اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

" يوميات أستاذ من درجة ضابط " 2...** عزيز لعوبسي

2
نهاية حكاية "البورط فوليو"..
غادر الأستاذ سليم والأستــاذة خديجـة قاعة الأساتذة بما فيها من حلوى وكعك وشاي .. لم يداعبا الحلوى والكعك ولم يقبلا كؤوس الشاي المنعنع إلا ببــرودة واحتشــام .. سحر"البورط فوليو " كان يداعبهما كالطيــف ..إخترقا الساحـة الكئيبـة بصمت وثبــات .. في
الطريــق أثار انتباههما الأستـاذ "مالك" نجم تساوت .. كان يقبل بحــرارة صنبــور النافـورة التي تتوسط الساحة كزهــرة فيحــاء في بيــداء .. كان مالك أو "المتيم رقم 2 " كما يحلو له ذلك منكمشا على غير عادتـه ..ألقـى "سليم" عليه التحية بإبتسامة وهو يتجرع قطرات ماء كما لو كان عائـدا للتو من سبـاق مضماره شاق ومرهـق .. واصلا المسير وصعدا الدرج إلى أن ساقتهما أقدامهما إلى القاعة رقم 7 ..فتحـا الباب بالمفتاح وولجا إلى الداخـل .. كانت القاعة ساكنة سكــون أجواء مولاي عبدالله .. سكون كاســح تخترقه بين الفينــة والأخرى تلك النسمات الصباحية القادمة من الساحل الذي يتراءى من النوافـذ على إمتــداد البصـر .. وكأنه جحافـل من المريديـن الذين يصطفــون بعناية وثبــات بحثــا عن بركات الشيخ مولاي عبدالله الراقـد في أتــون الزمن .. قريبا من سيدي بوزيـد غير بعيـد من البحــر .. حيث الأمــواج المتراقصـة بسخــاء كراقصة بالـي .. لحظات إلتحق بهمـا الأستاذ "مرتضـى" القادم إلى مازاغان من ضواحي مكناسة الزيتون .. يجـر قدمــاه بخطوات متثاقلــة وركن في الطاولـة الخلفيـة بالصف الثاني بعد أن ألقى التحيـة .. كان "سليم" يضع "البورط فوليو " أمامه، شأنه في ذلك شأن "خديجة" ..

فتح "مرتضى " محفظته الجلديــة التي تشهد ولا شك على حكايات وحكايات .. وأخرج مذكرة صغيــرة وفتح برفق وسلاســة صفحة الملاحظات .. بعد أن وضع نظارته الشمسية فوق رأسـه .. كانت عينـــاه منصبة على ما كتـب حتى أنه لم يبال بالنسائم التـي تداعبه كالهــوى من حيــن لآخـر .. كان ساكتــا غارقا في أحضــان الصمت .. وكأنـه قــاض يتأهــب من أجل إصــدار حكم حاســم في قضيـة شائكــة .. . فجأة إختــرق جــدار صمتـه كما تخـترق طلائــع الضـوء جحافل الظــلام الدامــس ..خاطب "سليم" و"خديجة" بكلمات متثاقلـة .. ألقى عليهما التحيـة وعبر لهما عن شكــره وإرتياحــه للمجهود المبــذول وثمن الأداء .. رغم قصـر مدة الوضعيات المهنيـة داخل الفضــاء الفصلي .. هنيهــات التحــق الأستاذ المرشـد "رضــوان" ابن دكالـة .. وأخذ مكانه إلى جانب "مرتضــى" .. وإنطلــق شادوف الملاحظــات في الـدوران .. وفي كل دورة كانــت تتقاطر الملاحظات كما تتقاطر قطرات النــدى على حقـول الياسمين والفل والنرجـس والريحـان .. كان "سليم" و"خديجة" يصغيان بدقـة ويدونان الملاحظـات بكل تركيـز .. وبيـن الفينــة والأخــرى كان يقذف الشـادوف بأسئلـة كانت تنــزل عليهما بـردا وسلامـا .. كانا يتصديان لها بثبــات ويجيبان عنها بكل أريحيــة .. إستمــر الشادوف في الــدوران قبل أن تتوقف حركتـه حوالي الساعة 11و30د .. لتفسح المجــال أمام ناعــورة "البورط فوليـو" .. شخصيــة الموسـم بامتيــاز ... طلب منهما تقديم "البورط فوليـو" .. نهض "سليم" من مكانه ووقف أمام اللجنـة حاملا " البورط فوليو" وكأنه يعتزم تقديم رسالة ماستر أو أطروحة دكتوراه وطنيـة أمام لجنـة من الأساتذة المحنكيـن .. شرع مباشرة في تقديم المحتويات .. أكوام من الوثائــق المتعايشة بســلام بدون حـرب ولا نزاع ولا شنــآن .. مرتكزات ومرجعيات عامـة .. منهـاج .. تدبير وتخطيـط .. بحث تدخلي .. علوم تربيـة .. تشريـع .. تقاريـر .. وثائـق الوضعيات المهنيـة .. جــذاذات .. أنشطـة .. إنتهى دوره ووضع "البورط فوليو" على الطاولة بعد طول عنـاء .. مباشرة بعد ذلك إحتضنت الأستاذة خديجـة "البورط فوليو" الخــاص بها كما تحتضن الأم صغيرهـا .. فشرعـت هي الأخـرى في تقديمـه بطريقـة ولمسة خاصـة .. في تمام الساعة 11و45د ..

إنتهى كل شـئ .. رفع القلم وجفـت السطـور .. وطويـت آخر صفحة من صفحات حكاية إسمهـا "البورط فوليو" .. وغادرا معا القاعة رقم 7 .. حكايـة إبتـدأت كلمة صغيـرة مبهمـة وغير واضحة خلال أول لقــاء بمدرج المركـز غضون أسبوع الإستقبـال .. تم نسيانها على إمتـداد الموسـم تحت ضغـط المجـزوءات .. وركنها في أركـان الغرف وربما تحـت الأسـرة .. لكنها أبت إلا أن تظهـر .. أن تحيـى .. أن تعيـش في العقول كالهواجـس .. أن تحب كل المتدربين والمتدربات بسخـاء .. وأن يبادلوها أيضـا حبـا بحـب ووفــاء بوفــاء ... بعدما أطل هـلال الإمتحان الوطني في شقـه العملي .. إنه "البورط فوليو'' أو"الملف الشخصي" .. وهما يغادران مؤسسة "الإمام مسلم".. كان "سليم" و"خديجة" يحسان أنهم تخلصا من عبء كبيـر .. أثقل كاهلهما .. ورماهما عنـوة في منطقـة الشــرود .. كانت خديجة مبتهجـة وعلامات الإرتيــاح بارزة على محيـاها .. كانـت تعي كل الوعـي .. أنها تخلصت من ضغط الليالي وأهات السمـر .. وانفلــتت ولو إلى حين من هواجــس .. الإمتحـان .. و"البورط فوليـو" ...وصلا إلى المركز .. ودعــا بعضهما البعـض عند مدخل الداخليـة .. وأكمل "سليم" المسيـر .. مر أمام النافورة الزرقــاء .. وشجرة الزيتون .. والنخلة وشجرتي التوت الباسقتين .. أحس بإنتعاشـة ونشـوة لا مثيل لهـا .. وصل إلى الغرفة .. فتح الباب بسلاسة وكأنه قادم من نصر تاريخـي أو من رحلـة صيـد وفيــرة .. ألقى التحية على "سليمــان" .. الذي كان مزهـوا .. مفتخرا كما لو كان طاووسـا في البــراري .. قال له بإبتسامة عريضـة " ناولني الولاعـة يا سليمان .. سأحمل "البورط فوليو" .. وسأقصد النافورة الزرقـــاء .. وسأشعل فيـه النــار .. قاطعه "سليمان" .. بقهقهات متعاليـة كادت أن تصل إلى النافورة .. قهقهات لم يجد لها "سليم" وصفا ولا تقديــرا ... قال له .. لنأكل "طاجين لحـم "اليوم .. أجابه "سليم" : ولم لا .. إنتهت حكايتك .. يا عزيزي .. يا "بورط فوليـو" ...













القاعة رقم 7 في حلة جديدة..
وجود "سليم" ومن معه من زملاء بالثانوية الإعدادية الإمام مسلم بحي مولاي عبدالله في إطار التداريب الميدانية ،كان يقتضي أيضا ترك "لمسة" في هذه المؤسسة من باب الذكرى والنوسطالجيا، داخل مجموعة الأمل كان نقاش ودي حول طبيعة "اللمسة" التي ينبغي تركها في رحاب هذه المؤسسة، إختلفت الرؤى بين من كان يرغب في صباغة القسم ومن كان يرغب في تزيين الواجهة الرئيسية للمؤسسة التي كانت تبدو عليها آثار الإسمنت، وبين من كان يريـد إقتناء مزهريات طينية يتم طلاؤها بالصباغة ووضعها في أماكن مختلفة من الساحة، كل الأفكار المطروحة كانت جيدة، طالما أن العمل أو المبادرة في حد ذاتها تبقى هي الأهم ولم يتم الحسم في طريقة "اللمسة" بشكل جدي لأنها تزامنت مع وشك نهاية الموسم، لكن وبعدما كانت مجموعة "مالك" سباقة إلى فكرة صباغة القسم رقم 6 ، فقـد تم حذو حذوهم ، وأشرف على العملية الزملاء الأساتذة كل من "حلمي" و"توفيق" و"خديجة" الذين أخدوا المبادرة نهاية أسبوع في غياب كل من "سليم"و"سليمان"و"سعدان"، وأضفوا على القاعة 7 لمسة خاصة بمساعدة من بعض تلاميذ السنة الثالتة إعــدادي ، بعــد أن وفرت الإدارة لهم مشكورة ما يلزم من صباغة ومعـدات .. ليتحول مظهر القاعة التي أصبحت في حلة جديدة .. وهذه اللمسة لا شك أنها ستبقى خير شاهد على مجموعة مرت يوما ما من هذه المؤسسة .. إسمها مجموعة الأمل ...






الكتكوت "حسنيـــــن"..
كلما تم استحضار الأستاذ "سعــدان" القادم من بيــادر الشاويـــة .. كلما أطـل الأستــاذ الكتكوت "حسنيــن" كما يطل هــلال العيــد .. ما بين الأستاذيــن مسافـة من الزمـن تمتـد لسنــوات .. تجربــة "سعــدان" حبلـى بالتجــارب والمواقف والأحــلام والميولات .. والحصيلــة شخصيـة ناضجـة ومسؤولــة .. بعيــدة كل البعــد عن كل إنــزلاق أو تهــور صبيـاني .. سعــدان مقتنــع تمــــام الإقتنــاع أن سنــه الأربعينيــة لا تسمــح له بأي فعـل أو سلــوك قـد يســئ إلـى سمعتـه ورصيـده وطموحاته الجامعيــة .. لكـن الأستــاذ "حسنيــن " لا يــزال شابـا يافعـا يشـق مساره العملي بثبــات كما يشــق المحراث الخشبــي الأراضي الصلبــة .. ما بينــه وبين "سعــدان " ما يفــرق البحـر والنهــر .. لكن رتابـــة الحياة داخل الأســوار .. وآهات الغـرف وضوضاء الأسـرة .. كلها أشيــاء طـوت عنـوة مسافـة الزمن الفارقــة بينهمــا .. وقربــت بينهما بشكل غريــب لا يجد له سليم وصفــا ولا تقديــرا .. وكأنهما حبيبيــن هائميـن جمعت بينهمـا سكــرة الهيـــام .. "سعـــدان " إكتسح الخجـل باحة أفكــاره وسلوكــه .. لا يعتــرف بشـئ إسمه "الهيـام" بل ويحتــاط من هذا "الهيــام " المجهــول .. أما "حسنيــن " .. فيبــدو كسمكــة سرديــن أو سلمــون تسبــح بعنفــوان وأريحيــة في بحيــرات " الهيــام" .. بدون خجـل ولا إرتبــاك ..

تعــود الكتكوت "حسنيــن " كل صبــاح ومســاء .. أن ينـادي على "سعــدان" من الطابـق الأرضي بصــوت تشـم فيــه نفحــات الأطلــس .. " سعــــدان .. سعـــدان".. وما هي إلا هنيهــات حتى يطل عليه "سعــدان " من الفــوق وكأنـه أسـد داعبـتــه نسائم الهــوى بعـد سبــات .. يقول له بصـوت ألطـف من الهواء العابـر : " حسنيــن .. أنا جاي .. تسنانـي .." .. ما هي إلا لحظات خاطفــة .. حتى ينــزل " سعــدان " من غرفتــه الفوقيــة .. ويصافـح " حسنين " .. وينطلقــا معـا في مضمـارهما اليومـي .. في إتجــاه مقهى " دوزيـم " بطريق سيـدي بوزيــد .. حيــث تعــودا أن يحتسيـا كل يــوم قهوتهما المفضلــة ..بعيــدا عن القاعـة الزرقــاء .. الأستاذ "حسنين" أو "الكتكــوت" كما يسميــه "سليمــــــان " .. شاب في مقتبــل العمر .. وضع للتــو أقدامه على ضفــاف عقده الثالــت .. قصيــر القامة .. نحيــف البنيــة .. يرتــدي دومـا نظــارة طبيــة .. عينــاه غارقـتان في مسبــح الشوق والهيـام .. ينحــدر " حسنيــن " من بني مــلال أيقونــة الأطلــس .. ترسم الابتسامـة قوســا على شفتيــه .. تنســاب كما تنســاب ميــاه عين أسردون من الأعالـي .. كلـه حيويــة ونشــاط وشــوق .. وكأن عين أســردون .. سلمته كل بركاتهــا .. رغــم صغــره وفتوتــه .. فهــو يستأسـد في قسمــه .. استطــاع أن يفــرض سلطتــه الرمزية على التلاميـــذ .. يزاوج بيــن الصرامة والجديــة .. تعــود أن يخاطبهــم بكلمات وجمـل لما أسمعهــا أهيـــم في بحــر من القهقــهات التي يصـل مــداها الى النافــورة الزرقـاء .. يقول لهــم بلكنــــة أطلسيــة ملاليــة : " مال بوكم ما جتــوش الكتاب المدرسـي .. والله يا بوكم ليما بغــا يحشــم .. والديكـم ما جتــو والــو في الفــرض .. والله يا العفـاريت .. لي شديــتوا تاينقــل ..." بهــذه الكلمات "الكوميكيــة " استـأسـد الأستـاذ "حسنيــن " .. وأضحى أميــر قسمه بامتيــاز .. في الآونــــة الأخيرة .. أعجـب " حسنيــن " بالسلطان سليمــان .. استهـــوته نسائم هيامــه .. تعــود أن يـــزوره و"سعــدان " كل ليلـــة في غرفتــه السفليــة .. يرغبــان في بركاتــه .. بحثــا عن الشــوق الهارب .. والهيـــام العابــر .. "حسنيـــن " ابن بني مــلال .. في جعبتـه ماستر في التاريـخ واجازة مهنيـة في الصحافــة .. يخطـو أولـى خطواتــه في مســاره المهنــي .. بشـوق وبشاشـة وحبــور .. خصوصيــات لا توازيهــاإلا ميـاه عين أسردون القادمـة من أعالـي الأطلــس ...










همســـات ..
يبدو أن أن طلائع النهاية .. أضحت أقرب مند أكثر من أي وقت مضى .. تلك سنة الحياة .. لكل بداية نهاية ولكل مقدمات خواتم .. نتمنى أن يكون ما هو آت أفضل وأحسن مما هو فــات .. ابتدأت رحلـة المسير في أجواء باردة .. وانطلقت أولى خطوات المشوار في مضمار قد تغلب عليه الآهــات والأشجان ..وحده الصمود والتحدي كان الملاد الآمن .. لكن رغم صعوبات المسير ومطبات المضمار .. كانت تولد بين كل لحظة وحيــن .. انفراجات أمل وانشراحات بسمات .. كانت تضفي على الرحلة الباردة حرارة لا توازيها سوى حــرارة أغسطس التي بدأت تلــوح في أفق مازاغـــان .. قد تطوى الأيام القادمة وقد تدفن اللحظات العابرة بحلوها ومرهــا .. بآهاتها وانتكاساتهــا وخيبات أملهــا في قبة "القاعة الزرقــاء " .. قد ينسى " السلطان سليمان" و"المتيم إثنان " .. وقد تنسى حكايات الصورالهاربة وسلام الشجعــان ..والشاعر المبجل ... قد تتوقف عجلة كل شــئ .. وتتفتح أبواب الذكرى أمام كل شيء .. المواقف .. المبادئ .. الإنطباعات .. المعاملات .. الميولات .. النظرات البريئــة .. النظرات الزائفـة .. الابتسامات المقنعة .. كل شيء يخضع لسلطة الذكـرى ويتحنط في أهرامات النسيــان .. تلك حكمة الزمن وسنن الحيــاة .. ولأن الزمن يستمر والحياة تستمر .. فالأمل أن تزول الصور الرديئـة من الألبــوم بكل ما تحمله من حسرة وخيبات أمل .. أن تشرق شمس العيون الضالة .,,أن تفتح صفحة كتاب جديد .. عنوانه ..دمتم أوفيـــاء .. وعلى شطئــان المحبة والأمل نلتقي .. وكل لحظة جميلة وأنتم بألف خيـر ...






بائـــع الخبـــز ومحاولة إسقاط "البذلة الزرقاء"..
داخل ردهات المركز.. وفي سيــاق موسم استثنائي بامتياز .. ووسط زخم الرتابة المتسكعة بين أركان وجنبات الداخليـة .. إنبعثت حكايـة ربما لم ينتبه إليها البعـض وربما إعتبرهــا البعض الآخر حدثا عابرا عاديا عبور السحاب .. لكنها شكلت حدث الموسم بإمتيــاز ..إنها حكاية بطلها الوحيــد والأوحد بائع الخبـز..حكاية نسج خيوطها أستــاذ متدرب نحيف البنية .. طويل القامة .. تجاوز عقده الثالث .. لون بشرته ميال إلى الحمرة بقليل ... تعود أن يغادر غرفته كل صبيحة متحوزا بكيس فارغ متوسط الحجم غير مكترث بقساوة شتــاء مازاغان، ويقصد الباب الرئيسي حيث يتسلم شحنة من الخبز الساخــن من أحد الباعة، ثم يعــود أدراجه محملا بالكيس ، ويبادر إلى توزيــع الخبز على زبنائه الأساتذة كل حسب طلبيته .. و في أحد الأيــام توقف"سليم" و"سليمان" عند إعــلان معلق على مقربة من المطبــخ ، كتب عليه "إعلان من بائع الخبز"، وبإلقــاء نظرة خاطفة تبين لهما أن بائع الخبــز يعتذر لزبنائـه الأساتذة ويؤكد لهم توقفه عن عملية تسليم الخبــز ، تبادل وقتها "سليم "و"سليمان" أطراف الحديث حول هذا القرار المفاجئ وهما كالعادة يترجلان في إتجاه حي السعادة من أجل تناول وجبــة الغــداء...

نظــر "سليم" إلى "سليمان" والحيرة بادية على محيـــاه، وقال له: " ربما أن البائـــع قد توصـل بإنـذار من طرف الإدارة بعدما بلغ إلى علمها ما يقوم به من نشاط تجــاري" ، فقاطعه "سليمـــان " بابتسامة عربضة قائلا : "ربمــا أن مغامرتــه التجارية لم تسمح له بجني ما كان يطمـح إليه من ربــح .. " ، عموما فقد كان ذلك الإعـــلان ، بمثابة نقطة نهايــة لبائع الخبــز تاركا جملة من التساؤلات تحيط بما كان يقدم عليه من عمـل أقل ما يمكن أن يقال عنه، أنه لا يليق بأستاذ متدرب يتوجب عليه أولا أن يلتزم بالقانون الداخلي للمركز الذي يتكون به، وأن يتحلى ثانيـا بسلوك لائــق ومسؤول كأستاذ وكمربي .. لكن في إحدى اليوميات الباردة، أبى بائع الخبز إلا أن يعود إلى مسرح الأحداث من جديــد، حيث وبينما كان "سليم " و"سليمان" داخل الغرفة رقم 10 يحتسيــان كأس شاي منعنع ويتبــادلان أطراف الحديث ..حتى سمعا طرقات على الباب، ظنــاه "سعدان" أو"حسنين"، فنهض "سليمان" من مكانه الاعتيادي على الأرض، وقصد بخطوات متثاقلة الباب من أجل معرفة من الطارق، التقطت وقتها مسامع "سليم" كلمات مقتضبة لسليمان وهو بصدد التحاور مع شخص ثان، لكنــه لم يتبين طبيعة الحوار ولا إسم الشخص الطارق للباب، بعد لحظات قصيرة أقفل سليمان الباب، وعاد مجددا إلى مكانه وجها لوجه أمام حاسوبه الصغيـر وعلامات التعجب والإستغراب بادية على محياه ..سأله "سليم " عن الشخص الذي طرق الباب .. فقاطع كلامه بابتسامة عريضة : إنه بائــع الخبز ....رد عليه "سليم " للتو بقهقهة خافتة : " ربما يريد أن يدخلنا ضمن قائمة زبنائه ويوزع علينا الخبز كل صباح .. ".. قاطعه "سليمان" بكلمات متقاطعة: "إنه يريد إسقاط البذلة الزرقــاء .. إنه يطرق أبواب الغرف من أجل أخد توقيعات المتدربين من أجل إسقاط البذلة .." قاطعه "سليم "قائلا : "ومصيبة هـادي .. أية حماقة هذه ..من الخبز إلى البدلــة " ..

طبعا فقد انتقد "سليم" ورفيق دربه "سليمان" هذه الطريقـة غير الواعية وغير المسؤولة لعدة اعتبــارات، فالإدارة وإن فرضت البذلة الزرقاء الموحدة كلباس رسمي لجميع المتدربين والمتدربات، فهي وهذا يسجل لها ، لم تصل إلى حد الإلـزام ، وهـذا ما فسح المجال أمام بعض المتدربين والمتدربات من أجل التمرد الناعم والسلس على البذلة الموحدة، وبالتالي إرتــداء أزياء أخرى غير موحدة كل حسب هـواه ورغبتــه، ثاني الاعتبـارات هو أن البذلة الموحـدة على الأقل من ناحية المظهــر، تبـدو أحسن وأجمل من "الوزرة" البيضـاء ، وذاك اللباس الموحد يعطي للأستـاذ المتدرب قيمة إعتباريـة، ويجعلــه يتساوى على مستوى الهندام مع اللباس الموحد الذي تفرضه بعــض معاهد ومدارس التكوين كالشرطة والطيران والفندقـة وغيرهــا، وبصيغــة أخرى فإن البذلة الموحدة الزرقاء كانت تبدو أكثر أناقــة واحترام من الوزرة البيضاء التي تكرس صورة نمطيـة للأستاذ، ثالث هذه الاعتبــارات، وبما أن الإدارة لم تفرض هذا الزي المــوحد، فقد كان كل أستاذ متدرب يلبس ما يشـاء بكامل الحريــة، وبالتالـي ، فقــد كان السؤال الذي فرض نفسه، ما الجـدوى من البحث عن عريضة توقيعات ترمي إلى "إسقاط البذلة " .. كان ذلك مجرد خطـوة متهورة وغير واعيــة وغير متبصــرة، لذلك أجهضت هذه المحاولة وهي في المهــد، ولم يصل صداها إلى الإدارة، التي ظلــت متعاملة مع موضوع البذلة الموحدة الزرقــاء بنوع من الليونة التي لم تصل إلى حـد الجبر أو الإلــــزام ، إلى أن إنتهى الموســم بســـلام ..

مكتبة محفوظ..
كل أستاذ متدرب مر من مركز الجديدة، إلا ويستحضر محفوظ و"مكتبة محفوظ" التي أضحت جزءا لا يتجزأ من المجال الحيوي لهذا المركز الجهوي .. مكتبة تتواجد بحي شعبي زحف عليه العمران من كل اتجاه ولم يتبق منه سوى بضع منازل وبيوتــــات ..تتموقع المكتبـــة كالحارس الأمين أمام المدخل الرئيسي للمركــــز لا يفصل بينهما سوى شارع باتجاهيـــــن .. تبعد من جهة اليسار بحوالي مائة متر عن معهد التكنولوجيا ..رغــم صغـر مساحتهــا .. تبــدو كخلية نحـل لا يهـدأ لها بــال ولا تتوقف فيها حركــة من الساعات الأولى للصباح حتى ساعات متأخرة من الليـــــل.. وكأنهــا شيــخ يتــــــردد عليه عشــرات المريديــن من كل حــدب وصوب بحثــا عن بركــة من البركـــات .. أو كأميرة عشــق تفـــــرق صكـــــوك الشوق على صنــاع العشــق والهيـــام..مكتبــة ليست بالراقيــة ولا بالمتواضعـــة .. أحبت الجميـــع وبادلها الجميـــع حبـا بحب ووفــاء بوفــاء .. معظم زبنائهــا من الأساتذة المتدربين من مختلـــف المسالك والشعــب والذين يتــرددون عليها كل يـــوم وكل لحظــة .. من أجل اقتناء " بورط فوليو" ، أو" جذاذة تحضير" أو "قلم حبر جــاف" أو نسخ وثائــق أو دروس أو طبـــع عروض أو بحــوث ... المثير للإنتبـــاه في هذه المكتبــة هو رحابة صــدر صاحبهـــا "محفــوظ" وسعــة خاطــره وحسن استقباله وتواصلــه مع الزبنـــاء، وهي خصال امتدت إلى مساعديــه .. إلى درجــة أن المكتبة أضحت مجــالا مفتوحا لجميع الأساتـــذة المتدربيــن الذين يلجـــون اليها بكل حريــة وأريحيـــة ويطبعــون بأنفسهـــــم ما يرغبــون فيه من وثائـــق .. ولعل كل أستاذ متدرب من مسلك الثانوي التأهيلي شعبة التاريخ والجغرافيا مـر من مركز مازاغـــان .. سيتذكر جيــدا هذه المكتبــة .. وسيتذكـر من خلالهـــا تـــلالا وهضابـــا من وثائــق التخطيـــط والتدبيــــر التي كانــت تتساقط كل يـــوم كزخــات المطــر .. وسيتذكر كل متــدرب .. أن حكاية "البورط فوليــو" مـرت من مكتبة "محفوظ" .. مكتبة لا كالمكتبات ...




موهبة القسم رقم 7..
أحيانا قد تنحني الكلمات، وقــد تعجز العبــارات، بل وقد يستسلم القلـم بكل ما له من جرأة أمــام سحـر الكلمـات وروعـة الإبــداع .. في إحدى يوميات الوضعيات المهنية بالثانوية الإعدادية الإمام مسلم بمولاي عبدالله بالجديدة .. وضعت الأستاذة "خديجة" رهن إشارة الأستاذ "سليم" عملا إبداعيا تسلمته من تلميذ يدرس بالسنة الثالتة إعدادي كان يجلس أمامها بالصف الخلفي .. وما أن اطلع على هذا العمل الإبداعي، حتى نال منه القبول والإعجاب وقرر حينها أن يخصص له مقالا على صفحته بالفيس بوك .. تشجيعا وتنويها له أولا ، ثانيا لإثـــارة إنتباه المهتمين بالحقل التربوي، أن كل قسم تتعايش فيه جملة من المواهب التي تحتاج إلى من يكتشفها ويخرجها من عوالم الصمت والإهمال .. ولأهمية ما كتبه هذا التلميذ ، فقد ارتأى "سليم" أن يخصص له حيزا ضمن هذه اليوميــــات .. هذا التلميذ المبدع إسمـــه " اليــاس القادري" .. وعمله الإبداعي كان عبارة عن مسرحية بعنوان " محاكمـة مجـرم الطبيعــة " ..وقد ورد في فصلها الأول ما يلي :

( الفصل الأول : في الطبيعــة )
" تدخل شخصيــة الهواء الى الخشبة ، وهي تسعـل "كح" .."كح" ، ويبدو وكأنه يعاني من ضيق في التنفـــس، يتعالى صوت من خلــف الستــارة .
-الماء : وامنجداه ... وامنجداه ... وامنجداه ....
-الهواء : ما بالك تستغيث وتتحســر ؟
-الماء : ألا ترى ما اصابنـي؟ قتلوني ؟ ... دمــروني ... خربني بنوالبشــر، كل نفاياتهم الصلبــة والسائلــة رموهــا في الجــداول والأنهـــار ، حتى العيــون والفرشة المائيــة في جوف الأرض لم تسلم منهــم .
-الهواء : بني الانســان .. صدق قوله عز وجل " وإذ قال ربك للملائكــة إني جاعل في الأرض خليفــة قالوا أتجعـل فيها من يفسد فيهـا " صدق الله العظيــم.. بني الانسان .. خنقونــي وأفســدوا تــوازني ، سممونـي ، فأحدثــوا ثقبـا في طبقـــة الأوزون ، رفعــوا درجــة حرارتي، فأصابونـي بالحمــى لغازاتهم السامــة، وحتى الأشجــار التي كانت تخلصني من هــذه الغــازات ،لم تعـد قادرة على مواجهتهــا .." .
-الشجـرة : تدخل إلى الحلبة وتقــول : سمعت أحــد يذكرني، أنــا ما قصــرت في واجبي ، لكــن الإنســان اقتلــع سيقـانـي واقتلــع جــدوري، وصنــع مني الأخشــاب والأوراق، لــم يكلــف نفســه بحمايتـي ، سممــوا التربــة التي أنمـوا عليهــا، والمــاء الذي يجــري في عروقــي. ...
-المــاء :ما العمل ؟ ألا يوجـد من يوقــف هذا الإنسان عند حــده ؟ أتركوني أغرقــه في فيضاناتي. ..
-الهــواء : أنا من رأيــي أن نرفــع دعــوة ضـده في محكمة الضميــر البشــري .
-الشجـــرة : سأحــاول جمع الشهـــود من حيوانــات ، وباقـي مكونــات الطبيعــة ، حتـى تكون قضيتنا قويــة ، وحججنــا دامغــة .

الفصل الثاني من هذا العمل كان تحت عنوان "في المحكمة" ، وعموما فلم يتردد الأستاذ "سليم" في نشر هذه المحاولة الإبداعية على صفحته الخاصة على "الفيسبوك" تشجيعا لهذا الفتى المبـــدع ، ولأن "سليم" يتوقــف عند كل الوقائع ويدقق في كل تفاصيلها وجزئياتهـا، فقــد تبيـن له وبالواضح، أن كل قسم يزخـر بالمواهـب، والأستاذ المبدع ذو النظرة الثاقبـة، هــو الذي يكتشــف المواهب التي تتواجد داخل قسمـه من أجل تشجيعهـا واعطائهــا فرصـة لتعبـر عن نفسهــا، فكم من تلميذ يبــدو متعثــرا، لكن هذا التعثــر قد يخفـي "موهبة" ما، يمكن أن يستثمرها الأستـــاذ في اخــراج التلميذ من عوالم التعثــر، لأن التلميــذ مهما تم الاعتــراف له بموهبته وقدراتــه الداخليــة، كلمـا أحس أنه شخص مرغوب فيـه داخل جماعة القســم، ويمكن أن يشكل ذلك دافعــا للاجتهــاد والتميـــز ، والتلميذ كلما أحب المادة وكلما أحب الأستاذ، كلما كان فاعلا وايجابيــا، والعكس صحيح، بمعنى أن التلميذ كلما أحــس أن لا أحد يصغي له ويقــدر مـا لذيه من طاقات ابداعيــة، كلمــا تحول الى تلميــذ متعثر وإلى مصدر شغب وقلق داخل جماعة الفصـل، أو إلى شخص منطوي ومنـــزوي...
إلى جانب هذه الموهبـة ، أثــار الأستاذ "سليم" خلال مجريات الوضعيات المهنية، وجــــود تلميذ لا يحمل من التلميذ ســوى الإسم ، يحمل إسم "لمستـــف"، يجلــس دوما بالمقعد الخلفي بالصف الأول المقابل للمكتـب، كان يبدو أكبر سنا من أقرانــه، يخرج كما دخل بخفي حنيــن، ولم يسبـق أن شارك أو أدلى بجملة مفيـدة، في إحــدى الحصص المسائية وبينما كان "سليمان" بصدد تقديم درس، خرج القسم عن سيطرتــه، حينهــا كان المسمى" لمستــف" في أحلى أيامـه يتكلم كما شاء وغير مكترت لا بالأستاذ المتدرب الذي يقدم الدرس ولا بأستاذه وباقي المتدربين الذين يجلسون في الخلــف، كان يبدو جليـا أن "لمستف" ربمـا قد إستهلك مخدر ما قبل أن يلج إلى القسم، يتذكــر "سليم" ما قاله حينها الأستاذ "رضوان" مخاطبا بقية أعضاء المجموعة والأستاذ"سليمان" يلقي الدرس : "لقد فقد السيطرة على القسم ، فكروا معه في حـل للخروج من هذا المأزق " ، لم يدع "سليم" ملاحظة الأستاذ المرشد تمر مرور الكرام، لأنه أثار قضية على جانب كبير من الأهمية، وهي تسائل المدرس في الصميم، كيف له أن يضبط إيقاع الفصل حتى لا يخرج التلاميذ عن سيطرته ويتحول القسم إلى ملاذ للشغب والفوضى، ثم ما هي السبل الديدكتيكية والتربوية التي يمكن أن يسخرها الأستاذ في حالة إذا ما فقد السيطرة ودخل القسم في دوامة اللانظــام، كان يدرك "سليم" حينها أن الجواب أو الإجابة تبقى مستعصية بالنسبة لأستاذ لازال في طور التدريب، كما كان يدرك أن الممارسة الفصلية هي التي تعلم الأستاذ مهارة التعامل مع كل الوضعيات التي يمكن أن يصادفها داخل فضاء القسم، وبالعودة الى التلميذ "لمستف" ، وفي إحدى الحصص ، ولما كان "سليم" يتهيأ من أجل تقديم الدرس، أثار انتباهه "المستف" وهو بصدد تنــاول شيئا ما، صرامته جعلته يتوجه نحوه ويطلب منه جمع أغراضه، وأمسكه بلطف من عنقه وصاحبه إلى أن أخرجه من القسم، عقبها مباشرة أغلق الباب بقــــــوة وشرع في تقديم درسه، ومن يومهـــا لم يعـد يرى "لمستف" داخل القسم، ولعله أســـدى خدمة لزملائه بعد أن أبعـد عنهم شبح المعني بالأمر في وقــت لاحت في الأفق معالم نهاية السنة الدراسيــة...



رهــــان الكليــــة..
إلتحاق سليم بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين من أجل الإنخراط في موسم تكويني .. فرض عليه أن يبتعد عن الجامعة، وبالتالي حال ذلك دون تمكنه من متابعة المحاضرات أمام كثافة التكوين وكذا لبعد المركز عن الكلية ..كما أن سحبه لأصل شهادة الباكالوريا بشكل مؤقت وإيداعها بالمركز رفقة وثائق ملف التسجيل .. جعل سليم أمام وضعية مشكلة صعبة ومعقدة .. لأن عدم إرجاع الشهادة في وقتها المحدد كان معناه التشطيب عليه من اللوائح بشكل نهائي .. وهذه النقطة طالما أزعجت سليم لأيــام، لأنه لم يكن يقبل بأي شكل من الأشكال الإنسحاب والتخلي عن مساره الجامعي، لأن ذلك كان يعني بالنسبة إليه التراجع عن هــدف سطره قبل سنة كان يقتضي حصوله على شهادة إجـازة ثانية في القانون، وذلك حتى يعطي قيمة ومعنى لشهادة الإجازة في التاريخ التي حصل عليها نهاية القرن الماضي .. الإجازة في الحقوق كانت تعني بالنسبة لسليم تحيين معلوماته من جهة ، والإنفتاح على حقل الدراسات القانونية موازاة مع تكوينه في حقل التاريخ .. وكذا الرهان على شهادتي إجازة من أجل تدعيم حظوظه في الحصول على شهادة ماستر سواء في التاريخ أو في إحدى التخصصات القانونية ..لذلك فقد كان سليم مصرا ألا تضيع منه فرصة الحصول على إجازة ثانية في القانون كما ضاعت منه فرصة الحصول على شهادة ماستر في التاريخ (المغرب والعوالم الغربية) غضون سنة 2007 من كلية الآداب بنمسيك بالدارالبيضاء ...

وفي هذا الإطار فقد كــان يمني النفس في أن يتابع التكوين وفي نفس الوقت مواكبة المحاضرات ولو عن بعد ... وفي سياق كثافة الدروس النظرية بالمركز ، وأمام إقتراب موعد إختبارات الدورة الخريفية بالكلية ، كان يتعين عليه إرجاع أصل شهادة الباكلوريا إلى الكلية حتى لا يتم التشطيب عليه من اللوائح .. بحكم تجربته المهنية السابقة، فقد كان يضع نصب أعينه، العراقيل التي قد تضعها الإدارة أمام الموظفين الراغبين في الدراسة .. وقد كان يعي كل الوعي أن وضعه بالمركز كأستاذ متدرب، يجعل من هامش التصرف والمناورة محدودا أمامـه ..كما أنه لم يكن وقتها يعلم فيما إذا كانت الإدارة تتعامل بليونة مع موضوع متابعة المتدربين للدراسة الجامعية أم لا ... عموما وأيام قليلة عن الإمتحانات الخريفية، لم يجد سليم بــدا من المناورة بحثا عن حل كان يبدو صعبا إلى حد ما ..

إتجــه ذات صباح إلى الحراسة العامة من أجل طلب الحصول على أصل شهادة الباكالوريا .. كان يتوقع كل الإحتمالات بما فيه ذلك عدم السماح له بسحب الشهادة .. ربط الإتصال المباشر بالحارس العام .. وأبدى له رغبته الكاملة في سحب الشهادة، بعدما شرح له رغبتـه في إيداعها بالكلية للحيلولة دون التشطيب عليه من اللوائــح ..فكانت النتيجة إيجابية، تيسرت له الأمور وسلمه الحارس العام أصل الشهادة .. وخــرج من المكتب فرحا مزهــوا وكأنه حقق نصرا كاسحــا .. وعقبها بادر إلى الشؤون الطلابية بالكلية وأودع الشهادة .. وانتهى كابوس مزعـج طالما أربك حساباته لأيــام طوال ..










مناســك الخـــــروج..
بعد اجتياز امتحان التخرج ومناقشة البحوث الإجرائيـــة، لم يتبــق إلا التوقيع على محضر الخروج الذي كان نقطة النهاية في حكاية موسم استثنائي شاق .. غادر سليم مدينة الزهور صباحا خلال اليوم المحدد (21/07/2014) مستقلا سيارة أجرة من الحجم الكبير في إتجاه المحطة الطرقية "أولاد زيــان" بالدارالبيضاء ومنها إستقل حافلة للمسافرين في إتجاه مدينة الجديدة من أجل التوقيع على محضر الخروج .. في الطريق مر كما تعود على ذلك عبر الطريق السيار البيضاء الجديدة مرورا بمحاداة "حد السوالم" و"البير الجديد" و"ثنين اشتوكة" و"أزمور" و"منتجع مازاغان" .. على طول هذا المسار عادت به الذاكرة إلى الوراء واستحضر لقطات متناثرة في موسم إمتطى على صهوة الرحيل .. تذكر أسبوع الإستقبال، حكاية الوضعيات المهنية، رتابة الحياة في الداخلية، ناعورة الدروس النظرية في قلب القاعة الزرقاء، يوميات الوضعيات المهنية بالثانوية الإعدادية الإمام مسلم بمولاي عبدالله...

تذكر أيضا حي السعادة الذي كان يسعى إليه كل يوم رفقة "سليمان'' بحثا عن وجبة غداء أوعشــاء، وبعض الصور التي التقطت بالحي البرتغالي وشاطئ الجديدة أو على مشارف ساحل مولاي عبدالله، استحضر الغرفة رقم "10" حيث يتقاطع التواضع والرتابة والآهات، عبر كل هذه المحطات العابرة .. استحضر يوميات الأستاذ "رامي" وكيف تحول إلى " السلطان سليمان" و"المتيم " الذي اكتسح بعفويته الإجتماعيات و"الإيس في تي" والرياضيات وحتى الأدب العربي ... تذكر أيضا حكاية "المتيم 2" وصورة"الموناليزا" التي كادت أن تشعل فتيل المواجهة بينــه وبين " سليمان"... وصول الحافلة إلى المحطة الطرقية بالجديدة حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا .. أوقف "نوستالجيا " الأستاذ "سليم" الذي ما إن نزل من الحافلة حتى صادف الأستاذ "هاشم" إبن الدارالبيضاء الذي كان بدوره مستقلا نفس الحافلة .. وغادرا معا مشيا على الأقدام يتبادلان أطراف الحديث حول "إمتحان التخرج" و"التعييـن" وأمور أخرى مرتبطة بظروف التكوين بصفة عامة .. إلى أن وصلا إلى المركز.. عرجا أول الأمر على "مكتبة محفوظ" حيث اشتريا نسختين من محضر الخروج .. لم يرغب محفوظ في استخلاص ثمن النسختين .. فقدما له الشكر وولجا إلى المركز من أجل مباشرة الإجراءات الإدارية المتعلقة بتوقيــع المحضر على أساس إنهاء المهمة في أسرع وقت ممكن، ثم العودة مجددا إلى الدارالبيضــاء قبــــل آذان المغـــــــرب ..

وجهتهما الأولى كانت " المدرج" .. ولجا إليه من الباب الخلفي .. كان غاصا بالمتدربين من مختلف المسالك والشعب إلى درجـة لا تعثر فيها على مقعد للجلوس، تبين له أن لائحــة تضمن بها أسماء المتدربين في انتظار دورهم من أجل مباشرة الإجراءات الإدارية الضرورية .. بادر و"هاشم" وكذا"صفوان " إلى تسجيل أسمائهم بإحدى اللوائــح في إنتظار دور قد يأتي وقد لا يأتي ..كانت هناك أكثر من لائحـة وكل لائحة تتضمن عشرات الأسمـاء .. مما كان يعني أن ذلك اليوم الرمضاني لن يكون سهـلا .. كانت الأصوات تتعالى بين أركان جنبات وأركان المدرج .. وبين الفينة والأخرى كانت تتم المنــاداة على بعض الأسماء من اللائحة .. ويسلمون ككباش العيد إلى العون "فتحي" الذين يقودهم إلى الإدارة بالطابق العلوي، حيث يسلم محاضرهم إلى سيدة صارمة تجاوزت عقدها السادس ترتدي وزرة بيضـــاء، كانت تفرض حراسة مشددة على البــاب ولا تسمح بمرور إلا من تتوفر على محضره .. كان يبــدو منظرا مخجلا يوحي بالناظر منذ الوهلة الأولى أنــه في باب سبتة أو مليلية المحتلتين .. أو داخل أسوار مؤسسة سجنية ..في الباب السفلي كانت تنتصب سيدتان أخــريان كالصنم ولا تسمحان بأي شكل من الأشكال بالمـرور الى الطابق العلوي .. هؤلاء النسوة كن من عاملات النظافة .. وقد تركن مؤقتا "السطول" ومعدات التنظيف" بعد أن أسندت إليهن مهمة خاصة في يوم خــاص .. كن يباشرن المهمة المسنودة اليهن بكل صرامة .. ولم يكن يترددن في فرض أسلوب التسلط و"استعراض العضلات " ... بين المدرج وباب الإدارة بالطابق العلوي، كان العــون "فتحي" بجسمه النحيف، يتنقل ذهابا وإيــابا .. في مهمة لا كالمهمات ..

غادر "سليم" المدرج رفقة "هاشم" و"صفوان " بعدما تبين أن دورهم لا يزال بعيدا.. واتجهوا صوب قاعة المطالعة.. وجلسوا عند مدخلها زهاء الساعة من الزمن .. بلغ وقتها إلى علم "سليم" عن طريق بعــض الزملاء ، أن بعض الأصوات رفضت التوقيع على محضر الخروج شريطة الحصول على "منحة يوليوز" لكن الإدارة سرعان ما احتوت الأصوات المعارضة تفاديا لاتساع رقعة العصيان وسط الصفــوف .. وقد تطلب ذلك من المدير إلقاء كلمة بالمــدرج أمام جميع المتدربين .. مـرر حسب ما وصله من أصداء، خطابات تتقاطع فيها سبل الصرامة والتهديد الناعـم .. ونجح من خلالها ذات المسؤول في تطويــق الأزمة وكبح جماح العصيان في المهد .. بعــد أن أكد للحاضرين أنهم سيتسلمون منح الشهر الجاري بداية شهـر غشـت ... في نفس السياق، أبلغ الأستاذ "سعدان " المجموعة بمعلومات غير مؤكدة، تفيد أن المتدربين بمركز مكناس تسلموا منح يوليوز نقدا، وأن متدربي مركز "طنجـة " بصدد مقاطعة عملية توقيع محاضر الخروج، في محاولة منهم إرغام الإدارة على تسليمهم مستحقات شهر يوليوز ..

وعقبها عاد "سليم" ومن معه إلى المدرج كان لا يزال غاصا بالعشرات من المتدربين كانت العشوائية سيدة الموقف ، وهذه الصورة المخجلة عادت به إلى أسبوع الإستقبال غضون شهر دجنبر من سنة013 ، حيث كان الإرتجال العنوان البارز .. كان الأمل أن يتم الإعداد لعملية الخروج بشكل مسبق يجعلها تمر في أجواء لائقة وبشكل إنسيابي وسلس، لكن واقع الحال خرج عن المتوقع وانحرف الأمل عن القاعدة وأصبح موعد الخروج أشبه ما يكون بسوق عكاظ أو سوق من الأسواق الأسبوعية، حيث الكل يغني على ليلاه والكل يبحث عن أية طريقة ملتوية من أجل مباشرة الإجراءات والمغادرة في غياب تام للإدارة .. وبقليل من الحكمة والتبصــر، كان من الممكن أن تمر هذه العملية بكل أريحية وانسيابيـــة باعتبارها آخر محطة وآخر ذكرى .. فمثلا كان بالإمكان تقسيم الأفواج حسب المسالك ( تأهيلي / إعدادي / ابتدائي) وتخصيص مكتب أو شباك لكل مسلك، بــدل جميع كل الأفواج في مـدرج واحد بطريقة غير مبررة وغير مقبولة ..وماكان يثيــر الإستغــراب هو أن كل متدرب وحتى يتسنى له إستكمال "مناسك الخروج " من المركز، كان عليــه أن يتنقل بين أكثر من مكتب، حيث يتعيــن عليه بعد أن يحظى بشرف الخروج من المدرج، التوجه إلى الطابق العلوي حيث تؤشر له المكلفة بالخزانة على المحضر، ثم يغادر إلى المصلحة الاقتصادية التي تبعد بخطوات، حيث يؤشر على المحضر كل من المقتصد والحارس العام للداخلية، وعقبها يعود المتدرب أدراجه إلى الإدارة، لتسليم المحضر إلى إحدى الموظفات ويتسلم بالمقابل شهادتي الباكلوريا والإجــازة ويغادر إلى حال سبيله .. والقيام بهذه العمليات جميعها قد لا يتطلب خمس دقائــق ..

لكن وفي ظل حالة الإرتباك والعشوائية، فقد تطلب ذلك ساعات طوال .. وبعد طول انتظار داخل المدرج رفقة كل من "سليمان" و"هاشم" و"صفوان''، نجح"هاشم" من تجاوز اللوائح الطويلة، واستطاع أن يلج إلى الطابق العلوي وبالتالي التأشير على المحضر من طرف الموظفة المكلفة بالخزانة، بعد أن أوهم السيدة /الحارسة المرابطة أمام الباب أنه باشر الإجراءات بالمدرج ولم يتبق له سوى خاتم الخزانة، ومهما يكن من أمر، فإن تلك الطريقة الملتوية، مكنته من إتمــام بقية المناسك خلال نفس اليوم، ودون أن يضطر إلى الرجوع خلال اليوم الموالي ، لكن "سليم" شأنه شأن مجموعة من الزملاء ومن ضمنهم "سليمان" لم يتمكنوا من إنهاء العملية، وكان عليهم الرجوع إضطراريا خلال اليوم الموالي ، وقرر العودة الى مدينة الزهور بخفي حنين .. على أساس أن يعاود الكرة من جديد صباح اليوم الموالي ... في تلك الأثناء كان مجموعة من المتدربين الذين أنهوا المناسك، قد جمعوا أمتعتهم وغادروا إلى ديارهــم بدون رجعـة .. أما الذين لم يفلحوا في ذلك فقد كان ينتظرهم قضاء آخر يوم في مازاغان خلال اليوم الموالي ...







آخـر يــوم في مــازاغــان..
خلال اليوم الموالي ، غادر الأستاذ "سليم" مدينة الزهور صباحا متن طاكسي كبير في اتجاه المحطة الطرقية أولاد زيان، ومنها استقل حافلة للمسافرين في اتجاه مدينة الجديدة، في ذاك اليوم الرمضاني وأثناء الرحلـة عبر الطريق السيار الدارالبيضاء الجديدة، إنتــابتــه نسائــم نوستالجية، جعلته يرتمي بكل أريحية في حضن الذكريات الراحلة .. عادت به الذاكرة الحية إلى يوميات موسم تكويني إستثنائي بكل المقاييس أوشك على الرحيل بدون رجعــة .. موسم لم يكن إستثنائيا فحسب، بل كان بالنسبة إليه موسما مفصليا في مساره المهنـي وحتى الشخصي، موسم كان كافيــا بأن يجهـــــز على آخر فلول مهنة الآهــات حيث لا صوت يعلو على صوت الأصفاد والمحاضر والتقارير والتعليمات والمهمــات التي لا تنتهي .. وأن يؤسس في ذاتــه المكسرة الدعامات الأولى للمهنة الجديـدة .. تساءل وقتها بعيون شاردة والحافلة تمر عبر "حدالسوالم" .. كيف حدث ما حدث؟ كيف تم هذا الإنتقال السلس من الأصفاد إلى الطباشير ومن المحاضر إلى الجذاذات ومن "الكوميسارية" إلى" القسم"؟ وأية طاقة أو قوة دافعـــة جعلته يؤمن بإمكانية التغيير الذي كــان يبدو أقرب إلى المحال ؟

لما مرت الحافلة على مستوى "البير الجديد" كان "سليم" ينبش في حفريات الماضي بحثــا عن جواب مناسب لسؤال طائــش، وكلما حاول أن يمسك بخيط الجـواب، إلا وارتمى بسخـاء في حضن ســؤال آخــر.. وكل سؤال عميـق كان يقوده عنـــوة إلى سؤال أعمــق ...لكن وبالمــرور عبر منطقة "اثنين شتوكـة " ، أبى "سليم" إلا أن يتخلــص من لوعة الأسئلـة المعلنـة وحرقة الأجوبــة الخفيــة، عادت به نفس الذاكرة إلى يوميات هذا الموسم الإستثنائي، توقــف عند شريط اليوميات صورة صورة .. لكنه توقــف عند كثير من المحطات والأحداث التي أبـى الا أن يستحضرها في ذاك اليوم الرمضاني الذي لم يكن سوى "آخر يوم في مازغــان" ...

أولها : حكاية يوم أو أسبــوع الاستقبال الذي طغى عليه الإرتجــال والعشوائيـة.
ثانيها: لم يتم تعريف المتدربين الجدد كما كان مبرمجا على مرافق المركـز ، ولعل ذلك كان له ما يبــرره على اعتبــار أن المركز ليس به مرافق تستحق الزيارة والتعريــف .
ثالثهـا : أن الحالة الداخلية للمركز كانت مزريــة للغاية وهي صورة كانت تبـدو أقــرب إلى الضيعة من المركز .
رابعهــا : أن المركز وطيلة موسم كامل، كان يشــرف عليه مدير "بالنيابة " وهذا الوضـــع إنعكس بشكل أو بآخر على السير العام للمركز، لا على مستوى تحسين البنيات والمرافق ولا على مستوى تدبير مشكل الوضعيات المهنيــة، وقد تعمقت الوضعيــة في ظل التنافس حول من سيظفر بمنصب المدير.
خامسها : تعيين مدير جديد للمركــز والذي لم يكــن سـوى أستاذ مكون من الطاقم التكويني لشعبة التاريخ والجغرافيـا وكان ذلك مفخرة للشعبــة، وقد بدأت وقتها تظهـر بعض ملامح التغيير داخل فضاء المركز، حيث تمت إزالة الحشائــش وتبليط بعض الممرات والجدران، وبما أن هذا الإنتقال قد تم في نهاية الموسم ، فقـد تعذر تقييـم عمل الإدارة الجديدة .
سادسهــا : أن المركز وغيره من مراكز التكوين، يطغى عليـه طابع "العسكرة " لا على مستوى الإدارة ولا على مستوى أطقم التكوين، إلى درجة أن العلاقة بين "الأستاذ المكون" و"الأستاذ المتدرب" كانت في "بعض الحالات" أقرب من علاقة "الأستاذ" ب"التلميذ" بكل ما حملته هذه الصورة أو هذه العلاقة غير المقبولة من تسلط واستبــداد "ناعم" وتهديد "خفي" تارة و"معلن" تارة أخــرى للمتدرب بشيء إسمه "النقطة" و"النجاح".
سابعها أن برنامج التكوين، كان غارقـا في الكــم، في وقــت كــان من المفروض فيه أن يتم التركيز على "الكيــف" والبحث عن طرائق تكوين عصرية تساهم في تكوين وتهيئـة أستاذ متفتح متمكن من كل طرائق التدريس الحديثـة والعلوم ذات الصلة من علوم قانونية وإجتماعية ونفسية وتنمية ذاتية ولغات وغيرهـا .
ثامنهــا : أن تجربة الممارسة الفصلية في إطار الوضعيات المهنية، أبانت أن "هوة" قد تطول وقد تقصـر بين "التكوين" و"واقع الممارسة الفصلية"، وهذا طرح ويطـرح سؤال علاقة "النظري" ب"العملي" أو"التطبيقي"، وكذا إلى أي حد يستجيب "الواقع" لما يتلقاه المتدرب من دروس نظرية داخل المراكــز؟ وإلى أي حد يمكن أن تتحقق نجاعة "تكوين نظري" في ظل "واقع عملي" مليء بالمشاكل والمطبات المتعـددة الأوجــه ؟

ما أن مرت الحافلة من جدار وادي أم الربيع على مشارع مدينة أزمور، حتى توقف "سليم" عنـد "مشكلة الوضعيات المهنية" التي كادت أن تجهز على هذا الموسم الإستثنائي كما لو كانت رصاصة الرحمة، لولا إتفاقات "آخر لحظة " التي حيكت بحي مولاي عبدالله فيما يتعلق بشعبة التاريخ والجغرافيا بمسلك الثانوي التأهيلي، تسـاءل "سليم" مبكــرا، كيف تعجــز "وزارة"عن ضبط عمـل مصالحها الخارجيـة ؟ ولمــاذا لم يتــم الإستجابة لمطالــب" الأساتذة المرشدين" باعتبــارهم قنـــاة لا محيدة عنها في منظومـة التكويــن ؟ بين الوزارة والأكاديمية والنيابة والمراكز الجهوية ومؤسسات التطبيق والنقابات، ضاعت الحقيقـــة لكن حضرت كل مظاهر وصــور"اللخبطة" و"الإرتجــال"و"العشوائيــة" ، في مضمار لا يعلو فيه إلا صــوت "الأنانية المفرطة "... وفي ظل هذه "الأزمة المفتعلة" كان "الأستاذ المتدرب" هو"الضحية" أو على الأقل" الحلقة الأضعـــف" في ذاك الصراع الخفي تارة والمعلن تارة أخرى، والوزارة الوصية كان بالإمكان أن تعمل على حل هذه الأزمة بسهولة من خلال الإستجابة للمطالب المادية للأساتذة المرشدين، وهي في مجملها مطالب مشروعة من شأنها أن تحفزهم وتدفعهم إلى الإنخراط في هذا المسار التكويني بكل حماس ومسؤولية .

وصلت الحافلة إلى محطة الجديدة، غادر"سليم" مكانه الدافئ تاركا وراء ظهــره عشرات من التساؤلات التي تبحث عن صدى جـواب، واستقل سيارة طاكسي أجرة صغيرة قادتـه إلى المركز ، كان يــدرك وقتها أنها ستكون آخر رحلة له نحو المركز في هذا الموسم وربما لن تتكرر الرحلة مرة أخــرى، ما أن وصل إلى بوابة المركـز ، ترجل نحـو الغرفة رقم 10 حيث ربــط الإتصال المباشر بالسلطان "سليمان" الذي كان على أهبـــة وإستعداد من أجل الرحيل بعد أن أدى مناسك الخروج قبل ساعة من الزمــن، غادر "سليم" الغرفة على عجل رفقة "سليمان" وتوجه نحو الإدارة حيث قام بما يلزم من مناسك الخروج وسحب شهادة الإجازة الخاصة بــه، ثم ترجلا معا إلى مكتب الحارس العام المكلف بالداخليـة وسلما مفتــاح الغرفـة، عقبهـــا قصدا الغرفة التــي كانت على إستعداد لمغادرتهما بدون رجعـة، ألقيـا نظرة أخيـــرة على تحت الأسرة والدولاب، قبــل أن يحملا العتاد ويغــادرا المكان تاركيـــن غرفة تئــن من شدة الفراق متمتمــة في صمت : من هنا .. من هذا المكان، مر سليم وسليمان .. من هذا المكان .. ولد السلطان والبورط فوليو والنافورة والأشجار الباسقة .. من داخل هذا المكان .. ولدت "يوميات أستاذ من درجة ضابط "... خروج "سليم" و"سليمان" من المركز ، كان إيــذانا رسميا بنهاية موسـم، وفي الأفــق كانت تلــوح حكاية أخــرى إسمهـا "التعييـــــــن" ...















مطبات التكويـــن..
إذا كان النجاح في كثير من مبارياة الولوج إلى الوظيفة العمومية، تنتهــي حكاياتها بمجرد تخطي المرشح لمطبة الاختبارات الكتابية والشفويــة، فإن مباراة الولوج إلى المراكز الجهويــة لمهن التربية والتكوين، تتميز بل وتنفــرد عن الكثير من المبارياة بكثرة مطباتهــا، فالنجاح النهائي في المباراة ما هو إلا نقطــة انطلاقة لمسار طويل ما أن تتخطى فيه مطبة حتى تستقبلك مطبة أخــرى، بعد إجتياز إمتحان التخرج في شقه "الوطني" لا زال "سليم " يستحضر حكاية مباراة إستثنائية بكل المقاييـــس تستحق لقب " أكبر مباراة " في القرن" أو على الأقل من أكثر المبارياة إثــارة وتشويقـا...

بـــدأت الحكاية بمسلسل الإثارة الذي لازم تاريخ المباراة، قبل أن يستقر الرأي على إجرائها غضون أواخـر شهر شتنبر من سنة 2013 بعدد مترشحين ومترشحات قارب الثمانيـن ألف مترشح ومترشحة، وهذا الرقم جعلها بحق "مباراة القــرن بإمتياز"، ومهما كانت التكلفة المادية واللوجستية لهذا الرقم "المرعب" ، فإن الإرادة السياسية فسحت مجال المباراة بدون إنتقــاء أولي في أول سابقـة ربمـا، فكـان ذلك بالنسبـة للآلاف من المترشحين خصوصا الذين لا يتوفرون على "ميزة"، فرصة سانحـة لاختبار حظوظهم، وإن كان الحــظ يبـدو من الناحية الواقعية " أقرب من المحال" بالنظر إلى الرقم"المهول" للمترشحين والمترشحات وكذا بالنسبة لعدد المناصب المطلوبة التي لن تتعــدى "ثمانية آلاف" مترشح ومترشحة، كما أن من بين حسنات ذاك الإجراء الاستثنائي، تمكينه لمجموعة من العاطلين الذين تقـدم بهــم الســـن من إختبار قدراتهم وربما آخر حظوظهـم في ولوج الوظيفة العموميـة، وقد كان طبعا الضابط "سليم" واحـدا من بين آلاف المترشحين والمترشحات، لم يكن له مشكل فيما يتعلق ب "الميزة" بعدما كانت في جعبته "إجازة" في التاريخ بميزة "مستحسن " ، لكن القدر ، ورغبته الجامحة في "التغيير" ساقاه إلى إجتياز هذه المباراة الاستثنائيـة جدا ، وبعد إنتهاء "الشق الكتابي" للمباراة، إنطلق مسلسل الشوق والإنتظــار بخصوص الإعلان عن النتائج عبر البوابـة الإلكترونية التي أعدتها الوزارة الوصية لهذا الغـرض، ولم يتوقف المسلسل بالإعلان عن نتائج الكتابي، بل استمر فيما يتعلق بنشر لوائح الشفوي وكذا الإعـــلان النهائي عن النتائج ...

الضابط "سليم" كان واحدا من بين "المحظوظين" الذين ابتسمت لهم المباراة في شقيها الكتابي والشفوي، لم تنته الحكاية بنشر لوائـــح الناجحين والناجحات على مختلف المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، بل سرعـــان ما لاحت في الأفق ملامح مطبات أخرى تنتظــر المتدربين والمتدربات الجدد، أيام قلائـل بعد إلتحاق "سليم" بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكويـــن بمازاغــان ، جعلتــه يدرك بما لا يدع مجالا للشك أن الحكايــة لم تنتــه بمجــرد النجــاح النهائـي في مباراة القرن، بـل كانت تنتظــره وغيره من المتدربيـــن جملة من المطبات في مضمار كان يتطلــب نفسا كبيــرا، فمن جهـــة، كان ينتظر كل متدرب أن يستوفــي "المجزوءات " أولا ، ثم تجاوز حاجز "البحث الإجرائي التدخلي" ثانيــا، عقــب ذلك يتعيــن عليــه إجتيـــاز مطبــة "الإمتحان العملي" بمؤسسات التطبيــق، قبــل أن ينخــرط الجميع في تخطــي المطبــة الكبــرى الخاصة بالإمتحان الوطني في شقــه النظــــري الذي يعـد النجاح فيه بمثابــة نجـاح رسمي في مباراة التوظيــف بقطـاع التعليــم ، بعد ذلك، يتعيـــن على المتدرب مواجهــة تيارات أخــرى لا تقل أهميـة منهــا " شبح التعيين" بكل ما يحملــه من هواجــس وآهــات، ثـــم إجتيـــاز الحاجز الأخيــر في هــذا المرطـــون الصعب، ويتعلــق الأمر هنا بإجتياز ما يسمى ب "الكفاءة التربوية " بالقسم بحضور مفتش المــادة وإثنين من الأساتذة المرشدين، لتنتهــي الحكايــة وتبـــدأ حكايات أخــرى مرتبطــة بطبيعــة وخصوصيـات المهنــة الجديـــدة...

لم يكن وقتها الأستاذ "سليم" ينظر بعين الرضا إلى هكذا مطبـات، في تكوين أصبحت "النقطة" فيه تشكل هاجس المتدربين والمتدربات أكثر من مراهنتهم على التكوين، مما فسح ويفسح الباب على مصراعيه لبروز بعض أشكــال "المحاباة " الخفية والمعلنة من أجل الحصول على "نقطة" قد تكون فاصلة في "النجاح" أولا ثم "التعيين" ثانيا، وهذا المعطى أعطى ويعطي سلطة رمزية قوية للمكون، كانت تصل في بعض الأحيان إلى حد "القمع الأنيق" و"الإستبداد الناعم أو المستنير" ، تساءل "سليم" و"سليمان" في ليالي السمر بالغرفة رقم 10 عن جدوى كل هذه المطبات، وعن مدى مشروعية النقط المحصل عليها خاصة في الإمتحان الوطني بشقيه العملي والنظري وكذا إلى أي حد تعكس تلك النقط مردود ومستوى الأستاذ (ة) المتدرب، بـل أكثر من ذلك فقد تقاطعت أفكارهما حول الجدوى من تلك المنظومة التقويمية ككل، مادام الهدف والأساس هو تمكين المتدرب من تكوين متيـن وناجـــع يجعله قادرا على الإنخراط في التدريس بكل سلاسة وأريحية، وبصفة عامة فقد تجــاوز الجميع المطبة الكبرى (إمتحان التخرج في شقه النظري) بكل ما أثارته من ملاحظات، في تلك اللحظات كان "هاجس التعيين" يسكن بال "سليم" كالكابوس المزعـــج ...














هواجــــس التعيــيـــــن..
بعد إمتحان التخرج وتقديم البحوث الإجرائية والتوقيع على محاضر الخروج، إنتهت حكاية موسم تكويني إستثنائي بكل المقاييس، وامتطى كل متدرب صهوة الرحيل في اتجاه الأهل والديار ... لكن حكايات الترقب والانتظار أبت إلا أن تحط الرحال عنوة على مسرح الأحـداث مؤجلة لحظات الراحة والاستجمام إلى أجل غير مسمى .. وتفرض نفسها كالهواجس على العقول والقلوب والأفكار والأحاسيس وحتى الآمال المرتقبة والأحــلام المتوقعــــة ...إنها حكاية " التعيينــات " التي تقاطعت فيها كل طــرق ومسالك التشويــق والترقب .. في يوميات "هتشكوكية " ساخنــة لا توازيها سوى حــرارة أغسطس، شبيهــة بمسلسل مكسيكـي مطول عنوانــه " إنتظــار" ...

بدأت "الحكايــة" غضون شهر يوليوز من صيف 2014 بعد أن تسلم كل "متدرب" قنه الســري من مركز التكويــن ، في أفــق الولوج إلى بوابة "الخدمة الوطنية الإلكترونيــة للحركة الإنتقاليـة" من أجل المصادقة على قائمـة الإختيـارات، لكن وبإدخال إسم المستعمل ورقم القن السري، تلقـى الجميع رسالة تفيد أن ثمة خطــأ إما في رقم المستعمل أو في القن الســري، كان يبــدو وقتها أن البوابة لم تكن محينـة من أجل الإستعمــال، ولم يكـن أمام المتدربيــن سوى الإنتظار ترقبــا لإنفتاح البوابـة من لحظة إلى أخـــرى .. قام الأستاذ "سليم "بدوره بعـــدة محاولات للولوج لكن دون جـــدوى، كان خلالها لا يبـــارح صفحة "الفيسبوك" سواء الخاصة بفوج الثانوي التأهيلي تخصص تاريخ وجغرافيا أو صفحة فوج الإجتماعيات إعــدادي، وبين الفينة والأخرى يلقي نظرة على الموقع الرسمي للوزارة الوصية، في محاولة منــه تتبــع مجريات الأحــداث، خصوصا فيما يتعلــق بموضوع"البوابة الإلكترونيـــة " ، وقد كانت كل الردود تشيــر إلى أن البوابة لم تفتح بعد، وكأنهــا بمثابة قلعة محصنة مستعصيــة على الغـــزاة ... وبعد مــرور أيام قلائــل - تحديــدا بعد زوال يوم 16 يوليوز- تلقى "سليم" إتصالا هاتفيــا مستعجلا من الأستاذ "سليمان" أخبـــره من خلاله أن البوابة قد تم فتحهـا ..، مباشرة بعد تلقيـــه لهذا الخبــر، هرول على عجل إلى أقــرب مقهى "أنترنت" تاركـا حاسوبه الصغيـر، وكأنه على موعـد غير متوقــع مع أحلامه البعيـدة .. أخذ مكانه في المقهى، وفتح الحاسوب وولج أول الأمر إلى محرك البحث "كوكل"، وعبره ولج إلى صفحة "البوابة الإلكترونية" حيث بادر إلى إدخال رقم بطاقته الوطنية ورقم قنــه السري، وإنفتحت أمامه البوابة بكل سلاســة وأريحية، وكأنها فتـــاة متيمة تنصاع أمام فارسهــا بعد طول ممانعة وتـردد ..

كان الأستاذ "سليم" كغيره من المتدربين أمـام ما مجموعه "82" نيابة تعليمية تغطي مجموع التراب الوطنـي، وكان عليـه ترتيب النيابــات حسب الأولويـة .. كانت الصورة تبدو كجمرة حارقة تحت رماد ساكن أو لغم دفين تحـت رمال حارقة مرشح للإنفجــار في كل لحظـة .. أن يملأ كل متدرب قائمة طويلة تخص "82" نيابـة، معنــاه أن عليـه أن يتوقـــع في تعيينـه كل الإختيــارات بدءا من الإختيار رقم 1 إلى الإختيار رقم 82 .. وهـذا شئ يصعب القبول بــه لا من حيث المنطلقات ولا من حيث الخواتم .. كان "سليم" وقتها محاصرا بنسائم الصمت من كل صوب وإتجــاه، وكان عليه أن يفكر جيدا ويدقق في الإختيارات قبل المصادقة النهائيـة .. معتقــدا أن العملية ككل تبقــى محاطة بهامش كبيــر من النزاهــة والمصداقيــة ..ولم يكن أمامه وقتهـا من خيــار سوى القبول بأنها كذلك أو ستكــون كذلك .. هاجسـه الوحيد والأوحد كان، أن يتم تعيينــه في نيابة المحمدية أو نيابة بنسليمان أو على الأقل في إحــدى نيابات مقاطعات الدارالبيضاء الكبــرى، بل وقد إمتـدت مساحة إختياراتــه حتى إلى نيابة الصخيرات تمارة ونيابة الرباط ونيابة ســلا ، وما تبقــى من إختيارات كان من أجل إستكمال قائمـة الإختيــارات ..ومع ذلك فقــد حرص على إعطاء الأولويــة للنيابــات القريبـة من منطقة الدارالبيضــاء الكبرى..، وعقب الإنتهــاء من العملية، صادق على الإختيــــارات بشكل نهائـي وغادر مقهى "االإنترنت" بخطــوات متتاقلة وكأنه خارج للتــو من إمتحــان عسيــر ..

في الطريق إلى البيــت، ركــب على صهـــوة الزمن العابـر، وعــادت به الذاكرة إلى خـريــف سنــة 2001 بقاعة العروض " السينما" بأكاديمية الشرطــة بالقنيطــرة وهو يترقــب مكان تعيينــه إلى جانب مجموعـة من الشرطييــن المتخرجـين .. لم تكــن هناك لا "بوابــــة " إلكترونيــة ولا تسليم وثائــق تعييـــن ... كل شئ كان يتم في إطار من النظــام البعيد كل البعــد عن الإرتجال والعشوائيـــة والإنتظار .. كانت "الدارالبيضاء " من نصيبــه ، وذاك التعييـــن، ترتبت عليــه أشياء .. زواج .. أبناء .. جامعة .. بيت إستقـــرار .. وحزمة مشاعر وأحاسيس كاسحة ألفــت نسائم مدينة ارتبط إسمها بالزهــور .. لذلك، فموضوع التعييــن لم يكن شيئــا عاديا أو مجــرد إجراء شكلي أو تعبئــة وثائــق تعييـن، بــل كان يشكل "هاجســا" كبيــرا بالنسبـة للأستاذ " سليــم " بعد "13" سنــة من الإشتغال في سلك الشرطــة بقلب الدارالبيضاء والإستقــرار بمدينة الزهــور .. لذلك فقــد كان يمني النفـــس أن يعين بالمحمدية أو بنسليمان أو الدارالبيضــــاء، حتى تكــون هناك إستمــرارية في الحيــاة وعبــورا سلســا وأريحيا من وظيفــة إلى وظيفــة أخــرى .. كان يأمل ألا يرمـى به بعيــدا ..حتى لا ينكسر لا ماديا ولا معنويـــا .. لذلك فقــد عــزز ملف التعييــن بالوثائــق الضرورية من عقد زواج وشواهد مدرسية وعقود الإزديــاد خاصة بالأبنــاء بل وحتى ما يثبث أنه مـوظــف سابــق .. مــرة أخــرى كان على الأستاذ "سليم" أن يفتــرض أن مثل هكــذا وثائــق، من شأنــها أن تقوي حظوطـه في التعييــن وأن تتم الإستجابـة لإختياراته العشرة الأولــى ..

كان يحدوه أمل كبير في أن يعين في ما كــان يسميـه ب"المجال الحيوي" الممتــد من الدارالبيضاء إلى المحمدية وبنسليمان إلى الرباط سلا مرورا بالصخيرات تمـــارة، لأن كل هذه المجالات تبقى قريبــــة من "المحمدية " والتنقل منها وإليها يبقــى مرنا وسلســا .. كان في أقل توقعاتــه، يتمنى أن يعين بمدينة سلا أو القنيطــرة .. ولم يكــن قط يتوقــع أن يعيــن أو يرمى بــه خارج محــور "القنيطرة الدارالبيضاء" بعد أن قضى أكثر من نصف عمــره بين محــور تمــارة والدارالبيضــاء .. كان يراهـن على صفة "متـــــزوج " وصفة '' موظف سابــق" ، وكان يأمل من باب "النزاهــة " والمصداقية " و"المنطق" أن تتـــم مراعــاة الصفتيـن المذكورتين من طـرف "مهندسـي" التعييـــن ... وبما أن الحكاية عنوانها "انتظــار" .. فقد كان الانتظــار سيد الموقــف، اذ سرعان ما خالفت الوزارة الموعــد كما خالفت مواعيد سابقة أخــرى، ولم تعلــن عن نتائج التعيينات خلال الموعـد المحدد - الثاني من شهر غشت – فما كان على جميع المتدربيـــن إلا أن يرضخوا للأمر الواقع والبقاء جنبــا إلى جنب أمام شاشـة الحاسوب ترقبــا لأي خبـر قد يأتي وقد لا يأتي ...في عز الإنتظار وفي عنفوان الترقـب، كان موضوع "التعيين" يتعقب "سليم" في حركاته وسكناته ..في حله وترحاله .. وكأنه حـب جارف يكاد يجهـز على دقــات القلب وخفقــات الفــؤاد ... أو نسيم دافئ يزحـف بأريحيـة نحـو القلوب العطشى في عـز موجات الحرارة الكاسحة ..فيعطيها الأمل في العيش والإستمرار رغم صعوبات المطبات ... كان حينها لا يبارح الشبكة العنكبوتية، يتنقل بين طيات الصفحات كما يتنقل النحل الهائم بين البراري والمروج بحثــا عن رحيــق متناثــر ... كان ينتظر كغيره من آلاف الخريجيــن الجدد إطلالة لوائح التعيينات ... وفي كل لحظة إنتظار .. كانت أحاسيسه تتقلـى كسمكة سلمــون على مقلـة الترقــب .. وكان "التعييــن " يطارده كالهواجس ..كالكوابيـــيس المزعجـة ...















آهــــات التعييـــــن ...(من المحمدية .. إلى الشماعية )
هاجس التعيين، أرغم الأستاذ "سليم" أن يؤجل كل شيء .. أن يترك أمر العطلة الصيفية والإستجمام إلى أجل غير مسمى، وكأنه عريس يترقب ليلة العمر بفارغ من الشوق والإنتظار .. كان لا يبارح البيت وكأنه شاعر متيم يعيش مخاض الكلمات بكل ما تحمله من طقوس وترانيم .. كان بين الفينة والأخرى يجنح إلى حاسوبه الصغير كما يجنح العاشق الولهان إلى حضن فارسته بعد طول غياب .. يتنقل بأريحية وسلاسة بين الصفحات كما يتنقل النحل بين حقول المسك والأقحوان بحثا عن رحيــق متناثر .. كان يترقب أي خبر أو معلومة تشير إلى نشر لوائح التعييـن .. وكأنه تلميذ نجيب يترقب الإعلان عن نتائج الباكلوريا بعد موسم جاد .. كانت المعلومة تبدو كالحب السراب، كلما تم الإقتراب إليه إلا وبدا بعيـدا .. كان الترقب سيد الموقــف في ظل غياب مطلق لأي إعلان أو بيان من الوزارة يؤكد سبب أو أسباب التأخر في إعلان النتائـج ...

ظل الأمر على ما هو عليه إلى غاية ليلة يــوم الرابع من شهر غشت، حيث وبينما كان "سليم" ينقب في صفحة الفيسبوك الخاصة بالمجموعة تبين له بدايــة نشر لوائح التعيين الخاصة بالإبتدائي وعقبها تم نشر لوائح الثانوي الإعـــدادي، أدرك حينها أن لوائح الثانوي التأهيلي سيتم نشرها هي الأخــرى، كان سليم - وقتها - منزويا بمفرده في غرفة نومـه وكأنه شيــخ هائم يحضر صكوك العشق ...في تلك الأثنـــاء كانت الغرفة الصغيرة غارقة في سكون قاتل كما لو كان سكون ما قبل العاصفة ...سكون كاسح لم تكن تخترقه سوى خفقات قلب " سليم" الذي كان لا يزال وقتها يحتفظ بآخر آماله في أن يكون " المقلاع " رحيما به، وأن يعين في محيط الدارالبيضاء حتى يكون أقرب إلى البيت والأبناء والجامعة ... حتى يمر بسلاسة بين الوظيفة القديمة والوظيفة الجديـدة ...، وبينمـا هو ينتظر ويترقـب، توصل برسالة قصيرة عبر هاتفـه الخلوي في حدود منتصف الليـل .. ظن أول الأمر أن الرسالة ربما تكون صادرة عن شركة الإتصالات أو تحية معتادة من صديق، مـرر يده اليسرى إلى الهاتف ويده اليمنى مركزة على شاشة الحاسوب ...

ولج إلى علبة الرسائل في لمحة بصر ، كانت الرسالة صادرة عن الأستاذ "سليمان" .. حملق بعينيـه في نص الرسالة الذي ورد على النحو التالي : " لقد عينت بنيابة اليوسفية، فيما عينت أنا بنيابة سيدي بنور " ...الخبر نزل على "سليم " كالصاعقــة .. كقطعـة ثلـج بــاردة وقعت فجـأة في رحاب أرض عطشـى، غير الوجهة بسرعة فائقة من صفحة المجموعة على الفيسبوك وإتجه إلى موقع الوزارة من أجل التأكد من صحة الخبر، لكن تعذر عليه الولوج بسبب الضغط الكبير على الموقــــــع من قبل آلاف المستعملين من الأساتذة المتدربيــن، ترك الموقع مؤقتا ريتما يخف الضغط، وولج إلى صفحة المجموعـة، وتبين لــه نشر اللوائح الخاصة بالثانوي التأهيلي من قبل أحد الزملاء .. فبادر إلى فتح اللوائح وعلامات الحسرة والتذمر بادية على محيـــاه ... وأخذ ينقــب بدقة وثبــات إلى أن توقــف عند إسمه الكامــل .. تأكد وقتها بما لا يدع مجـــالا للشك أنه عين بنيابــة اليوسفيــة ..تم القذف به بشكل غير مفهوم وغير متوقــــع من "المحمدية" إلى "اليوسفية" ..

أصيب حينها بخيبة أمل كبرى تقاطـــعت فيها مشاعر القلق والتوتـــر والحســــرة والإحباط .. كان في أقل الأمنيــات يأمل أن يعيـــن في إحدى مقاطعـــات الدارالبيضاء الكبــرى أو نيابة بنسليمان أو حتى نيابة الصخيرات تمارة أو نيابة الربـاط .. ولم يكــن يتوقع أبــــــــدا أن يعيــن في مدينة إسمها "اليوسفيــة " .. مدينة لم تطأها قدماه قــط .. لا يعرف عنها سوى أنهــا مدينة فوسفاطيــة تنتمي إلى جهة دكالة عبــــدة وتحديدا إلى منطقــة أولاد حمــر على مقربة من مدينــة آسفــي ...تراكمت عليه التساؤلات كما تتراكم اللحظات العابــرة في مطارح الذكــرى، إلى حد أن كل سؤال كان يقوده إلى سـؤال ومع كل سؤال يصطــدم بصخــرة الحقيقـــة المــرة، وبقــدر ما كان ينصاع لواقع أمــره، بقــدر ما كانت تتساقط على رحــاب نفسه زخــات الحيرة والأســف والذهــول كما تتساقط زخـــات المطـر في عـز الشتــاء الكاسـح ... رجـــع مجددا إلى لوائــح التعيين، وأخـد يدقق قي كل حالــة حالــة، فانتابتــه مجــددا سحابــة من الحسرة المشوبـــة بتيارات التمــرد والقلق .. وتبيــن له أن التعييــن لم يكــن رحيمــا بــه بعدما توقــف عند حـــالات تمت الإستجابــة إلى رغباتهــا بنــسب مائويـة كبيــــرة بشكل غير واضــح وغير مفهــوم دون أن يتوفر فيها شرط "الزواج" ولا "الأبناء" ولا صفة "الموظف السابق" ولا حتى معيار "النقطة " .. تسـاءل بمرارة عن الطرق والمعايير التي أعتمـدت في إخراج مسرحية التعييـــن .. كان يعقد الآمال العريضة على الوثائق التي أرفقها بطلب التعيين من قبيل عقد الزواج، وعقود إزدياد والشهادات المدرسية الخاصة بالأبنــاء، وكذا كل الوثائــق التي تثبت أنه موظف سابــق، ظانا منه أن الوثائق المقدمة ستؤخد بعين الإعتبـار وستشفع له في أن يعيـن في نيابة المحمدية أو على الأقل في أقرب النيابات .. لكن تبين له بالملموس أن الملف لم يبارح المركز وأن تسليم طلبات التعيين كان إجراء شكليــا بدليل عدم مراعاة الوثائق المقدمـة، بعدما تمت المصادقة على الطلبات على مستوى البوابة الرسمية المعدة للحركة الانتقالية، مهما كانت الاجراءات والمعايير المعتمدة في التعييــن والتي تبقى في عمومياتها موضوع نقاش، فقــد كان "سليم" يــرى أن مهندسي التعيينات الذين يرابطون في المكاتب بعيدا عن الواقع، لابد لهم أن يراعــوا بعض الملفات ذات الطابع الانساني من قبيل حالات الزواج" و"الأبناء المتمدرسين" وحالات "التجمع العائلي" و"الإلتحاق بالزوج أو الزوجة " وغير ذلك من الملفات ... لأن الأستاذ المتزوج أو الأستاذة المتزوجة عموما ليس هو الأستاذ العازب، والأستاذ المتزوج الذي يتوفر على أطفال ليس هو الأستاذ المتزوج بدون أطفال، والموظف السابق ليس هو الأستاذ المتخرج الذي يلج لأول مرة إلى سلك الوظيفة العموميـة، وغير ذلك من الحالات ذات الطابع الإنساني ..

لم يكن للأستاذ "سليم" أي موقف من الأستاذ العازب أو الأستاذة العازبة، لكن كان يؤمن أن الأستاذ المتزوج أو الأستاذة المتزوجة، لابد أن تتم مراعاة إختياراتهما ما أمكــن ..، لقد بدا واضحــا ما كان عليه الأستاذ "سليم" من حسرة وخيبات أمل، أرغمته أن يتوقف في عقبـة الشـــرود، لم يعـرف وقتها ما يقدم وما يؤخــر ولا كيــف سيتعامل مـع واقع "اليوسفية " التي لم تكن في البال ولا في الحسبــان ... نقل الخبر المؤسف إلى رفيقة دربه ، فنزل عليها الخبر كقطعة ثلج باردة لم تقو من خلالها لا على همسة ولا حركة .. إلتزمت الصمت قليلا وقالت له وعلامات الأسف والقلق بادية على محياها : " فين جات هاذ اليوسفيــــــــة ؟ " ، أجابها بصوت خافت : " توجد نواحي آسفي" .. لم يجد بدا من فتح محرك البحث "غوغل" وحصل على معطيات حول المدينة الفوسفاطية كما حاول أن يضبط مكان تموقعها إستنادا إلى موقع "كوكل أورث ".. وقد دفعه الفضول إلى البحث في نفس المحرك عن عدد الثانويات التأهيلية المتواجدة بالإقليــم ... كان يداعب الفأرة بمرارة في وقت تشتت فكره بين البيت والأبنـاء والدراسة والأصدقاء .. في أجواء تقاطعت فيها كل سبل الحسرة والذهول وخيبات الأمل .. قضى "سليم" ليلة بيضــاء لم تغمض له فيها جفون ..تتقاذفه ريــاح عاتية من الأفكار الكاسحة ...

ولم يكد يستيقظ من هول الصدمة، حتى أصيب بصدمة ثانية بعدما أعلن عن مرحلة التعييـــن الثانية على مستوى النيابة، تم تضييــق هامش الإختيــار أمامه، حيث كان عليه الإختيــار بين "ثانويتين"أحلاهما مـر، واحدة تتواجـد بمدينة" الشماعية" على بعد حوالي "20" كلم من اليوسفية (ثانوية القدس التأهيلية) والثانية تتواجد بمنطقــة "إيغــــود" التي تبعد عن "الشماعية" بحوالي "45"كلم (ثانوية المعرفة التأهيلية) ، لم يهدأ لسليم بال منذ الإعــــــلان عن نتائج التعييــن ، أجل كل الأحلام والأمنيات ولو إلى حيــــــن، وظل شغله الشاغـل هو ما سيترتب عن هذا التعييــن غير السار من أوضـاع ومطبات مقلقــة، حتــى أنه لم يكتــف بالمعلومات والمعطيات التي حصل عليها من موقع "كوكل" ، بل شــد الرحال ذات صبيحة رفقة الأسرة إلى مدينة اليوسفية إنطلاقامن محطة المحمدية، دامت الرحلة من الساعة السادسة صباحا حتى الساعة العاشرة صباحا، كانت أول مرة تطأ قدمــاه تلك الحاضرة الفوسفاطيـة، كانت الأجــواء ساخنة سخونة يوميات أغسطس زادتها أتربة الفوسفاط المتناثـــــــرة في الأجواء سخونة وإختناقـــا، كانت المدينة تعيش على وقــــع الإهمال والرتابة ماعدا حي إداري يعـــود إلى سنوات الإستعمار، ولولا بعض هضاب الفوسفاط، لما تبيـــن للزائر أن المدينــة هي مدينة فوسفاطيـة، بــعد جولات راجلة تم أخد حافلة للمسافرين في إتجـــاه "الشماعيـة " التي تم الوصول إليها بعد مضي حوالي عشرين دقيقة من الزمـن، كانت عبــارة عن قريــة كبيـــرة بكل المقاييس، لا صوت يعلو فيها على صوت الحرارة المفرطــة والأتربة المتناثرة في الأعالي .. كانت وقتها الحسرة تصول وتجــول في نفسية الأستاذ "سليم" وهو الذي قضــى جزءا كبيرا من حياته في محيط الرباط والدارالبيضاء .. أكمل الرحلة وأسرته الصغيرة في إتجاه مراكش الحمراء التي تبعد بحوالي "85" كلم، حيث تم قضاء الليلة لـــدى شقيقتــه "خديجة " حتى الصبـــاح، حيث تم الرجـوع إلى اليوسفية متن السيـارة بحضور زوج شقيقته وإبنهــا "معاد"، بهـدف البحــث عن موقع "ثانوية المعرفة"، رحلة البحث إتجهت أول الأمر إلى منطقة "سيدي أحمد" التي تبعد عن اليوسفية بحوالي "15" كلم أو أقل، لكن تبين أن المنطقة تتوفر على ثانوية وحيدة تحمل إسم "ثانوية الأندلس التأهيلية"، عقب ذلك وبناء على بعـــض المعلومات التي تم التوصل بهـا من صاحب مكتبة، فقد تمت المغادرة إلى "الشماعية " ومنها تم شد الرحال إلى منطقة "إيغـــود" وهناك تم التعرف على "ثانوية المعرفة" التي تبين أنها لا زالت في طــور البناء، بناء على ما رأى "سليم" أصبحــت "الشماعية" تبــدو له "رحمـة" مقارنة مع هول ما شاهدت عينــاه في "إيغود" التي تبــدو كالأدغــال، وهكذا وبعــد التوقف لحظات بعين المكان، تمت المغادرة في إتجاه مدينــة " أسفــي"، وهناك وفي لحظة استراحة أمام سوق مرجان ، لم يــتـردد "سليم" ولو لحظة في التعبيـر عن إختياره في الموقع المخصص للتعيين، حيث إختار "ثانوية القدرس" كاختيار أول، و"ثانوية المعرفة" كاختيار ثاني، بعــد كل هذه النكســات، كان يحدوه أمل وحيــد، أن يعين بالشماعية، وقد كان يــدرك أن التعييــن بمنطقة "ايغــــــــود" معنــاه التعييــــن في المجهـــول ...، تم إكمال المسير عبر الطريق الساحلية في اتجاه الوليديـة التي كانت غاصة بالمصطافين، وهناك تم تناول وجبـة الغداء بأحد المطاعم المتواجدة بالشارع الرئيســي، قبل أن تتم المغادرة إلى الجديدة عبر الجرف الأصفر ومولاي عبدالله وسيدي بوزيد، قبل أخد الطريق السيارفي إتجـاه مدينة الزهــور التي تم الوصول إليها غضون الساعة العاشرة ليــــلا ... وعلى طول الطريــق، كان مصيــر "سليم" معلقــا بين" الشماعية " و "إيغود" ، لكن هذه المرة سيبتسم له الحظ لاحقــا، نجـا بأعجوبة من "كابوس" إسمـه "ايغـــــــــود"، وعين بثانوية القدس بالشماعية بمعيــــة زميله في المركز الأستاذ "فضل الله " الذي كــان ولا شك أكثر حظا، ليس لأنـه عين بمنطقتــه ، ولكــن لأنه عيــن بالثانوية التي درس فيهـــا ...







وقفــة مع المفتــــش " عزيـــم "..
كان الأستاذ "سليم" طيلة فترة التكوين وعند نهاية كل أسبــوع، يتقاسم تجربته الجديدة مع صديقه المفتش السابق " عزيم " ويشاركه في حيثيات التكوين بمركز مازاغان بكل جزئياته وتفاصيله المملة أحيانا، بل ويشاركه أيضا حتى في مناقشة الجانب الخفي من هذه الوضعية الجديدة والذي لم يكن ســوى الجانب المادي الذي أضحى يطارد "سليم" كما يطارد العاشق الولهان عشقا يبدو أقرب إلى المحــال، وكيفية تدبيــر المراحل اللاحقة في ظل الإستقالة وإيقاف راتبه الشهـري، سواء في مرحلة التكوين أو بعد التخرج، كانا يلتقيان عادة في إحدى المقاهي الراقدة بشارع الرياض بمدينة الزهور كما يلتقي الشيخ بمريديه، يتبادلان الحديث في كل شئ لسويعات عابرة عبور السحاب...

وهما يحتسيان فنجان قهوتهما المفضلة نوع "موس بلونش"، يتنقلان من موضوع إلى آخـر كما يتنقل النسيم العليل بين المروج والبراري العطشـى .. كانا يبدوان كفارسين مغوارين قادمين لتوهما من نصر كاسح ما بعده نصر، تمـردا معا في غفلة من الجميــع على طوق الأرقام السليبة وأغلال الآهات التي لاتنتهي، بطريقــة عصية على الفهم والإدراك .. كان "سليم"و"عزمي" وفي سياق أحاديثهمـا الجارفة، يركبان على صهوة الماضي ويرحلان إلى دهاليز الذكرى الراحلة، بكل ما تركته في نفسيهمــا من آثــار كانت تصل أحيانا حد الألم والتمرد الصامت والبكاء على مصير أرضيته حبلى بالأشواك وقشور المــوز .. جمعتهما الأصفــاد والسلاح الناري والرقم المهني لسنوات عجـاف، وكان اللقاء الأول قبل ما يزيد عن الست سنوات عن طريق الضابط "حمــدان" بإحدى مقاهي المحمدية، وقد كان ذاك اللقــاء العابر مقدمة لعلاقة ناضجة ومسؤولة ما فتئت تزداد متانة وصلابة يوما بعـــد يوم، كان "عزيم " يشتغل وقتهــا بصفوف الهيئة الحضرية بالدارالبيضاء بعد أن قضى سنواته الأولى بإحدى الثكنات بالجنوب، أما "سليم" فقد كان يشتغل في الشرطة القضائية بنفس المدينة في مصلحة لم يبارحها منذ تخرجه وتعيينـه، ورغـم ذاك الاختلاف المصلحــي، فقد لامس "سليم" بحكم خبرته وبعد نظــره أن "عزيــــم" لا صلة له لا بالعقلية ولا بالصورة النمطية التي عادة ما تلازم المنتسبيـن الى شرطة الزي الرسمي، وأن "الكسوة " و"الزرواطة" و"المينوط" البارز و"الكابوس" البادي للعيان و"الدوبلاجات"وليالي العمل الطوال، لم تنل شيئا من شخصيته، ولم تسرق بعض وريقات زهرة أحلامه الراقدة على مطرح الصمت .. بل أكثر من ذلك تبيـن أنه يحمل نفس "الهم" ونفس "الرغبة الجامحة" في التغيير نحو وظيفة أخــرى، وهو نفس "الهم" وذات "الرغبة" التي أضحت تتشكل في عوالم "سليم" في صمت، تغديها أحاسيس مسترسلة من القلق والإحباط وخيبات الأمـل ..

كل واحد منهما قــــدم إلى سلك الأمن من باب الصدفة، وربما كان ذلك هروبـــا من كابوس مخيف اسمه "البطالة " ، كلاهما لم يقو على الاندماج مع المهنة الجديدة ، ربما بحكم الشخصية التي لا تقبل بالرضوخ أو الإنصيـاع لأي كان ، أو المبادئ ، أو الأحلام الكاسحة التي كانت أكبـر من أن تلهث لسنوات وراء "رتبـــة" لن تحمل سوى المزيد من الآهات والأتعاب المملة، وربما أن كل هذه اعتبارات تقاطعت لتؤجج في عوالمها رغبـــــة مشتعلـة في التحرر والانعتــاق من الأصفــاد، والانخراط في وظيفة أخــرى بإمكانها أن تستوعب أحلامهما الكاسحــة ..

ولج "عزيم "إلى سلك الأمن بعد أن قضى سنة أولى في الجامعة تخصص تاريخ وجغرافيــا، واشتغل بعد التخرج بثكنة بإحدى مدن الجنوب، قبل أن يبتسم له الحظ في الإنتقال إلى الدارالبيضاء، أما "سليم" فقد ولج إلى السلك وبحوزته إجازة في التاريخ، وعين في الدارالبيضاء بمصلحة لم يبارحها إلى أن دقت ساعة الرحيل .. إذن، فقد كان التخصص (التاريخ والجغرافية) أول نقطة تقاطع بين الشرطيين، أما التقاطــع الثاني، فقد تحقق بعدما نجح كل واحد منهما في إمتحان مهني، "عزيم" إنتقل من رتبة "حارس أمن" إلى رتبة "مفتش " مما جعله يتخلص بدون رجعة من الزي الرسمي والزرواطة والكابوس البارز الذي كان يزيده عذابا في عذاب .. أما "سليم" فقد نجــح بدوره في إمتحان مهني جعله يرتقي من رتبة "مفتش ممتاز" إلى رتبة "ضابط شرطة "، لكن ذاك النجــاح لم يغير من واقع الحال شيئا، وظلا مصرين على عــدم إعلان الهدنة مع مهنة المتاعب والآهــات ..

كانت لهما إمكانيات كبيرة في النجاح في إمتحانات مهنية أخـرى والإرتقاء الى رتب أكبــر، لكن رغبتهما القوية في التغيير كانت أقــــــــوى .. نقطة الإلتقاء الثالثة، كانت هي شعبة القانون الخاص بكلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية بالمحمدية، كان المفتش" عزيم " سباقا إلى الحصول على إجازة في القانون الخاص، أدرك كما أدرك الضابط "سليم"، أن وضع الأيادي على الخــدود والبكاء والآهات .. أمور لن تجدي في شيء، لذلك راهنا على الدراسة كوسيلة وحيــدة يمكن أن تفضي إلى الإنعتاق بنسب مائوية كبيــرة، الرغبة في إيجاد الحل الناجع، هي التي دفعت الضابط "سليم" إلى التسجيل في كلية الحقوق بعدما ضيع إمكانية الحصول على "ماستر" في التاريخ غضون سنة2007 بسبب ضغوطات الشغل ، كان يرغب في الحصول على إجازة ثانية تعطيه فرصة ثانية للتسجيل في الماستر إلى جانب الفرصة التي تمنحها له إجازة التاريـــخ، في الوقــت الذي قاد فيه الطموح الجارف المفتش "عزيم " إلى الحصول على ماستر في قانون الأعمال من كلية "العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية" بالرباط بميزة "حسن" مع إعطائه توصية بنشر البحث، وهذا الإنجاز الكبير لم يأت بمحض الصدفة، بل فرض عليه أن يتوقف على التوالي لمدة سنتين عن العمل بدون أجر حتى يتفرغ للماستر ، في وقت كان فيه "سليم" بصدد الخطوات الأولى في كلية المحمدية وفي جعبته هدف متوسط المدى هو الحصول على إجازة ثانية في الحقــــــوق...

ولأن المجهودات لا تذهب سدى، فقد تحقق "حلم" المفتش"عزيم" في التغيير المنشــود بعدما نجح في امتحــان المتصرفين بوزارة المالية، ليطلق الأصفــاد طلاقا لا رجعة فيـه غضون شهر دجنبر من سنة 2012 ، وقد عــاش الضابط "سليم" فرحة التغيير مع المفتش "عزيم " وشاركه في كل ما أعقبها من آهات تقديم طلب الاستقالة وكذا الحصول على الشهادة الادارية وقرار الاستقالة، في تلك الأثنــــاء وموازاة مع المسار الجامعي، كان "سليم" يترقب خوض غمـار إجراء "مباراة الولوج إلى المراكز الجهوية لمهن التربية والتكويــن" ، بعــد أن حصل - استعدادا لهذه المباراة- على دبلوم خاص في "البيداغوجيا" من أحد المعاهد الخاصة بالدارالبيضاء، ومن غريب الصدف أن المفتش "عزيم " حصل قبله على دبلوم مماثل، تقدم "سليم" إلى المباراة بصفة "المرشح الحر" وليس بصفة "الموظف" ، وقد نهج هذا المسلك الذي سبقه إليه المفتش "عزيم " لصعوبة الحصول على "ترخيص" في الموضوع من الإدارة المشغلة، وكمــا أن الحظ إبتسم للمفتش "عزيم" إبتسم نفس الحظ للضابط "سليم" بعد أن وفق في المباراة كأستاذ للثانوي التأهيلي تخصص تاريخ وجغرافيا، ليطلق بدوره الكابوس المرعب والأصفاد بعد أن توصل بقرار الإستقالة متم سنة 2013، أي بعد مضي سنة كاملة من مغادرة المفتش "عزيم "، بل أكثر من ذلك فقد غادرا معا الصفوف نفــس الشهــر ، وبما أن "عزيم " كـان أول المغادرين، فقد قــدم كل المعلومات الممكنة لسليم، سواء فيما يتعلق بموعد الحصول على الشهادة الإدارية الخاصة بالإستقالة وقرار الإستقالة وقرارات التوظيف والتعيين وكذا كيفية استرداد مبلغ التأمين الخاص بنهاية الخدمـة، بما في ذلك إجراءات التشطيب من تعاضدية الأمن والتسجيل بتعاضدية رجال التعليم ...

حكاية "عزيم"و"سليم" قد يطويها النسيان يوما، لكن ومهما إمتدت إليها أيادي النسيــان، ستبقى حاضرة كالشعلة التي تنير مساريهما الجديدين، لما تحمله من دروس وعبـر تتقاطع عناوينها في مدارة تنمية الذات وتطوير القدرات والتخطيط وغيرها، حيث تتناسل مجموعة من الأسئلــة الكبرى من قبيل : كيف يمكن تحويل السلبي إلى إيجابي ؟ كيف يمكن تحدي مطبات الألم والآهات والضجـر ؟ كيف يمكن فك الأغــلال ؟ كيف يمكن التشبث بآخر حبال الأمل في ظل سلطة الإحباط والهزيمة وإنسداد الأفق ؟ كيف يمكن الصبر والتحمل واختزال المعاناة وتحويلها إلى طاقة ايجابيـة مشحونة بشحنات التحفيـــز والرغبة الجامحـة في تخطي الصعاب وتجاوز المطبــات ؟

ما حققه المفتش" عزيم "والضابط "سليم" ، أبان بما لا يدع مجـــالا للشك أن "التغيير" ممكن، ليس في الوظيفة فحسب، ولكن في كل شعاب الحياة، وطالما آمـن الإنسان بالتغييـــر وراهن عليـــه ورسم الأهداف بكل دقة، وثابر وكافح، سيصل لا محالة إلى معانقة حلمه وتحقيق آماله العريضــة .. التجربة أبانت أيضـا أن الحيـــاة ضيقة جدا لولا فسحة الأمل، وهــذا الأمل هو الذي يعطــي للإنسان الجرعات الضروريــة من أجل مواجهة كل فيروسات الرتابة والروتين القاتـل .. الآن وبعــد أن تخلصا من عبء الأصفاد والكابوس المرعب والأوامر المقلقة .. يخطو كل واحد منهما في مساره الجديد بطموحات وأهداف جديدة .. بعيدا كل البعــد عن سنوات الأرقام الأسيرة .. في وقت لا يزال الضابط "حمدان" لايبارح مكانه .. ويبدو أنه انصاع إلى الأمر الواقع .. لم تتشكل في ذاته بعد تلك الطاقة المشتعلة التي أخرجت "عزيم "و"سليم" عنــوة من المستنقع الراكد ..
بدايــــة أستـــــــاذ ..
بإنتهـاء حكاية "إمتحان التخرج" في شقه "النظري " والذي لم يحمل من صفة "الوطني" سوى"الإسم".. إنتهت حكاية موسم تكويني إستثنائي بكل المقاييس، ولم يكن كابوس التعييــن المزعج وما تخلله من هواجس وأعقبه من آهــات، ســـوى سحابة صيف عابرة ما إن رحلــت، حتى لاحت في الأفق القريب معالم موسم دراسي جديد بالنسبة لكل مكونات هيـئة التدريس، لكن بالنسبة للأستاذ "سليم" وغيره من المتخرجين الجدد من دفعة 2013/2014 لم يكن موسما جديدا فحسب، بل كان يعنــي الخطوة الأولى في مسار مهني جديد والإنخراط الرسمي في مهنة حبلى بالأعباء والإنشغالات، وتحمل مسؤوليــة القسم بكل ثقلها وجسامتهــا ..في تلك الظروف المزعجة، وفي عز حرارة شهر أغسطس، لم يجد "سليم" بدا من الإنصيـاع إلى الواقع المر وعقد العزم على مواجهة مطبة التعييـــن بكل ما ستحمل إليه من إكراهات مستقبلية واضحة تارة ومستترة تارة أخـرى ..

ركب على صهوة الرحيل في إتجاه بــلاد "احمر" وتحديدا مدينة "الشماعية " التي لم تطأها قدماه من قبـل، حيث كانت تنتظره حياة جديدة في ظل واقع صعب، بعيدا كل البعــد عن مدينة الزهــور بكل نسائمها العليلــة المنبعثة كل صباح ومساء بإنسيــاب من شواطئ المركز ومانيسمان ومونيكا والصابليط .. بعيدا عن الأسرة الصغيرة والجامعة والأصدقاء والأحبـة ..

بعد أن أفلح "سليم " في كراء منزل على مقربة من المحطة الطرقية التي طالتها ألسنـة البؤس والرتابة والإهمال كما طالت المدينة نفسهـا، قصد ذات زوال(2 شتنبر 2014) ثانوية التعييــن التي تتربــع كالقلعة المنيعة في الهوامش الخلفية للمدينة القرية، بعيدة كل البعد عن "الأمن" الذي يغيب عن المدينة برمتها بشكل عصي على الفهم، وبعد أن وقع على محضر الدخول، سيتبين لـه لاحقـا (صباح يوم 21 من نفس الشهر) أنه في وضعية "فائض" شأنه في ذلك شــأن زميله في القاعة الزرقاء الأستاذ "فضل الله" المنحدر من المنطقة، حينها عاد "سليم"عنوة إلى كابوس التعيين، وتساءل بكل حسرة ومرارة كيف تم إبعاده عن المدينة التي يستقر بها وتم تعيينــه في ثانوية بها فائــض، لم يكن وقتها الإنفعال يجدي ولا حتى الحســـرة تكفي، تسلم قرار التكليف، وقصد مؤسسة التكليف المعنية، حيث وقع على محضر الإلتحــاق وتسلم إستعمال الزمن الخــاص بـه...

أدرك حينها "سليم" أن الحظ إبتسم لـه وهو في عز القلق وخيبـات الأمل لسببيـن، أولهما أنه سيعيـن في ملحقة تابعة للإعدادية التي تئن من ويلات الإكتضاض والشغب والانفلات، والسبب الثاني أنه ســوف يدرس فقط ستـة أقسام من نفس المستوى (الأولى ثانوي إعدادي) بمعــدل (18) ساعة أسبوعيــــة تنتهي يوم الجمعة زوالا، ممـا كان سيسمح له بالإنتقال إلى مدينة الزهور كل نهاية أسبـوع من أجل تفقد الأسرة وتغيير الأجــواء هروبا من مدينــة رتيبة تبـدو كقرية كبيــرة بلباس مدينــة .. بالمقابل فقد كلف الأستاذ "فضل الله " في ثانوية إعدادية أخرى وأسندت له سبعة أقسام (أولات وثانيات ) ..

بعد التوقيــع على محضر الإلتحاق بمؤسسة التكليف، غادر "سليم" إلى حال سبيله في إنتظـار أن يباشر عمله الفعلي بالملحقة صباح اليوم الموالي على الساعة الثامنة صباحـا .. في تلك الأثنـاء كان الشغل الشاغل لسليم، كيف سيدبـر تلك الحصص الأولى خلال الأسبوع الأول المخصص عادة للإستقبال والتعارف والتقويم والتعاقد ؟ وهذا السؤال العريــض كانت تتناسل وراءه جملـة من التساؤلات من قبيــل : كيف سيدبر أول حصة ؟ كيف سيقدم نفسه للتلاميذ ؟ كيف سيقدم التلاميذ أنفسهــم ؟ هل سيطلب منهم تعبئة بطاقة المعلومات ؟ كيف سيتعاقد معهم حول ميثاق الفصل ؟ هل سيكون التعاقد مكتوبا أم سيكتفي بتقديم خطوطه العريضة شفهيــا ؟ ماهي قواعد هذا التعاقد ؟ كيف سيدبر موضوع التقويم التشخيصـي ؟ أية أدوات سيطلب منهـم ؟ كيــف سيستقبلهـم ؟ هل بجدية الضابط التي تصل إلى حد الصرامة ؟ هل يبتسم ؟ هل يخفي إبتسامتـه العريضــة ؟ أم يجمع بين التقاسيم الصارمـة والإبتسامة العريضـــــــة ؟ أسئلة عريضة وأخــرى ، أبت إلا أن تطارد "سليم" في تلك اللحظات الإستثنائية في مسار كل أستاذ متخرج .. أعد ما سيسهل عليه تدبير تلك الحصص الأولى من ميثاق للفصل وبطاقات معلومات ونماذج من الأسئلة التي سيسخرها في التقويم التشخيصي ، بما في ذلك إستحضاره لكيفية تدبيــر طريقة التعارف بينه وبين المتعلمين، لكــن مع ذلك فقد كــان يدرك كل الإدراك أن "القسم" هو الذي يعلم، مهما كانت جودة الدروس النظرية التي تلقـــاها المتدرب، وتجربة "الممارسة الفصلية" هي التي تطور الأداء وترتقـي بــه، لذلك فقد كان على أهبـــة واستعداد من أجل الإرتمـاء في "مسبح "القســم، متسلحا بما يدخره من إمكانيات معرفية وتواصلية وخبرة مهنية ..

في تمام الساعة الثامنة من صباح اليوم الموالي (22/09/2014) كان سليم في القسم وجها لوجه مع تلاميذ صغار يخطون خطواتهم الأولى في التعليم الثانوي الإعدادي ، نظراتهم البريئة وتقاسيم وجوههم ونوعية هندامهم ، توحي منذ الوهلة الأولى أنهم ينحدرون من أوساط فقيرة ومعوزة مع بعض الإستثناءات القليلة، بعد التحية والترحاب، بادر إلى تقديم نفسه بإقتضاب، وأطلعم على القواعد العامة التي سيتعين عليهم الإلتزام بها ضمانا لمرور الموسم في ظروف ملائمة، في مقدمتها إحضار الكتاب المدرسي وعدم التأخر وإنجاز الواجبات المنزلية والمشاركة في الحصص الدراسية، وعدم الولوج إلى القسم إلا بعد أخد الإشارة من الأستاذ وكذا الوقوف عند دخول الأستاذ أو أي زائر آخر للقسم من باب الإحترام والترحاب، وقد كانت لمسة الضابط حاضرة في هذه القواعد العامة الصارمة، كان "سليم" مقتنعا تمام الإقتناع أن شخصية الأستاذ تتأسس منذ الحصص الأولى، ومقتنعا بالمثل الشعبي القائل "نهار الأول تايموت المش" .. لذلك كان حريصا على التحلي بالصرامة والجدية في العمل، محترزا من أية "حرية" ممنوحة قد تفضي إلى الإنزلاق .. عقبها وزع عليهم بطاقات معلومات وطلب منهم تعبئتها، كان الهدف من هذه العملية أولا خلق نوع من الثقة بين الأستاذ والمتعلمين، ثم ثانيا تمكين الأستاذ من قاعدة معطيات تمكنه من التعرف بدقة على الوضعية الإجتماعية لكل تلميذ، في أفق حسن إستثمارها في العملية التعليمية التعلمية اللاحقة...

عقب ذلك إتخد الأستاذ "سليم" مكانا في إحدى المقاعد الخلفية، وطلب من المتعلمين القيام إلى السبورة وتقديم أنفسهم، وقد كان الهدف، يتمثل بالخصوص في أن يكسر المتعلمون حاجز الخوف والخجل ومنحهم مزيدا من الثقة بالنفس، ثم رصد مدى قدرتهم على تركيب جمل مفيدة، فــي تلك الأثناء وبينما هو يصغي إلى المعنيين بالأمر بدقة وتمعن، راودته جملة من التأملات التي أبت إلا أن تعاكس تفكيره في تلك اللحظات الخالدة، وتخرجه عنوة إلى إستحضار الماضي الراحل ليس من باب الحنين ولا من باب "النوسطالجيا" ، ولكن من باب مقارنة ما كان" وما هو"كائن" ، ما "مضى" وماهو"آت " .. بين الماضي الراحل والحاضر تغيرت الصفة والأمكنة والنفسية والعقلية والأشخاص والإهتمامات وحتى الأمنيات ..

بين الماضي والحاضر تحول الضابط إلى أستاذ، وهذا التحول المفاجئ تحولت معه أشياء كثيرة .. تم الإنتقال من الدارالبيضاء بكل عنفوانها وكبريائها إلى الشماعية بكل رتابتها وروتينها القاتل، تحولت "الكوميسارية" إلى "قسم" و"تلاميذ" و"سبورة" و"مكتب"، تحول الضابط الغارق في الأبحاث والتحريات والأوامر التي لا تنتهي إلى أستاذ "سيد قسمه" لايقبل بأمر ولا بتعليمات داخل مملكته الصغيرة .. رحلت المحاضر والتقارير والأصفاد والسلاح الوظيفي والبطاقة المهنية ، وحضرت الجذاذات ودفتر النصوص والكتاب المدرسي ، غاب الجمود والرتابة وحضر التكوين والبحث والإعداد ، انتهت حكاية الضابط الذي يبحث مع الأضناء ليل نهار وابتدأت حكاية الأستاذ الذي لا يعرف ضنينا ولا بحثا جنائيا ، توقفت ناعورة الديمومة والعمل الليلي والعمل النظامي والمهمات الخاصة وتعليمات الرؤساء وأوامر النيابة العامة ، مقابل توقيت محدد ومضبوط جدا يسمح بإقامة مواعيد وإعطاء وقت للأسرة ورسم أهـداف ومتابعة الدراسة ، إختفى الرقم المهني ورحل السلاح الوظيفي والبطاقة المهنية والأصفــاد ، وحلت المحفظة السوداء والطباشير والأقلام والمذكرة ..تراجع الإهتمام بقضايا الشرطة والإجرام وأخد يبرز اهتمام جديد خاص بقضايا التربية والتكوين .. في المجال الأول، لم يكن "الزمن" حاضرا بقوة ، بحيث يمكن التأخر عن العمل (ماعدا مواعيد الديمومة ) ويمكن المغادرة من أجل تناول وجبة غداء أو شرب فنجان قهــوة ، لكن في المجال الثاني فالزمن له أهمية قصــوى ،ولا يمكن للأستاذ أن يتأخر عن حصته إلا إذا كان غيابه مبــررا، غابت الإجازات السنويــة التي يتم الحصول عليها بصعوبة أحيانا خاصة في فصل الصيف والتي لا تتجاوز العشرين يوما أو أقل بدعوى قلة الحصيص وغاب الإشتغال أيام الأعياد الوطنية والدينية ، وحضرت العطل البينية والعطل الصيفية وعطل الأعياد والمناسبات وحتى عطل نهاية الأسبــوع، في الوضعية الأولى ، يتم زجر المجرمين الخارجين عن القانون وتقديمهم إلى المحاكم المختصة والقيام بالحملات التطهيرية الروتينية ، وفي الوضعية الثانية، يتم الإسهام في صناعة الإنســــان وغرس قيم التربية والمواطنة .. في الصورة الأولى كانت تحضر الآهات والصرامة والإنضباط والجدية ، وفي الصورة الثانية ، تختفي الصرامة الزائدة على اللزوم أو على الأقل تتراجع مستوياتها .. في القطاع الأول كثيرا ما تتأجج مشاعر القلق والتوثر وعدم الرضا وعدم الإستقرار بسبب ضغط العمل وإكراهاته، وفي القطاع الثاني تكاد تختفي المشاعر المذكورة من باحة الأستاذ الذي ينعم بالإستقرار في مملكته الصغيرة ولا تعكر صفوه لا تعليمات ولا أوامر .. لكن وهو يصول ويجول بعنفوان في براري التأملات .. إهتدى إلى الخيط الرافيع والناظم المتواجد بين المهنة الشرطية ومهنة التعليم ، فعلى المستوى الزجري ،فالضابط في "الكوميسارية" يقوم بزجر المجرمين ، والأستاذ في "القسم" لا يتردد في زجر المشاغبين والفوضويين الذين يخرجون عن قواعد ميثاق الفصل ، فالأول يباشر مهامه في إطار سلطة يخولها له القانون، والثاني يمارس سلطة"رمزية" تأخد مشروعيتها من مبدأ فرض النظام داخل القسم وتوفير الجو الملائم للتعلم، فالأول يلجأ أحيانا إلى إستعمال العنف من أجل أخد إعتراف ما أو إيقاف ضنين ما ،والثاني قد يلجأ بدوره عند الضرورة إلى الضرب أو إستعمال العنف في حدود المعقول من أجل اسئصال شوكة الفوضى والشغب داخل القسم، لكن كلاهما قد يتعرض إلى العقوبات الادارية وحتى الجنائية في حالة إلحـاق الايداء بالغيـر ضنينا كان أو تلميذا..أدرك بجلاء أن التعليم يسهم في بناء الإنسان المواطن الصالح المتشبع بقيم التربية والمواطنة، فالتلميذ الذي يجلس على مقعد ويشق مساره الدراسي بخطوات ثابتة كما يشق المحراث الأرض العطشــــى، قــــد يتحول يوما إلى " شرطي" إذا ما كللت مسيرته بالنجاح، بمعنى آخر يمكن لقطاع التربية والتكوين أن يسهم في تطوير أداء ومردود المؤسسة الشرطية إذا ما نجح في مدها بتلاميذ متشبعين بالقيم والمثل ويتحلون بالنضج وروح المسؤولية والجدية ، لكن وفي حالة الفشل، قد يغادر التلميذ المدرسة في مستويات دنيا، مما يجعله مرشحا للتحول إلى مجرم خارج عن القانون، وفي هذه الحالة تتدخل الشرطة القضائية لزجره، وحتى إذا ما قدر للتلميذ غير المتحلي بالقيم ،الإستمرار في الدراسة، فقد يصبح يوما "حارس أمن" أو "مفتش شرطة"، وفي هذه الحالة سيسهم القطاع في تمكين جهاز الشرطة من أناس يفتقدون إلى الضمير المهني والحس الأخلاقي، وهذا يضعف من الجهاز ويقلل من جودة خدماته ..لكن سيدرك أساسا أن التعليم هو أساس التقدم والرخاء لأنه يسهم في بناء الإنسان المواطن بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، ولن يستقيم أمن ولا إدارة ولا إقتصاد ولا سياسة ، إلا بالتعلم النافع والناجــع ...

انتهى آخر تلميذ من تقديم نفسه، عقب ذلك وزع عليهم أسئلة منتقاة بدقة خاصة بالتقويم التشخيصي، كان يهدف من ورائها إختبار مستواهم المعرفي، ومنحهم زهاء عشرين دقيقة من أجل الإجابة .. كان القسم هادئا هدوء ما قبل العاصفة، وهو يتجول بين الصفــوف، أدرك أن صورة الضابط ما فتئت تنصهر في بوثقة الواقع، مقابل تشكل اللبنات الأولى لشخصية الأستاذ .. لكنه في ذات الآن، كان مدركا كل الإدراك أن "الضابط" وإن رحل ، فقد ترك"شخصية الضابط" بكل ما تحمله من جدية وصرامة واضحة للعيــان ..

بعد نهاية الحصة، طلب "سليم" من أحد التلاميذ جمع الأوراق، عقبها أحالهم على الأدوات المدرسية التي يتعين عليهم إحضارها من كتاب مدرسي ودفاتر وأقلام وغيرها، قبل أن يرن جرس الساعة التاسعة صباحا، حينها غادر التلاميذ وإنتهت أول حصة في مسار "الأستاذ" سليم" ، في وقت كان تلاميذ جدد يصطفون تأهبا للدخول في الحصة الموالية ..عند أستاذ في بدايــة مســـار ...






أنشـودة مطــر..
سلموا لها العود ..
فقالت بجنون :كيف لي أن أعزف بلا وتــر ..
فتمتم العود قائلا : أنا العود وأنت الوتــر ..
فاعزفي يا وتــر ..أنشودة المطــر ..تحت زخات المطـر ..
قولي كلمة ..رددي همسة ..تزهو كما يزهـو القمر في ليالي السهـر ..
رددي أنشودة مطلعها قمر ..أحببته لما كنت أريجا في ضجـر ..
وجعلني أملا ..يسمو كما يسمو الشوق في صحاري السمر ..
قولي لهم بكبريـاء ..أحببته بجنون ..
بدونه سيصير وجداني حجـر ..وأمسياتي ضجر ..
قولي لهم بسخاء ..هو العــود ..وأنا الوتـر ..
وبدونه أنا شتاء قـارس بلا مطـر ..بلا مطـر ..
قولي لهم هو العود وأنـا الوتـر..
هو شتاء ساكن وأنا المطر..
وهل يحلو الشتاء بلا مطـر..
وهل للعود معنى بلا وتـر..
قولي لهم : أنا أنت .. وأنت أنا ..
ونحن العود والوتر..والشتاء والمطر ...
مسك الختـــــــام ..
هذه اليوميات .. ماهي إلا صيحة في واد .. لحظة عابرة عبور السحاب في مسار طويل من اللحظات الحبلى بكل معاني الرتابة والآهات والضجر .. ولا يمكن أن تغطي حيزا زمنيا إنطلق في الأسبوع الثالت من شهر دجنبر سنة 2013 وإنتهى رسميا مع إجتياز إمتحان التخرج بتاريخ 07 يوليوز 2014 والتوقيع على محضر الخروج من المركز بتاريخ 22 من نفس الشهــر ... حيز زمني تباينت أزمنته ولحظاته بين " أسبوع الإستقبال" ، "الدروس النظرية" ،" إمتحانات المجزوءات"،"عـــروض"،" وضعيات مهنية " ، "إمتحانات عملية "،" إمتحان التخرج" ، "مناقشة البحوث الإجرائية " ، " محضر الخروج" ، "هواجس وآهات التعيين "... وحيز مكانــــــــــــي تنوعت أمكنته بين " القاعة الزرقاء" ،" الداخلية " ، "مكتبة محفوظ" ، "مؤسسات التطبيق " ، "حي مولاي عبدالله" ، "حي السعادة "،"شاطئ الجديدة" ،" الحي البرتغالي" وانتهاء برصد أزمنة ما بعد التخرج في بلاد "احمر" ... وهذه الأمكنة وغيرهـا لا يمكن إختزال أحداثها ووقائعهـا في يوميات عابرة لا تتعــدى عشرات الصفحات .. لكن تم الإصرار على التأريخ لهذه المرحلة المهمة في تاريخ كل أستاذ و أستاذة .. والتي خرجــت إلى الحياة من رحـــم المعاناة اليومية والصــراع اليومي مع الرتابة القاتلـــة والإستبـداد الناعم أو المستنيــر داخل فضاء القاعة الزرقـاء وظروف المعيـــش الصعبة داخل زنازن الآهــات ... لتكون شاهـد عصر .. على موسم إستثنائي بكل المقايييس ، لحظات كبرى وإن اختزلتها الكلمات والسطور ، فقد شكلت لحظة مغصلية بين حكاية تلاشت وحكاية أخرى آخدة في التشكل .. حكاية أستاذ من درجة ضابط ...





المحتــــوى ...

سياق اليوميات
نهاية مسار
إنطباعات أسبوع الإستقبال
الأستاذ رامي وحكاية السلطان سليمان
مشكلة الوضعيات المهنية
تبني المخطط باء
سلام الشجعــان
الغرفة رقم 10
وقفة مع سليم وسليمان
تمثلات
قدوم قطار الوضعيات المهنيــة
مؤسسة التطبيق الإمام مسلم
مجموعة الأمل
سليمان يتخلص من البورط فوليو
عدوى البورط فوليو تنتقل إلى سليم
سليم والإمتحــان العملي
القاعة رقم 7 في حلة جديدة
الكتكوت حسنين
همسات
بائع الخبز ومحاولة إسقاط البدلة الزرقـــاء
مكتبة محفوظ

موهبة القسم رقم 7
رهــان الكلية
مناسك الخــروج
آخر يوم في مازغان
مطبات التكوين
هواجس التعييـــن
آهات التعييين
وقفة مع المفتش عزيم
بدايــة أستــاذ
أنشــودة مطــر
مسك الختــــــام

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...