⏪⏬
داهمت أحداث ثورة 1919 مصر .. فانتقلت هدى هانم شعراوى من "الحرملك" إلى الشارع .. من قصرها على ناصية شارع قصر النيل إلى الساحة الممتدة أمام بيت الأمة "بيت سعد زغلول" . لتتزعم أول مظاهرة نسائية ضمت ثلاثمائة سيدة وفتاة ، يوم الأحد 16
مارس 1919 وبالطبع كانت معها السيدة صفية زغلول "أم المصريين" والمئات من قرينات وبنات العظماء فى تلك الفترة ، وحاصرت قوات الإحتلال البريطانى المظاهرة لمدة ساعتين لمنعها من الوصول إلى السفارة البريطانية "مقر المندوب السامي" لتقديم احتجاجهن على سفك الدماء وإطلاق الرصاص على المتظاهرين .. وفى 20 مارس 1919 كتبت هدى هانم بالعربية والفرنسية :
"كان خروج المرأة من البيت إلى الشارع لتنظيم المظاهرات حدثا ً جديدا ً جريئا ً ، فكان الميلاد الحقيقى لتحرير المرأة ، ولم تقتصر المظاهرات على بنات العائلات أو سليلات الأسر المعروفة ، لأن أول شهيدة سجلها دفتر وفيات قسم الخليفة بحى القلعة كانت من عامة الشعب واسمها "شفيقة أحمد" وكانت جنازتها أول جنازة يسير فيها الرجال مع النساء .. وهكذا ولدت الحركة النسائية الجديدة فى أتون الثورة ، و دفعت الثمن قبل أن تطالب المرأة بحقوقها" !
نظمت هدى هانم المظاهرات وجمعت التبرعات ، وكشفت عن عزيمة تعز على بعض الرجال ، وأخفت أحزانها عن الجميع وكانت لا تبوح بأسرارها إلا حين تختلى إلى نفسها ومذكراتها .. وعندما قرأتها ، اكتشفت وأنا أتأمل صورها : سر الحزن الدقيق على الرغم من الجمال الذى يزدان بالوقار !
ولدت هدى هانم فى 13 يونيو عام 1879 توفى والدها "محمد سلطان باشا" وهى فى الخامسة من عمرها ، والذى عمل دائما ً على ترسيخ التقاليد الأصيلة المتوارثة داخل الأسرة ، تلك التقاليد تركت بصماتها على شخصية ابنته فكرا ً و سلوكا ً حفظت القرآن الكريم وجمعت بين الثقافتين العربية والفرنسية ، كان سلطان باشا يميل إلى مجالس الأدب والعلم ، وتغنى الأدباء والعلم بشخصيته المتميزة التى زانها الكرم والوفاء والتمسك بجوهر الدين والشجاعة فى إبداء الرأى ، كان بارا ً بأهله ، والفقراء خاصة ، أوقف جانب من أملاكه على الحرمين الشريفين والأزهر – الجامع والجامعة – والمدارس والمساجد ، وكان وراء إلغاء نظام السخرة وإلغاء الضرائب الإضافية التى أرهقت كاهل الفلاحين ، وإهتمامه بإصلاح أحوال الناس دفعه إلى قبول عدة مناصب : مديرا ً لمديرية ( محافظة ) بنى سويف ثم مديرا ً لمديريات الفيوم ، أسيوط ، الغربية ثم مفتشا ً عاما ً للوجه القبلى ، كما كان أول رئيس لمجلس النواب ثم مجلس شورى القوانين وقائمقام الخديوي .
اقترنت هدى هانم بابن عمها "على شعراوى باشا" أحد أقطاب الوفد ورئيسه فترة نفى الزعيم سعد .. وفى مذكراتها التى كتبتها بأسلوب أدبى نبيل ، روت قصة زواجها وهى فى الثالثة عشرة من عمرها ، وكان زوجها فى سن أبيها وهو الوصى على الأسرة وأملاك والدها .. وكيف اكتشفت عودة زوجها على باشا إلى زوجته الأولى وأولاده على الرغم من "التعهد المكتوب" !.. وانفصلت الهانم عن زوجها سبع سنوات كانت أخصب سنواتها ، لأنها قررت أن تجيد اللغة العربية كما أجادت الفرنسية والتركية ، وكشفت عن ميولها الأدبية والفنية ، واكتشفت أن تعليم المرأة هو أنسب الحلول لإنقاذ المرأة .. والرجل أيضا ً ، و لنتأمل مقولة الشيخ والكاتب الفحل عبدالعزيز البشرى : "إن تحرير المرأة هو تحرير الرجل من المرأة الجاهلة" !
كانت هدى هانم تؤمن بالعمل الجماعى المنظم ، ولم تصب بالنرجسية وعقدة العظمة وملتقى الأضواء .. فى الثامن من يناير عام 1920 تألفت لجنة الوفد المركزية للسيدات فى إجتماع حاشد ضم نحو ألف إمرأة فى الكنيسة المرقسية برئاسة "استر فهمي ويصا" وحصلت هدى هانم على أغلبية الأصوات على الرغم من تغيبها فى الأقصر !
فى مارس عام 1920 جاءتها دعوة من الإتحاد النسائى الدولى لحضور مؤتمره فى سويسرا ، لكن ظروف الثورة المصرية وتداعياتها حالت دون إجابة الدعوة ، ثم كان المؤتمر الثانى فى روما 1923 برفقة "سيزا نبراوى" و "ريجينا خياط" و مدام ويصا واصف .. أعجبت رئيسة المؤتمر الأمريكية بعلم مصر الملكية الأخضر فوضعته فى صدارة القاعة بجوار العلم الإيطالى ، وفى كلمتها أشادت بوفد مصر وتاريخها وحضارتها ونهضتها الحديثة .. فى القطار العائد بهن من الأسكندرية فكرن فى خلع "البرقع" وفوجئ المستقبلون لهن فى محطة مصر ( باب الحديد ) بسفورهن ولكنهم لم يستنكروا عملهن ، وفي هذا العام أسست هدى هانم الإتحاد النسائى المصرى فى 16 مارس بشارع قصر العينى ، ولم يقتصر نشاط الإتحاد على قضايا المرأة ، بل امتد ليشمل كل قضايا الوطن .
ارتبطت هدى هانم بصداقة وثيقة مع صفية هانم رئيس شرف لجنة سيدات الوفد وقرينى الزعيم سعد ، إلا أنها بقوة شخصيتها واعتزازها بحريتها و برأيها ، لم تفقد زمام المبادرة فى مواجهة الزعيم وشعبيته الطاغية عقب عودته من المنفى عام 1922 واختلفت معه لموافقته على البند الخاص بالسودان خلال المفاوضات مع الإنجليز وثارت فلم يدعها للإحتفال السنوى للوفد "عيد الجهاد" فى 13 نوفمبر 1922 فقدمت استقالتها من رئاسة اللجنة .. وأسست على الفور جمعية "الرقى الأدبى للسيدات المصريات" ثم جمعية "المرأة الجديدة" بدعم من الأميرة عين الحياة والأميرة أمنية حليم والأميرة شويكار .. وأثمرت جهودهن عن إنشاء "مبرة محمد على" الباقية إلى يومنا هذا .
قامت هدى هانم بزيارات شخصية إلى عدة دول أوروبية والولايات المتحدة الأمريكية لشرح قضية مصر وحق شعبها فى الإستقلال وتقرير مصيره ، وأ ُعدت لها فى عدة عواصم أوروبية وفى نيويورك وواشنطن وديترويت : لقاءات وندوات ومحاضرات .. وشاركت فى مؤتمرات نسائية : أمستردام 1927 ، برلين وكوبنهاجن 1929 ، مارسيليا 1933 ورأست وفد مصر فى مؤتمر باريس النسائى فى أغسطس 1934 وفيه طالبت بربط حركة تحرير المرأة بحركة تحرير البلاد والشعوب من الإستعمار والفاشية .. وفي مؤتمر استانبول عام 1935 انتُخبت نائبة لرئيسة الاتحاد النسائى الدولى حتى وفاتها عام 1947 ..
اجتمعت وفود 40 دولة فى سراى "يلدز" وكتبت هدى هانم فى مذكراتها : "إن هذه السراى كانت تأوى حريم السلاطين حتى عصر السلطان عبدالحميد ، ثم دار الزمن دورته ، لتملى النساء على العالم رغباتهم من سراى يلدز نفسها !.. وألقت خطابا ً بالفرنسية عن ضرورة التعاون من أجل نشر السلام بين الأمم ومواصلة كفاح النساء من أجل المساواة والعدالة والإرتقاء بمكانة المرأة فى كل مكان .
ورأست كالعادة وفد مصر فى مؤتمر بروكسيل 1936 ، وأعدت المؤتمر النسائى الشرقى ( نساء البلاد العربية ) أكتوبر 1938 بالقاهرة ، ورأست المؤتمر النسائى الشرقى الثاني في ديسمبر 1944 وفيه أعلن عن تأسيس : الإتحاد النسائى العربى ، ورأست وفد مصر فى مؤتمر جنيف 1946 ثم مؤتمر نيودلهى 1947 قبيل رحيلها عن دنيانا .
حققت هدى هانم الكثير من أهداف الإتحاد النسائى ، فتساوت الفتاة مع الفتى فى جميع مراحل التعليم ، وبدأت الحكومة فى إرسال بعثات من الفتيات لتلقى التعليم فى أوروبا ، بعضهن أرسلن على نفقة هدى هانم !.. وشجعت وساهمت فى إقامة معارض الفنون التشكيلية ، بدعم من الأمير يوسف كمال راعى الفنون ومؤسس مدرسة الفنون التطبيقية وبعض أميرات البيت المالك ونخبة المجتمع .. وعقب رحيل الفنان العبقرى "محمود مختار" فى 27 مارس 1934 دعت ومجموعة من الصحفيين والفنانين إلى تخليد أعماله وذكراه ، وتشكلت أول جماعة لأصدقاء مختار برئاسة هدى هانم ، ضمت فى عضويتها عدد من العلماء والأدباء والفنانين مصريين وأجانب ، وفى مبنى ملحق بسراى هدى هانم أعدت معرضا ً – 59 تمثالا ً – من روائع مختار ، وتحت إشراف الأمير يوسف كمال والفنان راغب عياد وافتتح فى يونيو 1935 ، وبعد حملة صحفية ، قررت وزارة المعارف عام 1938 إقامة متحف مختار ، ضم معظم أعماله ومقتنياته الخاصة .
كانت سراى هدى هانم شعراوى على ناصية شارع قصر النيل تطل على ميدان الإسماعيلية "التحرير" شيدت على الطراز الإسلامى ، وهو الطابع المميز للقصور التى شيدت فى القاهرة الحديثة ، قاهرة الخديو إسماعيل ، أؤكد أن هذا الطراز الإسلامى هو الذى كان سائدا ً ( و الصور أقوى دليل ) قبل أن تسود طرز العمارة الفرنسية والإيطالية فى بدايات القرن العشرين ، وعلى الرغم من القيمة الأثرية والمعمارية والتاريخية ، إلا أن الوزير عبدالقادر حاتم أمر بهدمه فى بداية الستينات لإقامة فندق !.. وظل الموقع غارقا ً فى المياة الجوفية لأكثر من ثلاثين سنة ، ثم تحول إلى ساحة إنتظار السيارات ، إلى أن بدأت أعمال برج إدارى فى عام 2014 فى نفس الموقع !
كان صالون الزعيمة هدى هانم فى تلك السراى .. صالونا ً نسائيا ً فريدا ً ، سياسيا ً وأدبيا ً وفنيا ً ، وكان يعقد فى مساء كل ثلاثاء ، كما كان يختلف إليه عدد من أقطاب السياسة والصحافة والأدب ، إلى جانب بعض الشخصيات العالمية خلال زيارتهم للقاهرة ، وعضوات الإتحاد النسائى الدولى ، والعربى ، وكتبت "حواء ادريس" ابنة خالها والتى لازمتها فى حياتها وكفاحها :
"كان يؤم صالون هدى هانم كبار الشخصيات والزعماء والأدباء والمفكرون ومنهم : أحمد لطفى السيد ، د.مصطفى عبدالرازق وزير الأوقاف وشيخ الأزهر ، د.محمد حسين هيكل ، أحمد شوقى ، خليل مطران ، جبرائيل تقلا صاحب الأهرام وانطون الجميل رئيس التحرير العتيد وغيرهم ... وكان لهذا الصالون فضل كبير فى تشجيع كثير من الأدباء والفنانين التشكيليين ، ورصدت جائزة للإبداع الأدبى فى القصة والشعر كل عام ، خصصت لها لجنة فى المجمع اللغوى الملكى لإختيار الإنتاج الفائز .. وأبرز الشخصيات النسائية اللاتي كن يترددن على صالونها : النابغة مي زيادة قبل تأسيس صالونها ، استر فهمي ، سيزا نبراوى ، أسماء فهمى ، لبيبة هاشم صاحبة مجلة "فتاة الشرق" ، وباحثة البادية ملك حفني ناصف وغيرهن من فضليات نساء مصر .."
هكذا كانت "هدى هانم" ابنة الباشا و زوجة الباشا .. قدوة عظيمة لأبناء مصر – رجالا ً ونساء ً –فى الجهاد والعطاء بلا حدود .. وستظل أسطورة مصرية خالدة !
داهمت أحداث ثورة 1919 مصر .. فانتقلت هدى هانم شعراوى من "الحرملك" إلى الشارع .. من قصرها على ناصية شارع قصر النيل إلى الساحة الممتدة أمام بيت الأمة "بيت سعد زغلول" . لتتزعم أول مظاهرة نسائية ضمت ثلاثمائة سيدة وفتاة ، يوم الأحد 16
مارس 1919 وبالطبع كانت معها السيدة صفية زغلول "أم المصريين" والمئات من قرينات وبنات العظماء فى تلك الفترة ، وحاصرت قوات الإحتلال البريطانى المظاهرة لمدة ساعتين لمنعها من الوصول إلى السفارة البريطانية "مقر المندوب السامي" لتقديم احتجاجهن على سفك الدماء وإطلاق الرصاص على المتظاهرين .. وفى 20 مارس 1919 كتبت هدى هانم بالعربية والفرنسية :
"كان خروج المرأة من البيت إلى الشارع لتنظيم المظاهرات حدثا ً جديدا ً جريئا ً ، فكان الميلاد الحقيقى لتحرير المرأة ، ولم تقتصر المظاهرات على بنات العائلات أو سليلات الأسر المعروفة ، لأن أول شهيدة سجلها دفتر وفيات قسم الخليفة بحى القلعة كانت من عامة الشعب واسمها "شفيقة أحمد" وكانت جنازتها أول جنازة يسير فيها الرجال مع النساء .. وهكذا ولدت الحركة النسائية الجديدة فى أتون الثورة ، و دفعت الثمن قبل أن تطالب المرأة بحقوقها" !
نظمت هدى هانم المظاهرات وجمعت التبرعات ، وكشفت عن عزيمة تعز على بعض الرجال ، وأخفت أحزانها عن الجميع وكانت لا تبوح بأسرارها إلا حين تختلى إلى نفسها ومذكراتها .. وعندما قرأتها ، اكتشفت وأنا أتأمل صورها : سر الحزن الدقيق على الرغم من الجمال الذى يزدان بالوقار !
ولدت هدى هانم فى 13 يونيو عام 1879 توفى والدها "محمد سلطان باشا" وهى فى الخامسة من عمرها ، والذى عمل دائما ً على ترسيخ التقاليد الأصيلة المتوارثة داخل الأسرة ، تلك التقاليد تركت بصماتها على شخصية ابنته فكرا ً و سلوكا ً حفظت القرآن الكريم وجمعت بين الثقافتين العربية والفرنسية ، كان سلطان باشا يميل إلى مجالس الأدب والعلم ، وتغنى الأدباء والعلم بشخصيته المتميزة التى زانها الكرم والوفاء والتمسك بجوهر الدين والشجاعة فى إبداء الرأى ، كان بارا ً بأهله ، والفقراء خاصة ، أوقف جانب من أملاكه على الحرمين الشريفين والأزهر – الجامع والجامعة – والمدارس والمساجد ، وكان وراء إلغاء نظام السخرة وإلغاء الضرائب الإضافية التى أرهقت كاهل الفلاحين ، وإهتمامه بإصلاح أحوال الناس دفعه إلى قبول عدة مناصب : مديرا ً لمديرية ( محافظة ) بنى سويف ثم مديرا ً لمديريات الفيوم ، أسيوط ، الغربية ثم مفتشا ً عاما ً للوجه القبلى ، كما كان أول رئيس لمجلس النواب ثم مجلس شورى القوانين وقائمقام الخديوي .
اقترنت هدى هانم بابن عمها "على شعراوى باشا" أحد أقطاب الوفد ورئيسه فترة نفى الزعيم سعد .. وفى مذكراتها التى كتبتها بأسلوب أدبى نبيل ، روت قصة زواجها وهى فى الثالثة عشرة من عمرها ، وكان زوجها فى سن أبيها وهو الوصى على الأسرة وأملاك والدها .. وكيف اكتشفت عودة زوجها على باشا إلى زوجته الأولى وأولاده على الرغم من "التعهد المكتوب" !.. وانفصلت الهانم عن زوجها سبع سنوات كانت أخصب سنواتها ، لأنها قررت أن تجيد اللغة العربية كما أجادت الفرنسية والتركية ، وكشفت عن ميولها الأدبية والفنية ، واكتشفت أن تعليم المرأة هو أنسب الحلول لإنقاذ المرأة .. والرجل أيضا ً ، و لنتأمل مقولة الشيخ والكاتب الفحل عبدالعزيز البشرى : "إن تحرير المرأة هو تحرير الرجل من المرأة الجاهلة" !
كانت هدى هانم تؤمن بالعمل الجماعى المنظم ، ولم تصب بالنرجسية وعقدة العظمة وملتقى الأضواء .. فى الثامن من يناير عام 1920 تألفت لجنة الوفد المركزية للسيدات فى إجتماع حاشد ضم نحو ألف إمرأة فى الكنيسة المرقسية برئاسة "استر فهمي ويصا" وحصلت هدى هانم على أغلبية الأصوات على الرغم من تغيبها فى الأقصر !
فى مارس عام 1920 جاءتها دعوة من الإتحاد النسائى الدولى لحضور مؤتمره فى سويسرا ، لكن ظروف الثورة المصرية وتداعياتها حالت دون إجابة الدعوة ، ثم كان المؤتمر الثانى فى روما 1923 برفقة "سيزا نبراوى" و "ريجينا خياط" و مدام ويصا واصف .. أعجبت رئيسة المؤتمر الأمريكية بعلم مصر الملكية الأخضر فوضعته فى صدارة القاعة بجوار العلم الإيطالى ، وفى كلمتها أشادت بوفد مصر وتاريخها وحضارتها ونهضتها الحديثة .. فى القطار العائد بهن من الأسكندرية فكرن فى خلع "البرقع" وفوجئ المستقبلون لهن فى محطة مصر ( باب الحديد ) بسفورهن ولكنهم لم يستنكروا عملهن ، وفي هذا العام أسست هدى هانم الإتحاد النسائى المصرى فى 16 مارس بشارع قصر العينى ، ولم يقتصر نشاط الإتحاد على قضايا المرأة ، بل امتد ليشمل كل قضايا الوطن .
ارتبطت هدى هانم بصداقة وثيقة مع صفية هانم رئيس شرف لجنة سيدات الوفد وقرينى الزعيم سعد ، إلا أنها بقوة شخصيتها واعتزازها بحريتها و برأيها ، لم تفقد زمام المبادرة فى مواجهة الزعيم وشعبيته الطاغية عقب عودته من المنفى عام 1922 واختلفت معه لموافقته على البند الخاص بالسودان خلال المفاوضات مع الإنجليز وثارت فلم يدعها للإحتفال السنوى للوفد "عيد الجهاد" فى 13 نوفمبر 1922 فقدمت استقالتها من رئاسة اللجنة .. وأسست على الفور جمعية "الرقى الأدبى للسيدات المصريات" ثم جمعية "المرأة الجديدة" بدعم من الأميرة عين الحياة والأميرة أمنية حليم والأميرة شويكار .. وأثمرت جهودهن عن إنشاء "مبرة محمد على" الباقية إلى يومنا هذا .
قامت هدى هانم بزيارات شخصية إلى عدة دول أوروبية والولايات المتحدة الأمريكية لشرح قضية مصر وحق شعبها فى الإستقلال وتقرير مصيره ، وأ ُعدت لها فى عدة عواصم أوروبية وفى نيويورك وواشنطن وديترويت : لقاءات وندوات ومحاضرات .. وشاركت فى مؤتمرات نسائية : أمستردام 1927 ، برلين وكوبنهاجن 1929 ، مارسيليا 1933 ورأست وفد مصر فى مؤتمر باريس النسائى فى أغسطس 1934 وفيه طالبت بربط حركة تحرير المرأة بحركة تحرير البلاد والشعوب من الإستعمار والفاشية .. وفي مؤتمر استانبول عام 1935 انتُخبت نائبة لرئيسة الاتحاد النسائى الدولى حتى وفاتها عام 1947 ..
اجتمعت وفود 40 دولة فى سراى "يلدز" وكتبت هدى هانم فى مذكراتها : "إن هذه السراى كانت تأوى حريم السلاطين حتى عصر السلطان عبدالحميد ، ثم دار الزمن دورته ، لتملى النساء على العالم رغباتهم من سراى يلدز نفسها !.. وألقت خطابا ً بالفرنسية عن ضرورة التعاون من أجل نشر السلام بين الأمم ومواصلة كفاح النساء من أجل المساواة والعدالة والإرتقاء بمكانة المرأة فى كل مكان .
ورأست كالعادة وفد مصر فى مؤتمر بروكسيل 1936 ، وأعدت المؤتمر النسائى الشرقى ( نساء البلاد العربية ) أكتوبر 1938 بالقاهرة ، ورأست المؤتمر النسائى الشرقى الثاني في ديسمبر 1944 وفيه أعلن عن تأسيس : الإتحاد النسائى العربى ، ورأست وفد مصر فى مؤتمر جنيف 1946 ثم مؤتمر نيودلهى 1947 قبيل رحيلها عن دنيانا .
حققت هدى هانم الكثير من أهداف الإتحاد النسائى ، فتساوت الفتاة مع الفتى فى جميع مراحل التعليم ، وبدأت الحكومة فى إرسال بعثات من الفتيات لتلقى التعليم فى أوروبا ، بعضهن أرسلن على نفقة هدى هانم !.. وشجعت وساهمت فى إقامة معارض الفنون التشكيلية ، بدعم من الأمير يوسف كمال راعى الفنون ومؤسس مدرسة الفنون التطبيقية وبعض أميرات البيت المالك ونخبة المجتمع .. وعقب رحيل الفنان العبقرى "محمود مختار" فى 27 مارس 1934 دعت ومجموعة من الصحفيين والفنانين إلى تخليد أعماله وذكراه ، وتشكلت أول جماعة لأصدقاء مختار برئاسة هدى هانم ، ضمت فى عضويتها عدد من العلماء والأدباء والفنانين مصريين وأجانب ، وفى مبنى ملحق بسراى هدى هانم أعدت معرضا ً – 59 تمثالا ً – من روائع مختار ، وتحت إشراف الأمير يوسف كمال والفنان راغب عياد وافتتح فى يونيو 1935 ، وبعد حملة صحفية ، قررت وزارة المعارف عام 1938 إقامة متحف مختار ، ضم معظم أعماله ومقتنياته الخاصة .
كانت سراى هدى هانم شعراوى على ناصية شارع قصر النيل تطل على ميدان الإسماعيلية "التحرير" شيدت على الطراز الإسلامى ، وهو الطابع المميز للقصور التى شيدت فى القاهرة الحديثة ، قاهرة الخديو إسماعيل ، أؤكد أن هذا الطراز الإسلامى هو الذى كان سائدا ً ( و الصور أقوى دليل ) قبل أن تسود طرز العمارة الفرنسية والإيطالية فى بدايات القرن العشرين ، وعلى الرغم من القيمة الأثرية والمعمارية والتاريخية ، إلا أن الوزير عبدالقادر حاتم أمر بهدمه فى بداية الستينات لإقامة فندق !.. وظل الموقع غارقا ً فى المياة الجوفية لأكثر من ثلاثين سنة ، ثم تحول إلى ساحة إنتظار السيارات ، إلى أن بدأت أعمال برج إدارى فى عام 2014 فى نفس الموقع !
كان صالون الزعيمة هدى هانم فى تلك السراى .. صالونا ً نسائيا ً فريدا ً ، سياسيا ً وأدبيا ً وفنيا ً ، وكان يعقد فى مساء كل ثلاثاء ، كما كان يختلف إليه عدد من أقطاب السياسة والصحافة والأدب ، إلى جانب بعض الشخصيات العالمية خلال زيارتهم للقاهرة ، وعضوات الإتحاد النسائى الدولى ، والعربى ، وكتبت "حواء ادريس" ابنة خالها والتى لازمتها فى حياتها وكفاحها :
"كان يؤم صالون هدى هانم كبار الشخصيات والزعماء والأدباء والمفكرون ومنهم : أحمد لطفى السيد ، د.مصطفى عبدالرازق وزير الأوقاف وشيخ الأزهر ، د.محمد حسين هيكل ، أحمد شوقى ، خليل مطران ، جبرائيل تقلا صاحب الأهرام وانطون الجميل رئيس التحرير العتيد وغيرهم ... وكان لهذا الصالون فضل كبير فى تشجيع كثير من الأدباء والفنانين التشكيليين ، ورصدت جائزة للإبداع الأدبى فى القصة والشعر كل عام ، خصصت لها لجنة فى المجمع اللغوى الملكى لإختيار الإنتاج الفائز .. وأبرز الشخصيات النسائية اللاتي كن يترددن على صالونها : النابغة مي زيادة قبل تأسيس صالونها ، استر فهمي ، سيزا نبراوى ، أسماء فهمى ، لبيبة هاشم صاحبة مجلة "فتاة الشرق" ، وباحثة البادية ملك حفني ناصف وغيرهن من فضليات نساء مصر .."
هكذا كانت "هدى هانم" ابنة الباشا و زوجة الباشا .. قدوة عظيمة لأبناء مصر – رجالا ً ونساء ً –فى الجهاد والعطاء بلا حدود .. وستظل أسطورة مصرية خالدة !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق