وسأبدأ بنفسي: اقول بلا تردد ان ما أكتبه من نقد يقع في باب الكتابة الثقافية المتأثرة برؤية فلسفية عامة، بدءا من مراجعة كتب، أو طرح فكرة ثقافية أو قضية فكرية عامة وصولاً الى الفكر السياسي والاجتماعي. وكثيراً ما قيل لي من زملاء أدباء ان مراجعاتي وطروحاتي الفكرية، هي من نوع النقد الثقافي الأقرب للمراجعات الثقافية أو الفكري الصحفي، السهل والممتع وسهل الهضم. وقد اعتبرت هذا التقييم أقصى ما أطمح اليه من كتاباتي الثقافية (النقدية كما تسمى).
لا أدّعي ان النقد غائب تماماً، حقاً لدينا نقاد ونقد أدبي، غير انه لم يشكل تياراً ثقافياً مؤثراً وحاسماً في صيرورة ثقافتنا وتطورها. بل لم يشكل حتى تحدياً أدبياً أمام مبدعينا، أسوة بما يشكله النقد من موقف حاسم في كل ثقافة ذات جذور واجندة ثقافية. وأبرز الدراسات النقدية لا علاقة لها بثقافتنا المحلية رغم أهميتها.
هل في مسيرة ثقافتنا أجندة ثقافية؟
هل ثقافة بلا أجندة يمكن ان تسمو الى ثقافة قادرة على اختراق مجتمعها والتأثير فيه؟
أمامنا تجربة ثقافية نادرة في تجارب الشعوب، تجربتنا الذاتية. في سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي (العشرين) نجحنا بخلق تيار ثقافي مؤثر لدرجة بات الأدب (الشعر أساساً) نجماً في مهرجاناتنا السياسية. وكانت كل ندوة أدبية تعقد تتحول الى مهرجان ثقافي.. كنا نبحث عن الإصدار الجديد لنقرأه قبل الندوة ونشارك في طرح انطباعاتنا. كنا جزءا من حركة ثقافية نشطة. كان للتيار الثقافي بعده الاجتماعي والسياسي المؤثر. أجل شكلت السياسة بسبب واقعنا الخاص مضمونا هاما لتقييم العمل الأدبي، الأخلاقي والتربوي، بل وأكثر، كانت الثقافة سلاحنا السياسي الروحي. لذا ليس بالصدفة ان أبرز حزب في وقته (الشيوعي) تبنّى سياسياً الثقافة والهوية الوطنية الفلسطينية (تحت صيغة طبقية أعتقد انها كانت شكلية.. وما زالت كذلك) وربط حاضر الأقلية الفلسطينية المعزولة والمحاصرة بقوانين عسكرية قمعية، بماضيها الثقافي والتراثي. كان تفكيراً سياسياً خدم التنظيم بقدر أكبر مما خدم الثقافة. ولكنه ساهم بخلق تيار أدبي شيوعي شكلاً وقومي بجذوره الأساسية، احتل الساحة الأدبية خلال فترة طويلة وليس سراً ان كل الذين يُعرفون بـ"شعراء المقاومة" هم أبناء هذا التيار السياسي.
ومع ذلك لا بد من الإشارة الى مميِّزين.
المميز الأول لهذا التيار إيجابي بما شكله من تيار ثقافي تبوأ مكانته الهامة محلياً وعربياً.
والمميز الثاني سلبي ربما بنفس القدر اذ استبعد أسماء هامة لم تستطيع الانخراط في صفوف الشيوعيين لأسباب عديدة، وهذا استثناها من الواجهة الثقافية التي سيطر عليها وسوّقها محلياً وعربياً التنظيم الشيوعي، بإعلامه القوي وشبه الوحيد القائم وقتها، وربما لا أخطئ بالقول انه قمعها شعبياً أيضا بحدِّه من انتشارها عبر تجاهل إعلامه المسيطر لسائر الأسماء التي لا تنتمي سياسياً لتنظيمه ..
التنظيم استفاد بتحوله الى قوة ثقافية سائدة ومقررة، وهدفاً أمام كل مثقف اذا أراد الانتشار. ولكني اليوم أرى بالمسألة جانباً مهيناً: الخضوع للتنظيم وقبول رؤيته السياسية او التجاهل والإقصاء. لذلك تطورت ظواهر سلبية مدمّرة لم يكن بقدرة أحد صدّها.
أفرزت هذه السلبيات قيماً مشوًهةً، ونقداً مشوّهاً وثقافةً مشوّهة، ودخلاءَ على الأدب والنقد والسياسة، وعلى النشر المشوه في الصحافة خاصة، والترويج الكاذب ذي الصبغة القبلية. وأكاد أقول ان غياب أقلام واعدة هو نتيجة الفوضى الثقافية، التي بات مروّجوها من نقّاد لا علاقة لهم بالأدب، او بعض من صمتوا دهراً ونطقوا كفراً أدبياً، أو كتّابِ نثرٍ وشعرٍ لا شيء من الجمالية الأدبية في نصوصهم، يصرّون ان يقتحموا عالم الإبداع ظانّين ان الموضوع لغوي إنشائي فقط، ويجدون مع الأسف من يستجيب لنزواتهم .. خاصة مع تلاشي سيطرة تيار سياسي محدد على النشر، وهو بحدّ ذاته أمر إيجابي ولكنه انعكس بشكل سلبي مطلق على ثقافتنا.
هذا أوصلنا الى حالتنا المضحكة المبكية اليوم. فذاك يلوح بعشرين كتاباً وصلوه وانه يجمع عدته ليكتب "مراجعات نقدية" لكل ما وصله. من النقد الأول سيقرر (أجل نحفظ الدرس وأستطيع ان أكتب مقدمة نقده قبل ان ينشرها وربما ان أشير الى ما هو أكثر من المقدمة) اننا أمام شاعر او كاتب قلَّ مثيلُه في الشعر أو النثر.. ولن يتردّد في استعمال اصطلاحات مثل "حداثي" و "مجدّد" و "عالمي"... وآخر يخرج من مفكرته اصطلاحات نقدية أكاديمية تطورت في ظل ثقافة وحضارة مختلفة، وفي إطار فلسفات اجتماعية أحدثت انقلابات اجتماعية وفكرية راديكالية في مجتمعاتها أرى استحالة وعبثية نسخها وتطبيقها على ثقافتنا.
تصفحتُ العديد من الإصدارات الجديدة، لم أجد ما يشجّعني على قراءة كاملة لأكثريتها. وبعضها لم أفهم علاقته بالإبداع الأدبي .. الا بالتسمية التي تحملها الأغلفة. حقاً هناك مواهب جيدة، وهناك كتابات جيدة، ولكنها تغرق في بحر من الكتابات غير الناضجة.
لا أكتب لأقلل من أهمية المراجعات، حتى للإصدارات التي لم ترق الى مستوى الشعر او القصة. ولكني أتوجه برجاء، لنقّاد هذا الأدب (أو دعاة الترويج)، لا تبيعوا أوهاماً، اذا كنتم حقاً تعتبرون أن نقدكم يقع في باب الثقاف .. احترموا صاحب العمل الذي يريد توجيهاً صحيحاً وصريحاً، حتى لو كان مؤلماً، لأنه قد يكون موهوباً حقاً، ونقدكم، اذا لم يلتزم منطق الصدق، يجعل البعض على قناعة انهم أصبحوا أصحاب مدارس أدبية، وان ما يخرج من مداد أقلامهم، بصالحه وطالحه، هو الإبداع بجوهره.
يبدو لي ان مبدعينا المبشرين بالخير كما أرجو، يطلبون العلالي من اللحظة الأولى، ووقعوا على ممارسي نقد فاقدين لأية رؤية نقدية او ثقافية او جمالية بديهية.
هذه كانت رغبتي أيضا مع أول قصة نشرتها وانا في جيل الخامسة عشر، وظلت هذه الرغبة ترافقني حتى جيل أستطيع ان أسميه جيل الاكتمال النسبي للوعي الثقافي. وأقول النسبي لأن الوعي لا يكتمل ابدا انما يزداد إثراؤه بالتجارب الإبداعية واكتساب المعارف الجديدة وتوسع عالم الأديب الثقافي والفكري وتجاربه الحياتية.
بعض هذا النقد الذي أحذر من مخاطره ، يذكّرني بحكاية سمعتها أثناء دراستي في الاتحاد السوفييتي السابق. ويقال ان ستالين نفسه هو أول من رواها، تهكّماً على بيريا الرهيب، قائد المخابرات السوفييتية في وقته. تقول الحكاية:
كان ستالين مولعا بتدخين البايب. فقد ستالين البايب المفضل لديه .. كان ستالين على ثقة ان البايب سُرق منه في الكرملين. وعليه، اللص لا بد ان يكون من الحاشية المقربة. أعطى علماً بالأمر لقائد المخابرات المشهور وقتها بيريا الرهيب، وطلب غاضباً العثور على البايب بأي ثمن. بيريا الرهيب بدأ بالتحقيق والاعتقالات والتعذيب... في هذا الوقت وجدت المساعِدة بايب ستالين تحت سريره، وأعلمت الرفيق ستالين انها وجدت البايب الضائع .. ستالين سارع بالاتصال بالرفيق الرهيب بيريا ليعلمه ان مسألة البايب حلّت فقد وجده .. بيريا لم يصدق، قال: كيف يمكن ان تجده يا رفيق ستالين ولدي ستة معتقلين من قيادة الحزب اعترفوا انهم سرقوا البايب المفضل لديك؟!
ايها الرفيق الناقد بيريا، رحمة بأدبنا لا تستعمل أساليب إقناع حتى لو كانت بأسلوب رقيق وقمّة في اللطافة والتبجيل والتشجيع وحسن النية!!
بالطبع أتمنى للأدباء العرب الفلسطينيين في إسرائيل المزيد من الإبداع والرقي الثقافي. ولكن الامنيات لوحدها لا تصنع أدبا.
تعالوا نفحص جوانب أخرى لها صلة رحم بالنقد.
هل يملك نقدنا المحلي السائد، وعياً جمالياً (استيطيقا – علم الجمال)؟ وهل هو قادر على ايصاله للمتلقي؟!
ما يقلقني ان وعينا الجمالي الأدبي لم يتبلور بعد بصفته ركناً ثقافياً وفكرياً مقرراً وحاسماً في تقييم الإبداع الأدبي.
في مرحلة سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي كنا متعطشين للثقافة، اولاً كضرورة لمجتمع بشري معاصر، وثانياً كرد فعل مضاد (كما في الفيزياء) على الحصار الثقافي الصهيوني.
الثقافة أعطتنا أجنحة لنتواصل مع تاريخنا وهويتنا القومية والحضارية. أعطتنا دفقاً من المعنويات لنتحدّى الواقع السياسي الرهيب الذي انكشف أمامنا عقب نكبتنا وبقائنا في وطننا، جزءاً ممزّقاً من شعب. بعضنا بلا هويات يهددهم خطر القذف وراء الحدود، بعضنا حاضر غائب حسب قوانين قراقوشية تحكمت بمصيرنا، الأرض تصادر، قرى تهجر وتهدم حتى بعد إقامة الدولة (اقرث وبرعم، خرجوا باتفاق مع الجيش ورغم قرار المحكمة العليا بحقهم بالعودة الا ان الحكومة تحايلت على القرار بقوانين مختلفة وجرى هدم القريتين بالقصف من الجو) ... ولاجئون على بعد مسافة قصيرة من قراهم واراضيهم ويمنعون من الاقتراب منها (لاجئو صفورية يسكنون حياً في الناصرة يطل على أراضيهم المصادرة وبيوتهم المهدمة وبنيت على أراضيهم بلدة يهودية). ذاكرة شعب كامل تهدم. بقايا شعب ممزق ومهزوم ويتلمس الطريق في واقع غريب عنه بكل ابعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. لم تكن فترة لالتقاط الأنفاس. كل شيء يسير بسرعة غير معتادة. خطط للتجهيل بلغتنا وهويتنا، أسماء بلداتنا وملاعب صبانا تعبرن (تستبدل بأسماء عبرية)، من أكثرية في وطننا تحولنا الى أقلية ممزقة ومضطهدة، نفتقد للمثقفين، المتعلمون قلة، نفتقد للبنى التحتية التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية. من مزارعين تحولنا بفقدان الأرض الى عمال أجرة في المشاريع اليهودية، قرانا ومدننا تحولت الى فنادق تأوينا بعد يوم العمل. المعلمون يلاحَقون ويفصَلون إرهاباً وقمعاً لجعلهم خصياناً ينفذون أوامر الحكم العسكري في تجهيل الأجيال الشابة بلغتهم وتاريخهم. شعب بلا مؤسسات، القيادات التقليدية هربت، المخاتير بأكثريتهم الساحقة تحولوا الى زلم للحكم العسكري الاسرائيلي، وبعضهم كانوا من "جيش الظلال" الصهيوني قبل نكبة شعبنا، الذين سمسروا لبيع الأرض للحركة الصهيونية، وباعوا شعبهم لقمة سائغة لمصير رهيب ما زال يدفع بالدم ثمن مأساته حتى اليوم.
في هذه الظلمة والضياع برز الحزب الشيوعي بقيادته الطليعية التاريخية. مجموعة من المثقفين الوطنيين الأبطال حقا بكل المعايير. من اليوم الأول قرروا التحدي. دفعوا ثمناً رهيباً، ولكن طريقهم أثمرت .. الثمن كان ضياع حيوات أجيال، حتى لا يضيع شعبنا ويفولذ تمسكه بوطنه وحقوقه. وكان تطوير الأدب إحدى المهمات الاستراتيجية الهامة للطليعة الشيوعية. ولكن كما قلت كان لذلك جانبان، إيجابي وسلبي .. الإيجابي رغم أهميته العظيمة يتلاشى ونحصد اليوم سلبياته ..
ما يقلقني ان ذوقنا الجمالي لا يتبلور من خلال الفوضى الأدبية وكتبة المدائح، وبتنا عاجزين عن استيعاب الجمالي في الإبداع والتلقي.
وربما نتساءل ما هي مركبات هذا الذوق الجمالي الجديد؟!
ان جلّ ما يغيب عن الناقد هو المستويات التعبيرية للإبداع.
عندما يصعب على الناقد ان يستوعب الوعي الجمالي، بصفته الوعي الذي يتناول الظواهر والأشياء من خلال سماتها الحسّية، وقدرتها في التأثير على المتلقي، عند ذلك يغيب تماما أهم ما في النقد وأعني: المضمون الجوهري للمقياس الجمالي في الابداع الأدبي.
آمل ان لا تكون كلماتي معقدة، لذا أسمح لنفسي ان اقول انه لا يوجد في أدبنا الا القليل القليل من النقد الأدبي، وأكثريته لم يتناول أدبنا.
النقد يحتاج الى فكر الى فلسفة، وألاحظ ان أكثرية كتاب ما يعرف ضمنا بالنقد يفتقدون للفكر الثقافي ولوعي فلسفي، بل ويفتقدون لحسٍّ ثقافي ذوقي، وكتاباتهم بلا فكرة نقدية محددة.
بالطبع لدينا معوقات تتعلق بتركيبة مجتمعنا، الحياة الثقافية النشطة والفعالة هي سمة للمجتمعات المدنية، ونحن للأسف الشديد نحقق تراجعاً في مدنية مجتمعنا. نعود الى تجزئتنا العائلية وتباعدنا الطائفي، حتى فكرنا القومي يتحول الى فكر طائفي وعائلي منغلق. ومنطقنا السياسي ينحرف نحو العائلية السياسية والطائفية السياسية. كنا نظن انها لم تعد تشكل عائقاً أمام مجتمعنا العربي في إسرائيل، الذي تحول الى اقتصاد إنتاجي حديث، وعلاقات إنتاجية حديثة، وما فرضه ذلك من أسلوب حياة مدني. حقاً التطور كان قسرياً وسطحياً، أي لم ينجح بتغيير حاسم للعلاقات الاجتماعية القديمة، علاقات المجتمع القروي الصغير المتماسك عائلياً، واستبدالها بعلاقات مجتمع مدني منفتح ومتحرر من الروابط القروية، تحكمه قيم مدينية لا سابقة لشعبنا بها بهذه الكثافة وفرض القطيعة مع الواقع الذي تشكلت مفاهيمنا في اطاره، أي بدل قيم المجتمع الفلاحي البسيط بدأت تسود قيمُ مجتمعٍ برجوازي اوروبي، كولونيالي في نهجه مع الأقلية العربية الباقية في وطنها رغماً عن مشاريعه التهجيرية، الى جانب الحقيقة غير القابلة للجدل، بأن نكبتنا هي الوجه الآخر للواقع المتغير الذي يعصف بنا.
أدّعي اننا لم نستوعب بعد هذه المتغيرات العاصفة في ثقافتنا. تعبيرنا الوطني لم يرقَ الى مستوى ابسيميتولوجي، بمفهوم المعرفة الحقة العلمية لجذور التحول التي تعصف بماضينا كله وتفرض علينا تحولات سريعة تتناقض مع مستوى تطورنا وعلاقاتنا القديمة.
يبدو ان هذا الواقع يحتاج الى دراسة الجوانب النفسية الاجتماعية وتأثيراتها الثقافية على المجتمع العربي داخل اسرائيل وانعكاسها السلبية والايجابية على مسيرته الثقافية والسياسية لشدة الاندماج في واقعنا بينهما!!
نبيل عودة
– nabiloudeh@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق