... كل يوم أنتظر موعدي مع القدر، كل يوم يخيب أملي، بت أوقن أنك لست بقدري.. الزمن كفيل بالإجابة على أسئلتنا، فعلاً لم تكن قدري. كنت شعلة أججت مشاعري وأتعبتني لفترة طويلة ، كنت من جعلني أحلق في سماء عينيك كأميرة خرافية قادمة من عالم الأساطير، أميرة تلاشت قواها الخارقة وهوت بأسطورتها أمام واقع ما حملته إليها. منذ مدة وأنا لا أدري لماذا أشعر بأنك قريباً سوف تأتي، بأنك تشتعل شوقاً إلي، بأنك سوف تأتي لوداعي ومحال أن ترحل دون أن تراني.آخر لقاء كان لنا عندما أهديتك لوحتي الجديدة، أذكر كيف أهديتك اللوحة وتسللت هاربة بين جموع حاشدة جاؤوا لزيارة معرضي. نعم هربت.. لم أمنحك الوقت لكلمات شكر مواربة بأنغام الحب، لم أمنحك فرصة لاكتشاف غياهب فكري وروحي، كنت خائفة من أن ترى حبك يضطرب في جسدي، وفي ملامح وجهي، كنت أريد أن أبقى أحجية ملكية تغريك بالبحث الدائم، كنت أظن أنني بالنسبة لك امرأة، بل حلم امرأة... راقبت هروبي وكأن صاعقة نزلت بك. نحن ننتمي لعالمين مختلفين، عالمين لعوالم كثيرة، كل منا يرى الوطن ضمن رؤية خاصة، والوطن يرانا كما يريد، بل كما نكون، يحبنا ويرفضنا، ونحن من نحبه ونسوقه إلى ساحات القتال. لم أتوقع يوماً أن تصل الأمور للحالة القاسية التي نعيشها، حرب طاحنة بين الأخوة!.. هل من الممكن أن يكون الأخوة أعداء؟!.. الإنسان في بلادي طيب بسيط، أحيانا تتمادى طيبته فتغزو عوالماً محرمة من الجهل.منذ سنوات خرج الناس إلى الشوارع منددين متذمرين مطالبين بأمور لم يفكروا يوما بالمطالبة بها، خرجوا فقط لأن موضة المظاهرات كانت منتشرة وقد سبقتنا دول إلى ذلك. أذكر أول مظاهرة، كنت أراقبهم من نافذة منزلنا، شباب وأطفال، بعضهم ملثمين وبعضهم متباهين بوجوههم البريئة، كانوا فرحين جداً، يتصرفون وكأنهم يمارسون لعبة جديدة، لعبة حاكتها لنا أيد شيطانية، وكل جديد له خفاياه... كنت أراقبهم ونبضات قلبي تتباطأ، وجسدي يتراخى بإنهاك مفاجئ، دون شعور سالت دموعي على وجهي، ارتميت على أقرب كرسي كان بجانبي، خوف جديد من نوعه احتل كياني، كل من حولي أصيب بحالة ذهول، ولم نستطع تناول الفطور، رغم أنه فطور يوم الجمعة، فطور له نفحة إيمانية ونكهة حميمية مستخلصة من تقاليد عريقة وموغلة في القدم لاجتماع العائلة. هكذا استقبلنا أول مظاهرة وفلسطين تعاني كل يوم أضعافاً مضاعفة من اليوم الذي سبقه، هكذا استقبلنا أول مظاهرة وجرح بغداد لم يندمل بعد، هكذا استقبلنا أول مظاهرة ودول عربية شقيقة تعيش حروباً قاسية أشعلتها نيران الحرية... منذ ذلك الحين بات يوم الجمعة يمثل لنا خوفاً وهاجساً دائماً، نترقبه خلال كل أيام الأسبوع التي كثيراً ما باتت تصاب بعدوى يوم الجمعة. اليوم وبعد سنوات من المظاهرات والحروب الظالمة والمهينة لإنسانيتنا خرجت مسيرات عفوية ومرتجلة تهتف وتهلل لمرشح الرئاسة، تأملت مجموعة الأطفال والشباب، فرح أول مظاهرة يرسم ملامح وجوههم وأين ذلك اليوم من هذا، ابتسمت وأنا أراقبهم، لم أشعر بالخوف هذه المرة، سلسلة من الذكريات تعيد تكويني بأحاسيس مختلفة، إنه إنسان بلادي طيب وبسيط لدرجة الموت حباً بالألعاب الجديدة. كنت تنتمي لأحد الجانبين، وأنا أنتمي للوطن، كنت ترى أن جانبك هو الوطن، أن لوحاتي ترسم وطنا يجب أن يكون وطنك.... خانتك لوحاتي وأصبحت بالنسبة لك من الجانب الآخر. منذ عدة أيام سمعت عن امرأة تنتمي لأحد الجانبين، التصقت عبوة ناسفة بسيارتها، وجعلتها تحلق أشلاء متناثرة في السماء، كبرامج الأطفال حيث يغدو كل شيء ممكناً وفي النهاية تعود الأمور لنصابها ولكن هنا لم يكن الأمر كذلك.. هل من الممكن أن تقتلني؟!.. هل من الممكن أن تخطط لعملية اغتيالي؟!.. أي حب أنت سيجعلني أتوحد وأتلاشى فيه؟!.. أي حب سيجعلني أكتشف عوالم جديدة كانت سراً غامضاً بالنسبة لي؟!.. إنها نشوة حبك ممزوجة بعشق الوطن... فاز مرشح الرئاسة، وبدأت الاحتفالات تنتشر في كل مكان، الجيش في الشوارع يحيي السهرات، الأهالي يقتربون منه شيئاً فشيئاً، الأطفال يتراقصون، القلوب اشتاقت للأفراح، القلوب ملت الموت والألم، حتى النساء وقفن على النوافذ والشرفات، بوجوه متفاجئة وأخرى مستبشرة، بوجوه تحاول إخفاء معالمها، إنه الخوف مازال يحتل القلوب ويمنعها من ممارسة حقها بالحياة، بينما أيدي الأطفال وقلوبهم معلقة بأيدي رجال الجيش وبحلم القادم الأجمل. حزينة عليك.. لن أنتظرك.. لن أنساك.. ستبقى الحلم الذي جعلني أميرة خرافية قادمة من عالم الأساطير، وسأبقى أوقن أنك لست بقدري، وسأبقى وفية لوطني ولإنسان بلادي ذلك الطيب الذي يموت حباً بالألعاب الجديدة.
تحميل كتاب مسمار جحا لـ على أحمد باكثير
-
تحميل كتاب مسمار جحا لـ على أحمد باكثير لتحميل الكتاب من قسم: مسرحيات عن
هذا الكتاب: هذه المسرحية نكتشف مذاق جديد يتجلى حس الفكاهة والسخرية على لسان
جحا و...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق