اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

أشباح ـ قصة قصيرة ...** محمد أبوالدهب ــ مصر

صادفتْ عيني عين رئيس التمريض، لحظة مناولتي السؤال (متى ينتهي كل شىء؟) لشبحي المطيع المُطاع، فاستسلمتُ.
لمن يستسلم الواحد حين يقول (استسلمتُ)؟
أحسستُني مطعوناً بإبرةٍ فى دماغي، أعلى قفاي، ولم يُرسِّب ذلك داخلي أىّ انطباع فسيولوجي.
هتكني هاجسٌ بأنى لن أغادر هذا المكان -رغبة غائمة، مدَّخرة منذ الساعة الأولي، فى تأجيل المغادرة- وأنّ علىّ التطلّع إلى رحيلٍ سريع ومميَّز، وإلى احتماليّة تعويض تلك الأشياء البسيطة فى عالمٍ آخر. أليس للواحد دوماً عالمٌ آخر، احتياطيّ، يضعه على رفٍّ مهمَل بحائط أيامه، منذ وَعَي ارتصاص الحائط طوبةً طوبة، وإنْ لم يكن مرتكناً لوجوده.

الخوف من عبوس قصة العانس. يردّدها أحد رفاق الغرفة، معتذراً لشبحه عن أحداثٍ يصفها بالتفاهة. ولِمَ لا وكلُّ شبحٍ، مهما تعاظم، يجوع يوماً للتفاهة؟.. فتاة، أيّة فتاة! رغبها شابان. فتحت الباب للأول. لم يكن عاشقاً ولا معشوقا. فقط جاء مبكّراً. واربتْه للثاني -كأنه رفيق الغرفة، يؤدي وظيفة استثنائية- من باب الاحتياط. فقط لأنه كان الثاني. هو المأمول على كلّ حال. فشلت الصفقة مع النشيط، فوسّعتْ بامتنانٍ للرقيق. المفاجأة أنه حرن على الدخول، واحمرّت كرامته: ومن قال بأنى أعيش بديلاً؟.. القصة متورِّمةٌ بالتلفيق، تسبّبتْ به الفتاة، وكانت معذورة، لأنها لم تفعل غير تدشين مشروعها الإجباري كعانس. وإذا تسامحتُ أنا مع التلفيق، بافتراضه فضيلة يثبت بها الواحد حضوره، حتى لو اعتُبر ذلك خيانة لرفيق الغرفة، لشبحه على الأخص، فكيف أتجاهل حلول المفاجأة!

هل أصبر على طعن الإبرة منتظراً مفاجأة مشابهة؟
*
مكتوبٌ على باب غرفتي: (عنبر خامس رجال).. العنبر مأوي المرضي أو الجنود، إذا أُحكم غلقه فى وجه الدخلاء. الخامس ما سبقه أربعة من صنفه. الرجال هم الذكور البالغون من بني آدم حين يقترنون بأشباح.. كم مرةً قمت بدور (المعجم الوجيز) عند المرور، ذهاباً وعودة، أسفل اللافتة الإرشاديّة؟!

بها ثلاثون سريراً، مع ذلك أقول غرفتي. ياء الملكيّة لا تُباع ولا تُشترى، تُنطق وحسب. ألم أقل (روحي، نفسي، جسمي) آلاف المرّات، وكأنى أملك تلك العلامات العصيّة المشاعة. سبعةٌ من الثلاثين غير مشغولة، تنتظر سبع روايات، تُكتَب الآن فى مكانٍ لا يحفظ أسراره، بأقلام أشباحٍ تبرع فى صياغةِ طرائق اغتنام الفرص، لأقرانهم الكسالى، الذين سيبوحون بكل شىء، هنا، بعد قليلٍ أو كثير، بزهوٍ مبالَغ فيه، ما يشجّع الأطباء على تقريرٍ مبدئيّ، عائم وجذّاب: (هلاوس سمعية وبصرية).

هل تنفّس، يوماً، مَنْ لم يسمع ما لا يسمعه غيره، أو لم يبصر ما لا يبصره سواه؟. قلتُ له أو قال لى.

سريري الأقرب إلى الباب، كي أتمكّن من التلبيّة السريعة، لأني مريضٌ مُتحسِّن، يمكن الاعتماد عليه.. هكذا يقدّموننى إلى لجان التفتيش المبعوثة من المجلس الإقليمي للصحة النفسية، وإلى دارسي الماجستير والدكتوراة فى كليّات الطب وآداب علم النفس ومعاهد الخدمة الاجتماعية. أتحوَّل أمامهم لوحةً ملتَبسة فى معرض فنّي لرسَّامٍ شرّير.

أدركتُ تميّزي كمتحسِّن، بعد حجزي بيومين (ما أسرع أن يتحسّن المتسوِّىء!) حين جاء ملاحظ العمال صباحاً، وسأل رئيس التمريض: هل لديكم متحسِّنون جُدُد؟.. كنت أنا إجابته الوحيدة. أضاف ذلك لى إشرافاً شارداً على عدد من المرضي -كلهم من فريق (الاضطراب الذهاني)- وهم ينظفون دورة المياه، ويصبّون الماء على أجسادٍ تمّ تجريدها من الزيّ البنفسجيّ الموحّد، ويمسحون بلاط العنبر، ثم بلاط السلّم، ويأخذون أكياس المخدات والملاءات إلى المغسلة بالطابق الأوّل، ثم يعودون يحملون سلال القمامة إلى الدور الأرضي، يفرغونها فى براميل كبيرة، قائمة بجوار السور الهائل، كما لو أنه لمدينة خائفة. أنتهِي معهم، فى الحديقة الصغيرة، التى تنتثر بها دكك خشبية يجلس عليها أهالي المرضي (الطَوْعي) الذين استبصروا بحكايا أشباحهم، ووافقوا، معتصمين بالتلفيق، أن ينصتوا لغيرها، مثلما فعلتُ أنا. يجمعون مخلّفات الزيارة: أعقاب سجائر، أكياس شيبس فارغة، عظام دجاج ممصوصة، ورق جرائد لم ولن تُقرَأ.. وآثار أقدام أشباح!

وحدي أستطيع رؤية الشارع، مرّة كل صباح، أشتري إفطاراً وسجائر للممرّضين. اختلاجةٌ متجدّدة بالجسد كله مع الخطوة المرتعشة خارج البوابة الحديدية، تبثّ أثراً مؤقّتاً كما تفعل طعنة الإبرة بالقرب من قفاي، كأنما تسعيان لنهاية مخادعة، لاتحلُّ أبداً، خاصة وأنى أعرض قضيتي بالزى البنفسجيّ المخيف، على السائرين فى عزلة، دون صحبة أشباح، كاعتراف متبجّح. ربما يلزمني التفاهم مع هذا الخداع، فلا شىء مما يحدث حدث، برغم أرغفة الخبز الصابحة، الملفوفة على قِطَع الطعميّة والطماطم، بعد دهنها بملعقة طحينة. أحتاج مزيداً من الإثباتات. إنه محض نسج خيال. هلاوس سمعيّة وبصرية ضمن عقائدهم الملفّقة. مع ذلك أعيد مساءلته؛ شبحي اللطيف المسالم: متى ينتهى كل شىء؟
*
فى الليل، ينام الممرّضون المناوبون، تاركين لى مهمّة إطفاء النور، ولا ينام بعضنا. الظلام أصدق تشخيصاً من النور، وإلا فلِمَ يشتهي الواحد فى الليل ما لايُجدي اشتهاؤه بالنهار، ويهمس فى الليل ويجعر بالنهار، ويستحلف زوّار الليل ويستنكر زوّار النهار. ويضيّق عينيه، أخيراً، حين يدخل النهار، كأنما لن يتناول منه إلا أقلّ القليل.

النائمون منا، لا أراهم نياماً أبدا. منهم المبتسم مع الشخير والأنين، لوحة أخري ملتَبسة. ومنهم المتكلّم بتدفّق وانفعال، يقيم حُجّة على مَنْ لا يريد أن يفهم. ومنهم من يقاتل بيديه ورجليْه، وبعينين قابضتين على الإغماض، لئلا يقترف عار النظر إلى أعدائه.. أطفال أُجبروا على نومٍ مبكّر، ليستريح كبارهم من أسئلتهم العويصة التى لا تنقطع، فنعسوا متحسِّرين على معرفةٍ فاتتهم، بعدما سالت دموعهم على مخدّاتهم، فانتفضت من أجلهم أشباحهم.

أما هؤلاء -الكافرين بالحكمة البليدة من وراء النوم- فإنهم يتكلّمون فى تزامنٍ لا يقلقهم، ردّاً على سؤالٍ أخطط له بالنهار، لأستدعي به أشباحهم بالليل. مع ذلك تتطارد كلماتهم فى فضاء العنبر، مثل طائرات مقاتلة، هدفها التشويش. سألتُهم الليلة ونسيتُ، دون شعور بالخسران، ولا بفقدان مؤقت للذاكرة كما سيدّعي موظّفو الصحة النفسية حين يطلع الصباح. أما هم فلا ينسون:

المقرفص فى عتمة زاوية العنبر، عارياً تماماً، وجهه للجدار، يقول عارفاً حكيماً: ( جئتُ لأنى أحب الموت، والهلاوس بنت الموت، لا تقع إلا مرة واحدة، لكنها تهدم الكوبرى!).. يحدث أحياناً أن يتبرّز وهو يلقى حكمته، فاضطر أنا، كمُشرف شارد متحسّن، إلى إيقاظ واحد من الفريق.

المتكوّر منكمشاً كجنين، تحت سريره، يُبعد وهماً خفيفاً بذراعه، ثم يقول: (جئتُ لأنهم يطلبون أن أعيش شيئاً، وأحسّ شيئاً آخر. كلهم...) يطلّ برأسه فجأة، ويشير ناحية النافذة، التى تمرّر ضوءً بسيطاً من المباني الحكومية المجاورة، زاعقاً بيقين: (إلا هذا). كل مرة، تدوّخني نفس رعدة الرعب، وأنا ألتفت، لأنظر الواقف إلى النافذة.

المتمسّك برشاقة جسمه، لاعِنُ الوجبات الزيتية الدهنية التى يقدّمها المطبخ، ولاعِنُ العالم الآخر، مبرِّراً لعناته بكونه الآخر والأخير، نافياً ما سبق وأكّده: (عندما ننتقل إليه، سينوجد له عالمٌ آخر).. يضطجع قليلاً، ثم يقوم ليمارس تمرين الجري فى المكان، ثم يضطجع فيقوم، لا يتوقف عن حكي القصة كاملة، مضطجعاً وجارياً، يستلهم مرافعةً مدروسة لمحامٍ بارع، غير أني لم أعد أسمع إلا (جئت لأني لا أعيش بديلاً).. أسمع طول الليل.

يفسح الواحد من بقيّة الكافرين حيزاً فى فراشه لشبحه الوديع. منهم من يشتعل بينهما النقاش، حتى أنه يحاول خنقه رغم وداعته. ومنهم من ينصت، ولا ينطق إلا بدلائل الطاعة. ومنهم من يكلِّمه شبحه، ويكتفي هو بتحديقٍ ضاحك.

كنت أنا، المتفاخر بمنصبي الإشرافيّ حدّ الهوس، لا إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء، آكل ساعات الليل، وأقيم الحدود، مؤنِّباً شبحي.
*
مَنْ يأتي توصف له خطيئته قبل أن يوصف له مرضه. لم تكن خطيئتي أنى أُطعن بإبرة لا مرئية، فى موضع من جسدي غير مثير للطعن، دون أن أعرف غرض الطاعن. ولم تكن أني أسأل مراراً عن موعد انتهاء كل شىء، دون أن أستلم ردّا. الخطيئة كانت أني أفشيتُه كله، دفعة واحدة، وبنوايا مخدوعة. ماذا لو أني عرفتُ الغرض واستلمتُ الردّ قبل وصولي؟ هل أجرّب الندم الآن؟ الندم الذى عهدته لا يكتسب موضوعه من الفعل، إنما لكونه محظوراً. هذا، رفيق الغرفة، غافل أخته، فاقتادوه إلى العنبر، درءاً لفضيحة. ساعدهم هو، بأن اخترع لنفسه شبحاً. لو (تحسَّن) هذا المغافل، مثلي، فهل سيندم لأنه سدّ ثغرةً لدى أنثي، تَصادَف أنها أخته، أم لأنه عاصر قانوناً يمنع مغافلة الأخت؟
*
وصل الطبيب قبل موعده. بدا مقذوفاً به من ليلة أرَقٍ طويلة. لا يزال الجميع نائمين: الممرضون، فريق الاضطراب الذهانى، فاقدو حكمة النوم. لا يقبض على الجمر، حتي اللحظة، غيري.

عندما واجهتني ملامحه الطامحة إلى انتقام، هزّني وجَلٌ طفيف، وبادرتُ بتأليف قصة، أقلّده حين يشرع فى تشخيص أحدنا: عاد إلى بيته متأخراً (بعد سهرة مع مجموعة من زملائه الأطباء، فى عيادة واحدٍ منهم، يتلاومون، كالعادة، على تورّطهم فى هذا النوع المطّال من الطبّ) وجد زوجته -طبيبة النساء والولادة- غارقة فى ضحكٍ هستيريّ، وابن الجيران ينحت لها جسداً جديداً. تذكرتُ قصة العانس فجأة، المتورِّمة بالتلفيق، فتوقّفتُ عن التأليف.

دخلتُ وراءه كتابعٍ مسحور، وبمسئوليةٍ، رغم ذلك، نظراً لأني الوحيد الصاحى. هل أُحضر له البالطو الأبيض أم أعمل له كوب شاى؟ لماذا ألتزم بخطوات العبد الذليل حين أفيض بفكرة الانعتاق؟.. ظللتُ واقفاً، ساكتاً. ثم وكأن عقلاً آخر قفز إلى جوف دماغي، قلت، بصوتٍ، فى موات العنبر، أصرَخَ مما ظننتُ: الجميع صاروا يملكون أدوات الطعن، لم يعد الأمر قاصراً على رئيس التمريض، ثم إنه لم يعد طعناً، يدقّون الإبر كمسامير (استدرتُ ليري) زادوا على ذلك أنهم يضحكون، ثم هل يرضيك أن شبحاً حقيراً يُسأل ألف مرة دون أن يتفضل بإجابة واحدة؟

ابتسم الطبيب كما لو أني امتدحته. أخرج ملفاً من الدرج. كتب سطرين أو ثلاثة. ظهر رئيس التمريض يفعص عينيه. خاطبه الطبيب مشيراً نحوي: لم يعد متحسّناً بعد اليوم.

دفعني إلى أبعد سرير فى الركن، حيث تبَرّز المقرفص وهو يُلقي حكمته. تمدّدتُ ضاحكاً -لاشىء مما يحدث حدث، ولا شىء مما حدث يحدث- مشتهياً النوم، مدوِّراً نظرتي على النائمين، الذين فقدوا للتوّ أشباحهم.
            


 

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...