اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

مفهوم الوسطية في تقويم الفكر واستقامة السلوك 1ـ2 ...* سعيد شبار

⏪⏫
ننطلق في هذه التوطئة من التسليم بوظيفية المفاهيم وقدرتها التأثيرية الكبرى على التغيير، وإعادة بناء وتوجيه الأفكار والقناعات والأقوال والأفعال.. فذلك ما فعله الإسلام عندما جاء بمفاهيم جديدة تحمل قيمًا جديدة، أو عندما عدل كثيرًا من مضامين ودلالات
المفاهيم التي كانت سائدة؛ فاستطاع أن يخرج إلى الوجود إنسانًا جديدًا ويبني حضارة جديدة، وأن يقدم نموذجًا متفردًا من اقتران العلم بالعمل، والعلوم بالقيم والإنسان، وأن يوجه ذلك إلى معالي الغايات وسامي الأهداف.. مما لم يكن خافيًا في عالمية الإسلام الأولى مشرقًا ومغربًا.
إن الأمر نفسه هو ما حاولَته وتحاوله قوى توسعية متعددة حينما بسطت نفوذها وهيمنتها -وما تزال تفعل- من خلال بسط شبكة مفاهيمها وإحلال نظم فكرها وقيمها في البلدان المستهدفة، حيث أحدثت حالات من الاستلاب والتبعية ما تزال قائمة إلى الآن. وليس مخطئًا بكل تأكيد من اعتبر أن الصراع الدائر بين الأمم والشعوب والثقافات والحضارات، هو في عمقه صراع مفهومي قيمي يتجلى في ميادين الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة.. لذا تبقى عملية نحت الألفاظ ومعانيها أو المصطلحات ومفاهيمها، من أدق الصناعات وأخطرها في عمليات التوجيه والتأثير.
ولنا أن نتساءل الآن، لماذا لم يعد للمفاهيم الإسلامية ذات التأثير والتأطير والتوجيه والتغيير الذي كان لها سلفًا؟ بل إن أحوال الأمة انقلبت إلى نقيض مراد الشرع من أحكامه وقيمه ومفاهيمه. فإن لم يكن ذلك في أصل المفهوم ومصدره يقينًا، فإنه في منهج الاستمداد منه والتمثل له، حيث يقع ذلك خارج مقصد الشرع ومراده بدلالات تشكلت في التاريخ وأطرها الخلاف. وذلك ما يدعونا إلى مراجعات عاجلة لمفاهيم كثيرة في ثقافتنا الإسلامية بنيت على غير هدى من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن حملت آيات وأحاديث شواهد لها. ويكفي في بطلان ذلك ثمرة الفهم ونتيجته على مستوى الفكر والسلوك فيما نشهده من فرقة وتجزئة، وغلو وتشدد، وتحاسد وتباغض، وانتهاك لحرمة الدماء والأموال والأعراض.. إلخ.
"والوسطية تقتضي حضورًا في الناس بالعدل والقسط والهداية والرحمة، كي تكون الأمة شاهدة على الأمم بعد شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، تتمثل القدوة والأسوة النبوية"
فلا يمكن أن يكون الدين الذي يصون الأنفس ويحرم الدماء ويشدد العقوبة فيها، ويصون العقول والأموال والأعراض، ويعتبر ذلك من كلياته ومقاصده السامية التي ليست فروع وجزئيات الأحكام إلا خادمة لها، هو نفسه مدخلاً وتبريرًا لانتهاك ذلك كله. إنه اختلال في الفكر والتوازن تقوده -قطعًا ويقينًا- أهواء وشهوات ومصالح ومطامح.. تستقطب إليها باسم الدين فئات من المغرر بهم عندما تضخم في أنفسهم “اعتقادات” ساذجة هي أقرب إلى الأوهام والأحلام منها إلى حقائق ويقينيات الدين. وسواء وصل هذا الاختلال في الفكر والسلوك درجة من الغلو والتشدد يستباح فيها ما تقدم، أو كان أقل من ذلك لا يستبيح دماء ولا أموالاً ولا أعراضًا.. لكنه يجعل من الخلاف المباح في الفروع والجزئيات خلافًا في الأصول والكليات، بحيث تنقلب عنده مراتب الأحكام فتصير الفروع أصولاً والأصول فروعًا، فيشتد في الدفاع والتمسك بالجزئي الأدنى ولو أدى إلى إهدار الكلي الأسمى، تصبح وفقًا لهذا “التصور” قضايا الوحدة، والأمن والسلم والاستقرار، والحريات والحقوق، والأخوة العامة، والتضامن والتكافل، والتعايش والإسهام في بناء العمران والإنسان.. إلخ. قضايا فرعية وكأن لا شيء يشهد لها من الدين ولا علاقة للمسلم بها ولا دور له فيها.
نعتقد أن ورش الأشغال الكبير المفتوح أمام علماء ومفكري الأمة، هو بناء الفكر الوسطي المعتدل من خلال التمكين لقيمه ومفاهيمه، وتمكين مسلمي الأمة من آلية وزن الأقوال والأفعال؛ حتى تستقيم أحوالهم على مقتضى الشرع العدل السمح.
إن مفهوم الوسطية أحد أهم هذه المفاهيم المحورية والمركزية في ثقافتنا الإسلامية، لم يحظ -للأسف- بما يكفي من الدرس والعناية والتمثل، كي يستعيد وظيفيته وإجرائيته الأصلية في ترشيد وتقويم حياة المسلمين. هذا فضلاً عن كثير من الفهوم والوسائط التي قصت من أطرافه وحدت من إمكاناته، حينما اختزلته في تعريفات وحدود ودلالات هي أقرب إلى تحديد مواقع جزئية منها إلى منهاج كلي. المنهاج الأصل الذي توزن به الوحدات والكيانات الصغرى، كما توزن به الوحدات والكيانات الكبرى في سائر المجالات والحقول، من قضايا الفرد الخاصة إلى قضايا الأمة العامة.
ذلك ما يحاول هذا المقال بيانه من خلال محاور عامة ذات علاقة بالمنظور والرؤية أكثر من التفاصيل، انطلاقًا من الأصول المرجعية وبعض التجليات الفكرية والعملية.
نحو نظام وأصول فكرية كلية مؤطرة لتداول المفاهيم
إن التأسيس لأصول فكرية جامعة منضبطة ومنفتحة هي كليات مفاهمية شرعية، أمر لم ينل حظه من البحث والدرس والبناء والتأسيس مثل ما نالته علوم ومفاهيم أخرى. ونقول هذا -لاعتبار آخر- هو ضمور “الفقه الجماعي” في الأمة الذي يطرح مشكلاتها وقضاياها كأمة. والمداخل المعرفية لإثارة قضايا التكليف الجماعي للأمة، ليست بالضرورة “فقهية” فحسب بالمصطلح الفقهي العلمي الفني، بل أيضًا فكرية واجتماعية وتربوية وتاريخية.. أو بالمصطلح الفقهي العام الذي هو مطلق الفهم عن الله تعالى في مختلف آياته، في النص وفي الأنفس وفي الآفاق.
"لا بد من تدشين نموذج بنائي جديد للمعرفة في الفكر والفقه، يستمد أساسًا من الوحي المعصوم، ويستجيب لخصائص الوحي في كليته وكونيته وفي إنسانيته وقيم الهداية والإرشاد فيه."
فـ”الأمة” كلفظ ومفهوم لم يرد في القرآن إلا في سياقات تكليفية عملية كما في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)(آل عمران:110)، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(البقرة:143)، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران:104).
وفرق كبير بين الخطاب “الشعاراتي” الذي سقطت ضحيته كثير من التنظيمات الحركية، والذي يُروج لخيرية ووسطية الأمة بين الأمم، دون أن يعي أن ذلك تكليف شرعي حضاري متوقف على التحقق بأعمال وأقوال مسبقة ينبغي النظر أولاً في كيفيات إحلالها وتنزيلها على مستوى الفكر والسلوك في عموم أفراد الأمة، وبين خطاب “العلم” و”الفقه” و”التكوين” الذي ينظر في تلك الكيفيات قبل الشعارات. ويكفي في بيان ذلك أن “التنزيل” الذي هو “فقه” و”علم”، محوط بـ”فقهين” و”علمين” سابقين عليه، أحدهما في “النص” والآخر في “الواقع”. والذي لا ينفع معه الخطاب والشعار، وإنما البحث والدرس والتكوين، المؤهل فكرًا وسلوكًا لتبوء تلك المقامات.
إن من أكبر مداخل الابتلاء والفتنة في الأمة، أن أعطت طوائف وحركات معينة الأولوية لـ”الشعار”، وحاولت تنزيله مع فراغ كلي في المضمون العلمي والفقهي، بل وحتى السلوكي الأخلاقي. فكل يفهم حسب هواه وطموحه، وفي أحسن تقدير حسب سقف وسياج الحركة أو الطائفة، ثم يُنزَّل بعد ذلك دون اعتبار لمنطلقات ولا مآلات. يقتبس من الشرع شواهد تشهد لما اختاره وبناه خارج الشرع، مدعيًا أنه “يـخدم” الدين وهو في الواقع لا يخدم إلا طموحه، وفي أحسن الأحوال يخدم فهمًا قاصرًا في الدين.
فالخيرية في الآية السابقة عملٌ قبل أن تكون شعارًا، تقتضي إيمانًا وأمرًا ونهيًا حسب مقتضى ومنهج الشرع في الأمر والنهي والدعوة عمومًا، بالحكمة والموعظة الحسنة. والوسطية كذلك تقتضي حضورًا في الناس بالعدل والقسط والهداية والرحمة، كي تكون الأمة شاهدة على الأمم بعد شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، تتمثل القدوة والأسوة النبوية لتكون قدوة وأسوة بين الأمم، تهدي إلى الحق والخير بعد أن هديت إليه وحملت أمانته.
ولسنا هنا بصدد التقليل من شأن أي حركة أو طائفة، فكل الجهود الإيجابية البناءة مقدرة ومعتبرة، لكننا في هذا السياق نؤكد على أمر جامع وضابط كلي عام ينتظم كل الجهود، وهو ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)(الإسراء:36)، وما بوّب به البخاري -رحمه الله- في كتاب العلم من جامعه الصحيح “باب العلم قبل القول والعمل”، قال: “لقول الله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)(محمد:19).
فتأمل حال الأمة اليوم بين ما هي عليه وبين ما ينبغي أن تكون عليه، من منظور الاستخلاف، والتكليف، وحمل الأمانة، وإعمار الأرض، والشهادة على الناس.. كم مدة زمنية، ومساحة مكانية، وجهودًا علمية، تلزم لاستدراك ما فات؟ وكي لا أكون مثبطًا دافعًا إلى العجز والكسل والتشاؤم -وهو ما لا ينبغي أن يكون بأي حال من الأحوال لأنه نقيض المطلوب في أي عمل إصلاحي- أذكر بأن سنن التدافع الحضاري بين الأمم سقوطًا ونهوضًا، لا تقاس فقط بالمقاييس والمؤشرات الظاهرة التي ألمحنا إلى بعضها، أي “الزمن التاريخي” و”التراكم المادي”، وإنما بشيء أعمق وأنفذ وأسرع تأثيرًا هو “الزمن النفسي والثقافي” و”التراكم القيمي والمعرفي”؛ فمتى ما استحكمت هذه العناصر التي تنتمي إلى “عالم الأفكار” أو “أخلاق العمق”، كان التمكين السريع للنموذج الحضاري في “عالم الأشياء” أو “أخلاق السطح” كذلك.
إن من أسئلة النهوض الحضاري التي ما تزال معلقة وتحتاج إلى فقه جماعي كلي، وفكر مؤطر ومستوعب: كيف تتحقق الأمة بالخيرية وبالوسطية وبالشهادة وبحمل الأمانة وبالاستخلاف وبالتعمير؟ وكيف يمكن تحويل هذه الكلمات المفاهيمية إلى قناعة عامة في جمهور الأمة، بجعلها تكليفًا شرعيًّا جماعيًّا كالتكاليف الفردية على حد سواء؟ تخلق الإرادة والحافز الإيماني والعملي الجماعي كما الفردي على حد سواء؟ تدفع إلى تقويم الفكر واستقامة السلوك الجماعي كما الفردي على حد سواء؟
"إن الأصل في رسالة عالمية، أن تكون قيمها إنسانية ذات قدرات استيعابية واستقطابية لا إبعادية وإقصائية.. وبالمصطلح الشرعي، تبشيرية لا تنفيرية، وتيسيرية لا تعسيرية."
إن سؤال “الكيف” هنا، يحيل ضرورة على عمل منهجي. والعمل المنهجي -أيًّا كان- لا ينفك ضرورة عن إطار مرجعي موجه يفرضه الموضوع. إن العمل المنهجي المنظم المستند إلى معالم ومحددات منضبطة، والمؤطر بأصول وكليات واضحة، تسعفانه من التحرر -ما أمكن- من أضرب النزعات والتحيزات المختلفة، هو عملة نادرة في ساحتنا الفكرية والثقافية.
نعم، نادرة هي الدراسات والبحوث المنهجية المعرفية التي تروم بناء المفهوم في كليته واستيعابه فكرًا، انطلاقًا من كلياته وأصوله النظرية. وفي وظيفيته وإجرائيته عملاً، تفعيلاً لبعده التنزيلي الواقعي. وهذا ما نحيل عليه دائمًا من ضرورة استناد أي بحث في ثقافتنا الإسلامية إلى مصادر المعرفة -نصًّا وعقلاً وواقعًا- في تكاملها وانسجامها لا في تقابلها واختلافها. فلكل مصدر دور في تقويم الفكر واستقامة السلوك، وفي درء كثير من الآفات التي يمكن أن تطرأ عليهما كما هو الواقع الفكري والسلوكي المتجلي في مظاهر الغلو والتشدد، والتحيز والتعصب.. السائدة في الأمة اليوم للأسف.
فالوحي يرشد ويسدد ويهدي للتي هي أقوم في الأقوال والأفعال والعلوم والمعارف، يفتح من خلال أصوله الكلية العامة آفاقًا للتعارف والتدافع السلمي. والعقل آلة الاجتهاد والتجديد والإبداع والتشييد، يدرأ تفعيله صور الجمود والتقليد. والواقع مجال الاستخلاف والتكليف والحركة والتعمير والسنن والوقائع، حيث يتكيف تنزيل الأقوال والأفعال وتُدرأ آفة الصورية والتجريد.
وما دام الاجتهاد بالعقل والحركة في الواقع جهدًا بشريًّا نسبيًّا، يبقى الوحي المعطى الإلهي المطلق مرجعًا مصدقًا ومهيمنًا. فهو -من جهة- يعلي من شأنهما أيما إعلاء إعمالاً للعقل واعتبارًا للواقع، وهو -من جهة أخرى- يدفع عنهما آفات التحيز والتمركز والنزوع إلى التضييق، التي يمكن أن تلحق بهما كذلك. ولقد مر الفكر الغربي بنزعات عقلانية وواقعية شديدة التحيز والتمركز إلى درجة “التأليه” باسم العقل والواقع أو العلم والطبيعة، لا تختلف في شيء عن صور التشدد والغلو التي تمت باسم الدين. فما تزال البشرية تعاني من آثار ومخلفات النموذجين في صور أكثر بشاعة من حيث هدر كينونة الإنسان والإجهاز على منظومة قيمه المرجعية والمعيارية. فلا بد -إذن- من تدشين بحث جديد في أصولٍ ما تزال محجوبة لاستثارة كوامنها، من شأنها الإجابة عن كثير من الإشكالات والتحديات القائمة بوجه الأمة في فكرنا وواقعنا الراهن.
إن أصل الوسطية هو من الأصول الكلية الجامعة، عليه مدار فلسفة التشريع والتكليف فهمًا وتصورًا وسلوكًا وعملاً، فهو معيار وميزان. ولنقل “محددًا منهاجيًّا”، تقاس به نسب الأفعال والأفكار، كي تبقى دائمًا على حال من الاستقامة والاعتدال، والتوازن والقصد والسواء. لكن -للأسف- نجد أن الاختزال والتبسيط التاريخي قد طال هذا المفهوم منذ وقت مبكر كما طال غيره من المفاهيم الكلية المتقدمة في القرآن الكريم وفي بيان السنة والسيرة العملية.
فلم يكن غريبًا إذن، أن يطل الانحراف والغلو برأسه منذ عهد الصحابة وأن ينمو ويترعرع بعد ذلك، بل وأن يحتضن ويتأسس في مذاهب وتيارات فكرية وفقهية وسياسية. كما نجد أن التناول المعاصر لهذا المفهوم لم يستثمر كل أبعاده الشرعية التربوية والنفسية والاجتماعية والفكرية، بل حافظ على التبسيط التاريخي ذاته. وأخطر منه، أن المفهوم ركبته تأويلات أخرى جعلته توفيقًا وتلفيقًا بين التيارات الفكرية والحضارية المتصارعة.. وخاصة طوائف من المفكرين العرب والمسلمين، ممن لا يريدون الالتحاق الكلي بالغرب ولا الانغلاق الكلي في التراث.
"فلا يمكن أن يكون الدين الذي يصون الأنفس ويحرم الدماء ويشدد العقوبة فيها، ويصون العقول والأموال والأعراض، ويعتبر ذلك من كلياته ومقاصده السامية التي ليست فروع وجزئيات الأحكام إلا خادمة لها"
فلدفع تهمة الاستلاب، يشتغلون ببعض التراث، ولدفع تهمة الانغلاق، ينفتحون على علوم ومناهج الآخر.. ويعتبرون هذا من التوسط والاعتدال، بل هو -في اعتقادهم- جوهر “الوسطية” المطلوبة في الدين. نلحظ شيئًا من هذا في أعمال ما سمي بـ”رواد النهضة” الأوائل في منهج المقاربات التي قارنوا بها بين المقومات الحضارية للأمة ومقومات الحضارة الغربية: بين الشورى والديموقراطية، والبرلمان وأهل الحل والعقد، والحسبة والمجالس النيابية.. إلخ. وطبعت كذلك أعمال بعض الكتاب المعاصرين في الحقل الإسلامي، في منهج المقارنات الذي يبحث عن الفوارق بين الحضارتين ليثبت أسبقية الإسلام إلى كثير من النظم والقوانين والحقائق العلمية التي انتهت إليها الحضارة الغربية.
وليس الغرض هنا التنكر لهذه الجهود، فهي مفيدة ومساعدة من غير شك، لكن لا بد من استئناف النظر وتجاوز مواطن القصور والخلل.. لا بد من تدشين نموذج بنائي جديد للمعرفة في الفكر والفقه، يستمد أساسًا من الوحي المعصوم، ويستجيب لخصائص الوحي في كليته وكونيته وفي إنسانيته وقيم الهداية والإرشاد فيه. وينفتح من خلال ذلك كله على مختلف التجارب، الذاتية والغيرية والقديمة والحديثة.. فأصوله الكلية المستوعبة، تمكنه من الامتداد في الزمان والمكان وتأطير حركة الإنسان حيث كان.
إن أصل الوسطية في القرآن الكريم، له شبكة علائقية مع سائر المفاهيم الكلية الأخرى التي تروم تأسيس التوسط والاعتدال في كل كيان الإنسان، فكرًا وتصورًا وسلوكًا وعملاً؛ في نفسه سواء تعلق الأمر بأعماله العادية أو التعبدية، وفي المجتمع من حوله بكل تجلياته وتشكلاته الإثنية والملية، بل وفي رؤيته لمعنى الكون والإنسان والحياة، ووظيفته الرسالية القائمة على جوهر الهداية والرحمة للذات وللناس. إذ الأصل في رسالة عالمية، أن تكون قيمها إنسانية ذات قدرات استيعابية واستقطابية لا إبعادية وإقصائية.. وبالمصطلح الشرعي، تبشيرية لا تنفيرية، وتيسيرية لا تعسيرية.
وإن من سنن الله تعالى في خلقه التي فطر عليها مخلوقاته، الأداء والإنجاز الجماعي للكائنات، حية أو جامدة، عاقلة أو غير عاقلة.. يتضح ذلك من أبسط تأمل في آيات الأنفس والآفاق. وهذا الأداء والإنجاز الجماعي، هو ما يمكن تسميته بـ”العمل المنظومي” الذي تتداخل وتتكامل فيه الوظائف العامة والخاصة.
وهذا الأمر كما يحدث في البنى والأنساق المادية والاجتماعية، يحدث كذلك في البنى والأنساق الفكرية والثقافية، والعلمية والمعرفية.. وهو الذي نسعى إلى بيان جزء منه في مجال المفاهيم القرآنية عمومًا، ومفهوم الوسطية خصوصًا.
بناء على ما تقدم، فإن المفاهيم في القرآن عمومًا، تبقى منظومة تشتغل وفق منطق ونظام خاص هو من سنن الله الدينية الشرعية المعادلة أو المكافئة لسننه تعالى الكونية القدرية. بمعنى أكثر وضوحًا، إن آيات الله تعالى في كتابه المسطور، معادلة من حيث نظامها واتساقها لآيات الله في كتابه المنظور، كما قال الله تعالى: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)(الواقعة:75-79).
فنجد لكل مفهوم وقيمة في القرآن الكريم، حركة أو وظيفة ذاتية لا يقوم بها إلا هو، وحركة أو وظيفة تفاعلية يقوم بها مع غيره في سياق تكاملي للوظائف. والحركتان معًا -الذاتية والتفاعلية- تتمان في الوقت نفسه بشكل نسقي متواز. وهو عمل أشبه ما يكون بأعضاء جسد الإنسان، أو قطع غيار محرك ما. فكل عضو في الجسد يقوم بوظيفة خاصة لا يمكن أن يقوم بها غيره. وتأمل هنا عمل القلب أو الكبد أو الرئة أو غيرها.. ثم وهو يقوم بهذه الوظيفة، لا يستطيع أن يقوم بها مفردًا مستقلاً، فلا بد له من شبكة علاقات تفاعلية مع الأعضاء الأخرى إمدادًا واستمدادًا. وتأمل قطع محرك، أيًّا كان حجمًا ومجالاً، فلا قطعة تنوب عن غيرها، ولا هي بقادرة على الاشتغال دون دعم وسند غيرها لها، بل تلَف قطعة واحدة ضمن عشرات أو مئات القطع يعطل عمل المحرك أو يضعفه إضعافًا، بحسب دورها المحوري الأساسي أو الثانوي التكميلي.
إن اشتغال المفاهيم عمومًا في القرآن الكريم، هو أدق وأشمل من الصور التقريبية التي أشرنا إليها، حتى قيل إنه كلمة، وبنية، ونسق، ونظام.. إلخ. فأصل التوحيد أو الإيمان -مثلاً- أصل مهيمن. ولنقل بتعبير بعض الكتّاب “قيمة عليا حاكمة”. المفروض أن يكون له حضور في سائر المفاهيم الأخرى يزودها بالمعنى، ويحدد وجهتها وقبلتها، ويسدد كثيرًا من آليات اشتغالها.. لكن للأسف ضمر هذا الأصل وانحصرت معانيه ودلالاته في التداول التاريخي، حتى لم يبق لها حضور في مجالات العلم والمعرفة والمجتمع، فلحقها من الآفات ما لحقها. ومثل ما أصاب مفهوم التوحيد من اختلالات، أصاب مفاهيم أخرى كثيرة لها دور محوري ومركزي في بناء الثقافة والمعرفة الإسلامية؛ مفاهيم من مثل الاستخلاف، والتكريم، والتسخير، والوسطية، والشهادة، والعدل، والتزكية، والحرية، والإخلاص، والإحسان، والإنسان، والعمران.. وغيرها، منظور إليها وفق المنهج ومنطق الاشتغال الذي ألمحنا إليه، أي من حيث استقلالها بمعنى، وتكاملها من خلاله مع سائر المعاني الأخرى. هذا فضلاً عن دلالاتها المعرفية البنائية التأسيسية، والتفسيرية التعريفية الكلية لقضايا الوجود والإنسان والغيب والشهادة.
ولهذا كان النظر الجزئي المفرد لبعض المفاهيم بمعزل عن شبكة علاقاتها وسياقاتها، من أخطر الآفات التي أصابت كثيرًا من الدراسات وهي تحاول عرض أو بيان “المنظور الإسلامي” لقضية ما، كقضية الأسرة أو المرأة أو الحرية أو المساواة.. وكثيرًا من القضايا الفكرية والاجتماعية والسياسية.. حيث يتم التعريف من خلال معنى أو اثنين، دون النظر إلى مجموع المعاني والدلالات، أو من خلال اصطلاح مدرسي معين دون سائر الاصطلاحات، مما يحد ويضعف قدرة المفهوم الأصلية الكلية الاستيعابية، باعتباره مطلقًا من مطلق وظيفته الأساس: التأطير الممتد عبر الزمان والمكان لفكر وحركة الإنسان.
وهذا المنهج هو الذي عابه القرآن الكريم نفسه على (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)(الحجر:91)، أي أجزاء وقطعًا، أو أعضاء وفرقًا. وإن كان السياق واردًا في الذين يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه، فإنه -منهجيًّا- عام على كل عمل انتقائي يخل بشرط الوحدة البنائية والنسقية التكاملية بين سائر مكوناته.

⏪2

إن الوسطية هي بحق إحدى كليات الدين الموجهة لمساره، المحققة لتواجده بالشكل المنسجم مع حقائق الإنسان والعمران. والعدل والخيار معنيان يؤديان مفهومًا متكاملاً للوسطية، كانا موجهين فعلاً للحركة العامة للصدر الأول الذي هو (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، و(أُمَّةً وَسَطًا)، (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، حيث كان مفهوم الوسطية يحكم ويقوّم الفكر والسلوك والتصور والعمل، به توزن وتعار الأقوال والأفعال، وحيث كانت البساطة في الفهم والقوة في الالتزام، مما جعل هذا الدين ينتشر ويحقق إنجازه الحضاري العظيم قبل أن تأتي عليه انحرافات هي في أصلها خروج عن حد التوسط والاعتدال، وجنوح إلى إفراط أو تفريط، وبالتالي تنكب عن مواطن الخيرية والشهادة وغيرها من أوصاف الأمة الوسط.
وكما قال الشيخ الغزالي رحمه الله: “منذ بدأت الثقافة الإسلامية والإيمان أركان ونوافل، وأصول وفروع، وأعمال قلبية وأعمال جسمية.. وإن الذي يحدث عند بعض الناس، أن جزءًا من الإسلام يمتد على حساب بقية الأجزاء كما تمتد الأورام الخبيثة على حساب بقية الخلايا فيهلك الجسم كله (…) وهذا “التورم” الذي يصيب جانبًا دينيًّا معينًا، هو السر وراء فقهاء لهم فكر ثاقب وليست لهم قلوب العابدين، ومتصوفين لهم مشاعر ملتاعة وليست لهم عقول الفقهاء. وهذا هو السر وراء محدثين يحفظون النصوص ولا يضعونها مواضعها، ولا يجيدون الاستنباط منها.. وأصحاب رأي يلمحون المصلحة ولا يحسنون مساندتها بالنص المحفوظ.. هو السر وراء حكام يعملون، رعاة للجماهير وباعهم في تقوى الله قصير، وعامة يعكفون على العبادات الفردية فإذا بلغ الأمر النصح والزجر والأمر والنهي والتعرض لغضب الحكام، لاذوا بالصمت الطويل”(1).
"الغلو في الإعجاب بالذات أو الرأي إلى درجة التقديس أو التأليه، ليس من الرشد والاتزان في شيء، كما أن الغلو في امتهانها وجعلها قابلة للاستخفاف بحيث لا تستشعر أي مسؤولية ذاتية، ليس أيضًا من الرشد والاتزان في شيء"
“إن الوسطية تعني أن الإنسان في الإسلام لا يعيش تناقضًا داخليًّا بين روحه وجسده، بين القيم الدينية ومتطلبات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فعدم وجود قطيعة بين الدين والدنيا بين الدنيا والآخرة، ينتج عنه من الناحية الفلسفية، أن النمط الفكري المستخرج من الإسلام ينفر من الثنائية، ولا يمكن أن يدرج في إطار المثالية أو المادية (…) فالمفاهيم والقيم الإسلامية لا توجد مبعثرة وعفوية دون نظرية ضمنية -تتسق ضمنها- فالوسطية هي الأرضية الفكرية والمنهجية للمفاهيم الإسلامية، وهي محور المنظومة الإسلامية العامة التي لا تفصل بين الدين والدنيا”(2).
“الوسطية الإسلامية تمثل السمة والقسمة التي تعد بحق أخص ما يتميز به المنهج الإسلامي عن مناهج أخرى لمذاهب وشرائع وفلسفات.. بها انطبعت الحضارة الإسلامية في كل القيم والمثل والمعايير والأصول والمعالم والجزئيات حتى لنستطيع أن نقول إن هذه الوسطية بالنسبة للمنهج الإسلامي -وحضارته- هي عدسته اللامّة لأشعة ضوئه وزاوية رؤيته كمنهج، وزاوية الرؤية به أيضًا، وهي بنفيها الغلو الظالم والتطرف الباطل إنما تمثل الفطرة الإنسانية قبل أن تعرض لها وتعدو عليها عوارض وعاديات الآفات”(3).
وإذا ما تجاوزنا التجربة التاريخية في هذا السياق إلى الفكر المعاصر، فإننا نجد الوعي بهذه المسألة أخذ في التبلور بشكل تدريجي لاستدراك الخلل التاريخي برد الاعتبار لهذه الخصيصة التي أصبح دعاتها يمثلون “اتجاهًا” متناميًا بين اتجاهات عدة تطغى عليها آفات الجمود والتقليد للموروث أو للوافد، وآفات الفهم السلبي للنصوص. لكنه يبقى دون المنظور النسقي الكلي والوظيفي الإجرائي للمفهوم كما تعرضه الأصول الشرعية، دون التراكم والامتداد والإقناع والاستيعاب الذي يحوله إلى قناعة توجه فكر وسلوك الجمهور والعامة. ودليل ذلك شيوع الفكر المتشدد ومظاهر الغلو والتطرف، التي تبتدئ من الخلاف في الرأي وتنتهي إلى الاقتتال المسلح المنظم. لا نغفل طبعًا أن لهذا الامتداد أسبابًا أخرى تتجلى في ممارسات سياسية مستبدة وظالمة، وفي فوارق طبقية وظروف اجتماعية قاسية تغذيه وتزوده بالوقود. لكن يبقى للتأطير الفكري والتربوي، وإشاعة قيم الاختلاف والتسامح، دور حاسم في درء الشبهات والتضييق عليها، وقطع قنوات الإمداد والاستدراج لضحايا الجهل والغفلة والسذاجة.

الوسطية منهاج وميزان
من شمولية واستيعابية مفهوم الوسطية في القرآن الكريم، أننا نجدها تؤطر مناحي حياة الإنسان المختلفة من التصورات الكونية والإنسانية، أو الوجودية الكبرى، إلى التكليفات الجزئية الفرعية. هذا علمًا بأن التشريع أصلاً قائم على التيسير ورفع الحرج والمشقة، كما في قوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة:185)، و(هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج:78)، و(لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)(البقرة:286)، وآيات أخرى كثيرة في هذا المعنى.
وفي الحديث الشريف: “إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا ولكن بعثني معلمًا ميسرًا” (رواه مسلم)، وعنه أيضًا صلى الله عليه وسلم: “إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة” (رواه البخاري)، وإنه صلى الله عليه وسلم ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. كما توعد المتنطعين بالهلاك في قوله: “هلك المتنطعون (ثلاثًا)” (رواه مسلم)، وهم ليسوا إلا الغلاة المتشددون المتعمقون المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم، والذين لا يهنأ لهم بال حتى يلزموا الناس بأفهامهم الجزئية الضيقة التي هي من مباحات الدين على حساب أصوله وكلياته الرحبة الفسيحة التي تسع الناس كلهم وليس طوائف منهم فحسب.
فالقرآن يحوط الإنسان بحقيقتين أساسيتين لإدراك فلسفة ذاته في الوجود.. حقيقتان تقيمان فيه حالة التوازن والاعتدال، فلا يطغى ويتكبر ويفسد في الأرض من جهة، ولا يذل وينكسر ويهان من جهة أخرى. فهو خليفة في الأرض، مكرّم مفضّل فيها، سُخرت له المخلوقات، حامل لأمانة عظمى، سجدت له الملائكة تكريمًا، مخلوق في أحسن تقويم كما تبين ذلك الآيات الكريمات: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الإسراء:70)، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة:30)، (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)(التين:4).
"الوسطية الإسلامية تمثل السمة والقسمة التي تعد بحق أخص ما يتميز به المنهج الإسلامي عن مناهج أخرى لمذاهب وشرائع وفلسفات.."
ثم إن الإنسان كذلك -وهذا ما لا ينبغي أن يغيب عنه- كائن تافه الأصل والخلقة؛ أصله الأول من تراب وسلالته من ماء مهين، والشأن فيه -إن طالت به الحياة- أن يعود إلى أرذل العمر فلا يعلم بعد علم شيئًا. فهذا وازع يردع الطغيان في الإنسان ويكبح جماح عناصر الشر فيه. ولنقرأ في ذلك قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا)(الحج:5). وانظر إلى النموذج الفرعوني -وكل نموذج فرعوني مماثل- كيف انتهى إلى أصله الضعيف بعد اغترارٍ بسلطة وملكٍ غير راشد ولا سوي أو معتدل، إذ لم يتمثل الأصل الثاني المبرر لوجوده والمعدل لمنظوره عن نفسه وغيره إلا بعد فوات الأوان: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)(يونس:90-92).
وانظر إلى نموذج سحرته في المقابل، الذين عاشوا ظلم الاستخفاف والذل والعبودية الزائفة، إذ لما تحرروا بالإيمان انتهوا إلى عزة وكرامة النفس، فقالوا من غير تردد إجابة على توعد فرعون: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(طه:72-73). فالغلو في الإعجاب بالذات أو الرأي إلى درجة التقديس أو التأليه، ليس من الرشد والاتزان في شيء، كما أن الغلو في امتهانها وجعلها قابلة للاستخفاف بحيث لا تستشعر أي مسؤولية ذاتية، ليس أيضًا من الرشد والاتزان في شيء، وإدراك الإنسان لهذا البعد في ذاته وتحققه به، لا شك أنه يفتح أمامه أبوابًا أخرى، وييسر له التعامل والتفاعل الإيجابي مع الغير، وإدراك أشكال أخرى من التوازن والاعتدال.
القرآن يعرض -كذلك- الحياة الدنيا تارة في معرض المدح والتزيين، ويعرضها تارة أخرى في معرض الذم والتقبيح. العرض الأول؛ للمعرض المنقطع والراغب عنها، والعرض الثاني؛ للمقبل المنهمك والراغب فيها، بما يؤسس فلسفة لمعنى الحياة، تجعل الإنسان قادرًا على التمييز بين ما خلق هو لأجله، وما خلق مسخرًا بين يديه. وعلى إدراك العلاقة الجدلية التكاملية بين الإثنين، فلا ينشغل بالثاني عن الأول، لأنه إلغاء أصلاً لفلسفة الحياة ومبرر الوجود وسر الخلق والتكليف، ولا ينقطع مكتفيًا بالأول عن الثاني، لأنه جزء لا يتجزأ من تلك الفلسفة الوجودية ومن ذلك السر في الخلق، بل لا يتحقق إلا به، إذ هو مجال الابتلاء والتمحيص، فلا مادية كلية في الإسلام ولا رهبانية كلية في الإسلام، لكن نسق بنائي جديد قائم الذات والتصور لهما معًا، وليس قطعًا توليفًا أو توفيقًا بينهما.
وهذا ما تؤسسه آيات من مثل قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(القصص:77)، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(النحل:97)، (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(البقرة:200-201).
ثم نجد إلى جانب ذلك آيات أخرى تحدّث الإنسان عن تفاهة الدنيا وتحذره من الاغترار والانخداع بها كما في قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)(الحديد:20)، وآيات أخرى كثيرة لها نفس المعنى والدلالة.
نجد هذا التوازن والاعتدال والوسطية في كل الآيات التكليفية، ونعتبر أن كل آيات القرآن تكليف وأحكام، بالإيمان والاعتقاد، أو بالنظر والاعتبار، أو بالعلم والعمل والضرب في الأرض، أو بالدعوة والتبليغ، أو غير ذلك.
"من شمولية واستيعابية مفهوم الوسطية في القرآن الكريم، أننا نجدها تؤطر مناحي حياة الإنسان المختلفة من التصورات الكونية والإنسانية، أو الوجودية الكبرى، إلى التكليفات الجزئية الفرعية."
• ففي الاستقامة والتزام الحدود نقرأ: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(هود:112)، (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون)(البقرة:229).
• وفي الإنفاق نقرأ: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)(الإسراء:29)، (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)(الفرقان:67).
• وفي معاملة الناس نقرأ: (وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(لقمان:18)، وهكذا معظم آي الكتاب المجيد.
وتبقى السنة والسيرة النبوية كلها نماذج تطبيقية، ووحدة قياسية نموذجية ومعيارية لكل المعاني السالفة، ولذلك قالت أمنا عائشة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “كان خلُقه القرآن” (رواه مسلم)، أو “كان قرآنًا يمشي بين الناس”، حيث ينبغي أن تُقرَأ مع مسيس الحاجة إلى تَمثُّل بيانها وإرشادها لما يُصلِح أحوالَ الأمة والناس.
الوسطية منهج بنائي لا توفيقي
هذه إذن أهم معالم “اتجاه” الوسطية في الفكر الإسلامي، وقد حرصنا على وضع كلمة “اتجاه” بين قوسين، لأننا نستعملها تجاوزًا، ذلك أن الوسطية قبل أن تكون “اتجاهًا”، هي صلب المنهج الإسلامي ذاته في أحكامه وشرائعه ومعتقداته كما تقدم. وحدّه، الفهم الوسطي المعتدل الجامع بين مصادر المعرفة في تكاملها، وبين عالم الغيب والشهادة، وبين العلم والعمل، قادر على تحقيق المعادلات الصعبة الفكرية أولًا قبل السياسية، والتي تتجلى في التقابل والتقاطب المفهومي بين تيارات الأمة المختلفة -قديمًا وحديثًا- تحت مسميات: الرأي والأثر، والحكمة والشريعة، والعقل والنقل، والعلم والدين، والأصالة والمعاصرة، والقديم والحديث، والتراث والتجديد، والإسلام والغرب، والدين والدولة، والأنا والآخر ..إلخ.
فهذا الواقع الفكري المأزوم، يحتاج إلى مركز ثقل جامع تلتقي عنده جل الأطراف المؤمنة به. وذلك هو المنهاج الوسطي البنائي للفكر والمعرفة، المستوعب من خلال أصوله الجامعة للثنائيات المتقدمة تكاملاً لا تقابلاً، والذي بإمكانه معالجة جذور الغلو والتطرف الديني واللاديني على حد سواء، يعمم في مقررات التعليم والإعلام حتى تنشأ عليه أجيال في الأمة لا ترى تناقضًا بين دينها ودنياها.

(*) جامعة السلطان مولاي سليمان
 بني ملال - المغرب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) الدعوة الإسلامية، للغزالي.
(2) محمد عبد اللاوي: (تعقيب): محمد عمارة: في المنهج الإسلامي، ص:204.
(3) في المنهج الإسلامي، لمحمد عمارة، ص:51.


ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...