⏫⏬
لم يبدأ العرض بعد ، لكني رأيت بوجوب ذكر ما سبق صعود عامر الى خشبة المسرح ، فقد اعتمر منذ قليل شعره المستعار الذي احتلت خصلاته الثلاثة الوان قليلة الحياء دائما : الأصفر، الأخضر ، والاحمر .مدّ يده إلى احدى خصل شعره متحسسا اياها ومنزلا لها بسهولة الى امام عينيه ، ثم اعادها الى مكانها عبر افلاتها بنفس المقدار من السهولة ايضا . جلس على الكرسي الطويل القابع في اخر الغرفة في منتصفها، أمسك بأعلى بنطاله الذي احتلته نفس الالوان السابقة ايضا حتى رفعه الى اعلى خصره ، ثم اكمله بسترته الملونة كذلك حتى تغطّى بالكامل بعد ان اردف ما سبق بحذائه الاحمر اللون .
نظر عامر الى ما يلبس بحزن ، ولكنه هذه المرة كان قد تكاسل عن الاستمرار في مشروع الحزن التي ينتابه كلما طرق المسرح والجمهور بابه . فنهض مسرعا قاطعا له ، وقف أمام المرآه ، ثم همّ بوضع مساحيق التجميل التي وصفها بالفاحشة ايضا ، مبتدئا قبل ذلك بوضع انفه المدور الاحمر أيضا كحبة الفجل . حبة الفجل!! ،هذا ما تبادر الى ذهنه الان لحظة تحسس انفه بيده ، ولكنه اقفل بوجه الفكرة واسرع في طرش وجهه بما تمتد اليه يده من الوان ، فمهما وضع وكيفما وضع هو مثير للسخرية في عيونهم . تسائل آنذاك ، ما سر ضحك الجمهور؟ آالسرّ في اللون ؟ الألوان موجودة في الطبيعة بكثرة ، الحذاء الاحمر ، اعتقد اني قرأت قبل فترة عن احدى ملوك هذ الزمان من كان يلبس حذاء احمر . ممم ، أم ماذا ؟ اللون الاصفر ، الشمس لونها صفراء ، رئيس المسرح صاحب سترة صفراء ، لا وصفراء فاقعة فوق ذلك . واللون الاخضر لون الربيع الذي يبعث على الدهشة والاعجاب والجميع يحبونه . يا ترى ما السر؟ فكر مرة أخرى واجاب نفسه بنفسه بأن أيعقل ان يكون السر هو في طريقة وضع الالوان ؟ الكيفية التي دمج الألوان بها ؟ اصفر ، احمر اخضر وغيرها . وقد وضعت بعشوائية لا توصف حتى اضحت مثيرة الضحك .
لا ، طبعا لا . اللون الأحمر ، هو لون لباس من يتم اقتيادهم الى الاعدام ، الى الموت . ومع ذلك عندما البس هذا اللون يعتمر الناس الضحك بدلا من الشفقة علي . مع ان لا فرق بيني وبين من يتم اقتياده الى المقصلة . اولئك مقصلتهم من حديد وراحة ابدية دفعة واحده لهم ، انا أنا فمقصلتي من طين وما زالت منذ صغري الى الان تحاول فتلي فقط . ليتها تفعل ذلك .
طرق باب الغرفة التي يغير فيها عامر ملابسه ، وسمع وقع خطوات قدم ابنه الذي جاء معه هذه المرة الى المسرح هنا ، احضره رغما عنه تحت اجبار زوجته ، حيث امضى عامر ما سبق هذا اليوم من ايام وهو على فراش المرض الذي نبّه معه الدكتور زوجته بان ايامه شبه معدودة ، ونبه عامر ابنه بأن عليه فقط الجلوس على باب غرفته ريثما يغير لباسه ، فضلا عن قراره الجازم بان ابنه لن يحضر ما سيقدم ، وانما سينتظره في غرفة ملابسه حتى ينتهي العرض .
اخبر الابن اباه ان وقت العرض قد بدأ، فرشق الاب ما بقي من الوان على وجهه وملابسه ، ثم اقفل الباب على ابنه وغادر الى خشبة المسرح التي كانت ستارتها قد رفعت للتو .
يدرك عامر ان الناس لا تحبه ولا تحب ما يفعل ، بل انهم ينهالون عليه دائما بالشتم والسباب ، وكان يدعو في كل مرة ان لا يحمل احد الجمهور معه فردة حذاء زيادة لقذفه بها ، او حجرا او عصا. ان يكتفي الناس بالسب والشتم فذلك خير ، مع انه قد سأل رئيس المسرح ان يدعو الناس للكف عن ذلك قبل بدء كل حفل .
~ الناس تحبك ، ولذلك يرمونك بأحذيتهم .
~ اي حب هذا الذي ترمي به من تحب بحذائك ؟، الناس لا تحب هذه الفقرة اصلا ، يأتون للعب ورؤية الاحصنة والكلاب وحركاتها البهلوانية .
ادرك عامر ان الوظيفة التي وجد لها المهرج قد زالت ، فقد خلقوه لإضحاكهم واللعب معه ، الاستهزاء به ، وغيرها مما يتبعه في النهاية موجة صارخة من الضحك . اما هو الان فقد صار محط ضرب الناس له وشتمه ، هو لا يضحكهم ، لم يذكر انه قد فعل ايما حركة من قبل ونالت محبة جمهوره ، حتى في تصفيقهم له فلم يذكر انه قد سمع انهم قد صفقوا له .
بدا عامر حركاته باللف والدوران حول الأرضية الدائرية المنضوية تحت الجمهور القابع في مقعده على المدرج . انهكه التعب من كثرة دورانه ، التفت قليلا الى الجمهور وهو يشعر فعلا بالدوار . زاغت عيناه واحس بجسده يتهاوى الى السقوط شيئا فشيئا ، لكنه عجز عن العثور على كرسيه الصغير المتوسط اسفل الحلبة ، فبدأت حركات جسمه المترنحة تبحث عما يسندها تحت سطوة مرضه .
تفاعل الجمهور شيئا فشيئا تحت حركات عامر المذهلة في دقتها حسب تعبيرهم ، وما هي الا لحظة واحده حتى القت زوجته التي حضرت بدون علمه والقت باقة زهور كبيرة على الارض بجانبه ، واشتعل التصفيق الحار ، ثم قام احد الحضور بإلقاء قطعة نقديه على الارض . رغم تلاشي قدرة عامر على النظر شيئا فشيئا ، والبدء في انهيار قواه ، الا انه استجمع قوته مرة واحده , وخلع نظارتيه شيئا فشيئا لتسهل عليه مهمة البحث عن قطعة النقد التي جعلته يلغي صوت الجمهور الذي توقف عن التصفيف قبل قليل ، لكنه عاد للتصفيق والتصفير بحرارة لحظة رؤيته وهو يهرول باحثا عن قطعة النقد الذي استمر بتتبع اثر دحرجتها حتى سقط .
~ يكفيك ذلك ، تريد اماتتي انا وزوجتي .
~ هه .. لا ، فقط نحاول ان نري القارئ ماذا يمكن ان يحصل .
~ كيف لذلك ان يحصل وانا لست بمهرج ، وليس لدي زوجة ولا طفل .
يمكن لذلك ان يحصل ، هذه مهمة الادب يا صديقي ، يمكن ان يحصل ذلك كما حصل مع رئيس المسرح مثلا ، فقد كان قبل بضع سنوات مهرجا تنهال عليه الأحذية ، كما تنهال على عامر الان ، وهذا هو السبب في امتناع رئيس المسرح عن اتخاذ ايما اجراء بخنق الأحذية التي تنهال على عامر ، وهو ما الحق بعامر اذى نفسيا ومعنويا كبيرا، حتى سقط في النهاية في رحلة بحثه عن قطعة النقود التي ماتزال تتدحرج الى مالا نهاية.
*سفيان توفيق
Sofianbaniamer56@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق