حين نتصفح تلك الدفاتر، نحلم بوضع اليد على نصوص إبداعية؛ ترقى إلى مستوى الأدب البليغ واللغة المتألقة بقوانين عصرها، المحكومة بشروط الصوغ القديم؛ لا تحيد عنه قيد أنملة....كثيرة هي الدفاتر.... غير أن الاختيار؛ يظلُّ رهين الأذواق، رهين الرؤى في محضن النقد المعاصر والذي غدا أكبر هّمه؛ عرض "النص" على طاولة التشريح؛ بحثاً عن علة، يكتسي بموجبها حُكماً نافذاً؛ إمّا الرّيادة وإمّا الاضمِحْلال....!
من وجدانيات أحمد المقري
كَما جَالَ قَلَمه، جَالَت قَدَمه ...
إنّه أحمد المقّري (-1041 هـ) متصدّر النخبة في القرن 11 هـ، وصاحب أوسع تأليف – على عهده – في الأندلسيات المعروضة في عشرة أجزاء والتي وسمها – كما هو
معروف- بـِ: " نفح الطيب من غصن الأندلس الرّطيب و ذكر وزيرها لسان الدّين بن الخطيب".
وَكَوْنْ هذا التَّأليف مؤسَّس في الأصل على تقصِّي سيرة الوزير لسان الدّين؛ لم يمنع كاتب السّيرة من الخوض في ملفّات متنوعة، فجمع وعرضَ، و أطنب و أسهم، و وصف و استحضر، و علّق و عقّب، واستحسن و اسْتساء، و اغترف من معين المنثور و المنظوم على السّواء، واهتم بالحدث، فتقصّاه، و بالموقف فناوشه، فإذا بالنّفح يعّج بالحركة ويَصْدَحُ بضجيج الاستطراد و كثافة الاستدراك ، يُنْطِقُ الأموات بتوظيف أشعارهم وأنثارهم، ثمّ الترّحم عليهم، و يلج باب الأحياء، فينقل حركتهم و يدوِّن وجودهم في حياته. يقول عن المُسْتقبلين له عند دخوله دمشق:" ... وقابَلوني، أسماهم الله بالإحتفال و الاحتفاء، و عرّفني بديعُ بِرِّهِمْ فنَّ الاكتفاء:
غَمَرَتْني المَكَارِم الغُرُّ مِنْهم وَ تَوَالَت عَلَيَّ مِنْهَا فُنـــُونُ
شَرْطُ إحْسَانِهِمْ تَحَقَّقَ عِنْدي لَيْتَ شِعْري الجَزَاءُ كَيْفَ يَكونُ؟
وقابلوني بالقَبول مُغْضين عن جهلي:
وَ مَازَالَ بِي إِحْسَانُهُمْ وَ جَمِيلُهُمْ وَبـِرُّهُم حَتَّى حَسِبْتُهُمْ أَهْلِي
و يذكر المقّري من كان في طليعة المستقبلين أحمد بن شاهين، شاعر الشام الكبير (-1053 هـ) فيقول في بعض ما يقول عنه: " صَدرُ الأَكابر، الأعاظم، الحائِز قَصَبَ السّبق في ميدان الإجادة بشهادة كل ناثر وناظم، الصَّديق الذي بوُدِّه أغتبِطُ، و الصَّدوُقُ الذي بأسباب عهده أَرْتَبِطُ (...) الأجلُّ المولى أحمد أفندي بن شاهين، لازالتِ العزَّة مقيمة بِواديهِ، ولا بَرِحَتْ حضرته جامعة لبواطن الفخر و بواديه (...) فكم له – أسماه الله – و لغيره من أعيان دمشق لديَّ من أيادٍ، يعجزُ عن ِ الإبانةِ عنها لو أرادَ وَصْفَها قُسُّ إيَّاد (...) فليتَ شِعْري.. بأي أسلوبٍ أُؤَدّي بَعْضَ حقِّهم المطلوب؟ أَمْ بِأيِّ لِسان، أُثْني على مزاياهم الحِسان؟ (...) فهُم الذِين نوَّهوا بقدري الخامل، و ظنُّوا مع نَقصي أنَّ بحْرَ معْرفَتي وافر كامل، حسبما اقتضاهُ طبعُهُم العالي:
فَلَوْ شَرَيْتُ بِعُمْرِي سَاعَةً ذهَبَتْ مِنْ عِيشَتِي مَعَهُمْ مَا كَانَ بِالغَالِي
فَمُتَعَيَّنُ حَقِّهِم لا يُتْرَك، و حُبُّهُم لا يُخالَطُ بِغَيْرِهِ و لاَ يُشرَك، وَ إِن أطَلْتُ الوَصْفَ فالغاية في ذلك لاَ تُدْرَك..."
وَ المُتأمل في هذا المقتطف، يستشعِرُ ثنائية الجمْع بينَ عرضِ الحدَث و استدعاء الصورة الجمالية لِتَغْليفِ – إن جاز القول- هذا الحدث الذي يُسْبِغُ عليه الكاتب حلّة من الاحتفالية والترحيب بِضَيْفِ دمشق –بلبل تلمسان- و إذا بالصورة المنتقاة لترجمة الحبور تَرْفُلُ في فنيات البديع والبلاغة، وَ تُبْحِرُ في غَوْر التَّشْكيل الجمالي و كأنِي بصاحبها يَأْبى إِلاَّ أن يقتسم هذه الحفاوة ، مع الكلمة الرقيقة، و العبارة البهيجة، فيستدعيها لتشهد - بدورها – كرم المضيف، و شهامة المُعْتَنِي بالغريب و طقوس إجلال هذا الوافد على بلاد الشام، وإذا بالصُّورة تَنْساب في تَمَظْهُرٍ خَطِّي بَديعِ التَوْزيع، قَمِين بالمُدَارَسة و التَّدبُّر.... .
بداعة التوزيع :
ماَ مِنْ شكِّ أن القارئ ليس أمام نَثْرٍ عادِي، و لا أمام أداءٍ أُسْلُوبي هشّ... كما أنه ليس أمام نُتُوءٍ فنِّي في تاريخ الصِّياغة العربية القديمة... فطالما امْتَلَكَ مُماَرِسُوهَا صَهْوَة الأداءِ، وكانوا فُرسان البلاغة و عُمَدَاء فنون القوْل بِمُخْتلف أَنْسِجَته و في محاولة لمقاربة هذا المقتطف، يقف القارئ على شكل مُوَزِّعٍ ما بين طول في الفواصل تارة، و قِصَرٍ فيها تارة أخرى، ويَخْتَزن طولهما و قِصَرُهُما على السواء، شحنة تصويرية يحرِّكُها نَسيجٌ سرديٌّ فَضْفاضٌ قائم على:
أ- البِنْية الإجلالية:
اكْتَسَحَتْ هذه البِنية سِعة المقتطف، و اتخذت شكلاً حلزونيا يبدأ بتوظيف التّبجيل وينْتَهي بِأَحَقِّيةِ التَّمجيد...
يقول المقّري مُبَجِلاً أحمد بن شاهين: " صدر الأكابر الأعاظم، الحائز قَصَب السّبقِ في ميدان الإجادة بشهادة كل ناثر و ناظم..."
حَوَتِ الفاصلتان إِكْبَاراً و تَعظيماً، تلاهُماَ تَصْنيفٌ لِنوعية النُبوغ، ثمَّ تحديد لنوعية العلاقة الجامعة بين الرّجلين: "الصّديق الذي بِوُدِّهِ أَغْتَبِطْ، والصَّدُوق الذي بأسباب عهده أرْتَبِطْ ..." وكاَنِّي بالمقّري يَفْتَتِحُ تصعيدا حِكائِياًّ لما هو كائن و لما سيكون بين الَّرجُلين من تواصلٍ أوجبته وحدةُ النبوغ؛ فكلاهما أديب ... و أوجبه اجتماع الرَّأي حول عظمة أحد أعلام القرن الثامن الهجري: الوزير " لسان الدين بن الخطيب" فابن شاهين اقترح و طلب ثمَّ ألحَّ على ضرورة إعادة إحياء سيرة لسان الدين، و المقرِّي تباطأ بدايةً ، لكنه لم يَلْبَثْ أَنْ جدَّ وانطلق فجاء النفح "باقة" تُزَيِّنُ صدر القرن الحادي عشر للهجرة، و تَسْري نفحاته إلى يومنا هذا... إنه أريج الخزانة العربية عامّة و الخزانة الجزائرية خاصّة...
و يَسْتَرْسِلُ الكاتب مُوَظِّفاً بِنْيةَ الإجلال التي تقتضي الدُّعاءَ للممدوح: " لا زالتِ العزَّةُ مُقيمة بِوَاديه، و لا بَرِحَتْ حَضْرته جامعة لبواطن الفخر وبَوَاديه". و يكتمل الشِّقُّ الأوّل من بنية الإجلال – و الذي كان محوره أحمد بن شاهين- بِشِقٍّ ثانٍ: أعيان دمشق الذين ساهموا و شاركوا في الاحتفالية بِبُلْلِ تلمسان، فأكرموه و أجلُّوه حتّى وجد نفسه عاجِزا عن سُبُلِ شُكرهِم: "ولِغيرهِ من أعيانِ دمشق لديَّ من أيادٍ، يَعجِزُ عن الإبانةِ عنها لو أراد وصفَهَا قسّ إياد (...) فليتَ شِعري بِأَيِّ أسلوبٍ، أُؤَدّي بعض حقِّهم المطلوب؟ أم بأيّ لسان، أُثْنيِ على مزاياهم الحسان؟..."
و هكذا طفِق المقّري في تشخيص فِعلِ الاستقبال الحسن، فتسلّل الوصف إلى السّرد لِيُكوّنا معًا وَحْدَة حكائية مُؤَسَّسة على الصِّياغة المُميَّزة، و مُدعَّمة بفلتات شعرية، جادت بها قريحة المقّري و هو في قمة الانفعال تُجاه من أَكرموا وِفادَتهُ:
فَلَوْ شَرَيْتُ بِعُمْرِي سَاعَةً ذهَبَتْ مِنْ عِيشَتِي مَعَهُمْ مَا كَانَ بِالغَالِي
إنَّه تصاعدٌ يُحمِّل البِنية الإجلالية دلالة فوق دلالَتها، و يتشعّب بها – ربَّما- إلى أمرٍ يَحُزُّ في نفسية هذا الكاتب، خاصّة عندما زار المغرب الأقصى، و لم يرُقْه المقام فقال: " إنَّهُ لمَّا قضى المَلِكُ الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقُّب أوْ رَدٌ، ولا محيدَ عمَّا شاءهُ سواءٌ كرهَ ذلكَ المرءُ أَوْ رَدَّ؛ بِرِحلتي من بلادي، و نُقلَتي عن محلِّ طارفي و تلادي، بقُطر المغرب الأقصى، الذي تمَّت محاسنه لولا أنَّ سماسِرة الفِتَن سَامَتْ بَضاَئع أمنِهِ نقصاً، وَطَماَ به بحرُ الأهوال، فاستَعْمَلَت شعراء العَيث في كامِل روْنَقه من الزخارف إضماراً و قطعاً و وقصا (...) و ذلك أواخر رمضان من عام سبعة و عشرين بعد الألف، تاركاً المَنْصبَ و الأهل، والوطن و الإلف..."
كما يبدو فالإسْتياءُ واضحٌ من وضع غامض، امتعض منه الكاتب، عكس ما وجده في دمشق التي أحبها و أحب أهلها حبا صافيا " و حبهم لا يخالط بغيره و لا يُشْرَك، و إن أطَلْتُ الوصف فالغاية في ذلك لا تدرك" ويسترسل المقَّري في حكائيته، فيأبى إلا أن يفتح نافذة المفاضلة بين المغرب والمشرق بالبديهة، و دون أية خلفية مسبقة، و كأنه يعزف فقط على وَتَرِ "لا كرامة لنبي في قومه " فيقول: فهم الذين نوَّهوا بقدري الخامل، و ظنوا مع نقصي أن بحر معرفتي وافر كامل حسبما اقتضاه طبعهم العالي"
يتسلل سؤال مشروع: هل لم يُنْصَفِ الرجل في بلده؟ هل لم يعرف المغاربة قدرَهُ؟ وكأنِّي بالمقَّري – رغم نبوغه- يرمز ضمنيا إلى أنه لا يداني حلبة الفطاحل من المشارقة، وأنه لولا شهادتهم فيه لظل خامل الذكر مغمورا... و تلك – لَعَمْرِي- قِمَّة التواضع عند صاحب النفح ... ألم يقُل في موضع آخر من النفح:
وَلَكِنْ قُدْرَة مِثْلِي غَيْرُ خَاِفَية وَ النَّمْلُ يُعْذَرُ فِي القَدْر الذِي حَمَلاَ
ب- البنية الوصفية:
كما اعتنى المقري بأهل الشام و أعيانها، التفت إلى طبيعة دمشق، واستعذب جمالها و أطلق العنان لقلمه واصفا: "... دمشق الشام، ذات الحسن و البهاء و الحياء و الاحتشام، والأدواح المتنوعة، و الأرواح المتضوعة (...) و الأظلال الوريفة، و الأفنان الوريقة، والزهر الذي تخاله مَبْسَمًا والندى ريقه، و القضبان المُلْدُ التي تشوق رائيها بجنة الخلد (...) و رأينا من محاسنها ما لا يستوفيه مَن تأنَّق في الخطاب، و أطال في الوصف وأطاب، و إن ملأ من البلاغة والوطاب ..."
و كأن الوصف نثرا، لم يكفه، فحاول أن يلخِّص محاسن دمشق مرتجلا لعدة أشعار أجتزئ منها بالآتي:
قَالَ لِي: مَا تَقُولُ فِي الشَامِ حَبْرٌ كُلَمَا لاَحَ بَارِقُ الحُسْنِ شَامَه
قُلْتُ مَاذَا أَقُولُ فِي وَصْفِ قُطْرٍ هُوَ فِي وَجْنَةِ المَحَاسِنِ شَامَه
و ينزع المقري في محكياته الشامية إن صح القول – إلى سرد بعض من نشاطاته أثناء إقامته بتلك الربوع، فيقول:" و كنا في خلال الإقامة بدمشق المحوطة ، و أثناء التأمل في محاسن الجامع و المنازل و القصور و الغوطة، كثيرا ما نَنْظِمُ في سلك المذاكرة دُرَرَ الأخبار الملقوطة، و نتفيأ من ضلال التبيان مع أولئك الأعيان في مجالس مغبوطة، نتجاذب فيها أهداب الآداب، و نشرب من سلسال الاسترسال، و نتهادى لباب الألباب، (...) ونستدعي أعلام الأعلام، فينجر بنا الكلام و الحديث شجون، و بالتفنن يبلغ المستفيدون ما يرجون، على ذكر البلاد الاندلسية، و وصف رياضها السندسية (...) فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على لساني، من الفيض الرحماني..." "
يُسْتخلص من هذا المقتطف جنوح المقري إلى المتعة الذهنية القائمة على المشاركة العلمية في مجالس دمشق و المُعْرِبة عن كفاءة الرجل في تنشيط مثل هذه المجالس، خاصة حينما خاض في أخبار الأندلس و أشعار الاندلسيين و عرج على لطائف لسان الدين شعرا و نثرا، فبهر به الجلساء، و كان هذا كافٍ لُيجِلُّوهُ و يُنَوِّهُوا بذكره من ناحية، و ليطلب منه شاعر الشام "ابن شاهين" تدوين سيرة الوزير لسان الدين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. يقول المقري: " ... و أسرُدُ من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السلماني، صب الله عليه شآبيب رحماه و بلَّغه من رضوانه الأماني! ما تثيره المناسبة و تقتضيه، و تميل إليه الطِّباع السليمة و ترتضيه، من النظم والجزل، في الجد و الهزل و الإنشاء، الذي يدهش به ذاكره الألباب إن شاء، و تصرفه في فنون البلاغة حالَيْ الوِلاية و العزل (...) فلما تكرر ذلك غير مرة على أسماءهم، لهِجوا به دون غيره (...) و علِق بقلوبهم، و أضحى منتهى مطلوبهم (...) فطلب مني المولى أحمد الشاهيني (...) أن أتصدى للتعريف بلسان الدين ..." "
بهذا التكليف، و بهذه المجالس يسطع نجم المقَّري في الأفق، ويحسب له ألف حساب وحساب... و مع ذلك نتساءل: هل كان الرجل سعيدا بكل هذا ؟ و هل صفيت مشاربه، فاطمأن إلى الناس و إلى الحياة اطمئنان الحالم المتنعم؟!
لا أظن... فالنَّغص موجود، و النكد يخترق نطاق الكتمان... يقول المقَّري متفجعا: " وأنى يطيق، سلوك هذا المضيق، من اكتحلت جفونه بالسهاد، و نبتْ جنوبُه عن المِهادِ، وسدَّد نحوه الأسف سهمه، و شغل باله ووَهْمَهُ، و بثَّ في قلبه تبريحا، و عناء لم يجد منه إلا أن يلْطُفَ الله تسريحا، فما شام بارِقةَ أملٍ إلا في النادر، ولا ورد منهل صفاء إِلا و كدَّره مكر غادر، و قد كثر الجفاء، و برِح بلا شك الخفاء (...) والصديق الصدوق في هذا الزمن قليل (...) و داء الحسد أعيا الأول والآخر، و قد عظُم الأمر في هذا الأوان و كثُر المزدري والساخر (...) وليت شعري علام يُحْسَدُ من أبدل الاغتراب شارته (هيئته) وأضعف الاضطراب إشارته، و أنهل بالدموع أنواءه، و قلل أضواءه، (...) و شتان ما بين الاقتراب و الاغتراب (...) فذاك تسهل غالبا فيه الأغراض و المآرب، و هذا تتعفر فيه المقاصد وتتكدر المشارب..." "
يَا رَبْ نَفِّسْ هُمُومِي وَ اكْشِفْ كُرُوبِي جَمِيعًا
فَقَدْ رَجَوْتُ كَرِيمًـا وَ قَدْ دَعَوْتُ سَمِيعًــا " "
لعل "الفجيعة" في هذا المقتطف بادية جلية، فجيعة النفس الإنسانية حين يستفحل أساها، حين تدقها مطارق الغدر و المكر، و تهشمها على مرايا الزمن، و دون سابق إشعار: فالمقَّري مهموم مكلوم، شاك على القرطاس بعضا من منغصات عيشهِ، و إن سكت من منغصات عيشه، و إن سكت عن تعيين سببها في البداية، و اكتفى بتصوير الحال: (السهاد، الأسف، الانشغال، التبريج، الكدر، الجفاء) إلا أنه لا يلبث أن يشخصن هذه المنغصات:
• افتقاد الصديق الحق
• استفحال الحسد
• شيوع السخرية و الازدراء
و كلها – لعمري- ما اجتمعت على إنسان إلا و أقضت مضجعه، ودقت عظمه، إلا من رحم ربك... إنها ضريبة الإمتياز يؤديها المرء على هذا النحو ... فإما يصمد ويواجه الإعصار، و إما ينهار و يفلت منه القرار، فيصبح صيدا لشماتة الأعداء ونكتة في أفواه السفهاء... .
جـ- بنية الوداع:
لم يكن وداع دمشق والدِّمَشْقيين بالأمر الهين، فقد أشجى قلب بلبل تلمسان، و هو الإلف المألوف في تلك الربوع... فراح يسكب على القرطاس أثر الحدث على نفسه، ويتمثل بالغزير من أشعار غيره في مثل هذا الموقف: " ثم حضر بعد تلك الليلة موقف الوداع و الكل ما بين واجم وباك و داع، فتمثلتُ بقول مَن قلبه لفراق الأحباب في انصداع:
وَدَعَتْهُمْ وَ دُمُوعِي عَلَى الخُدُودِ غِزَارْ
و حُقَّ لي أن أتمثل في ذلك يقول العزازي
لاَ تَسَلْنِي عَمَا جَنَاهُ الفِـــرَاقُ حَمَّلتْنِي يَدَاهُ مَالاَ يُطَــاقُ
أَيْنَ صَبرِي أَمْ كَيْفَ أَمْلِكُ دَمْعِي؟ وَ المَطَايَا بِالظَاعِنِينَ تُسَاقُ
و ضاقت بي الرحاب، عند مفارقة أعيان الأحباب و الصحاب، وكاثرت دموعي من بينهم السحاب، و زَنْدُ التذكُّر يقدح الأسف فيهيِّج الانتحاب (...) و تخيلنا أن إقامتنا بدمشق، وقاها الله كل صرف، ما كانت إلا خطرة طيف ملم، أو لمحة طرف (...) و طالما عللت النفس بالعود إليها ثم إلى بقاعي (...) ثم أكثرت الالتفات عن اليمين و عن الشمال (...) وتنسمت من نواحي تلك الأرجاء أريج الشمال (...) ثم استجد بي السير إلى مصر واستمر..."
و فعلا غادر المقري "دمشق" و قصد مصر حيث سيشرع في تدوين سيرة لسان الدين... وظلت الذكريات الشامية عالقة بذهنه، متوهجة في قلبه، و كثيرا ما لهِجَ لسانه – كما حكى ذلك – بقول القائل:
وَ مَا تَفْضُلُ الأَوْقَاتُ أُخْرَى لِذَاتِهَا وَلَكِنْ أَوْقَات الحِسَان حِسَانُ !!
وتظل محكيات المقري غزيرة، غنية، متنوعة ترقى بالمتن إلى أصول التقعيد لموسوعة أدبية عربية، أبدعها واحد من أبناء هذه الأرض الطيبة... وقامت هذه الموسوعة على إفراز وضعيات، و رصد مواقف أسهمت كلها في اتساع دائرة الحكي، رغم أن هذا العرض المتواضع لم يتجاوز حدثا رئيسا ألا وهو تواجد المقري في دمشق و ما كشف عنه من علاقات وشيجة مع أهل الشام حيث طاب المقام، وجرى القلم بمجريات الأحكام...
*شميسة غربي
سيدي بلعباس- الجزائر
من وجدانيات أحمد المقري
كَما جَالَ قَلَمه، جَالَت قَدَمه ...
إنّه أحمد المقّري (-1041 هـ) متصدّر النخبة في القرن 11 هـ، وصاحب أوسع تأليف – على عهده – في الأندلسيات المعروضة في عشرة أجزاء والتي وسمها – كما هو
معروف- بـِ: " نفح الطيب من غصن الأندلس الرّطيب و ذكر وزيرها لسان الدّين بن الخطيب".
وَكَوْنْ هذا التَّأليف مؤسَّس في الأصل على تقصِّي سيرة الوزير لسان الدّين؛ لم يمنع كاتب السّيرة من الخوض في ملفّات متنوعة، فجمع وعرضَ، و أطنب و أسهم، و وصف و استحضر، و علّق و عقّب، واستحسن و اسْتساء، و اغترف من معين المنثور و المنظوم على السّواء، واهتم بالحدث، فتقصّاه، و بالموقف فناوشه، فإذا بالنّفح يعّج بالحركة ويَصْدَحُ بضجيج الاستطراد و كثافة الاستدراك ، يُنْطِقُ الأموات بتوظيف أشعارهم وأنثارهم، ثمّ الترّحم عليهم، و يلج باب الأحياء، فينقل حركتهم و يدوِّن وجودهم في حياته. يقول عن المُسْتقبلين له عند دخوله دمشق:" ... وقابَلوني، أسماهم الله بالإحتفال و الاحتفاء، و عرّفني بديعُ بِرِّهِمْ فنَّ الاكتفاء:
غَمَرَتْني المَكَارِم الغُرُّ مِنْهم وَ تَوَالَت عَلَيَّ مِنْهَا فُنـــُونُ
شَرْطُ إحْسَانِهِمْ تَحَقَّقَ عِنْدي لَيْتَ شِعْري الجَزَاءُ كَيْفَ يَكونُ؟
وقابلوني بالقَبول مُغْضين عن جهلي:
وَ مَازَالَ بِي إِحْسَانُهُمْ وَ جَمِيلُهُمْ وَبـِرُّهُم حَتَّى حَسِبْتُهُمْ أَهْلِي
و يذكر المقّري من كان في طليعة المستقبلين أحمد بن شاهين، شاعر الشام الكبير (-1053 هـ) فيقول في بعض ما يقول عنه: " صَدرُ الأَكابر، الأعاظم، الحائِز قَصَبَ السّبق في ميدان الإجادة بشهادة كل ناثر وناظم، الصَّديق الذي بوُدِّه أغتبِطُ، و الصَّدوُقُ الذي بأسباب عهده أَرْتَبِطُ (...) الأجلُّ المولى أحمد أفندي بن شاهين، لازالتِ العزَّة مقيمة بِواديهِ، ولا بَرِحَتْ حضرته جامعة لبواطن الفخر و بواديه (...) فكم له – أسماه الله – و لغيره من أعيان دمشق لديَّ من أيادٍ، يعجزُ عن ِ الإبانةِ عنها لو أرادَ وَصْفَها قُسُّ إيَّاد (...) فليتَ شِعْري.. بأي أسلوبٍ أُؤَدّي بَعْضَ حقِّهم المطلوب؟ أَمْ بِأيِّ لِسان، أُثْني على مزاياهم الحِسان؟ (...) فهُم الذِين نوَّهوا بقدري الخامل، و ظنُّوا مع نَقصي أنَّ بحْرَ معْرفَتي وافر كامل، حسبما اقتضاهُ طبعُهُم العالي:
فَلَوْ شَرَيْتُ بِعُمْرِي سَاعَةً ذهَبَتْ مِنْ عِيشَتِي مَعَهُمْ مَا كَانَ بِالغَالِي
فَمُتَعَيَّنُ حَقِّهِم لا يُتْرَك، و حُبُّهُم لا يُخالَطُ بِغَيْرِهِ و لاَ يُشرَك، وَ إِن أطَلْتُ الوَصْفَ فالغاية في ذلك لاَ تُدْرَك..."
وَ المُتأمل في هذا المقتطف، يستشعِرُ ثنائية الجمْع بينَ عرضِ الحدَث و استدعاء الصورة الجمالية لِتَغْليفِ – إن جاز القول- هذا الحدث الذي يُسْبِغُ عليه الكاتب حلّة من الاحتفالية والترحيب بِضَيْفِ دمشق –بلبل تلمسان- و إذا بالصورة المنتقاة لترجمة الحبور تَرْفُلُ في فنيات البديع والبلاغة، وَ تُبْحِرُ في غَوْر التَّشْكيل الجمالي و كأنِي بصاحبها يَأْبى إِلاَّ أن يقتسم هذه الحفاوة ، مع الكلمة الرقيقة، و العبارة البهيجة، فيستدعيها لتشهد - بدورها – كرم المضيف، و شهامة المُعْتَنِي بالغريب و طقوس إجلال هذا الوافد على بلاد الشام، وإذا بالصُّورة تَنْساب في تَمَظْهُرٍ خَطِّي بَديعِ التَوْزيع، قَمِين بالمُدَارَسة و التَّدبُّر.... .
بداعة التوزيع :
ماَ مِنْ شكِّ أن القارئ ليس أمام نَثْرٍ عادِي، و لا أمام أداءٍ أُسْلُوبي هشّ... كما أنه ليس أمام نُتُوءٍ فنِّي في تاريخ الصِّياغة العربية القديمة... فطالما امْتَلَكَ مُماَرِسُوهَا صَهْوَة الأداءِ، وكانوا فُرسان البلاغة و عُمَدَاء فنون القوْل بِمُخْتلف أَنْسِجَته و في محاولة لمقاربة هذا المقتطف، يقف القارئ على شكل مُوَزِّعٍ ما بين طول في الفواصل تارة، و قِصَرٍ فيها تارة أخرى، ويَخْتَزن طولهما و قِصَرُهُما على السواء، شحنة تصويرية يحرِّكُها نَسيجٌ سرديٌّ فَضْفاضٌ قائم على:
أ- البِنْية الإجلالية:
اكْتَسَحَتْ هذه البِنية سِعة المقتطف، و اتخذت شكلاً حلزونيا يبدأ بتوظيف التّبجيل وينْتَهي بِأَحَقِّيةِ التَّمجيد...
يقول المقّري مُبَجِلاً أحمد بن شاهين: " صدر الأكابر الأعاظم، الحائز قَصَب السّبقِ في ميدان الإجادة بشهادة كل ناثر و ناظم..."
حَوَتِ الفاصلتان إِكْبَاراً و تَعظيماً، تلاهُماَ تَصْنيفٌ لِنوعية النُبوغ، ثمَّ تحديد لنوعية العلاقة الجامعة بين الرّجلين: "الصّديق الذي بِوُدِّهِ أَغْتَبِطْ، والصَّدُوق الذي بأسباب عهده أرْتَبِطْ ..." وكاَنِّي بالمقّري يَفْتَتِحُ تصعيدا حِكائِياًّ لما هو كائن و لما سيكون بين الَّرجُلين من تواصلٍ أوجبته وحدةُ النبوغ؛ فكلاهما أديب ... و أوجبه اجتماع الرَّأي حول عظمة أحد أعلام القرن الثامن الهجري: الوزير " لسان الدين بن الخطيب" فابن شاهين اقترح و طلب ثمَّ ألحَّ على ضرورة إعادة إحياء سيرة لسان الدين، و المقرِّي تباطأ بدايةً ، لكنه لم يَلْبَثْ أَنْ جدَّ وانطلق فجاء النفح "باقة" تُزَيِّنُ صدر القرن الحادي عشر للهجرة، و تَسْري نفحاته إلى يومنا هذا... إنه أريج الخزانة العربية عامّة و الخزانة الجزائرية خاصّة...
و يَسْتَرْسِلُ الكاتب مُوَظِّفاً بِنْيةَ الإجلال التي تقتضي الدُّعاءَ للممدوح: " لا زالتِ العزَّةُ مُقيمة بِوَاديه، و لا بَرِحَتْ حَضْرته جامعة لبواطن الفخر وبَوَاديه". و يكتمل الشِّقُّ الأوّل من بنية الإجلال – و الذي كان محوره أحمد بن شاهين- بِشِقٍّ ثانٍ: أعيان دمشق الذين ساهموا و شاركوا في الاحتفالية بِبُلْلِ تلمسان، فأكرموه و أجلُّوه حتّى وجد نفسه عاجِزا عن سُبُلِ شُكرهِم: "ولِغيرهِ من أعيانِ دمشق لديَّ من أيادٍ، يَعجِزُ عن الإبانةِ عنها لو أراد وصفَهَا قسّ إياد (...) فليتَ شِعري بِأَيِّ أسلوبٍ، أُؤَدّي بعض حقِّهم المطلوب؟ أم بأيّ لسان، أُثْنيِ على مزاياهم الحسان؟..."
و هكذا طفِق المقّري في تشخيص فِعلِ الاستقبال الحسن، فتسلّل الوصف إلى السّرد لِيُكوّنا معًا وَحْدَة حكائية مُؤَسَّسة على الصِّياغة المُميَّزة، و مُدعَّمة بفلتات شعرية، جادت بها قريحة المقّري و هو في قمة الانفعال تُجاه من أَكرموا وِفادَتهُ:
فَلَوْ شَرَيْتُ بِعُمْرِي سَاعَةً ذهَبَتْ مِنْ عِيشَتِي مَعَهُمْ مَا كَانَ بِالغَالِي
إنَّه تصاعدٌ يُحمِّل البِنية الإجلالية دلالة فوق دلالَتها، و يتشعّب بها – ربَّما- إلى أمرٍ يَحُزُّ في نفسية هذا الكاتب، خاصّة عندما زار المغرب الأقصى، و لم يرُقْه المقام فقال: " إنَّهُ لمَّا قضى المَلِكُ الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقُّب أوْ رَدٌ، ولا محيدَ عمَّا شاءهُ سواءٌ كرهَ ذلكَ المرءُ أَوْ رَدَّ؛ بِرِحلتي من بلادي، و نُقلَتي عن محلِّ طارفي و تلادي، بقُطر المغرب الأقصى، الذي تمَّت محاسنه لولا أنَّ سماسِرة الفِتَن سَامَتْ بَضاَئع أمنِهِ نقصاً، وَطَماَ به بحرُ الأهوال، فاستَعْمَلَت شعراء العَيث في كامِل روْنَقه من الزخارف إضماراً و قطعاً و وقصا (...) و ذلك أواخر رمضان من عام سبعة و عشرين بعد الألف، تاركاً المَنْصبَ و الأهل، والوطن و الإلف..."
كما يبدو فالإسْتياءُ واضحٌ من وضع غامض، امتعض منه الكاتب، عكس ما وجده في دمشق التي أحبها و أحب أهلها حبا صافيا " و حبهم لا يخالط بغيره و لا يُشْرَك، و إن أطَلْتُ الوصف فالغاية في ذلك لا تدرك" ويسترسل المقَّري في حكائيته، فيأبى إلا أن يفتح نافذة المفاضلة بين المغرب والمشرق بالبديهة، و دون أية خلفية مسبقة، و كأنه يعزف فقط على وَتَرِ "لا كرامة لنبي في قومه " فيقول: فهم الذين نوَّهوا بقدري الخامل، و ظنوا مع نقصي أن بحر معرفتي وافر كامل حسبما اقتضاه طبعهم العالي"
يتسلل سؤال مشروع: هل لم يُنْصَفِ الرجل في بلده؟ هل لم يعرف المغاربة قدرَهُ؟ وكأنِّي بالمقَّري – رغم نبوغه- يرمز ضمنيا إلى أنه لا يداني حلبة الفطاحل من المشارقة، وأنه لولا شهادتهم فيه لظل خامل الذكر مغمورا... و تلك – لَعَمْرِي- قِمَّة التواضع عند صاحب النفح ... ألم يقُل في موضع آخر من النفح:
وَلَكِنْ قُدْرَة مِثْلِي غَيْرُ خَاِفَية وَ النَّمْلُ يُعْذَرُ فِي القَدْر الذِي حَمَلاَ
ب- البنية الوصفية:
كما اعتنى المقري بأهل الشام و أعيانها، التفت إلى طبيعة دمشق، واستعذب جمالها و أطلق العنان لقلمه واصفا: "... دمشق الشام، ذات الحسن و البهاء و الحياء و الاحتشام، والأدواح المتنوعة، و الأرواح المتضوعة (...) و الأظلال الوريفة، و الأفنان الوريقة، والزهر الذي تخاله مَبْسَمًا والندى ريقه، و القضبان المُلْدُ التي تشوق رائيها بجنة الخلد (...) و رأينا من محاسنها ما لا يستوفيه مَن تأنَّق في الخطاب، و أطال في الوصف وأطاب، و إن ملأ من البلاغة والوطاب ..."
و كأن الوصف نثرا، لم يكفه، فحاول أن يلخِّص محاسن دمشق مرتجلا لعدة أشعار أجتزئ منها بالآتي:
قَالَ لِي: مَا تَقُولُ فِي الشَامِ حَبْرٌ كُلَمَا لاَحَ بَارِقُ الحُسْنِ شَامَه
قُلْتُ مَاذَا أَقُولُ فِي وَصْفِ قُطْرٍ هُوَ فِي وَجْنَةِ المَحَاسِنِ شَامَه
و ينزع المقري في محكياته الشامية إن صح القول – إلى سرد بعض من نشاطاته أثناء إقامته بتلك الربوع، فيقول:" و كنا في خلال الإقامة بدمشق المحوطة ، و أثناء التأمل في محاسن الجامع و المنازل و القصور و الغوطة، كثيرا ما نَنْظِمُ في سلك المذاكرة دُرَرَ الأخبار الملقوطة، و نتفيأ من ضلال التبيان مع أولئك الأعيان في مجالس مغبوطة، نتجاذب فيها أهداب الآداب، و نشرب من سلسال الاسترسال، و نتهادى لباب الألباب، (...) ونستدعي أعلام الأعلام، فينجر بنا الكلام و الحديث شجون، و بالتفنن يبلغ المستفيدون ما يرجون، على ذكر البلاد الاندلسية، و وصف رياضها السندسية (...) فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على لساني، من الفيض الرحماني..." "
يُسْتخلص من هذا المقتطف جنوح المقري إلى المتعة الذهنية القائمة على المشاركة العلمية في مجالس دمشق و المُعْرِبة عن كفاءة الرجل في تنشيط مثل هذه المجالس، خاصة حينما خاض في أخبار الأندلس و أشعار الاندلسيين و عرج على لطائف لسان الدين شعرا و نثرا، فبهر به الجلساء، و كان هذا كافٍ لُيجِلُّوهُ و يُنَوِّهُوا بذكره من ناحية، و ليطلب منه شاعر الشام "ابن شاهين" تدوين سيرة الوزير لسان الدين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. يقول المقري: " ... و أسرُدُ من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السلماني، صب الله عليه شآبيب رحماه و بلَّغه من رضوانه الأماني! ما تثيره المناسبة و تقتضيه، و تميل إليه الطِّباع السليمة و ترتضيه، من النظم والجزل، في الجد و الهزل و الإنشاء، الذي يدهش به ذاكره الألباب إن شاء، و تصرفه في فنون البلاغة حالَيْ الوِلاية و العزل (...) فلما تكرر ذلك غير مرة على أسماءهم، لهِجوا به دون غيره (...) و علِق بقلوبهم، و أضحى منتهى مطلوبهم (...) فطلب مني المولى أحمد الشاهيني (...) أن أتصدى للتعريف بلسان الدين ..." "
بهذا التكليف، و بهذه المجالس يسطع نجم المقَّري في الأفق، ويحسب له ألف حساب وحساب... و مع ذلك نتساءل: هل كان الرجل سعيدا بكل هذا ؟ و هل صفيت مشاربه، فاطمأن إلى الناس و إلى الحياة اطمئنان الحالم المتنعم؟!
لا أظن... فالنَّغص موجود، و النكد يخترق نطاق الكتمان... يقول المقَّري متفجعا: " وأنى يطيق، سلوك هذا المضيق، من اكتحلت جفونه بالسهاد، و نبتْ جنوبُه عن المِهادِ، وسدَّد نحوه الأسف سهمه، و شغل باله ووَهْمَهُ، و بثَّ في قلبه تبريحا، و عناء لم يجد منه إلا أن يلْطُفَ الله تسريحا، فما شام بارِقةَ أملٍ إلا في النادر، ولا ورد منهل صفاء إِلا و كدَّره مكر غادر، و قد كثر الجفاء، و برِح بلا شك الخفاء (...) والصديق الصدوق في هذا الزمن قليل (...) و داء الحسد أعيا الأول والآخر، و قد عظُم الأمر في هذا الأوان و كثُر المزدري والساخر (...) وليت شعري علام يُحْسَدُ من أبدل الاغتراب شارته (هيئته) وأضعف الاضطراب إشارته، و أنهل بالدموع أنواءه، و قلل أضواءه، (...) و شتان ما بين الاقتراب و الاغتراب (...) فذاك تسهل غالبا فيه الأغراض و المآرب، و هذا تتعفر فيه المقاصد وتتكدر المشارب..." "
يَا رَبْ نَفِّسْ هُمُومِي وَ اكْشِفْ كُرُوبِي جَمِيعًا
فَقَدْ رَجَوْتُ كَرِيمًـا وَ قَدْ دَعَوْتُ سَمِيعًــا " "
لعل "الفجيعة" في هذا المقتطف بادية جلية، فجيعة النفس الإنسانية حين يستفحل أساها، حين تدقها مطارق الغدر و المكر، و تهشمها على مرايا الزمن، و دون سابق إشعار: فالمقَّري مهموم مكلوم، شاك على القرطاس بعضا من منغصات عيشهِ، و إن سكت من منغصات عيشه، و إن سكت عن تعيين سببها في البداية، و اكتفى بتصوير الحال: (السهاد، الأسف، الانشغال، التبريج، الكدر، الجفاء) إلا أنه لا يلبث أن يشخصن هذه المنغصات:
• افتقاد الصديق الحق
• استفحال الحسد
• شيوع السخرية و الازدراء
و كلها – لعمري- ما اجتمعت على إنسان إلا و أقضت مضجعه، ودقت عظمه، إلا من رحم ربك... إنها ضريبة الإمتياز يؤديها المرء على هذا النحو ... فإما يصمد ويواجه الإعصار، و إما ينهار و يفلت منه القرار، فيصبح صيدا لشماتة الأعداء ونكتة في أفواه السفهاء... .
جـ- بنية الوداع:
لم يكن وداع دمشق والدِّمَشْقيين بالأمر الهين، فقد أشجى قلب بلبل تلمسان، و هو الإلف المألوف في تلك الربوع... فراح يسكب على القرطاس أثر الحدث على نفسه، ويتمثل بالغزير من أشعار غيره في مثل هذا الموقف: " ثم حضر بعد تلك الليلة موقف الوداع و الكل ما بين واجم وباك و داع، فتمثلتُ بقول مَن قلبه لفراق الأحباب في انصداع:
وَدَعَتْهُمْ وَ دُمُوعِي عَلَى الخُدُودِ غِزَارْ
و حُقَّ لي أن أتمثل في ذلك يقول العزازي
لاَ تَسَلْنِي عَمَا جَنَاهُ الفِـــرَاقُ حَمَّلتْنِي يَدَاهُ مَالاَ يُطَــاقُ
أَيْنَ صَبرِي أَمْ كَيْفَ أَمْلِكُ دَمْعِي؟ وَ المَطَايَا بِالظَاعِنِينَ تُسَاقُ
و ضاقت بي الرحاب، عند مفارقة أعيان الأحباب و الصحاب، وكاثرت دموعي من بينهم السحاب، و زَنْدُ التذكُّر يقدح الأسف فيهيِّج الانتحاب (...) و تخيلنا أن إقامتنا بدمشق، وقاها الله كل صرف، ما كانت إلا خطرة طيف ملم، أو لمحة طرف (...) و طالما عللت النفس بالعود إليها ثم إلى بقاعي (...) ثم أكثرت الالتفات عن اليمين و عن الشمال (...) وتنسمت من نواحي تلك الأرجاء أريج الشمال (...) ثم استجد بي السير إلى مصر واستمر..."
و فعلا غادر المقري "دمشق" و قصد مصر حيث سيشرع في تدوين سيرة لسان الدين... وظلت الذكريات الشامية عالقة بذهنه، متوهجة في قلبه، و كثيرا ما لهِجَ لسانه – كما حكى ذلك – بقول القائل:
وَ مَا تَفْضُلُ الأَوْقَاتُ أُخْرَى لِذَاتِهَا وَلَكِنْ أَوْقَات الحِسَان حِسَانُ !!
وتظل محكيات المقري غزيرة، غنية، متنوعة ترقى بالمتن إلى أصول التقعيد لموسوعة أدبية عربية، أبدعها واحد من أبناء هذه الأرض الطيبة... وقامت هذه الموسوعة على إفراز وضعيات، و رصد مواقف أسهمت كلها في اتساع دائرة الحكي، رغم أن هذا العرض المتواضع لم يتجاوز حدثا رئيسا ألا وهو تواجد المقري في دمشق و ما كشف عنه من علاقات وشيجة مع أهل الشام حيث طاب المقام، وجرى القلم بمجريات الأحكام...
*شميسة غربي
سيدي بلعباس- الجزائر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق