١
مضَت أسابيع عدّة منذ آخر لقاءٍ بيننا ، كنتُ أحسبها بالساعات و الدقائق. صحيح أنّها ليست المرة الأولى التي نفترق فيها ، لكنّه الفراق الأطـــوَل ، المرّات السابقة لم يكن فراقنا يجاوز الأيّـــام ، أسبوع كَحدٍّ أقصى ، هذه المرّة قارَب الشهرُ على المُضي و هي
بعيدةٌ عنّي .
كنتُ في كلّ مرّة أحلف ألاّ أعود إليها مجدَّداً ، و أنّها الوداع الأبَدي بيننا ، ثمّ يغلبني الحَنين ، و أجدُ نفسي عُدتُ إليها بشوقٍ و لهفة. أمّا هذه المرّة فهيَ مختلفةٌ تمامـــاً ، فقد عزمتُ ألا أعود مهما قدّمَت لي من مغرَيات . فقد طفَح الكَيل منها ، لَم تعُد تلكَ المُسَلّية اللطيفة التي تروقُ لي في كلّ حين ، لقد كشفَت لي عن وجهها البشِع و طبعِها المَقيت .
أذكُر عندما التقَيتُ طالبَ العِلم آخر مرّة عند باب المسجد ، حينها راح يرمقني بنظرات لا تخلو من ازدراء ، و قال لي بلهجة المُعاتب الناصح :
- أما آن لك يا استاذ حسَن آن تتركها ؟! حرامٌ عليك ما تفعله و أنت المثقّف الفهمان!
يومَها انصرفتُ عنه و آنا أقول له في نفسي :
- و ما دخلك انت ؟ أنا حرّ في حياتي أفعل ما أشاء ، ارحمنا من تنظيرك .
لم أكن أجرؤ أن أواجهه بذلك الكلام ، لكنّني تمنَّيتُ لو فعلت .
تلك اللّيلة أسهرَتني طوال اللَّيل ، لم يغمض لي جفنٌ حتى الساعة السابعة صباحاً، حين رنّ جرَس المنبّه تمنَّيتُ أن ألقيَه من النافذة . آه كم أحتــــــاج للنوم . لكنّه الدوام اللَّعين . تبّاً للقمة العَيش ، إنّها لا ترحَم.
٢
دخَلتُ المكتب بعَينَين شبه مغمضَتين ، لم يكن فريد ليفوّت هذه اللحظات دون أن يتحفَني بتعليقاته السخيفة :
- حرام عليك يا رجل ، ألا ترى حالك ؟! لقد أصبحتَ ( جلداً على عظم ) ، ما تفعله لا يجوز !
انضم إليه أبو محمد لتكتمل الجوقة :
- يا رجل ، ( راس يابس )
دخل عامل البوفيه أبو صطيف بفنجان القهوة ، و كان لا بدّ آن يدلي بدلوه :
- يا استاذ حسن ، لا عليك منهم ، ( ما بيصير إلا اللي كاتبه ربّك ).
لم أعرف هل كان يواسيني أم يوبّخني ، لكنّ معرفتي بمكر أبو صطيف تجعلني أجزم أنه يقصد الثنتَين معــــاً.
ذلك اليوم قرّرتُ أن أتركها و إلى الأبد ، لا لكلّ ما سمعتُ من توبيخ تلميحاً و تصريح ، لكنّ الأمر أصبح فيه تحدّي ، أردت أن أثبت لنفسي أنّها لا تعني لي الكثير و أنّني أستطيع الاستغناء عنها متى شئت .
الأيّام الأولى كانت ارادتي صلبة و عزمي حديد ، لم تكن تخطر على بالي كثيراً أو ربّـــما كنتُ أُبعدها عنوة ، لكن يوماً بعد يوم ضعُفت العزيمة و زاد الحنين .تغيّرت المعادلة و مال الميزان نحوها ، صرتُ أشتاق إليها أكثر ، و أحاول أن أجد تبريراً مُقنعاً لرجوعي إليها . حتّى وصلتُ إلى هنا ... لم أعُد أهتم لما قيل و لا للتحدّي الذي أقحمتُ نفسي فيه .. لم أعد أحتاج حتى لتبرير ، كلّ ما أحتاجه أن أعود إليها .
هذا المساء ، الجوّ هادئ ، الزوجة و الأولاد عند أهلها ، أنا وحدي في البيت ، الفرصة مناسبة للعودة بعيداً عن أعين العذّال و اللوّام.
جلستُ في الصالة أتابع التلفاز و أحتسي فنجان قهوتي و أفكر : قد يكون الوقت مبكراً لاتخاذ القرار ، ماذا ستقول زوجتي إن عرفَت بالأمر و لا بدّ ستعرف ؟ ماذا سيقول الأصدقاء و زملاء العمل ؟ لا شك أنّ الهمز و اللمز سيكثر ، خصوصاً أنّها ليست المرّة الأولى ، أحسّ بالاحراج الذي سيضعني فيه هذا القرار إن اتخذتُه.
لكن ... لماذا عليّ أن أعيش حياتي على مزاج غيري ؟! لماذا ينبغي أن تكون قراراتي على مقاس الناس و وفق شروطهم ؟! حياتي و أنا حـــرٌّ فيها ، حتى زوجتي يجب أن تعرف ذلك و تلتزم بحدود في تدخّلها بخصوصياتي .
ها أنذا ، اتخذتُ قراري ، لا تردُّد بعد الآن .. تعالي إليّ يا حبيبتي .
٣
يا إلهي ، ما أجملكِ ! أعشق قوامكِ الممشوق ، يغريني ثوبُكِ الأبيض الشفّاف ، لم أعد أطيق الانتظار ..
تعالي يا حبيبتي ، فقد طال الفراق ، و طاب العِناق. أعدكِ أنّنا لن نفترق بعد اليوم ، لن أسمع فيكِ قول الواشين و لوم اللائمين .
احساس رائع افتقدتُه طويلاً أن أداعب جسمكِ النحيل بأطراف أصابعي بلطف ، فيما تقتربين من فمي رويداً رويداً. قمّة اللذّة و الارتياح انتابتني حينما ضمّتكِ شفاهي . تنفّستُ الصُّعداء ، ها نحن معـــاً من جديد.
و الآن ، لم يبقَ إلا أن أُخرج الولاعة و أشعلك ِ ، ثمّ أنفث الدّخان من فمي و أنفي ، و أراقبه و هو يتصاعد إلى سقف الصالة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق