبرة وفراسة، يروي المراكشي واقعة منها فيقول: «أخبرني مَنْ رآه -ممن أثق إليه- يضرب الناسَ على الخمر بالأكمام والنعال وعسب النخل؛ متشبِّهًا في ذلك بالصحابة. ولقد أخبرني بعض مَنْ شهده وقد أتى برجل سكران، فأمر بحدِّه، فقال: رجلٌ من وجوه أصحابه يُسَمَّى يوسف بن سليمان: لو شدَّدْنَا عليه حتى يُخبرنا من أين شربها لنَحْسم هذه العلةَ من أصلها. فأَعْرَض عنه، ثم أعاد عليه الحديث، فأعرض عنه، فلما كان في الثالثة قال له: أرأيت لو قال لنا: شربتُها في دار يوسف بن سليمان. ما نحن صانعون؟ فاستحيا الرجل وسكت، ثم كُشف على الأمر، فإذا عبيدُ ذلك الرجل سقَوه، فكان هذا من جملة ما زادهم به فتنة وتعظيمًا، إلى أشياءَ كان يُخبر بها فتقع كما يُخبر، ولم يزل كذلك وأحوالُه صالحة، وأصحابه ظاهرون، وأحوال المرابطين المذكورين تَخْتَلُّ، وانتقاض دولتهم يتزيد، إلى أن تُوُفِّيَ ابن تومرت... بعد أن أسس الأمور، وأحكم التدبير، ورسم لهم ما هم فاعلوه»[20].
كذلك يروي الذهبي في سير أعلام النبلاء: «وقد بلغني فيما يُقال: أن ابنَ تُومرت أخفى رجالاً في قبور دَوَارِسَ[21]، وجاء في جماعة لِيُرِيهم آية، يعني فصاحَ: أيُّها الموتى أجيبوا. فأجابوه: أنتَ المهدي المعصومُ، وأنت وأنت.. ثم إنه خاف من انتشارِ الحيلة، فخسف فوقهم القبور فماتوا»[22].
وقفة مع ابن تومرت وجماعته
كان محمد بن تومرت في جماعته الجديدة يقتل العشرات من المخالفين له، حتى من فرقته وجماعته (الموحدين)، فالذي يُخَالِفُه في الرأي ليس له من دواء إلاَّ القتل، وهو أمر في غاية الغرابة؛ نظرًا لما عنده من العلم الغزير، وأغرب منه كان ادعاؤه بعض الخوارق، وأنه هو المهدي المنتظر!
ولا شكَّ في أنْ يعتقدَ صِدْقَه وما يذهب إليه من أقواله تلك كثيرٌ من الناس؛ وذلك -كما ذكرنا- لانشغال علماء الدولة بالأمور الفرعية عن تعليم هؤلاء الناس أصول العقائد وأصول العبادات، فقد أقام العلماء جدارًا عازلاً بينهم وبين العامَّة، الذين لا يعرفون أين الحقُّ وأين الباطل، والذين لا يستطيعون أن يُمَيِّزُوا بين الغثِّ والسمين.
ومن هنا حين رأى مثل هؤلاء الناس رجلاً مثل محمد بن تومرت في شخص العالم الكبير، وهو يروي من أحاديث رسول الله r عن فلان وفلان، ثم هو يحفظ كتاب الله U، ويعلم سِيَرَ الصالحين والسابقين، ويعلم فقه كذا وكذا، حين رأوا ذلك ما كان منهم إلا أن يسمعوا ويطيعوا لما يقوله، وما يمليه عليهم عالمهم ومعلمهم، وقد اعتقدوا جميعًا بعصمته، واعتقدوا جميعًا بِحلِّ قتل المرابطين، بل والثواب الجزيل على قتلهم.
ولنا أن نتخيَّل مثل هذا الأمر في حقِّ المرابطين، الذين فتحوا البلاد، وأقاموا صرح الإسلام في بلاد المغرب والأندلس لسنوات وسنوات، الآن وبعد ظهور بعض المنكرات في بلادهم، وبعد انشغالهم بالجهاد عن التعليم، أصبحوا يُكَفَّرون وتُحَلُّ دماؤهم، ويُقَاتَلون من قِبَلِ جماعة الموحِّدِين، ذلك الاسم (الموحِّدين) الذي يُشير بقوَّة إلى أن غيرهم كفار وليسوا بموحدين أو مسلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
[1] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص251، وابن كثير: البداية والنهاية، 12/231، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.
[2] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/50، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/455.
[3] الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء والدلو الصغيرة. المعجم الوسيط 1/371.
[4] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/51.
[5] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص254، وابن الأثير: الكامل 9/196.
[6] انظر: ابن تيمية: منهاج أهل السنة، 7/59.
[7] انظر: أبو حامد الغزالي: فضائح الباطنية، ص142، والخميني: الحكومة الإسلامية، ص52، ومن المفيد أن ننقل قول الخميني: «وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم والأئمة ع كانوا قبل هذا العالم أنوارًا، فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله».
[8] انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/550، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.
[9] ابن تومرت: أعز ما يُطلب، ص204، نقلاً عن الصلابي: دولة الموحدين، ص41.
[10] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص255.
[11] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص260، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/228.
[12] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/199، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/228.
[13] رواه الترمذي: كتاب الديات، باب في تشديد قتل المؤمن 1395 عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، والنسائي 3987، وصححه الألباني انظر: صحيح الجامع 5077.
[14] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 2/376.
[15] البخاري: كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} المائدة: 45 6484، عن عبد الله بن مسعود t، ومسلم: كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم 1676 واللفظ له.
[16] سيد قطب: في ظلال القرآن، 2/736.
[17] والحديث رواه أبو هريرة t قال: قال رسول الله: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ». البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي t 3486 واللفظ له، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة y، باب من فضائل عمر t 2398.
[18] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/546.
[19] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/198، 199.
[20] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص260-262.
[21] دوارس جمع دارس: وهو العافي وذهاب الأثر ومتقادم العهد. ابن منظور: لسان العرب، مادة درس 6/79، والمعجم الوسيط 1/279.
[22] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/551.
⏪المواجهة بين المرابطين والموحدين
حمل محمد بن تومرت على عاتقه وعاتق جماعته -الموحدين- أمر مقاتلة المرابطين وسفك دمهم.يقول ابن خلدون ملخصًا معارك المرابطين والموحدين: «ولما تمَّ له (ابن تومرت) خمسون من أصحابه سمَّاهم ايت الخمسين، وزحف إليهم عامل السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني بمكانهم من هرغة، فاستجاشوا بإخوانهم من هنتاتة وتينملل، فاجتمعوا إليه، وأوقعوا بعسكر لمتونة، فكانت هزمة الفتح، وكان الإمام (أي: ابن تومرت) يَعِدُهم بذلك، فاستبصروا في أمره (أي تأكدوا من صدق ابن تومرت)، وتسابق كافتهم إلى الدخول في دعوته، وتردَّدت عساكر لمتونة إليهم مرَّة بعد أخرى ففضُّوهم... وكانوا يُسَمّون لمتونة الحشم، فاعتزم على غزوهم، وجمع كافَّة أهل دعوته من المصامدة، وزحف إليهم فلقوه بكيك، وهزمهم الموحدون واتبعوهم إلى أغمات، فلقيهم هنالك زحوف لمتونة مع بكر بن علي بن يوسف، وإبراهيم بن تاعباشت، فهزمهم الموحدون...»[1].
لقد استطاع ابن تومرت أن يتحصن في تينملل وأن يُخرج منها الجيوش التي تفتك بدولة المرابطين، ولقد استطاع بطبيعة الحال أن يُوَسِّع الأرض التي حوله والتي ينطلق منها، ولقد التقوا مع المرابطين في مواقع عديدة؛ كان منها تسع مواقع ضخمة، انتهت سبع منها بانتصارهم على المرابطين، وهُزموا في اثنتين.
وأكبر هزائمهم كانت حين استفحل خطرهم فجهز لهم علي بن يوسف بن تاشفين جيشًا كبيرًا، ثم خرج من الموحدين جيش كبير على قيادته عبد المؤمن بن علي، يروي عبد الواحد المراكشي كيف سارت المعركة فيقول: «ولما كانت سنة 517هـ جهز جيشًا عظيمًا من المصامدة، جُلُّهُم من أهل تينملل مع مَنِ انضاف إليهم من أهل سوس، وقال لهم: اقصدوا هؤلاء المارقين المبدِّلِينَ، الذين تسمَّوْا بالمرابطين، فادعوهم إلى إماتة المنكر وإحياء المعروف، وإزالة البدع، والإقرار بالإمام المهدي المعصوم، فإن أجابوكم فهم إخوانكم، لكم ما لهم وعليهم ما عليكم، وإن لم يفعلوا فقاتلوهم؛ فقد أباحت لكم السُّنَّة قتالهم. وأمَّر على الجيش عبد المؤمن بن علي وقال: أنتم المؤمنون، وهذا أميركم. فاستحقَّ عبد المؤمن من يومئذ اسم إمرة المؤمنين.
وخرجوا قاصدين مدينة مراكش، فلقيهم المرابطون قريبًا منها بموضع يدعى البحيرة، بجيش ضخم من سراة لمتونة، أميرهم الزبير بن علي بن يوسف بن تاشفين، فلمَّا تراءى الجمعان، أرسل إليهم المصامدة (من الموحدين) يدعونهم إلى ما أمرهم به ابن تومرت، فردُّوا عليهم أسوأ ردٍّ، وكتب عبد المؤمن إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بما عهد إليه محمد بن تومرت، فردَّ عليه أمير المسلمين يُحَذِّره عاقبة مفارقة الجماعة، ويُذَكِّرُه الله في سفك الدماء وإثارة الفتنة، فلم يردع ذلك عبد المؤمن؛ بل زاده طمعًا في المرابطين، وَحَقَّق عنده ضعفهم، فالتقت الفئتان، فانهزم المصامدة وقُتِلَ منهم خلق كثير، ونجا عبد المؤمن في نفر من أصحابه، فلمَّا جاء الخبر لابن تومرت، قال: أليس قد نجا عبد المؤمن؟ قالوا: نعم. قال: لم يُفقد أحد»[2].
وقفة مع تاريخ ابن تومرت
الحقيقة أن سيرة هذا الرجل فيها خلط كثير جدًّا، وتفاصيل كثيرة متشابكة في معظم الأحيان، وهي على تشابكها تتنافر وتتجاذب، فلا يدري المرء أي الأحداث أصدق، أو أيها أسبق، وبخاصة أن القدماء الذين كتبوا عن هذا الرجل لم يُؤَرِّخوا بدقَّة له أو للأحداث في عهده، اللهم إلا في القليل جدًّا، وهذا أمر يُعذرون فيه؛ إذ إن الظروف التي أحاطت بالرجل، أو التي أحاط نفسه بها -عن قصد أو غيرِه- تَحُولُ دون الدقَّة في الإخبار عنه؛ فلقد كان على غرابته ووحدته وصمته، دائم الترحال، ولم يستقرّ إلا في منطقة جبلية وعرة وحصينة؛ بل منهم مَن يقول: إنه استقر حينًا في منطقة وعرة، ثم ارتحل عنها بعد قليل (ثلاث سنوات تقريبًا) لمنطقة أخرى كانت أكثر حصانة منها ووعورة، وأشدَّ قسوة على أهلها ومَنْ راموهم بسوء، وهذا هو الأرجح، ولقد اعتمد على ساكني هذه المناطق في دعوته، ولنا أن نتوقَّع حال مَنْ يسكن هذه المناطق وعقلياتهم، بل يكفينا أن نتذكَّر أنهم ساروا خلفه رغم ادعائه الهدى والعصمة، ورغم ما فعله بهم يوم التمييز، ثم إنه قتل في يوم التمييز كلَّ مَنْ كان يخافه على نفسه ودعوته وأتباعه من أهل الفهم بين هؤلاء القوم، وقتلهم بأيدي أهليهم، بل إن مِن المصادر مَن يذكر أن هؤلاء الذين قُتلوا لم يحاولوا الهرب، وانتظروا حتى قتلهم أهلوهم، وإن كان ثمة مصادر أخرى ذكرت ما يختلف عن هذا؛ فمنهم مَن قال: إنه متى ذُكر أن فلانًا من أهل النار يُكَتَّف ثم يقتل. ومنهم من ذكر أنه كان يُلْقَى من أعلى الجبل في ساعتها، ومنهم.. ومنهم.. المهم أن أهل الفهم مِنْ هؤلاء لم يكونوا علماء، ولكنهم كانوا قومًا قد لا يصدقون كذبه وادعاءه، وينشرون ذلك بفطرتهم، فيُثَبِّطون به العزائم من حوله أو ما شابه؛ لهذا فإن المرء لا يَعْجَبُ إذا وجد أن كتاب (أخبار المهدي ابن تومرت) لأبي بكر بن علي الصنهاجي الشهير بالبيذق -وقد كان من أتباع ابن تومرت المقربين، وسابع مَنْ بايعوه في تينملل- لم يكن يذكر تواريخ كثير من الأحداث، بل ولا حتى عام حدوثها، حتى معارك ابن تومرت نفسها لم يكن الرجل يذكر تواريخها ولا سنة وقوعها، اللهم إلا ما ذكره على سبيل الإجمال في نهاية كتابه عن أهم ما حدث من سنة 518هـ إلى سنة 527هـ، فهذا رجل كان من كبار أتباع ابن تومرت، ولا يهتم أن يسوق الحدث ومعه تاريخ وقوعه؛ لذلك فإن المؤرخين معذورون في وقوع هذا الخلط.
⏪معركة البحيرة
الصراع بين المرابطين والموحدين
كانت معركة البحيرةأو موقعة البستان سنة (524هـ=1130م)، انتصر فيها المرابطون على الموحدين، وقُتِلَ فيها من الموحدين أربعون ألفًا، وهذه المعركة -البستان أو البحيرة- هي التي سُبقت بحادث التمييز؛ حيث قام ابن تومرت بقتل كلِّ مَنْ يشُكُّ في ولائه له، بل جعل أهلَهم وأقرباءهم هم الذين يقتلونهم، كما سبق الإشارة إلى هذا الأمر.
قال ابن الأثير: «فجهَّز المهدي -ابن تومرت- جيشًا كثيفًا يبلغون أربعين ألفًا، أكثرهم رجَّالة، وجعل عليهم الونشريشي، وسَيَّر معهم عبد المؤمن، فنزلوا وساروا إلى مراكش فحصروها، وضيَّقوا عليها، وبها أمير المسلمين علي بن يوسف، فبقي الحصار عليها عشرين يومًا، فأرسل أمير المسلمين إلى متولِّي سِجِلْمَاسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش، فجمع جيشًا كثيرًا وسار، فلما قارب عسكر المهدي خرج أهل مَرَّاكُش من غير الجهة التي أقبل منها، فاقتتلوا واشتدَّ القتال، وكثر القتل في أصحاب المهدي، فقُتِلَ الونشريشي أميرهم، فاجتمعوا إلى عبد المؤمن وجعلوه أميرًا عليهم. ولم يزل القتال بينهم عامَّة النهار، وصَلَّى عبد المؤمن صلاة الخوف؛ الظهر والعصر، والحربُ قائمة، ولم تُصَلَّ بالمغرب قبل ذلك، فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين وقوَّتهم، أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير هناك -والبستان يُسَمَّى عندهم البحيرة؛ فلهذا قيل: وقعة البحيرة، وعام البحيرة- وصاروا يُقاتلون من جهة واحدة إلى أن أدركهم الليل، وقد قُتِلَ من المصامدة أكثرهم، وحين قُتل الونشريشي دفنه عبد المؤمن، فطلبه المصامدة، فلم يَرَوْه في القتلى، فقالوا: رفعته الملائكة. ولما جنَّهم الليل سار عبد المؤمن ومَنْ سلم من القتلى إلى الجبل»[3].
لم تَفُتُّ هذه الهزيمة في عضد ابن تومرت، ولم يُصبه اليأس، وإن كان أصحابه قد بدءوا يَشُكُّون في مهديَّته المزعومة؛ فلجأ نتيجة لذلك إلى الحيلة والكذب؛ ليبعث الأمل من جديد في نفوس أصحابه، ويُوهمهم بأنهم على الحقِّ، وأن هؤلاء الملثَّمِينَ على الباطل، ولا بُدَّ أن يُهزموا.
يقول المراكشي في المعجب: «ولما رجع القوم إلى ابن تومرت، جعل يُهَوِّن عليهم أمر الهزيمة، ويُقَرِّر عندهم أن قتلاهم شهداء؛ لأنهم ذابُّون عن دين الله، مُظهرون للسُّنَّة؛ فزادهم ذلك بصيرةً في أمرهم، وحرصًا على لقاء عدوِّهم، ومن حينئذٍ جعل المصامدة يشنُّون الغارات على نواحي مراكش، ويقطعون عنها موادَّ المعايش وموصول المرافق، ويقتلون ويَسْبُون، ولا يُبْقُون على أحد ممن قَدروا عليه؛ وكثر الداخلون في طاعتهم والمُنْحَاشون إليهم، وابن تومرت في ذلك كله يُكثر التزهُّد والتقلُّل، ويُظهر التشبُّه بالصالحين، والتشدُّد في إقامة الحدود؛ جاريًا في ذلك على السُّنَّة الأُولى»[4].
لم يلبث ابن تومرت أن تُوُفِّيَ بعد معركة البحيرة هذه، تاركًا أصحابه بعد أن أمَّر عليهم عبد المؤمن بن علي، ولما مات كَفَّنه عبد المؤمن بن علي وصَلَّى عليه، ودفنه بمسجده[5].
وهكذا انتهت حياة ابن تومرت ومصير دعوته مجهول؛ بسبب هذه الهزيمة الشديدة التي نزلت بأتباعه في موقعة البحيرة، ولكنه قد نجح مع ذلك في ترسيخ دعوته في قلوبهم، حتى صَدَّقُوه وآمنوا بمهديَّتِه، وأطاعوه ولو في قتل أبنائهم؛ كما حصل في حادثة التمييز التي تقشعر لها الأبدان؛ حيث قتلت كل قبيلة أبناءها دون أن يُصِيبها التردُّد أو الحيرة.
البيعة لعبد المؤمن بن علي
ومن عجيب ما ينقل المراكشي في (المعجب) أن ابن تومرت قبل موته بأيام يسيرة استدعى هؤلاء المسمَّيْنَ بالجماعة، وأهل خمسين، وهم من قبائل متفرِّقة، لا يجمعهم إلا اسم المصامدة، فلمَّا حضروا بين يديه قام -وكان متكئًا- فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على محمد نبيه r، ثم أنشأ يترضَّى عن الخلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم- ويذكر ما كانوا عليه من الثبات في دينهم، والعزيمة في أمرهم، وأن أحدهم كانت لا تأخذه في الله لومة لائم، وذَكَر مِن حَدِّ عمر بن الخطاب -t- ابنَه في الخمر، وتصميمه على الحقِّ في أشباهٍ لهذه الفصول، ثم قال: فانقرضت هذه العصابة - نضَّر الله وجوهها، وشكر لها سعيها، وجزاها خيرًا عن أُمَّةِ نَبِيِّهَا- وخبطت الناس فتنةٌ تركت الحليم حيران، والعالم متجاهلاً مُداهنًا، فلم ينتفع العلماء بعلمهم، بل قصدوا به الملوك، واجتلبوا به الدنيا، وأمالوا وجوه الناس إليهم... ثم إنَّ الله - سبحانه وله الحمد - مَنَّ عليكم أيتها الطائفة بتأييده، وخَصَّكم من بين أهل هذا العصر بحقيقة توحيده، وقيَّض لكم من أَلْفَاكُم ضُلاَّلاً لا تهتدون، وعُمْيًا لا تُبصرون؛ لا تعرفون معروفًا، ولا تُنكرون منكرًا، قد فَشَتْ فيكم البدع، واستهوتكم الأباطيل، وزَيَّنَ لكم الشيطان أضاليلَ وتُرَّهاتٍ أُنَزِّه لساني عن النطق بها، وأَرْبَأُ بلفظي عن ذِكْرِهَا، فهداكم الله به بعد الضلالة، وبَصَّركم بعد العمى، وجمعكم بعد الفُرقة، وأعزَّكم بعد الذِّلة، ورفع عنكم سلطان هؤلاء المارقين، وسيُورثكم أرضَهم وديارهم، ذلك بما كسبته أيديهم، وأضمرته قلوبهم، وما ربك بظلام للعبيد؛ فجدِّدوا لله -سبحانه- خالصَ نيَّاتكم، وأَروه من الشكر قولاً وفعلاً ما يُزَكِّي به سعيكم، ويتقَبَّلُ أعمالكم وينشر أمركم، واحذروا الفُرقة واختلاف الكلمة وشتاتَ الآراء، وكُونُوا يدًا واحدة على عدوِّكم؛ فإنكم إن فعلتم ذلك هابكم الناس، وأسرعوا إلى طاعتكم، وكثر أتباعكم، وأظهر الله الحقَّ على أيديكم، وإلاَّ تفعلوا شَمِلَكم الذلُّ، وعَمَّكم الصَّغَارُ، واحتقرتكم العامَّة، فتَخَطَّفَتْكم الخاصَّة، وعليكم في جميع أموركم بمزج الرأفة بالغلظة، واللين بالعنف، واعلموا مع هذا أنه لا يَصلح أمرُ آخرِ هذه الأُمَّة إلاَّ على الذي صلح عليه أمرُ أوَّلها، وقد اخترنا لكم رجلاً منكم، وجعلناه أميرًا عليكم، هذا بعد أن بَلَوناه في جميع أحواله، من ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه، واختبرنا سريرته وعلانيته، فرأيناهُ في ذلك كله ثَبْتًا في دينه، مُتَبَصِّرًا في أمره، وإني لأرجو ألاَّ يُخلف الظنَّ فيه، وهذا المشار إليه هو عبد المؤمن، فاسمعوا له وأطيعوا ما دام سامعًا مطيعًا لربه، فإن بدَّل أو نكص على عقبه، أو ارتاب في أَمْرِه ففي الموحِّدين -أعزَّهم الله- بركةٌ وخير كثير، والأَمْرُ أمرُ الله يُقَلِّده من شاء من عباده.
فبايع القوم عبد المؤمن، ودعا لهم ابن تومرت، ومسح وجوههم وصدورهم واحدًا واحدًا؛ فهذا سبب إمرة عبد المؤمن بن علي؛ ثم تُوُفِّيَ ابن تومرت بعد عهده هذا بيسير، واجتمع أمر المصامدة على عبد المؤمن[6].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
[1] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/228.
[2] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص259.
[3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/200.
[4] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص260-262.
[5] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/229.
[6] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص262-264.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق