عارف والدُمْية | قصة قصيرة ...*وداد طه

⏫⏬
لم تكن سهلةً لملمةُ تلك البقع الحمراء التي لوّثتْ حيطانَ الدكّان. فقد انعجنتْ تمامًا والتحمتْ بقِطع الطلاء المهترئة، التي كان عارف
يتركها تتدلّى فوق رأسه. بدأ يومَه كما كلّ يوم: قصد الدكّانَ شبهَ زاحفٍ على قدمه القصيرة، مرتديًا بنطلونَه الجينز الوحيد، وبلوزةً خضراءَ كالحةً، اهترأتْ ياقتُها، تطوِّقها هالةٌ من العرق. رمى المفاتيحَ فوق الطاولةِ الملأى بأصنافٍ مختلفةٍ من السكاكر والعلكة الرخيصة.

اتّصلت السيّدة نوال التي تسكن في الطابق الأوّل. طلبتْ زجاجةَ عصير، وربطةَ خبز، وعلبةَ حمّص. وضع عارف الأغراضَ في كيسٍ أخضرَ شفّاف، وحين وصل ابنُها ناوله إيّاه بلامبالاةٍ وضيق، ثمّ عاد إلى كرسيّه الملتوي. نظر من الواجهة الزجاجيّة، التي يعلّق فوقها البصلَ والثّوم وصورًا لجورج مايكل، ملاصقةً لصور جمال عبد النّاصر.

غدا الجلوسُ أمام الواجهة، والتأمّلُ في البناية المقابلة، إدمانًا. لم يعد يفرِّق: أهو تعلّقٌ أمْ عادة؟ فقد مرّ زمنٌ طويلٌ على ذلك، وبات التّفريقُ بين الأمريْن غيرَ مهمّ أو ممكن. إحساسُه باللذّة حين يراها كان التعويضَ الوحيدَ الذي أنساه مرارةَ الإقامة الجبريّة في مدينةٍ تكرهُه ويكرهُها. حتّى حين بدّل مكانَ سكنه، وصار المجيءُ يوميًّا إلى الدكّان مرهقًا، فقد كان يجرّ قدمَه المبتورةَ برضًى، لا يرى إلّا خطَّ النّهاية: حين يجلس خلف النافذة ويلمحُها.

صباحَ ذلك اليوم، جاءه أحدُ المَدِينين. طالبه عارف بدَيْنه، وفتح له الدفترَ أثناء المشادّة الكلاميّة، وأظهر له المبلغَ الذي بات كبيرًا. قال الرجُل، وهو يضع يدَه في جيب سرواله الملوّثِ بألوان الطّلاء: "الله بيعين، طوّلْ بالك علينا شويْ، قرّبْ آخر الشهر." عارف يعرف تمامًا أنّ الرّجل لن يردَّ الدَّيْنَ آخرَ الشهر. لوى رأسه لا حسرةً ولا اعتراضًا ولا تعاطفًا. رمى بربطة الخبز في الكيس الأخضر، وناوله إيّاها. فتح دفترَ الدّيون. وفي الصّفحة التي بوّبها باسم الرّجل، كتب تحت القائمة الطّويلة وهو يردّد بصوتٍ مسموع: "ربطة خبز، وسطل لبن، وكيس حفاضات. شو أخدتْ بعد؟"

ذلك النّهار من شهر تمّوز كان يسير ببطء سلحفاة. عارف لا يركّز على الداخل إلى الدُّكّان أو الخارج منه؛ فقد شغَلتْه النافذةُ المغلقةُ عن كلّ شيء. أطفالُ الحيّ خفّتْ أصواتُهم، خصوصًا وقتَ الظهيرة. جرّوا درّاجاتِهم الهوائيّة بعيدًا. بدوْا كجيشٍ منهزم، لا يَقْوون على الحَراك من شدّة الحرّ. اتّصل عارف بشركة تكييف كان قد اتّفق مع صاحبها على أن يشتري منه مكيّفًا بالتقسيط. لم يردّ الرّجلُ، ولم يأتِ أحد من قِبَله. استشاط عارف غيظًا، وزحف نحو كرسيّه. رمى نظرةً إلى النّافذة: لم تفتحْ حتّى الآن. الله يلعن أبو الشّوب. نفخ هواءَ رئتيه السّاخن. عاد إلى شاشة التلفاز يتلهّى. بدا له كأنّ المدينة ابتلعها الحرّ.

كان وحده. رجلُه سليمة تمامًا. تكاد عيناه تعميان من الرِّمال التي تعصف بهما. يركض نحو باب مفتوح. يلوّح لآخرين أن ينتظروه. يصرخ عاليًا، والرّمالُ تبتلع صوتَه. لكنّه ظلّ يركض. يقع. يقوم. ينادي، ويمدّ يدَه وعينَه على الباب. ما إنْ وصل عتبةَ الباب حتّى صفعَه صوتُ انغلاقه. أفاق مذعورًا. غطّت الرمالُ عينيْه، فارتطم بحافّة المكتب الأسود أمامَه. قام من مكانه منتفضًا، يُبعد عن عينيه وجسدِه الرّمالَ. وحين لم تطاوعْه قدمُه العرجاء، عاد إلى وعيه، وفهم أنّ ما رآه كابوسٌ جديد.

استعاذ بالله من الشيطان الرّجيم. قام إلى البرّاد وتناول زجاجةَ عصير.

شارف الوقتُ على المغيب. ملّ عارف الصّمتَ المخيِّمَ على الحيّ. وقف أمام الباب. لاحظ أنّ جمعًا من الأطفال يتحلّقون حول مكبّ النفايات. وحين جاءت خادمةُ السيّدة اعتدال لترمي كيس النّفايات، التهوْا بمضايقتها، فانفرج الجمعُ عن شيءٍ تأْلفه عيناه الخضراوان.

سحبَ رِجلَه نحو الحاوية. دُهش الأولادُ من حركته، فتابعوا رجْلَه وهي تسير إلى جانبه. تضاحك بعضُهم، لكنّهم ظلّوا صامتين.

وقف عارف غيرَ مصدِّق. احتقن وجهُه، وبرزتْ شرايينُ جبينه، وجحظتْ عيناه. مدّ يده إلى الأسفل، والتقط الرّأسَ عن الأرض، ثمّ شهق ببكاءٍ مرّ، ونحيبٍ طويل، وراح يصرخ بلهجته الحلبيّة: "ولكْ ليش؟!"

تفرّق الأولاد. بقي عارف واقفًا يحتضن الرّأسَ المفصولَ عن الجسد. وبجنونٍ، فتّش عن باقي الأعضاء. "ولكْ مين ... ليش عملتوا هيك، مو روحْ هي؟"

وجد الجسد. كانت القدمُ اليسرى قد بُترتْ، والعينُ اليمنى قد انطفأت، وفتحةٌ في الوسط خرمتْه، فتدلّى ليّنًا هزيلًا. كوّم القِطعَ بيده، وانسحب نحو الدكّان.

كان الليل قد حلّ، لكنّ التوقيت الصيفيّ شجّع صاحبَ محلّ التكييف على التوجّه إلى دكّان عارف. ركن الرجلُ سيّارتَه الرّابيد البيضاء، ودلف إلى الدكّان وهو يتكلّم عبر الهاتف. لم يكن عارف خلف المكتب. جلس الرجل. تناول بسكويتةً بطعم الفراولة، فالتهمها، ثمّ قام ليفتّش عن شيءٍ باردٍ يرطّب به حلقَه.
عندما حاذى البرّادَ، وجد عارفًا ملقًى على الأرض، يحتضن الدّمْيةَ. ووجد صورةً لطفلةٍ شقراءَ بفستانٍ أحمر إلى جانبه.

حاول أنْ ينتشلَه، فلم يقدرْ. ارتعد، وراح يطلب النّجدة.
---
حين حملوا عارفًا إلى سيّارة الإسعاف ميّتًا، شيّعه الأولادُ بنظراتٍ ملؤها الحسرةُ والندم. لم يعرف أيٌّ منهم أنّ دميةً ستجعله يقتلُ نفسَه. كانت الدمية قد سقطتْ من النّافذة، فتناهشوها ولعبوا بها. وحين رأوْا أنّهم تسبّبوا في خرابها، رموْها بعيدًا في الحاوية وابتعدوا، كي لا تقتلَهم السّيدة اعتدال إنْ عرفتْ أنّهم خرّبوا دميةَ حفيدتها. علت أصواتُهم وهم يتشاجرون ويلقي كلَّ واحدٍ منهم اللومَ على غيره: "أنت مَن تناولها حين سقطتْ من النّافذة،" "لا أنت مَن أخذها منّي وهروَل بها،" "أنت آخرُ مَن يحقّ له الكلام، ألم تقطعْ رِجْلَها حين كنتَ تقلّد مشيةَ عارف؟" وقال آخرُهم: "هِشّ، لا فائدةَ من هذا الكلام. شفتوا قدّيه بتشبه بنته إلّي بالصّورة؟"

*وداد طه
صيدا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
روائيّة فلسطينيّة. تعمل في حقل التعليم. تحضّر أطروحةَ دكتوراه في الأدب العربيّ. لها ثلاثُ روايات منشورة: ليمونةان، أخون نفسي، حرير مريم. ولها عدّة مقالات ومراجعات نقديّة في الرواية، بالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة المنشورة في صحف ومجلات عربيّة.