⏫⏬
العم "أبو جمال" رجل طيب و بسيط الحال، استأجر بيتاً صغيراً أمام بيتنا الواسع في حارة شجرة زهر العنقود في حي السكري ، كان في أول عهده من الزواج، و يبدو أنه في أول عهده بمدينة حلب التي هاجر إليها من قريته "خان العسل" ليجني فيها العسل، ابنه الوحيد الطفل "جمال" أصغر مني و من أولاد الحارة بسنين، كان يقف حجر عثرة في وجه ألعابنا و مغامراتنا الشيطانية، يخرج من منزله ليلعب معنا و هو دون الخمس سنوات، و بدون لباس خارجي أيضاً سوى كيلوت داخلي ينزعه داخل دهليز الحوش، و يخرج عارياً ربي كما خلقتني، مما يخرجني عن أخلاقي و يزعجني كثيراً، فأرمي عليه الحصى و بعض الفتاش (مفرقعات خفيفة) و أرشه بالماء، لكنه يجلس القرفصاء في منتصف الشارع و يقضي حاجته بلا خجل ولا حياء، فيمنعنا وسخه من استخدام الشارع كميدان ألعاب و ساحة مغامرات ، ندق على جارتنا أم جمال الباب، و نشكو لها فعلة ابنها الحباب، فتخرج الى الشارع بملحفتها السوداء، لتغسل فعلة ابنها السوداء بالمكنسة و الشطف بالماء، تضرب ابنها جمال رغم ما يستحق من غنج و دلال، و تجره خلفها إلى الحوش الفرنجي، و تحممه و تغسل ثيابه و تلبسه ثياب جديدة نظيفة من جديد، ثم يخرج علينا في حلة العيد من جديد، نفرح بنظافة جمال في الحال، لكن سرعان ما نحزن و نغضب، لأن جمال العنيد يعيد الكرّة تلو الأخرى، و يبقى كل عذاب أمه و تعذيبي له بلا جدوى، يقرفص ثانية و يفعلها بعداء .
.................................
هذا و لا شيء يعوض أولاد الحارة عن منغصات الولد جمال سوى أبيه، صاحب موتور الحمولة الخفيف ذو الثلاث عجلات، كان يسترزق عليه في سوق الهال صباح كل يوم بعد صلاة الفجر، و يعود إلى بيته للراحة و الغداء عند آذان الظهر، يركن الموتور أمام الباب و يغط في سبات و نبات، بينما ابنه جمال يزرع الشارع بمخلفات البرغل و البصل و العيران، و كثيراً ما تهمله الأم عمداً في الشارع على حساب الاهتمام بمزاج الأب الكادح في الفراش، فتكون متعة أبويه على حساب تعكير مزاجنا و توسيخ ساحة ألعابنا ، نترصد خروج العم أبو جمال بعد صلاة العصر للعمل في جولة المساء، و ما ان يجلس على كرسي القيادة في الموتور حتى نلف حوله و ندور، و نشكل سلسلة بشرية أنا و خالد و أمينة و حمودة و جمعة و عمر و علاء و صباح و زهرة و محمد و مصطفى و من اسعده الحظ سوانا، سلسلة بشرية طفولية تحيط بالعم أبو جمال و موتوره الجديد، و نقول له بتوسل و رجاء :
عمو الله يخليك خدنا "دورة" قبل ما تروح على الشغل، الله يخليلك جمال و أمه، و يرزقك الكثير من العيال.
يفرح العم أبو جمال على براءة الأطفال، و ربما ينظر إلينا كأولاده من رحم زوجته في المستقبل، فيحن علينا و يشفق قلبه بنا و يعوضنا عن إفساد ابنه لبهجتنا بقوله :
هيا اصعدوا إلى ظهر الموتور، و تمسكوا جيداً في قضبان السور، و لا تجلسوا على حافة الباب الخلفي و لا فوق سياج الصندوق .
نصعد إلى ظهر الموتور خلف العم أبو جمال إلا خالد ابن عمي الذي يجلس على يساره من الأمام، فهو من هواة الآليات و الموتورات و في نفسه غير غايات، كان خالد معلمي في المقالب التي نصنعها للعم في الموتور، كان يعلم و يريد تعلم المزيد عن كيفية عمل المكنة و قيادة الآلية ذات العجلات الثلاثية، فقد حفظ عن أبيه عمي مصطفى رحمه الله كيفية عمل الدراجة النارية ذات العجلتين، و كان يرشدني كيف نجعل من موتور ابو جمال قطعة خردة لا تشتغل إلا بعد كشف المقلب الخفي بالآلة، مرةً نملص "بوجي" الكهرباء (شمعة الاحتراق) من المكنة و نتركه معلقاً في الجهاز، و مرةً نملص خرطوم البنزين الموصول بالدابّو من الأسفل حيث يغذي المكنة بالوقود، و مرة أخرى نسدّ حنفية البنزين بعود ثقاب، و مرةً نثبت زر إطفاء المكنة على المقود بخيط أو سلك رفيع، و مرةً زرعت له بعض دبابيس الكبس (تستعمل لتثبيت الأوراق على لوح الخشب في المدرسة) في مقعد السائق من تحت الغطاء ، و عندما جلس عليه بقوة و عنف، قام بسرعة و خوف كأنما لسعه ثعبان أو قرصه عقرب، و كاد يدخل في الموتور إلى بيت "أبو صالح العنبرجي" قبل الكوع، و شتم و سب الفاعل المجهول و نحن نضحك و نراقبه من ثقب الباب، و بعد كل تلك المقالب فيه و بابنه جمال، يغفر لنا و يأخذنا في جولة قصيرة حول مدرسة "الثورة" إلى آخر خط الباص قرب بيت "المختار أبو جلال" ثم يلفّ عائداً من فوق قرب مغارة بغل أبو آمين، و يدخل الحارة من عوجة بيت "العاشور" ليعلن نهاية المشوار، نتمسك بالحديد و لا نغادر الحصان الحديدي، و نتشبث برقبته و ذيله بعناد و نقول ما صار ما صار.
يكمل بنا العم الصابر أبو جمال الجولة باتجاه محل القصاب أبو علاء، و ينزلنا قبل عبور الشارع العام، و بذلك يعم ما بيننا السلام فنشكره و نقول له مع السلامة يا جار الرضا و السلام .
...........................................
منذ يومين ثلاثة و أنا أفكر بالدراجة النارية ذات العجلات الثلاثة، و قد رأيت اليوم فيما يشبه المنام، أن العم أبو جمال اكتشف مقالبي به و بابنه جمال ، كان بوجه آخر لا أعرفه، وجه أسود مخيف ، متجهماً عابساً يتطاير منه الشرر، اغتصب مني سيارتي بقوة السلاح، في حي حلب الجديدة في سوريا الجديدة، أشهر بندقيته في وجهي من خلف زجاج نافذة السائق ، و قال لي دوّر السيارة و اترك ما فيها و انزل و ارجع للخلف، قبل أن أُفرغ في صدرك مخزن رصاص حقدي، و ألوث السيارة بلون دمك الرخيص.
ايقظتني زوجتي قبل أن يقتلني، و قالت لي بعد قليل :
العوض بسلامتك ، راح البيت و السيارة بالبرميل، و لم يبقَ من الحارة سوى مقود السائق، و عجلة موتور ابو جمال الأمامية، و مزبلة حج نجيب.
*جهاد الدين رمضان
فيينا
ـــــــــــــــــــــــــــ
*النص من وحي مذكراتي ، و الصورة رمزية متوفرة في الانترنت لمصدرها الموسوم عليها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق