حجرات بيتنا الكبير بدأت تخوى بعد وفاة والدي ، هذا الخواء الفاجع يضايق والدتي ، يقلقها ويجعلها تكبر بسرعة ، شعور طاغ بفقدان الحماية ، حالة من عدم التوازن مع الحياة ، السكري وضغط الدم وخواء البيت والفقد أعداء يتآمرون على صحتها ، لم يعد البيت عامراً إلا بي وبكتبي وأوراقي وأجهزتي الكثيرة ، تزوج من تزوج ورحل من رحل وبقيت معها أونس وحشتها و أشاركها كل شيء ، لم يكن من السهل التكهن بمزاج وطقس أمي
بعد وفاة أبي ، ستشرع في تلاوة سورة يس والدخان والواقعة والصافات ثم تنشغل بالتسبيح إلى أن تنام .
أعود لأقول هل كان يجب أن ألتقي به كي تبدأ الحكاية .. كي يبدأ أتساع المدى ، كي يبدأ الكون ، كي تبدأ رحلة تطويع القلم المتصلب شرايينه بداء الشلل والعطب ، كان يجب أن يبقى القلم هناك منكسراً عند حافة الورقة ، يجر خلفه هزيمة وطن منهوب ، يكتب عن الحروب ، يشرح تفاصيل الموت ودقائق الغياب والفقد ، كان يجب أن يظل قلماً خانعاً طائعاً لذائقة الغياب والحرمان و الغربة .
كان يجب أن يكون القلم وفياً للفواجع في شوارع ” طرابلس” ، للموت بالمئات في “بنغازي” ، للتنكيل بالجثث في ” درنة ” ، كان يجب أن تكون الورقة طائعة للخطف ، بيضاء ، والذاكرة تعج بأصوات القنابل والرصاص وعويل النساء والنازحين ممتلئة بأصوات المنفيين ظلماً ، وأبواق الحاقدين ، وأصوات طائرات غريبة تنتهك أجواء الوطن وتربك نبضات القلب
لا يمكن أن يخون الحبر حزن الأرصفة في شوارع ” تاورغاء ” وبكاء حواري “سرت” ولا حواجز وبوابات الأخوة الأعداء في الوطن الواحد ،
لكنه حضر ، جاء صاخباً كالموج تكسر ظله عند أعتاب نوافذ روحي المشرعة جاء هادراً لهفة وشوقاً وتوقاً ، جاء حريقاً لافحاً ، ساخنا مجنوناً ، جاء طوفاناً مشتعلاً ، عاصفاً ، جاء قدراً كاسحاً لما سبق .
وفتحتُ كل نوافذ الأنثى لديّ ، فتحتُ كل أبوابي ، وكان قلبي مشرعاً مفتوحاً عن أخره لاستقباله ، روحي كانت عطشى ، متلهفة للانصهار ، والذوبان والتلاشي ما أن تستقبل أنوثتي إشارة ساخنة منه عبر نبراته ، أو عبر رسائله حتى تقام الأعياد ، وكانت نبضات القلب ورعشات اليد ، وتردد الأنفاس واضطراب الجسد ، الكل يوقع أجمل الأحاسيس على جدار الزمن الهارب بيننا ، الكل يشعل الشموع والقناديل ، الكل يرقص ، يبتهج يغني لكنها مشاعر تأتي بسرعة جنونية وتذهب أشعر بأنها متطرفة غير آمنة .
أعود لأستدرك ، لا زمن نمطي بيننا ، لا وجود للأبعاد ولا المسافات أو المكان بيننا ، كل شيء نسبي بيننا ، الزمن والبعد والمسافة كان توغله في داخلي يذهلني ، قراءة ما أحس به بدقة تربكني ، حضور طيفه يشل مقدرتي على البوح ويشتت مقدرتي على التركيز ، كنت أشتهي معرفة كل شيء ، أشتهي عوالمه الغامضة ، طلاسمه ، أسراره ، أشاراته الخفية ، أشتهي قراءته لأفكاري ، معرفته ببواطني ، انتهاكه إسراري ، أشتهي خوفي منه ، من زلة لسان ، من كذبة بيضاء قد أتفوه بها ، من تمرد ، أو ثورة على طيفه الحنون .
تشتعل شاشة هاتفي ، يئن الجهاز المسكين برنته المعتادة ، تصلني رسائله
– هل تعلمين أستحضرك أحيانا لدرجة أتلمسك بأناملي ، يرهقني استحضار طيفك ،اخترق رياحا وسهولا ووديانا وشاطئي طويل لانصهر بروحك .
أتسمر أمام رسالته أحاول فك رموز كلماته ، تسري رعدة خفيفة في جسدي ، أرتجف ، أتمتم
– لا تخيفني ، أنت ترهبني ، أنت تذهلني ، لا أستوعب ذلك ، ما يحدث بيننا يفوق مداركي ، يفوق ما تعلمته أو قرأته ، انه أكبر من أن أستوعبه .
– أنتِ تحسين بذلك ، لا تنكري .
أجدني أعترف
– لا أنكر، وكيف أنكر إحساسي بالدفء اللذيذ والنشوة العارمة تحت سطوة أنامله .
كيف ومن أين ابدأ الحكاية ، بأية لغة أشرع في سرد حالة من العالم الأخر ، كيف أشرح سر اختزال أبعاد الزمان والمكان ، من أين لي أن أقبض على لهفة تخترق الرياح ، أو أسر همسة تقطع الصحارى ، أو أن أزج برجفة بين السطور أو رعشة شاردة تقطع شاطئ طويل لتنصهر بروحي كيف يمكن اعتقال كل ذلك وحشره بين سن القلم ووجه الورقة.
– ثمة رائحة زكية ترنحتْ في الثلث الأخير ، تسللتْ إلىَّ من ثقب الليل ، تهاوتْ ،ملأتْ فضاء غرفتي ، ثم تبددتْ سريعاً ، أتمزجين العطر بالبخور سيدتي ؟!!.
متى وأين وصلك شذا روحي .. وكيف اهتديت إلى عبير أعماقي ؟
ما الذي دعاك إلى التسلل إلى مخدعي واستنشاقي بالكامل ، كيف عرفت بسر عطري ..؟ كيف قمت بنسف المسافات ، من أين لك بمفاتيح الخفاء ، ما تفسير الزمن في قواميس عشقك وما هو المكان وكيف ينصاع لك يا سيدي ؟ !!
كيف تطوي كل تلك الصحارى عابراً لاهثاً من أجل جمع ما تناثر من عطري الممتزج بأنفاسي المتساقط مع المسك وبالبخور ؟!!
أمخلوق البعد الرابع أنت .. ؟
– لا تنزعجي أحياناً أضع يدي اليسرى على رأسكِ مباركاً إبداعاتكِ صديقتي .
– واو .
في تلك اللحظة بالذات كنتُ أنزوي في ركن قصي من غرفتي و أكتب ، طيفه كان يجلس القرفصاء حارساً عند حافة سريري .
* طرابلس ، بنغازي ، سرت ، درنة ، تاورغاء / مدن ليبية
جزء من رواية الأطياف الناطقة
بعد وفاة أبي ، ستشرع في تلاوة سورة يس والدخان والواقعة والصافات ثم تنشغل بالتسبيح إلى أن تنام .
أعود لأقول هل كان يجب أن ألتقي به كي تبدأ الحكاية .. كي يبدأ أتساع المدى ، كي يبدأ الكون ، كي تبدأ رحلة تطويع القلم المتصلب شرايينه بداء الشلل والعطب ، كان يجب أن يبقى القلم هناك منكسراً عند حافة الورقة ، يجر خلفه هزيمة وطن منهوب ، يكتب عن الحروب ، يشرح تفاصيل الموت ودقائق الغياب والفقد ، كان يجب أن يظل قلماً خانعاً طائعاً لذائقة الغياب والحرمان و الغربة .
كان يجب أن يكون القلم وفياً للفواجع في شوارع ” طرابلس” ، للموت بالمئات في “بنغازي” ، للتنكيل بالجثث في ” درنة ” ، كان يجب أن تكون الورقة طائعة للخطف ، بيضاء ، والذاكرة تعج بأصوات القنابل والرصاص وعويل النساء والنازحين ممتلئة بأصوات المنفيين ظلماً ، وأبواق الحاقدين ، وأصوات طائرات غريبة تنتهك أجواء الوطن وتربك نبضات القلب
لا يمكن أن يخون الحبر حزن الأرصفة في شوارع ” تاورغاء ” وبكاء حواري “سرت” ولا حواجز وبوابات الأخوة الأعداء في الوطن الواحد ،
لكنه حضر ، جاء صاخباً كالموج تكسر ظله عند أعتاب نوافذ روحي المشرعة جاء هادراً لهفة وشوقاً وتوقاً ، جاء حريقاً لافحاً ، ساخنا مجنوناً ، جاء طوفاناً مشتعلاً ، عاصفاً ، جاء قدراً كاسحاً لما سبق .
وفتحتُ كل نوافذ الأنثى لديّ ، فتحتُ كل أبوابي ، وكان قلبي مشرعاً مفتوحاً عن أخره لاستقباله ، روحي كانت عطشى ، متلهفة للانصهار ، والذوبان والتلاشي ما أن تستقبل أنوثتي إشارة ساخنة منه عبر نبراته ، أو عبر رسائله حتى تقام الأعياد ، وكانت نبضات القلب ورعشات اليد ، وتردد الأنفاس واضطراب الجسد ، الكل يوقع أجمل الأحاسيس على جدار الزمن الهارب بيننا ، الكل يشعل الشموع والقناديل ، الكل يرقص ، يبتهج يغني لكنها مشاعر تأتي بسرعة جنونية وتذهب أشعر بأنها متطرفة غير آمنة .
أعود لأستدرك ، لا زمن نمطي بيننا ، لا وجود للأبعاد ولا المسافات أو المكان بيننا ، كل شيء نسبي بيننا ، الزمن والبعد والمسافة كان توغله في داخلي يذهلني ، قراءة ما أحس به بدقة تربكني ، حضور طيفه يشل مقدرتي على البوح ويشتت مقدرتي على التركيز ، كنت أشتهي معرفة كل شيء ، أشتهي عوالمه الغامضة ، طلاسمه ، أسراره ، أشاراته الخفية ، أشتهي قراءته لأفكاري ، معرفته ببواطني ، انتهاكه إسراري ، أشتهي خوفي منه ، من زلة لسان ، من كذبة بيضاء قد أتفوه بها ، من تمرد ، أو ثورة على طيفه الحنون .
تشتعل شاشة هاتفي ، يئن الجهاز المسكين برنته المعتادة ، تصلني رسائله
– هل تعلمين أستحضرك أحيانا لدرجة أتلمسك بأناملي ، يرهقني استحضار طيفك ،اخترق رياحا وسهولا ووديانا وشاطئي طويل لانصهر بروحك .
أتسمر أمام رسالته أحاول فك رموز كلماته ، تسري رعدة خفيفة في جسدي ، أرتجف ، أتمتم
– لا تخيفني ، أنت ترهبني ، أنت تذهلني ، لا أستوعب ذلك ، ما يحدث بيننا يفوق مداركي ، يفوق ما تعلمته أو قرأته ، انه أكبر من أن أستوعبه .
– أنتِ تحسين بذلك ، لا تنكري .
أجدني أعترف
– لا أنكر، وكيف أنكر إحساسي بالدفء اللذيذ والنشوة العارمة تحت سطوة أنامله .
كيف ومن أين ابدأ الحكاية ، بأية لغة أشرع في سرد حالة من العالم الأخر ، كيف أشرح سر اختزال أبعاد الزمان والمكان ، من أين لي أن أقبض على لهفة تخترق الرياح ، أو أسر همسة تقطع الصحارى ، أو أن أزج برجفة بين السطور أو رعشة شاردة تقطع شاطئ طويل لتنصهر بروحي كيف يمكن اعتقال كل ذلك وحشره بين سن القلم ووجه الورقة.
– ثمة رائحة زكية ترنحتْ في الثلث الأخير ، تسللتْ إلىَّ من ثقب الليل ، تهاوتْ ،ملأتْ فضاء غرفتي ، ثم تبددتْ سريعاً ، أتمزجين العطر بالبخور سيدتي ؟!!.
متى وأين وصلك شذا روحي .. وكيف اهتديت إلى عبير أعماقي ؟
ما الذي دعاك إلى التسلل إلى مخدعي واستنشاقي بالكامل ، كيف عرفت بسر عطري ..؟ كيف قمت بنسف المسافات ، من أين لك بمفاتيح الخفاء ، ما تفسير الزمن في قواميس عشقك وما هو المكان وكيف ينصاع لك يا سيدي ؟ !!
كيف تطوي كل تلك الصحارى عابراً لاهثاً من أجل جمع ما تناثر من عطري الممتزج بأنفاسي المتساقط مع المسك وبالبخور ؟!!
أمخلوق البعد الرابع أنت .. ؟
– لا تنزعجي أحياناً أضع يدي اليسرى على رأسكِ مباركاً إبداعاتكِ صديقتي .
– واو .
في تلك اللحظة بالذات كنتُ أنزوي في ركن قصي من غرفتي و أكتب ، طيفه كان يجلس القرفصاء حارساً عند حافة سريري .
* طرابلس ، بنغازي ، سرت ، درنة ، تاورغاء / مدن ليبية
جزء من رواية الأطياف الناطقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق