"تميزت الفلسفة منذ ظهورها في بلاد الإغريق بقدرتها على الفرز بين المضامين الجوهرية والمضامين العرضية (غير الجوهرية)؟"
المضامين التي بدونها لا يكون الشيء ما هو عليه، والمضامين العرضية، هي التي تقرر كيف هو الشيء وليس ما هو. رأى أيضا بنفس العلاقة مع المضامين الجوهرية ان العقلانية ضرورية من اجل ان تكون كائنا بشريا، وربط ذلك مع ماهية العقل. أي بكلمات أخرى عالم عظيم مثل نيوتن، الذي أحدث ثورة في العلوم، لن يكون هو نفسه بدون مضامينه الجوهرية (عقله مثلا) أما المضامين العرضية قد تحدد شكل انفه، طوله، وزنه، لون بشرته حركاته، هذه مضامين عرضية لا تقرر عبقرية نيوتن.
المضامين إذن هي مفهوم فلسفي يبحث في الموضوع الوجودي (ما هو موجود) أي ما يتبع للواقع وما هو قائم يطلق على ذلك تعبير اناطولوجي (ontologist ).
بناء على ذلك ما يقرر تعريف الشيء أو الظاهرة هو مضمونها.
من هنا حاجتنا أيضا لتطبيق المفهوم الفلسفي للمضامين على الواقع السياسي، من منطلق ان لكل فعل توجد فكرة ذات مضمون، ومنها يأخذ الأفراد أو المجموعات، أو الأحزاب أو الدول مضامينهم.
في عصرنا الحديث نجد ان فلسفة المضامين اخترقت العلوم الاجتماعية بمفهوم ان البنى أو العوامل الاجتماعية هي ذات مضامين تسبق التعريف الاجتماعي. المضامين في عصرنا تشمل جميع النظريات الحديثة وجميع الأيديولوجيات الأهم التي ظهرت في التاريخ البشري .. وعلى رأسها ابرز ثلاثة أيديولوجيات في عصرنا:
1- مضامين الأيديولوجيا النازية (الفاشية عامة)- تطرح مفهوم انه للقومية يوجد واقع كان قائما كل الوقت، يوجد له طابع ومن اجله يمكن التضحية بكل شيء.
2- الايديولوجيا الليبرالية - ترى المضامين في اصطلاح حقوق الإنسان، يشمل ذلك الافتراض انه توجد حقوق طبيعية للإنسان وهي ضمن الحقوق الجوهرية لكونهم بشرا.
3 - الأيديولوجيا الاشتراكية وبالأساس في الطرح الماركسي - تطرح مفهوما يرى بالقومية، الدين وغير ذلك من الهويات الشخصية أنها بمثابة "مضامين كاذبة" وان الانتماء الطبقي هو الذي يوحد بشكل حقيقي وجوهري بين البشر.
لا بد من إشارة عابرة ان المفهومان النازي والماركسي لم يثبتا صحتهما الفكرية والفلسفية، ولا بد من إضافة أراها هامة: اكتسب الفيلسوف الألماني نيتشة شهرة كبيرة عندما صرح ان الله قد مات، وكان قصده واضحا انه يعني فقدان الأخلاق والحقيقة معا. فهل يمكن تحت شعارات وعود إلهية خرافية سحق مجموعة بشرية؟
ما أعادني لهذا الموضوع هو احتفال إسرائيل بيوم استقلالها. هل هو ضمن المفاهيم الجوهرية لحقوق الإنسان بسحق حقوق إنسان آخر، أم هي ظاهرة عرضية غير جوهرية بحكم كونها جاءت ضمن رؤية اقرب للرؤية القومية (الفاشية) المتحالفة مع الأسطورة الدينية؟
الحرب العالمية الثانية التي انطلقت من المفاهيم القومية النازية، دفعت فيها شعوب العالم عامة والشعب اليهودي ضمنها، ثمنا رهيبا لا يمكن تخيله. هل هذا الثمن يبرر ان يدفع شعبي الفلسطيني ثمنا مأساويا لا يتوقف منذ سبعة عقود ضمن نظرية قومية شوفينية – دينية اصولية لا تقع بعيدا عن الفكر القومي النازي والفكر الإيماني السلفي سوية.
هذا يجعلني أعيد التفكير بجوهر الإنسان المعاصر. لا يمكن ان يحمل صفة إنسان من يفتقد لجوهر الإنسان بصمته على جرائم ضد الإنسان؟ ان كان في فلسطين أو العراق أو سوريا أو نيجيريا أو اليمن أو ليبيا أو أفغانستان أو اوكراينا أو أي مكان يجري فيه سحق المضمنون الجوهري للإنسان؟
في القصة التالية ، التي كتبتها في (15-02-1968)،بشكل تلقائي لأديب ناشئ تناولت المضامين التي تصور واقعا بلا مضامين إنسانية. بلا أخلاق وبلا حقيقة. حاولت ان أصور مأساة شعبي الذي وعيت والمآسي تتقاذفه. هل هذا ضمن المضامين الجوهرية لمرتكب الجريمة؟ أم ضمن عالم فقد الأخلاق والحقيقة وفقد المعايير الإنسانية في تعامله مع قضايا الإنسان؟!
إلى أين ينحدر عالمنا بتخليه عن مضامينه الجوهرية، وعلى رأسها مضمون العقلانية!!
**
لقاء بعد عشرين عاما !!
قصة: نبيل عودة
ترامت نظراته فوق الصورة، حدق بالوجه الجامد الذي يطل منها. وجه كان حظه من التاريخ الإهمال في زاوية من زوايا الأرض.. تجعد بالطول وتجعد بالعرض، أصبح أشبه بلوحة للرسم البياني.. لوحة مربعات بدون أي تنسيق هندسي... عبر هذا التاريخ بثقله، بإهماله وآثاره فوق هذا الوجه، يلحظ الناظر آثار تشير إلى جمال سابق وفتنة ماضية.
كانتا عيناها عميقتان بائستان إلى ما لا نهاية، تحتهما أنف.. ليس كأنف كيليوبترا، لذلك لم تتغير أوضاع العالم ولا حتى أوضاع المنطقة التي تعيش فيها. كانت التجاعيد التي تجعل الوجه أشبه ما يكون بلوحة رسم بياني كافية لإخفاء ذلك الأنف بشكل يعجز عنه حتى فنان متجرد. هل هي حقا كذلك؟
سقطت دمعة بلورية فوق الصورة فسارع يزيلها بطرف ثوبه، محاولا إخفاء وجهه، في لحظات انسابت أمامه ذكريات عشرين عاما.
عشرون عاما أحالوا بينه وبين رؤية هذه المرأة التي هي...أمه!!
كان الصمت ثقيلا حتى انه لم يتحمل ذلك.
رفع عينيه عن الصورة، نظر نحو الرجل الذي جلس بجانبه، أخوه فيصل.. فيصل الذي كان تلميذا في تلك الأيام السوداء. مرت بخاطره صور متلاحقة من الماضي.. كان يود لو كان الماضي غير ما كان وكان يود لو كان الحاضر غير ما هو عليه الآن.
أخذ نفسا طويلا، عصر المستنقعين الواقعين تحت جبينه العريض محاولا تجفيفهما.
كان فيصل ما زال يجلس قربه على الكنبة العتيقة، في ناحية أخرى من الغرفة كانت زوجته.. وجهها شاحب حزين.. وعلى ذراعها طفلهما الذي استيقظ قبل لحظات وراح يبكي ويصرخ... إن موعد أكله قد حان ولكن أمه لم تعطه شيئا في غمرة هذا اللقاء القاسي.
لماذا لا يفهم ويكف عن البكاء؟
منذ عشرين عاما لم يلتقوا، لماذا لا يفهم الطفل هذا؟ منذ عشرين عاما... فقط اليوم.. والى جانبها كان بكرها فوزي، يضغط على أعصابه ويتمالك نفسه حتى لا تنفجر دموعه...وبجانبه انتشر باقي أفراد الأسرة.. سمير ،جمال ، نجوى وفؤاد...
الطفل ما زال يصرخ ويحطم إطار الصمت. لأول مرة شعرت به يثير حنقها. ماذا تستطيع أن تفعل له؟ إن الحليب قد جف في صدرها من الرعب الذي اجتاحها منذ أن رأت على مسافة غير بعيدة عن قريتهم الطائرات وهي تنقض على كتلة اللحم والحديد المتراجعة، فلا تتركها إلا وقد مزقتها بالنار. كان دائما يخيل إليها ان ابنها فوزي بينهم، لكنه لم يكن بينهم.. فقد عاد، عاد منهكا، عاد محطما، عاد والدموع معجونة في وجهه وعينيه... عاد، عاد ، عاد.. تلك هي الحقيقة التي أثلجت صدرها في أيام الرعب، تلك هي...
قطع صوت زوجها استرسالها وهو ينظر لصورة والدته :
- لماذا لم تحضرها؟
نفس السؤال عاد يكرره بعد صمت طويل. لماذا لا يغير الحديث؟ لماذا يبكي الطفل؟ لماذا يصرخ بهذه القوة؟
- في الأسبوع القادم.. ان شاء الله !!
في الأسبوع القادم... هل نطق فيصل بذلك ..؟ انه لا يذكر تماما.. ولكن أذناه التقطتا تلك الكلمات.. وعاد ينظر إلى الصورة أمامه.
أخذ صراخ الطفل وعويله يشتد .. فلم تجد الأم بدا من تلقيمه حلمة ثديها .. ودخلت نجوى تسخن الحليب .. لماذا لا يكبر الأطفال بسرعة؟!
******
أخيرا اقترب موعد اللقاء الذي طال حتى ابتعد عشرين عاما. اليوم سيلقاها. يعتريه شعور متوتر كلما فكر بلحظة لقاء أمه بعد عشرين عاما من الانقطاع. كانت المراسلات عبر أثير الراديو لا تشفي الشوق بلقاء أهله الذين فرض الفراق عليه عليهما.
كانت شمس أواخر حزيران تسطع بقوة.. وكان الأب يشعر بدبيب الاضطراب، فازدادت حركته في البيت، على غير عادته... وما انفك ينظر من النافذة عبر الشارع المتعرج الممتد إلى الأفق.. ومع كل سيارة تظهر يتخيل وجه والدته داخلها، وجهها كما كان يعرفه قبل الفراق، فيخفق قلبه بقوة.
هل ستعرفه بعد هذا العمر؟ هل هي حقا كما رآها في الصورة منذ أسبوع؟ .. إنها أمه، ويريد أن يلقاها..مهما بدت غريبة عنه اليوم... كان الوقت يمر ببطء شديد فتمدد على الكنبة العتيقة، نفس الكنبة التي جلس عليها في الأسبوع الماضي بقرب أخيه فيصل.. كم يود ان يرى أولاد أخيه.. ولكنه لا يصدق ان ذلك الرجل هو فيصل نفسه ، بالأمس فقط كان طفلا صغيرا ... كأن عشرين سنة مرت بغفلة من الزمن...
انه لا يزال يذكر صوتها الأمومي وهي تحذره ، بسرور طفولي بعد زواجه من انها ستطرده من البيت هو وزوجته اذا خلفا لها بنتا... وإنها لن تقبل بأقل من ولد... تسميه على اسم زوجها الذي مات سنوات قليلة بعد زواجهما. كان لها ما أرادت، غير أن القدر رفض أن يعطيها الفرصة لترى حفيدها... فرقتهم النكبة!!
عاشت العمر كله تنتظر يوم اللقاء... وعاش يحلم بالعودة ولقاء الأحبة..
انتبه الأب لأصوات كلاب تنبح.. اراد ان يتحرك من مكانه.. لكنه تجمد عندما رأى ابنته نجوى تندفع نحوه صامتة ووجهها قد فقد لونه واصفر..
- أبي.. إنهم هم !!
ماذا يعني ذلك؟ هل يمكن ان يحدث مثل هذا الأمر ...
- لا تخافي..
همس من بين شفتيه بصوت مرتعش.. واندفع للخارج .. أطلت الأم بوجهها المتصبب عرقا من حر المطبخ، تبحث بعينين اتسعت حدقتاهما عن زوجها... ثم اندفعت خلفه.. كان أولادها قد ذهبوا إلى السوق لشراء الخضار والفواكه لهذا اليوم العظيم!!
ماذا حدث بعد ذلك؟ كل ما حدث يبدو غريبا...
لقد جاءوا برفقة الكلاب النابحة..!!
لم يفهم احد شيئا في بادئ الأمر.. ما كاد يطل الأب من الباب حتى دفعه جنديان بعيدا عن البيت!!
ما كل هذا؟!
بعد لحظات كانت تقف بقربه زوجته وابنته..الضابط قال بأن البيت سينسف؟!
- لماذا..؟
- الفدائيون مروا من هنا!!
- ما علاقتنا بذلك؟
- النقاش ممنوع!
- أين أذهب بعائلتي؟
- اخرس!!
- لكنه بيتي...
- اقفل فمه أيها الجندي..!!
جمد الخوف الأم والبنت وربط لسانيهما !.. الأم تقول لنفسها "الحمد لله لأن فوزي ليس هنا.. كان من المحتمل ان يشتبك معهم.. أو يعتقلوه لأنه شاب.. ثم كيف سيهتدون لأثره في سجونهم؟.. ولكن بيتهم .. أثاثهم.. واتسعت عيناها أكثر وأكثر.. يا الله .. انه نائم في الداخل. أطلقت صرخة مروعة:
- طفلي.. طفلي نائم في الداخل!!
حاولت الاندفاع نحو البيت، لكن إعقاب البنادق اعترضت طريقها.. أما الأب فانطلق كالقذيفة نحو البيت..
- عد...عد...
ارتفع صوت الجندي مرفقا بطلقات رصاص في الهواء.. صرخت نجوى:
- با ... با ...
انهارت على الأرض .. وعاد الجندي يصرخ:
- عد ... عد ..
وانطلقت رصاصات أخرى...
أحس الأب بظهره يحترق. حاول ان يركض. كان الألم ينهش جسده. حاول ان يقفز .. تجمد في مكانه. شيء غريب يمتزج مع ذاته. لكن طفله في الداخل. خطى خطوة.. رغم أن الأرض تدور به بشدة. انه يرى أمه بوجهها الذي يعرفه، بل بالوجه الذي أطل عليه من الصورة.. المربعات.. شيء لا يستطيع ان يفهمه. ماذا يريد؟ لماذا هذا الألم؟ لماذا الأرض تدور هكذا؟ لماذا يبدو البيت مائعا أمام عينيه؟ فجأة لاح له وجه الطفل... والبيت سينسف. اعتصر كل قواه في لحظة. جر قدميه.. صرخات حادة تخترق أذنيه ، يجب ان ينقذ الطفل.
انحنى على الأرض ثم فتح عينيه، .. لقد احتاج إلى قوة خارقة ليفعل ذلك. رن في سمعه صوت أعاده إلى ذكرى الحنين واللقاء... كان ذلك صوت سيارة.. إنها قادمة.. أمه التي انتظرها عشرين عاما.
نسي الألم .. نسي كل شيء.. كابوس من الغموض يملأ افقه.. أفكاره.. الصراخ يدو في رأسه.. "طفلي" صراخ رهيب.. ابنه في الداخل والبيت سينسف. السيارة تقترب.. جر نفسه خطوة.. وخطوة.. وخطوة.. وهدير السيارة يملأ سمعه ويعلو.. والألم يشل كل ذرة في جسمه... والدوران يشده نحو الأرض.. انحنى على ركبتيه... خليط غريب من الأصوات يخترق سمعه.. خليط غريب من الألوان يملأ المناظر أمامه.. ميوعة .. دوران.. وقوة خارقة تشده أكثر نحو الأرض... وترغمه ... آه .. طفله؟.. والبيت سينسف .. أمه.. السيارة تقترب.. اعتصر كل قواه.. كل عضلة في جسمه، حاول ان ينتصب بقوة، فالتصق بالأرض!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق