⏪⏬
أَمَّا قبل؛ فكلَّما تعاقبتْ الأَيَّام ومضتْ السنون، وكلَّما بَدَأ الشيبُ يغزُو مفارق الرأْس؛ أَدركتُ -تمامَ الإِدراكِ- أَنَّ حياة البشر لا تُقاس
بمرور السنين؛ ولكنَّها تُقاس بمدى ممارسةِ الأَحاسِيسِ الَّتي تنمو في نفوس البشر والمشاعر الإِنسانيَّة المغروسة منذُ الأَزل، فحركةُ الشمسِ والقمر، وتعاقبُ الليل والنهار، ومرورُ الأَيَّام والسنين لا تشكِّلُ أَيَّة دوافع لتولِيد الإِحساس؛ إِلَّا إِذا كان ذلك الإِحساس نابعاً من ثقافةٍ تربويَّةٍ أَزليَّة؛ تمأْسَسَت من خلال الأُسرِ والمجتمعات؛ لغاية إِنشاءِ وتطويرِ مراكز عقليَّةٍ لدى البشر وتوسيع رقعة التفكير الناضج، وليس من أَجلِ تخصيبِ الجهلِ والفساد؛ الَّذي أَدَّى إِلى الوصولِ لحالات الانعطافِ والانحناءِ الفكريِّ الراهن!
وأَمَّا بعد، فقد رَوَى لَنا السابقون مثلًا شعبياً ذا دلالةٍ إِداريَّةٍ عميقة، تستنطقُ الإِيمان، وتجسِّدُ معنىً من معاني الانتماء، وتُؤصِّلُ مفاهيم المؤسَّسيَّة والإِدارة الناجحة، حيثُ أَكَّدَ جميعهم على سردِ وتعميمِ المثلِ الشعبيِّ القائل: "ما بُحرُث الأَرض إِلَّا عجُولها!"، مثبتين لَنَا أَنَّ الأمثال الشعبيَّة تُؤخَذُ بعموم اللفظ؛ لا بخصوصِ السبب.
ولو تأَمَّلنا فيما ذَكَرَهُ المثل؛ لوجدنا أَنَّ هناك عمقاً إِداريَّاً يثبتُ أَنَّ زيادة المعرفة والثقة بالنَّفس واكتساب الخبرات بوسائل شتَّى؛ سيزيد من أَهميَّة العمل، وسيضمنُ حسن النتائج؛ وأَنَّ الاتكال على غيرنا والتواكل المُطلق بمفهوم المؤسسيَّةِ العربيَّة، الَّتي باتت تنتفخُ شرفاً باستيرادِ المدنيَّةِ من غيرِ إلقاء الضوء على مسأَلة (تأَنسُن البشر)؛ سينحسر مفهومه ضِمنَ التبعيَّة الإِداريَّة، أَو الاجتماعيَّة، أَو السياسيَّة؛ الَّتي تُكَلِّفُنَا أَموالاً وجهوداً ليس لها داعٍ، وسنصلُ –ضِمن تلك المعطيات- إِلى نتائج تشبه مفاهيم الإِدارات المحدَّبة؛ المشابهة للمرايا المستخدمة في المركبات؛ حيثُ إِنَّها تمكِّن السائقين من رؤيةِ الأَشياءِ المنعكسةِ بزوايا أَكثر انفراجًا، وبمشاهدَ أَقرب إِلى حافتها من البؤرة؛ ولكنَّ تلك الرؤية تكون دائماً بصورةٍ وهميَّةٍ لا تعكسُ الواقع الحقيقي للأَشياء، تماماً كأَلواح الزجاج (تكشف لنا الحقيقة، وتفصلنا عنها في الوقت ذاته)!
إِنَّ أَكثرَ ما استرعى انتباهي لكتابة هذا المقال؛ هو أَنَّني أَسمعُ وأُشاهدُ كُلَّ يومٍ أَنَّ اهتمام البشر المعاصرين في بناءِ العمران، أَكثر من اهتمامهم في بناءِ الإِنسان، وأَنَّ تطلُّعاتهم لإِنشاءِ العمارات أَكثر دقَّةً من اهتمامهم لبناءِ المهارات، كما هي الحال عند صانعي القرار، فتجد أَنَّ وزارة الصحة تحرم التدخين؛ لتأْتي وزارة أُخرى تسمح بتصنيع السجائر، وأَنَّ هناك وزارة تحاربُ الجريمة، وتتغافلُ –في الوقت ذاته- عن الجهات الَّتي تسمح بصناعة السلاح، فضلاً عن البشر الَّذين يهتمُّونَ ببناءِ مسجد، ولا يُلقُون بالاً لبناءِ مُسلِم، ويهتمُّونَ ببناءِ مدرسة، ويغفلون عن بناءِ معلِّم، ويتسابقون في بناءِ مصنع؛ أَكثر من تسابقهم في بناءِ مهندس، وأَخيراً ما يحدث في مجموعات مواقع "التفاصل" الاجتماعي، الَّتي بدأَتْ بإِنشاء مجموعاتٍ من أَجل إِرساء قواعدَ لأَفكارٍ ذات أَبعادٍ تجاريَّةٍ لا علاقة لها ببناءِ الإِنسان؛ وكأَنَّ المعاصرين البشر عَادُوُا الإِنسانيَّةَ وباتُوا مُتَعَهدي أَبنية وإِنشاءات، ولا أَدري لماذا! رُبَّما لأَنَّنا لا نعرفُ إِلَّا القيمةَ الماديَّةَ للأَشياء!
قبل أَن أَختمَ حديثي؛ لا بُدَّ من الاستطرادِ إلى حادثةٍ رواها لنا الروائي البرازيلي "باولو كويلو" عندما سرَدَ لَنَا قصةَ رجلٍ كان طِفلُهُ الصغير يزعجه حالَ قراءةِ الجريدة، وعندما تعبَ الأَبُ من تصرُّفاتِ وَلَدِه المزعجة؛ قامَ بتمزيقِ صفحةٍ من صفحاتِ الجريدة الَّتي كانت تحتوي خريطةَ العالم، وبعد أَن مزَّقَهَا إلى قِطعٍ صغيرة؛ قدَّمَهَا لوَلَدِه، وطلبَ منه إِعادةَ ترتيبها؛ ظانَّاً أَنَّهُ سيُلهِي الطفلَ في أَمرِ تجميع القصاصات لنهايةِ اليوم؛ لِيُوَاصِلَ هو قراءة الجريدة؛ ولكنَّ ابنَهُ قام بإِعادةِ ترتيبِ الجريدةِ خلالَ دقائقَ معدودة! فتساءَلَ الأَب مُندهِشاً: هل كانتْ أُمُّكَ تعلِّمُكَ الجغرافيا؟ فردَّ الطفلُ قائِلاً: لا يا أَبي؛ لكن كانت هناك صورةٌ لإِنسانٍ على الوجه الآخر من الورقة؛ وعندما أَعدتُ بِنَاءَ الإِنسانِ؛ استطعتُ أَن أُعِيدَ بِنَاءَ العالم!
👈 خلاصة القول: إِنَّ مُهِمَّةَ بِنَاءِ الإِنسانِ الحضارِي -بطرائِقِها المتعدِّدة- والاهتمام بها، ومراعاتها، وإِيجاد المفارقاتِ بين مفهوميِّ البشريَّة والإِنسانيَّة؛ هي مِهنة الأَنبياء والمصلحين من البشر على مرِّ العصور، وفي مختلف الحُقَبِ التاريخيَّة، وإِنَّ الاهتمام بالبشرِ والعمل على مأْسَسَةِ واستخلاصِ القيم الإِنسانيَّةِ ورعايتها لديهم، يَدلُّ على مستوى الوَعي لدى أَيَّةِ دولة، ولدى أَيِّ شعب، ولدى أَيَّةِ مؤسَّسة؛ حكوميَّة كانت أَم خاصَّة، وحيثما كانت وضعيَّة تلك الرؤى ومكانتها رفيعة وذات شأْن؛ سيدلُّ ذلك على أَنَّ هذا المجتمع متقدِّم واقعيَّاً وحضاريَّاً، وحيثُما وجدنا الحطَّ والاحتقار لها؛ فإِنَّنا سندرك أَنَّنا أَمَام أُمَّةٍ لا تعرفُ مصادرَ قوَّتِها ولا أُسسَ نهضتها، بل سنجزمُ أَنَّنَا أَمامَ أُمَّةٍ استقالَتْ من مهامها، وبدأَتْ تحفرُ قُبُورَها، وتخيطُ أَكفانَها؛ للمغادرةِ الإِجباريَّةِ والانسحاب من التاريخ!
*وليد_معابرة
أَمَّا قبل؛ فكلَّما تعاقبتْ الأَيَّام ومضتْ السنون، وكلَّما بَدَأ الشيبُ يغزُو مفارق الرأْس؛ أَدركتُ -تمامَ الإِدراكِ- أَنَّ حياة البشر لا تُقاس
بمرور السنين؛ ولكنَّها تُقاس بمدى ممارسةِ الأَحاسِيسِ الَّتي تنمو في نفوس البشر والمشاعر الإِنسانيَّة المغروسة منذُ الأَزل، فحركةُ الشمسِ والقمر، وتعاقبُ الليل والنهار، ومرورُ الأَيَّام والسنين لا تشكِّلُ أَيَّة دوافع لتولِيد الإِحساس؛ إِلَّا إِذا كان ذلك الإِحساس نابعاً من ثقافةٍ تربويَّةٍ أَزليَّة؛ تمأْسَسَت من خلال الأُسرِ والمجتمعات؛ لغاية إِنشاءِ وتطويرِ مراكز عقليَّةٍ لدى البشر وتوسيع رقعة التفكير الناضج، وليس من أَجلِ تخصيبِ الجهلِ والفساد؛ الَّذي أَدَّى إِلى الوصولِ لحالات الانعطافِ والانحناءِ الفكريِّ الراهن!
وأَمَّا بعد، فقد رَوَى لَنا السابقون مثلًا شعبياً ذا دلالةٍ إِداريَّةٍ عميقة، تستنطقُ الإِيمان، وتجسِّدُ معنىً من معاني الانتماء، وتُؤصِّلُ مفاهيم المؤسَّسيَّة والإِدارة الناجحة، حيثُ أَكَّدَ جميعهم على سردِ وتعميمِ المثلِ الشعبيِّ القائل: "ما بُحرُث الأَرض إِلَّا عجُولها!"، مثبتين لَنَا أَنَّ الأمثال الشعبيَّة تُؤخَذُ بعموم اللفظ؛ لا بخصوصِ السبب.
ولو تأَمَّلنا فيما ذَكَرَهُ المثل؛ لوجدنا أَنَّ هناك عمقاً إِداريَّاً يثبتُ أَنَّ زيادة المعرفة والثقة بالنَّفس واكتساب الخبرات بوسائل شتَّى؛ سيزيد من أَهميَّة العمل، وسيضمنُ حسن النتائج؛ وأَنَّ الاتكال على غيرنا والتواكل المُطلق بمفهوم المؤسسيَّةِ العربيَّة، الَّتي باتت تنتفخُ شرفاً باستيرادِ المدنيَّةِ من غيرِ إلقاء الضوء على مسأَلة (تأَنسُن البشر)؛ سينحسر مفهومه ضِمنَ التبعيَّة الإِداريَّة، أَو الاجتماعيَّة، أَو السياسيَّة؛ الَّتي تُكَلِّفُنَا أَموالاً وجهوداً ليس لها داعٍ، وسنصلُ –ضِمن تلك المعطيات- إِلى نتائج تشبه مفاهيم الإِدارات المحدَّبة؛ المشابهة للمرايا المستخدمة في المركبات؛ حيثُ إِنَّها تمكِّن السائقين من رؤيةِ الأَشياءِ المنعكسةِ بزوايا أَكثر انفراجًا، وبمشاهدَ أَقرب إِلى حافتها من البؤرة؛ ولكنَّ تلك الرؤية تكون دائماً بصورةٍ وهميَّةٍ لا تعكسُ الواقع الحقيقي للأَشياء، تماماً كأَلواح الزجاج (تكشف لنا الحقيقة، وتفصلنا عنها في الوقت ذاته)!
إِنَّ أَكثرَ ما استرعى انتباهي لكتابة هذا المقال؛ هو أَنَّني أَسمعُ وأُشاهدُ كُلَّ يومٍ أَنَّ اهتمام البشر المعاصرين في بناءِ العمران، أَكثر من اهتمامهم في بناءِ الإِنسان، وأَنَّ تطلُّعاتهم لإِنشاءِ العمارات أَكثر دقَّةً من اهتمامهم لبناءِ المهارات، كما هي الحال عند صانعي القرار، فتجد أَنَّ وزارة الصحة تحرم التدخين؛ لتأْتي وزارة أُخرى تسمح بتصنيع السجائر، وأَنَّ هناك وزارة تحاربُ الجريمة، وتتغافلُ –في الوقت ذاته- عن الجهات الَّتي تسمح بصناعة السلاح، فضلاً عن البشر الَّذين يهتمُّونَ ببناءِ مسجد، ولا يُلقُون بالاً لبناءِ مُسلِم، ويهتمُّونَ ببناءِ مدرسة، ويغفلون عن بناءِ معلِّم، ويتسابقون في بناءِ مصنع؛ أَكثر من تسابقهم في بناءِ مهندس، وأَخيراً ما يحدث في مجموعات مواقع "التفاصل" الاجتماعي، الَّتي بدأَتْ بإِنشاء مجموعاتٍ من أَجل إِرساء قواعدَ لأَفكارٍ ذات أَبعادٍ تجاريَّةٍ لا علاقة لها ببناءِ الإِنسان؛ وكأَنَّ المعاصرين البشر عَادُوُا الإِنسانيَّةَ وباتُوا مُتَعَهدي أَبنية وإِنشاءات، ولا أَدري لماذا! رُبَّما لأَنَّنا لا نعرفُ إِلَّا القيمةَ الماديَّةَ للأَشياء!
قبل أَن أَختمَ حديثي؛ لا بُدَّ من الاستطرادِ إلى حادثةٍ رواها لنا الروائي البرازيلي "باولو كويلو" عندما سرَدَ لَنَا قصةَ رجلٍ كان طِفلُهُ الصغير يزعجه حالَ قراءةِ الجريدة، وعندما تعبَ الأَبُ من تصرُّفاتِ وَلَدِه المزعجة؛ قامَ بتمزيقِ صفحةٍ من صفحاتِ الجريدة الَّتي كانت تحتوي خريطةَ العالم، وبعد أَن مزَّقَهَا إلى قِطعٍ صغيرة؛ قدَّمَهَا لوَلَدِه، وطلبَ منه إِعادةَ ترتيبها؛ ظانَّاً أَنَّهُ سيُلهِي الطفلَ في أَمرِ تجميع القصاصات لنهايةِ اليوم؛ لِيُوَاصِلَ هو قراءة الجريدة؛ ولكنَّ ابنَهُ قام بإِعادةِ ترتيبِ الجريدةِ خلالَ دقائقَ معدودة! فتساءَلَ الأَب مُندهِشاً: هل كانتْ أُمُّكَ تعلِّمُكَ الجغرافيا؟ فردَّ الطفلُ قائِلاً: لا يا أَبي؛ لكن كانت هناك صورةٌ لإِنسانٍ على الوجه الآخر من الورقة؛ وعندما أَعدتُ بِنَاءَ الإِنسانِ؛ استطعتُ أَن أُعِيدَ بِنَاءَ العالم!
👈 خلاصة القول: إِنَّ مُهِمَّةَ بِنَاءِ الإِنسانِ الحضارِي -بطرائِقِها المتعدِّدة- والاهتمام بها، ومراعاتها، وإِيجاد المفارقاتِ بين مفهوميِّ البشريَّة والإِنسانيَّة؛ هي مِهنة الأَنبياء والمصلحين من البشر على مرِّ العصور، وفي مختلف الحُقَبِ التاريخيَّة، وإِنَّ الاهتمام بالبشرِ والعمل على مأْسَسَةِ واستخلاصِ القيم الإِنسانيَّةِ ورعايتها لديهم، يَدلُّ على مستوى الوَعي لدى أَيَّةِ دولة، ولدى أَيِّ شعب، ولدى أَيَّةِ مؤسَّسة؛ حكوميَّة كانت أَم خاصَّة، وحيثما كانت وضعيَّة تلك الرؤى ومكانتها رفيعة وذات شأْن؛ سيدلُّ ذلك على أَنَّ هذا المجتمع متقدِّم واقعيَّاً وحضاريَّاً، وحيثُما وجدنا الحطَّ والاحتقار لها؛ فإِنَّنا سندرك أَنَّنا أَمَام أُمَّةٍ لا تعرفُ مصادرَ قوَّتِها ولا أُسسَ نهضتها، بل سنجزمُ أَنَّنَا أَمامَ أُمَّةٍ استقالَتْ من مهامها، وبدأَتْ تحفرُ قُبُورَها، وتخيطُ أَكفانَها؛ للمغادرةِ الإِجباريَّةِ والانسحاب من التاريخ!
*وليد_معابرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق