والجوع يفترسه جلس في ظل شجرة , في احدي الحدائق العامة , المفتوحة , مضغ لسانه بفكيه , بلع ريقه الجاري .. فروائح المطعم الفخم .. الرابض أمامه تختلط في أنفه ,عصر بطنه بين يديه , نظر للأجسام المتخمة باللحم , القابعة فوق الموائد , المفروشة بالطعام , تلك الأجسام التي لا تنظر إلا للذي أمامها
تذكر أمه التي أخبرته ذات يوم , بأنه ولغ من لبن الكلبة " فله " حتي انتفخت بطنه وشبع .. وكانت تفعل ذلك مراراً.. كلما رأته يبكي ..
لذلك تعلل أمه ــ لجارتها ــ نشفان دماغه.. وطبعه العنيد .. ولأنه ومنذ الصباح .. لم يدخل جوفه شيئاً غير الهواء , والماء , وقد تعب من كثرة المشي في الشوارع , وهو يعرض نفسه ككلب ضالٍ .. علي أصحاب المحلات التجارية , والمقاهي , والمطاعم .. لعله يصعب علي أحدهم فيجعله يعمل عنده , ويتخذه ابناً له , أو حتى يخدمه ببطنه.. ولكنه لم يجد قلباً رحيماً .. شعر بالتعب يفت في عظامه.. وبمرارة الصبار في حلقه .. فآوي إلي حديقة بدت له .. أسند رأسه المتعبة .. علي حجر صغير .. ومعدته خاوية , منذ يومين , وصورة أمه , والكلبة " فله" أمامه .. تمني للحظة أن ينقلب لكلب كبير .. ثم غفي قليلاً .. فرأي فيما يري النائم .. وكأنه وبقدرة قادر , صار كلباً جميلاً .. غير انه لا يعلم إلي أي أجناس الكلاب ينتمي .. شعر بالسعادة للحظة .. لأنه صار كلباً كما تمني .. رأي الدنيا مختلفة من حوله , عما كانت عليه من قبل .. تملكه احساس غريب .. لم يجربه , أو سبق وان تعامل معه من ذي قبل ..رأي المطعم مازال مرابضاً أمامه .. تزين وجهته الألوان الزاهية المرتعشة.. ويافطة كبيرة كتب عليها .. بالخط العريض .. " وكلوا وشربوا من رزق الله ".. وشلالات الضوء المنبعثة من المصابيح المصطفة علي جانبي الشارع تحيل الليل إلي نهار .. مع صخب المارة , وأصوات العربات وهي تسير في حركة دائبة .. لا تقل .. ولا تمل .. ولا تنقطع .. نهض , سار بمحاذاة الرصيف .. حتي لا تضربه عربة مجنونة .. والهواء البارد المشبع بالماء, والدخان الأبيض يخرج من انفه , وفمه علي هيئة دوائر صغيرة .. لاحظ بعض الناس وهي تنفر منه , وتفر وتبتعد بعيداً عنه مُشمَأَزٌّين منه , ومتقززين , وخائفين .. ابتسم في نفسه , وشعر بالغبطة .. وقف أمام المطعم الكبير .. يهز زيله .. ولسانه خارج فمه .. يعوي بصوتٍ متقطع , ضعيف .. وكأنه يرجوا الجالسين .. ان يلقوا اليه شيئاً مما في أيديهم ليأكله .. ضحكت جثة منتفخة علي احدي الموائد .. وهو ينظر اليه بأشفاق .. وبيده عظمة صغيرة يمصمص فيها .. لفرخه محمرةٍ , ساخنة .. ثم ألقي بها بعيداً أمامه .. يجري الكلب عليها .. ليلحق بها قبل أن تقع علي الأرض .. يلقفها بفمه .. بحركة بهلوانية خفيفةٍ سريعة وخاطفةٍ .. أثارت انتباه الجالسين .. فتوالت عليه بقايا الطعام .. هز زيله الجميل , وكأنه يشكرهم .. وهو في سعادة بالغة .. وقبل ان ينهمك في الأكل .. وعلي حين غفلةٍ منه .. سدد اليه صاحب المطعم ضربة قوية .. علي أم رأسه .. أوجعته .. وكادت ان تفقده الوعي .. لولا انه تماسك .. وفر هارباً وهو يعوي .. وينبح .. ويعوي .. فانفلتت الضحكات المجنونة .. والتعليقات الساخرة .. اللاذعة , من الذين لا يزالون جالسون يأكلون .. وقف الكلب غير بعيد .. وهو ينظر نحو المطعم .. وينبح .. ممنياً نفسه بالرجوع اليه مرة أخري .. ولكن الرجل الواقف امام المطعم بعصاه الغليظة .. جعله يغير بغيته , ووجهته .. ليكتشف ان هناك مطعم ثاني.. فيسيل لعابه من جديد .. للروائح المتسربة من خلف الزجاج الي انفه .. يتكوم في حسرةٍ علي بقعة من الأرض المرشوشة اللينة .. وقبل ان يمسح النوم عيناه .. يري رجلاً قزماً , نحيفاً .. يقترب منه .. وفجأة يجري عليه .. وفي يده آلة صلبة .. ليضربه بها .. فينطلق .. يعدو كالريح .. وهو ينبح, ويعوى .. ثم يكتشف مطعم ثالث .. ورابع .. وعاشر .. وفي كل مرةٍ .. يفكر فيها .. بالاقتراب .. ليأكل .. أو ليستريح .. يجد نفسه مطارداً .. وغير مرغوب فيه .. ثم وفجأة , وبالصدفة المحضة .. تظهر أمامه كلبه جميلة .. أقترب منها .. هزت زيلها .. تشممها .. نبحت , فنبح .. عوت , فعوى .. ثم جرت أمامه .. فوجد نفسه يجري خلفها .. ليكتشف انه في احدي الخرابات , البعيدة عن العمران .." مقلب زبالة كبير " نبش فضلات القمامة .. بحثاً عن الطعام .. قمقم .. أكل حتي شبع .. والكلبة واقفة أمامه .. تنتظره حتى يفرغ .. تهز زيلها .. تنظر اليه .. وتنبح .. يقترب منها .. يدور حولها .. يتشمم خلفها .. تنثني نحوه .. تضربه بيدها .. تعضه .. تعوي .. تهز زيلها .. غير مبتعدة عن وجهه .. وحين استجابت له .. فجأة , الأطفال تخرج من تحت الأرض .. يتصايحون وهم ينقرونهما .. بوابل من الحجارة .. يسكن حجر صغير في رأسه .. فيسيل الدم منه دافئاً , وغزيراً علي وجهه .. يجري .. ينبح .. يعوي .. يصيح .. يستيقظ .. فزعاً .. مذعورًا .. مرتجفاً .. يجد نفسه في وسط الليل .. والناس من حوله .. تقبل وتدبر في لا مبالاة .. يتحسس رأسه المجروح .. كانت لم تزل في مكانها .. ولم تزل بخير.. لم تتعور.. فحمد الله علي سلامته .. نهض , وهو ينفض ثيابه المعفرة .. لعن , وسب , الدنيا .. والناس .. والكلاب .. والفقر .. والجوع .. كور تفةٌ كبيرةٌ في فمه .. قذفها بكل قوة في وجه الدنيا .. تمتم ساخطاً .. " طظ " .. وراح يجر قدميه المتعبة .. ليطوف في الشوارع من جديد .. يمارس التشرد ..عارضاً نفسه عله يجد صدراً حنوناً , رحيماً .. أو قلباً عطوفاً .. ليتخذه أبناً .. أو حتي عبداً ... و.....
تذكر أمه التي أخبرته ذات يوم , بأنه ولغ من لبن الكلبة " فله " حتي انتفخت بطنه وشبع .. وكانت تفعل ذلك مراراً.. كلما رأته يبكي ..
لذلك تعلل أمه ــ لجارتها ــ نشفان دماغه.. وطبعه العنيد .. ولأنه ومنذ الصباح .. لم يدخل جوفه شيئاً غير الهواء , والماء , وقد تعب من كثرة المشي في الشوارع , وهو يعرض نفسه ككلب ضالٍ .. علي أصحاب المحلات التجارية , والمقاهي , والمطاعم .. لعله يصعب علي أحدهم فيجعله يعمل عنده , ويتخذه ابناً له , أو حتى يخدمه ببطنه.. ولكنه لم يجد قلباً رحيماً .. شعر بالتعب يفت في عظامه.. وبمرارة الصبار في حلقه .. فآوي إلي حديقة بدت له .. أسند رأسه المتعبة .. علي حجر صغير .. ومعدته خاوية , منذ يومين , وصورة أمه , والكلبة " فله" أمامه .. تمني للحظة أن ينقلب لكلب كبير .. ثم غفي قليلاً .. فرأي فيما يري النائم .. وكأنه وبقدرة قادر , صار كلباً جميلاً .. غير انه لا يعلم إلي أي أجناس الكلاب ينتمي .. شعر بالسعادة للحظة .. لأنه صار كلباً كما تمني .. رأي الدنيا مختلفة من حوله , عما كانت عليه من قبل .. تملكه احساس غريب .. لم يجربه , أو سبق وان تعامل معه من ذي قبل ..رأي المطعم مازال مرابضاً أمامه .. تزين وجهته الألوان الزاهية المرتعشة.. ويافطة كبيرة كتب عليها .. بالخط العريض .. " وكلوا وشربوا من رزق الله ".. وشلالات الضوء المنبعثة من المصابيح المصطفة علي جانبي الشارع تحيل الليل إلي نهار .. مع صخب المارة , وأصوات العربات وهي تسير في حركة دائبة .. لا تقل .. ولا تمل .. ولا تنقطع .. نهض , سار بمحاذاة الرصيف .. حتي لا تضربه عربة مجنونة .. والهواء البارد المشبع بالماء, والدخان الأبيض يخرج من انفه , وفمه علي هيئة دوائر صغيرة .. لاحظ بعض الناس وهي تنفر منه , وتفر وتبتعد بعيداً عنه مُشمَأَزٌّين منه , ومتقززين , وخائفين .. ابتسم في نفسه , وشعر بالغبطة .. وقف أمام المطعم الكبير .. يهز زيله .. ولسانه خارج فمه .. يعوي بصوتٍ متقطع , ضعيف .. وكأنه يرجوا الجالسين .. ان يلقوا اليه شيئاً مما في أيديهم ليأكله .. ضحكت جثة منتفخة علي احدي الموائد .. وهو ينظر اليه بأشفاق .. وبيده عظمة صغيرة يمصمص فيها .. لفرخه محمرةٍ , ساخنة .. ثم ألقي بها بعيداً أمامه .. يجري الكلب عليها .. ليلحق بها قبل أن تقع علي الأرض .. يلقفها بفمه .. بحركة بهلوانية خفيفةٍ سريعة وخاطفةٍ .. أثارت انتباه الجالسين .. فتوالت عليه بقايا الطعام .. هز زيله الجميل , وكأنه يشكرهم .. وهو في سعادة بالغة .. وقبل ان ينهمك في الأكل .. وعلي حين غفلةٍ منه .. سدد اليه صاحب المطعم ضربة قوية .. علي أم رأسه .. أوجعته .. وكادت ان تفقده الوعي .. لولا انه تماسك .. وفر هارباً وهو يعوي .. وينبح .. ويعوي .. فانفلتت الضحكات المجنونة .. والتعليقات الساخرة .. اللاذعة , من الذين لا يزالون جالسون يأكلون .. وقف الكلب غير بعيد .. وهو ينظر نحو المطعم .. وينبح .. ممنياً نفسه بالرجوع اليه مرة أخري .. ولكن الرجل الواقف امام المطعم بعصاه الغليظة .. جعله يغير بغيته , ووجهته .. ليكتشف ان هناك مطعم ثاني.. فيسيل لعابه من جديد .. للروائح المتسربة من خلف الزجاج الي انفه .. يتكوم في حسرةٍ علي بقعة من الأرض المرشوشة اللينة .. وقبل ان يمسح النوم عيناه .. يري رجلاً قزماً , نحيفاً .. يقترب منه .. وفجأة يجري عليه .. وفي يده آلة صلبة .. ليضربه بها .. فينطلق .. يعدو كالريح .. وهو ينبح, ويعوى .. ثم يكتشف مطعم ثالث .. ورابع .. وعاشر .. وفي كل مرةٍ .. يفكر فيها .. بالاقتراب .. ليأكل .. أو ليستريح .. يجد نفسه مطارداً .. وغير مرغوب فيه .. ثم وفجأة , وبالصدفة المحضة .. تظهر أمامه كلبه جميلة .. أقترب منها .. هزت زيلها .. تشممها .. نبحت , فنبح .. عوت , فعوى .. ثم جرت أمامه .. فوجد نفسه يجري خلفها .. ليكتشف انه في احدي الخرابات , البعيدة عن العمران .." مقلب زبالة كبير " نبش فضلات القمامة .. بحثاً عن الطعام .. قمقم .. أكل حتي شبع .. والكلبة واقفة أمامه .. تنتظره حتى يفرغ .. تهز زيلها .. تنظر اليه .. وتنبح .. يقترب منها .. يدور حولها .. يتشمم خلفها .. تنثني نحوه .. تضربه بيدها .. تعضه .. تعوي .. تهز زيلها .. غير مبتعدة عن وجهه .. وحين استجابت له .. فجأة , الأطفال تخرج من تحت الأرض .. يتصايحون وهم ينقرونهما .. بوابل من الحجارة .. يسكن حجر صغير في رأسه .. فيسيل الدم منه دافئاً , وغزيراً علي وجهه .. يجري .. ينبح .. يعوي .. يصيح .. يستيقظ .. فزعاً .. مذعورًا .. مرتجفاً .. يجد نفسه في وسط الليل .. والناس من حوله .. تقبل وتدبر في لا مبالاة .. يتحسس رأسه المجروح .. كانت لم تزل في مكانها .. ولم تزل بخير.. لم تتعور.. فحمد الله علي سلامته .. نهض , وهو ينفض ثيابه المعفرة .. لعن , وسب , الدنيا .. والناس .. والكلاب .. والفقر .. والجوع .. كور تفةٌ كبيرةٌ في فمه .. قذفها بكل قوة في وجه الدنيا .. تمتم ساخطاً .. " طظ " .. وراح يجر قدميه المتعبة .. ليطوف في الشوارع من جديد .. يمارس التشرد ..عارضاً نفسه عله يجد صدراً حنوناً , رحيماً .. أو قلباً عطوفاً .. ليتخذه أبناً .. أو حتي عبداً ... و.....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق