وما إن أحضر پيتر حقيبة سفرها على متن القطار، حتّى بدا متلهفًا كي يبعد نفسه عن الطريق. ولكن دون أن يغادر. فسّر لها بأنه كان قلقًا بشأن القطار الذي سوف يبدأ في المسير. خارجًا، على رصيف المحطة، ناظرًا صوب نافذتهما، وقف ملوّحًا. مبتسمًا، وملوّحًا. كانت ابتسامته لكيتي منشورة على آخرها، مشمسة، وبلا أيّ ريبة البتّة، كما لو آمن بأنها ستبقى معجزته، وبأنه سيظلّ معجزتها، إلى الأبد. بدت ابتسامته لزوجته مفعمة بالأمل، مطمئنّة، وتشي بشيء من العزْم. شيء لا يمكن قوله بسهولة، ولا يمكن أن يكون كذلك حقًا. لو كانت غريتا هي التي ذكرت شيئًا من هذا القبيل، لقال لها: "لا تكوني سخيفة". كانت ستوافقه، مفترضة بأنّ الأمر غير طبيعيّ، بالنسبة إلى أولئك الذين يشاهدون بعضهم يوميّاً، وبانتظام، أن يمضوا في تفاسير من أيّ نوع.
وحين كان بيتر طفلًا، حملته أمّه عبر أحد الجبال الذي دائمًا ما تنسى غريتا اسمه، كي تخرج من تشيكوسلوفاكيا السوفييتيّة إلى أوروبا الغربيّة. كان ثمّة أناس آخرون طبعًا. عقد والد بيتر العزم على أن يكون معهما، ولكنّه أرسل إلى إحدى المصحّات قبل موعد الرحيل السريّ. كان يتوجب عليه اللحاق بهما عندما يستطيع، ولكنه، عوضًا عن ذلك، مات.
"قرأت حكايات، كهذه"، قالت غريتا، حين أخبرها بيتر بذلك أوّل مرة. فسّرت كيف، في الحكايات، يأخذ الطفل بالبكاء، وكيف يكتمون صوته، أو يخنقونه، حتى لا يعرّض النّعير المجموعة اللّاشرعية كلّها للخطر.
قال بيتر إنّه لم يسمع بحكاية، كهذه، البتّة، ولن يقول ما الذي توجّب على أمّه فعله في مثل تلك الظروف.
ما فعلته هو الوصول إلى "بريتش كولومبيا"، حيث جوّدت لغتها الإنكليزية، ثم حصلت على وظيفة لتعليم ما كان يعرف في ذلك الوقت بممارسة الأعمال التجارية إلى تلاميذ المدرسة الثانوية. لقد ربّت بيتر لوحدها، وأرسلته إلى الجامعة، وهو الآن يعمل مهندسًا. وحين وصلت إلى شقتهما، ثمّ لاحقًا إلى بيتهما، كانت دائمًا ما تجلس في الغرفة الأمامية، ولا تدخل المطبخ البتّة حتى تدعوها غريتا. كان ذلك ديدنها. اتّسمت بعدم الاكتراث إلى أبعد الحدود. لا تكترث، لا تتطفّل، ولا تقترح، على الرّغم من أنها، وفي كلّ مهارة، أو أحد فنون التدبير المنزليّ، كانت تتفوّق على كِنّتها درجات ودرجات.
حتّى إنها قد تخلّصت من الشقّة التي ترعرع فيها بيتر وانتقلت إلى شقّة أصغر بلا غرفة نوم، مساحة تتسع لأريكة منطوية فقط. "حتى لا يستطيع بيتر العودة إلى أمّه؟"، مازحتها غريتا، لكنها بدت مشدوهة. آلمتها الدعابات. لعلّ المسألة كانت تتعلق بإشكالية في اللغة. لكن الإنكليزية كانت لغتها الطبيعية الآن، واللغة الوحيدة التي عرفها بيتر في واقع الأمر. لقد تعلّم ممارسة الأعمال التجارية (ليس من والدته) حين كانت غريتا تدرس "الفردوس المفقود". تجنّبت كالطاعون أيّ شيء مفيد. بدا كأنه يفعل الضدّ.
بالزجاج بينهما، وكيتي لا تدع التّلويح يهدأ، انهمكا في نظرات رضا هزلية أو مجنونة. خطر ببالها كم كان وسيمًا، وكم كان جاهلاً جدّاً بذلك. كان شعره مقوصًا كما يفعل البحّارة، وفقًا لأسلوب الموضة الرائج في ذلك الوقت— خاصّة لو كان المرء أيّ شيء شبيه بمهندس— كما لم تتورّد بشرته الفاتحة قطّ مثلها، ولم تتبقّع من الشمس، بل هي، وفي كلّ الفصول، ضاربة إلى السمرة على حدّ سواء.
كانت آراؤه شبيهة بإهابه. حين ذهبا لمشاهدة فيلم ما، لم يرغب في الحديث حوله فيما بعد. كان يقول إنه جيّد، أو لا بأس فيه، أو حسَن. لم يدرك مسألة الذهاب أبعد. كان يشاهد التلفاز، ويقرأ الكتب بذات الطريقة على نحو ما. كان يمتلك صبرًا حيال هذه الأشياء. ربما كان الناس الذين جمعوهما معًا قد فعلوا أفضل ما يستطيعون. اعتادت غريتا على المجادلة، تسأل طائشة إن كان سيقول الشيء ذاته حول جسر ما. الذين فعلوا ذلك، فعلوا كلّ ما في وسعهم، لكنّه لم يكن جيّدًا بما يكفي، فانهار كل شيء.
عوضًا عن جدالها، راح يبتسم.
لم يكن الشيء ذاته، قال.
كلّا؟
كلّا.
لا بُدّ أن غريتا قد أدركت بأنّ هاته الوضعيّة— اليدان مفتوحتان، مسامحتان— كانت نعمة بالنسبة إليها، لأنها كانت شاعرة poet، وكانت ثمة أشياء في قصائدها غير مرحة قطّ أو ليس من السهل تأويلها.
(ما زالت والدة بتير والناس الذين عمل معهم— أولئك الذين عرفوا عن ذلك— يلفظونها "شاعرة poetess". لقد درّبته على ألّا يقول ذلك. بخلاف ذلك، لا تدريب ضروريًّا. الأقارب الذين تركتهم خلفها في حياتها، والناس الذين عرفتهم الآن في دورها كربّة بيت وأمّ، لا يتوجّب تدريبهم لأنهم لم يعرفوا شيئًا حول هذه الميزة الخاصة).
سيصبح الأمر عصيّاً على التفسير، لاحقًا في حياتها، حول ما كان مقبولًا في ذلك الوقت وما لم يكن. قد تقول، حسنًا، لم تكن النّسوية أمرًا مقبولًا. ولكن، حينئذ، يتوجّب عليك تفسير بأنّ النسويّة لم تكن مجرّد كلمة استخدمها الناس. ثمّ تجد نفسك قائلًا، وأنت مشغول البال، إنّ امتلاك أيّة فكرة جدّية، ناهيك عن الطموح، أو ربّما قراءة كتاب حقيقيّ، يمكن أن يُعدّ شُبهةً، وله علاقة بإصابة طفلك بالتهاب رئويّ، وإنّ أيّ تعليق سياسيّ في حفلة عمل قد يكلّف زوجك ترقيته. لم يكن مهمّاً تجاه أيّ حزب سياسيّ قد أطلقت تعليقها. كان تَباهي امرأة بنفسها، وقد رفعت صوتها عاليًا، هو ما فعل ذلك كلّه.
سيضحك الناس، قائلين: "لا بُدّ أنك تمزحين"، ثمّ تقولين، حسنًا، ولكن ليس إلى ذلك الحدّ. ثم تقول، على الرغم من ذلك، بأنّك إن كنت تكتب الشعر فإنّه من الأسلم على نحو ما أن تكون امرأة أكثر من كونك رجلًا. كان ذلك حين حلّت كلمة "شاعرة poetess" في متناول اليد، كنسيج من سكّر معقود. لم يكن بيتر ليشعر على ذلك النحو، قالت، لكنها تذكر بأنه قد ولد في أوروبّا. سيدرك، على الرغم من ذلك، كيف من المفترض أن يشعر الرجال الذين عمل معهم حيال هذه الأشياء.
في ذلك الصيف، كان بيتر ذاهبًا لقضاء شهر، أو ربّما أكثر، مكلّفًا بوظيفة في لَنْد Lund، بعيدًا في الأقاصي، بقدر ما يستطيع المرء الذهاب شمالًا، على اليابسة. لم يكن ثمّة سكن ملائم لكيتي وغريتا.
لكنّ غريتا قد ظلّت على تواصل مع فتاة كانت تعمل معها في مكتبة فانكوفر، والتي هي متزوجة الان وتعيش في تورونتو. كانت هي وزوجها على أهبة الذهاب لقضاء شهر في أوروبّا في ذلك الصيف— كان زوجها يعمل مدرّسًا— فكتبت إلى غريتا متسائلة إن كان يمكن لها ولعائلتها أن يجزوا لهما معروفًا— كانت في غاية الأدب— بالإقامة في بيتهما في تورونتو شطرًا من ذلك الوقت، فهي لا ترغب في ترك البيت خاليًا. فردّت عليها غريتا مخبرة إيّاها بشأن وظيفة بيتر، ولكنها تقبل العرض بالنسبة إليها وإلى كيتي.
لهذا كانوا يلوّحون ويلوّحون من رصيف المحطّة ومن القطار.
كانت ثمّة مجلة، آنئذ، تدعى "The Echo Answers"، (أجوبة الصّدى)، تصدر بانتظام في تورونتو. وجدتها غريتا في إحدى المكتبات، فأرسلت إليهم بعض القصائد. نشرت قصيدتين اثنتين، وكانت النتيجة أنّ محرر المجلة حين زار فانكوفر، في الخريف الفائت، أن دعيت إلى حلفة، رفقة كتاب آخرين، لمقابلته. كانت الحفلة في منزل كاتب بدا اسمه مألوفاً بالنّسبة إليها طيلة حياتها. أقيمت الحفلة في أواخر العصر، حين كان بيتر لا يزال في العمل، فاستأجرت جليسة أطفال، ثم استقلّت حافلة شمال فانكوفر عبر جسر "ليونز غييت"، ]بوّابة الأسود[، ثمّ عبر متنزّه ستانلي. ثمّ توجّب عليها الانتظار أمام خليج هدسن لتستقلّ حافلة في رحلة طويلة إلى الحرم الجامعيّ، حيث كان الكاتب يقيم. نزلت من الحافلة في آخر منعطف لها، فوجدت الشارع ثمّ مشت على طوله تُجيل الطّرْف باحثة عن رقم البيت. كانت ترتدي نعلين بكعبين عاليين، ممّا أبطأ خطوها إلى حدّ بعيد. كما ارتدت أكثر فساتينها السوداء أناقة، والذي كان مُزرّرًا بسحّاب عند الظهر، يزنّر الخصر، ومشدودًا بإحكام بالغ عند الوركين. خطر ببالها أنّ الثوب يجعلها تبدو سخيفة، آن زلّت بها الخطى قليلًا، عبر الشوارع المنحنية التي بلا أرصفة، وهي الشخص الوحيد الذي يمشي في الأصيل المتلاشي. بيوت حديثة، نوافذ كبيرة بألواح زجاجيّة أحاديّة، كما في أيّ ضاحية واعدة، ليست قطّ نوع الأحياء السكنيّة الذي توقّعته. بدأت تتساءل إن حصلت على اسم الشارع الخطأ، ولكنها لم تكن غير سعيدة بالتفكير في ذلك. تستطيع أن تعود إلى موقف الحافلات حيث ثمّة مقعد هناك. وتستطيع أن تخلع نعليها وتشرع في رحلة طويلة متوحدّة إلى البيت.
ولكنّها حين شاهدت السيّارات مركونة، رأت الرقم، وكان الوقت قد تأخّر على الرجوع. تسرّب الضجيج إلى الخارج حول الباب الموصد، فتوجّب عليها أن تقرع الجرس مرّتين.
رحّبت بها امرأة بدت كأنها تتوقّع شخصًا آخر. "الترحيب" كان الكلمة الخطأ— فتحت المرأة الباب، فقالت غريتا بأنّ هذا المكان لا بُدّ أنه الذي يقيمون فيه الحفلة.
"كيف يبدو؟"، قالت المرأة، ثمّ انحنت على إطار الباب. كانت الطريق مسدودة حتى قالت غريتا: "هل لي أن أدخل؟". حينئذ وقعت حركة بدت كأنها تسبّب ألمًا بالغًا. لم تطلب من غريتا أن تتبعها، ولكنّ غريتا فعلت ذلك على أيّة حال.
لم يكلّمها أحد، ولم يلحظ وجودها أحد قطّ، لكنّ مراهقة قد اندفعت بعد وقت قصير حاملة صينيّة عليها كؤوس فيما بدا كأنه ليموناضة ورديّة اللون. تناولت غريتا واحدة، وتجرّعتها دفعة واحدة من العطش، ثم تناولت أخرى. شكرت غريتا الفتاة، ثم حاولت بدء حديث حول المسير الطويل الحارّ، لكنّ الفتاة لم تكن مهتمّة فاستادرت مبتعدة، تواصل عملها.
تحرّكت غريتا. ظلّت تبتسم. لم يرمقها أحد بنظرة تمييز أو فرح، ولمَ يفعلون ذلك؟ كانت عيون الناس تنزلق حولها، ثم يواصلون حديثهم. كانوا يضحكون. كان للجميع، إلّا غريتا، أصدقاء يطلقون النّكات والأسرار التي لا ضير من قولها. بدا كأن كلّ واحد قد وجد شخصًا ما يرحّب به، إلّا المراهقات اللواتي واصلن تقديم الشراب الورديّ عابسات دون كلل أو ملل.
ولكنّها، بالرّغم من ذلك، لم تيأس. كان الشراب يساعدها، فقرّرت تناول كأس أخرى آن تمرّ بها الصينيّة. نظرت باحثة عن مجموعة تتجاذب أطراف الحديث، علّها تعثر على فرجة ما تستطيع أن تحشر نفسها فيها. بدا كأنّها قد وجدت واحدة حين سمعت ذِكر أسماء بعض الأفلام. أفلام أوروبيّة، كالتي بدأت تعرض بفانكوفر في ذلك الوقت. سمعت اسم الفيلم الذي ذهبت هي وبيتر لمشاهدته. الضّربات الأربعمئة. "آه، لقد شاهدت ذلك الفيلم". قالت ذلك عاليًا على نحو حماسيّ، فنظروا إليها جميعهم، ثمّ قال أحدهم، والذي من الواضح أنّه الشخص المتكلّم: "حقًّا؟".
كانت غريتا سكرانة، بالطّبع. كأس من جِنّ Pimm ممزوجة بعصير ورديّ من الغريب فروت، أُنزلت على الفور. لم تأخذ هذا التّجاهل البارد على محمل الجدّ مثلما قد تفعل في الأوضاع الطبيعيّة. راحت تجول، مدركة بأنها قد ضلّت طريقها على نحو ما، لكنها تشعر بأنّ أجواء طائشة من حريّة التّعبير تسود الغرفة، فلم تكترث بعدم كسب الأصدقاء. كانت لا تقدر إلّا على الطواف بأنحاء المكان، مطلقة أحكامها الخاصّة.
كانت ثمّة عصبة من أناس مهمّين في الممرّ المقنطر. رأت بينهم المضيف، الكاتب الذي عرفت اسمه ووجهه لفترة طويلة من الزمن. كان حديثه عاليًا ومتوتّرًا، فبدا كأنّ خطرًا يحيق به، وببضعة رجال آخرين، كما لو أنّهم عمّا قليل سيوجّهون إليك إهانة ما آن ينظروا نحوك. حدّثت نفسها بحقيقة أنّ زوجاتهم هُنّ اللواتي قد صنعن الحلقة التي حاولت اختراقها.
لم تكن المرأة التي فتحت الباب متواجدة في أيّ المجموعتين، فقد كانت هي نفسها كاتبة ما. رأتها غريتا تستدير حين سمعت من ينادي اسمها. كان الاسم لمساهمة في المجلّة التي نشرت فيها القصيدتين. على هذا الأساس، أليس ممكنًا أن تذهب وتقدّم نفسها؟ نِدّ، رغم المشاعر الباردة عند الباب؟
ولكنّ المرأة كانت قد أرخت رأسها على كتف الرجل الذي نادى اسمها، ولا يرحّبان بأيّ مقاطعة.
أدّى هذا التأمّل بغريتا إلى أن تجلس، وحيث لم يكن ثمّة مقاعد، جلست على الأرض. خطر ببالها فكرة ما. فكّرت بأنّها حين ذهبت رفقة بيتر إلى حفلة المهندسين، كان الجوّ بهيجًا بالرّغم من كون الحديث ممّلًا. كان ذلك لأنّ الجميع كانوا قد كرّسوا أهميّتهم ووطّدوها، في الوقت الرّاهن على الأقلّ. هنا، لم يكن أحد آمنًا. فالأحكام تطلق من خلف الظّهور، حتّى ضدّ الكتاب المعروفين، والذين نُشرت أعمالهم. كان جوّ من الدّهاء أو الأعصاب يعمّ المكان، بصرف النظر عمّن تكون.
وها هي الآن يائسة أن يفتح معها أحد أيّ حديث على الإطلاق.
وحين بلغت نظريتها في عدم الرضا مبلغها، شعرت بالرّاحة، فلم تكترث كثيرًا إن كان سيكلّمها أحد أم لا. خلعت نعليها، فكانت الرّاحة هائلة. جلست، ظهرها إلى الحائط ومنشبة ساقيها في أحد المماشي الصغيرة. لم تُرد المجازفة بدلق شرابها على السجادة، فتناولته على عجَل.
وقف رجل فوقها، ثم قال: "كيف وصلت إلى هنا؟"
أشفقت على قدميه الغليظتين العريضتين. أشفقت على كلّ شخص يتوجّب عليه أن ينهض.
قالت إنّها قد دُعيت.
"نعم. ولكن، هل جئت في سيّارة ما؟"
"لقد مشيت". لم يكن ذلك كافيًا، وفي غضون برهة تمكّنت من سرد البقيّة.
جئت في حافلة عموميّة، ثمّ مشيت.
كان أحد الرجال الذين كانوا في الحلقة الخاصّة قد وقف الآن خلف الرجل ذي النّعلين العريضين. قال: "فكرة رائعة". بدا مستعدّاً بالفعل كي يتحدث إليها.
لم يكترث الرجل الأوّل بهذا الشخص كثيرًا. التقط نعليّ غريتا، لكنها رفضت تناولهما، موضّحة بأنهما يؤذيانها كثيرًا.
"احمليهما. أو أفعل أنا. هل لك أن تنهضي؟"
بحثت عن الرجل الأكثر أهميّة ليساعدها، لكنّه لم يكن هناك. الآن تذكّرت ما كان قد كتبه. مسرحيّة عن "مجالدي الرّوح القُدُس" حقّقت حضورًا كبيرًا لأنّ "المجالدين" كان يتوجّب عليهم أن يتعرّوا. لم يكونوا "مجالدين" حقيقيّين الطّبع، كانوا ممثّلين. ولم يسمح لهم بالتعرّي قطّ.
حاولت تفسير هذا إلى الرجل الذي ساعدها على النهوض، لكنّه كان غير مهتمّ على نحو واضح. سألت عمّا كتبه. قال إنّه ليس ذلك النوع من الكتّاب، إنّه صحفيّ. يقوم بزيارة إلى هذا البيت رفقة ابنه وابنته، وأحفاد المضيفين. لقد كان الأطفال هم الذين يوزّعون الكؤوس.
"فتّاكة"، قال، مشيرًا إلى كؤوس الشراب. "مجرمة".
كانا قد خرجا الآن. مشت بقدميها المجوربين عبر العشب، متفادية بُريكة بجهد كبير.
"لا بُدّ أن شخصًا قد أفرغ ما في جوفه هناك"، قالت لمرافقها.
"بالطّبع"، قال لها، مودعًا إيّاها في إحدى السيّارات. كان الهواء في الخارج قد بدّل مزاجها، مِن نشوة مضطّربة إلى شيء في حدود الحرَج، وحتّى الخجَل.
"شمال فانكوفر"، قال. لا بُدّ أنها قد أخبرته بذلك. "حسنًا؟ سننطلق. إلى "بوّابة الأسود".
أملت ألّا يسألها ما الذي كانت تفعله في الحفلة. إن توجّب عليها القول بأنّها شاعرة، فإنّ وضعها الحالي، وتدليلها المفرط، سيؤخذان على محمَلٍ نمطيّ في غاية الكآبة. لم تكن قد عتّمت بعد، لكنّه المساء. بدا كأنهما ذاهبان في الاتّجاه الصحيح، عبر بعض المياه ثمّ فوق أحد الجسور. جسر شارع "بَرارد" Burrard. وكلما زادت حركة السير، كلّما ظلّت تفتح عينيها على الأشجار العابرة، ثمّ تغمضهما ثانيةً بلا أيّ معنى لذلك. أدركت حين توقّفت السيّارة بأنّهما سيصلان عمّا قليل إلى البيت. إلى بيتها.
تلك الأشجار العظيمة المورقة فوقهما. لا تستطيع أن ترى نجمة واحدة. لكنّ بعضها يلمع فوق الماء، بين أيّ مكان تتواجد فيه وأضواء المدينة.
"اجلسي وفكّري مليًّا فقط"، قال.
استخّفها الفرح لسماع الكلمة.
"فكّري مليًّا".
"كيف ستدخلين إلى البيت، على سبيل المثال. أتستطيعين تدبّر ذلك دون أن تفقدي وقارك؟ لا تبالغي في الأمر. لا تكترثي؟ أسلّم جدلًا بأن لديك زوج ما".
"لا بُد لي أن أشكرك أوّلًا على توصيلك لي بالسيّارة إلى البيت"، قالت. "ولا بُد أن تخبرني باسمك".
قال لها إنّه قد أخبرها بذلك من قبل. ربّما مرّتين. ولكن، لا بأس من مرّة أخرى. هاريس بينيت Bennett. بينيت. كان صهر الناس الذين أقاموا الحفلة. كان أولئك أطفاله الذين وزّعوا الكؤوس. كان هو وإيّاهم قادمين للزّيارة من تورونتو. هل شعرتْ بالرّضا؟
"هل أمّهم موجودة؟"
"بالطّبع. لكنّها في المصحّة".
"إنّي آسفة".
"لا عليك. إنها مصحّة جيّدة على نحو ما. إنها للمشاكل العقليّة. أو قد تقولين للمشاكل العاطفيّة".
كانت على وشك إخباره بأنّ اسم زوجها هو بيتر وإنّه يعمل مهندسًا وإنّ لهما بنتًا اسمها كيتي.
"حسنًا، هذا شيء في غاية اللّطف"، قال، وقد أخذ في التراجع.
عند بوّابة الأسود، قال: "معذرةً لما بدوت عليه. كنت أفكّر إمّا أقبّلك أو لا، فقرّرت العدول عن ذلك.
فكّرت بأنّه كان يقول إنّ شيئًا فيها لا يريقى إلى حدّ أن تُقبّل. كان الشعور بالخزي كلطمة أعادتها إلى وعيها.
"هل نسلك الطريق البحريّ Marine Drive، حين نقطع الجسر؟" واصل حديثه. "سأعتمد عليك أن تخبريني بذلك".
ولم يكد يمض يوم واحد، طيلة الخريف القادم والشتاء والربيع القادمين، لم تفكّر فيه. كان الأمر كمن يحلم ذات الحلم آن يخلد إلى النوم مباشرة. كانت تسند رأسها على الوسادة الخلفيّة للأريكة، متخيّلة أنها مستلقية بين ذراعيه. لن يعتقد المرء بأنها ستذكر وجهه، ولكنّه كان يتراءى فجأة بتفاصيله، وجه لرجل متغضّن، بل هو متعب، ساخر ويعشق الأماكن المغلقة. لم يكن جسده غائبًا، كان حاضرًا كجسد مرهق إلى حدّ معقول، ولكنّه قادر، ومشتهىً على نحو فريد.
كادت أن تبكي بلهفة. لكنّ صورته المتخيّلة تلاشت، ودخلت في سُبات عميق، حين جاء بيتر إلى البيت. حينئذ، انبعثت العواطف اليوميّة الجيّاشة بينهما بقوّة، جديرة بالثّقة كما هو شأنها دائمًا.
كان الحلم في الواقع شبيهًا بطقس فانكوفر إلى حدّ بعيد— شيء من لهفة موحشة، حزن مَطير حالم، ووطأة تنقّلت حول القلب.
وماذا عن رفض التّقبيل، والذي ربّما يبدو صفعة وضيعة؟
شطبت بكلّ بساطة الفكرة من رأسها. نسيتها تمامًا.
وماذا عن شِعرها؟ لا بيت، لا كلمة. ولا حتّى إلماعة كانت قد اكترثت لأمرها قطّ.
لا ريب أن هذه الأشياء قد أقلقتها في الغالب حين كانت كيتي غافية. كانت أحيانًا تلفظ اسمه عاليًا، لقد أسلمت نفسها للبلاهة. تبع ذلك شعور عارم بالخجل فاحتقرت نفسها. البلاهة حقًّا. أيتها البلهاء.
ثمّ جاءت هِزّة ما، احتماليّة الحصول على وظيفة في لَنْد، وتحقُّق ذلك فعلًا، ثمّ عرض الإقامة بذلك البيت في تورونتو. انطلاقة واضحة، ومنفذ إقدام وجسارة.
وجدت نفسها تكتب رسالة ما. لم تبدأها بطريقة تقليديّة. لا "عزيزي هاريس". ولا "أتذكرني".
كتابةُ هذه الرسالة كوضع مكتوب في زجاجة—
على أمل
أن يصل إلى اليابان.
كانت، بعد بريهة، أقرب إلى القصيدة منها إلى أيّ شيء آخر.
لم تكن لديها أدنى فكرة عن العنوان. كانت جريئة وحمقاء بما يكفي لتهاتف الناس الذين أقاموا الحفلة. ولكن، حين أجابت المرأة، نشف ريقها وشعرت بأنّها كتُندرا، فأغلقت السمّاعة. ثمّ حملت كيتي بالعربة إلى المكتبة العموميّة، وعثرت على دليل هواتف مدينة تورونتو. كان ثمّة كثيرون ممّن يحملون اسم بينيت، دون أيّ ذِكر لاسم هاريس أو هـ. بينيت.
ثمّ خطرت حينئذ فكرة صاعقة، أن تبحث في إعلانات النّعي. لم تستطع أن تمنع نفسها. انتظرت حتّى فرغ الرجل الذي يقرأ نسخة المكتبة. لم تشاهد صحيفة تورونتو، لأن المرء يتحتّم عليه في الغالب أن يقطع الجسر لجلبها، وكان بيتر دائمًا ما يجلب إلى البيت صحيفة فانكوفر صنّ. وهي تقلّب الصفحات سريعًا، عثرت على اسمه في أعلى أحد الأعمدة. لم يكن ميّتًا إذن. عمود صحفيّ. هو لن يرغب، بطبيعة الحال، في أن يزعجه أناس يطلبونه بالاسم على الهاتف، في البيت.
كتب في السياسة. بدت كتابته ذكيّة، لكنّها لم تكثرت بها قطّ.
أرسلت رسالتها إلى هناك، إلى الصحيفة. لم تستطيع التيقُّن إن كان هو الذي يفتح بريده الخاصّ، خطر ببالها أنّ وضع كلمة "شخصي" على المظروف قد يجلب المشاكل، فلم تكتب سوى تاريخ وصولها وزمن القطار، بعد النُّتفة التي عن الزجاجة. لا اسم. فكّرت بأنّ أيّما شخص يفتح المظروف سيعنّ على باله قريب كبير في السنّ ذو تعابير غريبة. لا شيء يورّطه، حتّى لو افترضنا أن هذا البريد الغريب قد أرسل إلى بيته وفتحته زوجته، التي كانت قد خرجت لتوّها من المصحّة.
لم تدرك كيتي بوضوح أنّ وجود بيتر في الخارج على رصيف المحطّة يعني بأنّه لن يسافر معهما. وحين بدءا بالتحرّك وهو لم يفعل، وحين بسرعة فائقة تركاه خلفهما، تقبّلت الهجران بصعوبة بالغة. لكنّها هدأت بعد برهة، مخبرة غريتا بأنه سيكون هناك في الصباح.
وحين جاء ذلك الوقت كانت غريتا قلقة، لكن كيتي لم تأت على ذكر غيابه قطّ. سألتها غريتا إن كانت جائعة، فقالت نعم، ثمّ فسّرت لأمّها— مثلما فسّرت غريتا لها قبل أن تصعدا إلى القطار— بأنّ عليهما الآن أن يخلعا مناماتيهما ويبحثا عن فطورهما في غرفة أخرى.
"ماذا ترغبين على الفطور؟"
"حبوبًا هشّة". هذا يعني حبوب أرز مقرمشة (ماركة Rice Krispies).
"سأرى إن كان لديهم ذلك".
يوجد عندهم.
"سنذهب الآن ونعثر على أبي؟"
كانت ثمّة منطقة لعب للأطفال، لكنها كانت صغيرة جدًّا. ولد وبنت— أخ وأخت، يشي بذلك زيّاهما الأرنبان— قد استوليا عليها. كانت اللعبة أن يُطلقا سيّارات صغيرة باتّجاه بعضهما ثمّ ينعطفا بها في اللّحظة الأخيرة. اصطدام. ارتطام. اصطدام.
"هذه كيتي"، قالت غريتا. "أنا والدتها. ما اسمكما؟"
أشتدّت حدّة تحطّم السيارات لكنّهما لم يرفعا عيونهما.
"أبي ليس هنا"، قالت كيتي.
قرّرت غريتا إنّه من الأفضل أن تعودا أدراجهما وتحضرا كتاب كيتي، "كريستوفر روبين"، ثمّ تأخذانه إلى السيّارة المُقبّبة وتقرآنه. لم ترغبا في إزعاج أحد لأنّ الفطور لم يجهز، وكان المشهد الجبليّ الجليل لم يبدأ بعد.
كانت المعضلة تكمن في أنّ كيتي آن تفرغ من "كريستوفر روبين"، فإنّها ترغب في قراءته من جديد، على الفور. لقد كانت هادئة أثناء القراءة الأولى، لكنّها الآن أخذت في ترنيم نهايات الأسطر. ثمّ راحت تُنشد كلمةً كلمةً على الرّغم من أنها ما زالت غير مستعدّة لتجريب ذلك لوحدها. تخيّلت غريتا كم سيكون الأمر مزعجًا للنّاس حال تمتلئ السيّارة المُقبّبة. لم تكن لدى الأطفال الذين في عمر كيتي أيّة مشكلة مع تنغيم الكلام. في الواقع، لقد رحّبوا بذلك، منهمكين فيه، يلفّون الكلمات المألوفة حول ألسنتهم، كما لو كُنّ حلوى قد تدوم إلى الأبد.
صعد ولد وبنت السّلالم وجلسا قبالة غريتا وكيتي. قالا "صباح الخير" بمرح عامر، فردّت غريتا التحيّة. لكنّ كيتي أبت التّسليم بوجودهما، فواصلت التّرتيل بنعومة وعيناها على الكتاب.
ثمّ عبر الممرّ جاء صوت ولد ما، هادئًا كصوتها إلى حدّ بعيد:
إنّهم في قصرِ باكنغهامَ يبدّلونَ الحَرَسْ
إلى هناكَ مضى، كريستوفر روبينْ مَعْ أَلِيسْ
*تحسين الخطيب
مترجم وكاتب من فلسطين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق