لابد من الإشارة في البدء إلى أن التشكل السياسي لسورية على أنها دولة إنما كان في القرن العشرين، مما يجعل الحديث عن الأدب فيها مرتهناً بهذا الزمن، مع تمهيد يكشف بعض الظواهر الأدبية التي برزت في العصور الماضية لما يُعرف بـبلاد الشام.
تشكلت، في تاريخ سورية الذي يمتد آلاف السنين، أطياف متعددة من الأدب، تمثل ذلك قديماً في نصوص تأملية، وأساطير تتعلق بالطوفان وخلق العالم، وهذا ما وجد في ماري وإبلا، وقد ذكر اسم الكاتب السوري الساخر لوقيانوس، كما ظهرت فيها أول
أبجدية في العالم، ولا تزال تنفرد بوجود أقدم لغة مستعملة «الآرامية»، وقد حملت الأيقونات المكتشفة في القرن العشرين قصصاً وأشعاراً وأساطير متنوعة، مثل أسطورة دونيزيوس والخمر، وأسطورة جيو والفصول الأربعة، وتدل القلاع والمدن الأثرية على وجود المسرح، مما يدل على أثره في حياة الناس، وغلب على هذا المسرح كونه مسرحاً شعرياً.
انضوت هذه المنطقة تحت مظلة الدولة الإسلامية، ثم أصبحت دمشق عاصمة للخلافة الإسلامية في العصر الأموي، فصارت موئل العلماء والأدباء والشعراء ورواة الشعر والأخبار، فنشطت الحركة الشعرية فيها، وبرز عدد من الشعراء، أمثال جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم، وكما أن هذه الحركة الأدبية كانت نواة للحضارة في الأندلس. وفي العصر العباسي برز أدباء وشعراء كثيرون ينتمون إلى بلاد الشام (سورية)، وكان لهم أثرهم في الحركة الأدبية عامة، مثل: أبي تمام والبحتري وديك الجن وربيعة الرقي وأبي العلاء المعري وأبي فراس الحمداني والصنوبري والوأواء الدمشقي، وبرز في الشعر ما عُرف باسم المذهب الشامي. وكذلك ظهر شعراء وأدباء كثر في العصور اللاحقة، أمثال أسامة بن منقذ وابن الأثير وابن الساعاتي والشاب الظريف وابن حجة الحموي وشرف الدين الأنصاري وعائشة الباعونية وأمين الجندي وعبد الغني النابلسي وابن النقيب الحسين وغيرهم. وفي بلاد الشام كان ظهور مسرح خيال الظل.
أما في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين فقد حدثت تحولات كبيرة أدَّت إلى دخول أجناس أدبية جديدة، نتيجة لعوامل متعددة، مثل الطباعة التي أتاحت انتشار الكتب بين الناس وطبع الأعمال الأدبية، والصحافة التي نشرت معظم الأعمال على صفحاتها قبل أن تصدر في كتب، ووضَّحت مفاهيم الأدب، وأبرزت أعلامه، وساعدت على كتابة النقد حوله، وقد تخصصت دوريات عديدة في الأدب والنقد، كمجلات «الأديب» و«الثقافة» و«المعرفة» و«الموقف الأدبي» و«التراث العربي» و«الأسبوع الأدبي» و«الحياة المسرحية»، وأسهم انتشار التعليم في الاهتمام بالأدب، والترجمة، مما سهّل دخول أجناس أدبية جديدة، سعت إلى مواكبة التطور المتسارع للمجتمع السوري، وترافق ذلك مع إحياء التراث ونشره محققاً، ومحاولة الاستفادة منه في أعمال أدبية كثيرة، وقد أذكت حركة النضال ضد المستعمر كثيراً من الموضوعات التي كتب فيها الأدباء نصوصاً شعرية ونثرية، وكان للأحزاب والتكتلات قسطها في إثراء الحركة الأدبية من خلال تشجيعها الأدباء والاهتمام بالثقافة. وقد برز في هذه المرحلة عدد كبير من الشعراء والأدباء، أمثال فخري البارودي وشفيق جبري وميخائيل ويردي وعبد الله يوركي حلاق وعمر بهاء الدين الأميري وعبد المعين الملوحي وبديع حقي وسلامة عبيد ومحمد البزم ومحمد الفراتي وخليل مردم بك وبدر الدين الحامد وبدوي الجبل وماري عجمي وأنور الطار وعمر أبو ريشة وخير الدين الزركلي وسليم الزركلي ووجيه البارودي ومحمد عمران ونزار قباني وسليمان العيسى.
ولاشك في أن قيام الجمهورية العربية السورية في الثلث الثاني من القرن العشرين، ورحيل المستعمر بعد ذلك، قد أسهم في إذكاء حركة أدبية تتميز بشيء من الخصوصية، على أنها تنضوي تحت مظلة الأدب العربي المعاصر. وظهرت مؤسسات ثقافية أسهمت في تنشيط الحركة الأدبية، مثل وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب بجمعياته المتعددة وغيرهما.
وتجلت حركة الأدب في سورية في العصر الحديث من خلال مجموعة من الأجناس الأدبية والظواهر الفنية؛ فالمقالة: شغلت حيزاً واسعاً في الأدب العربي السوري الحديث: بسبب انتشار الصحف وتناولها موضوعات متنوعة، فقد تعددت تياراتها من تقليدية وواقعة ورومنسية وعلمية، وتناولت العادات وشؤون الأسرة وغيرها من شؤون الحياة، وجوانب سياسية وفكرية ونقدية، واشتهر فيها أعلام كثر، مثل محمد كرد علي وشفيق جبري وسامي الكيالي وزكي الأرسوزي وسعد صائب وشكري فيصل وعبد الكريم الأشتر وعبد السلام العجيلي وشوقي بغدادي وصدقي إسماعيل وغيرهم.
والمقالة فن نثري كانت بدايته إبداعية؛ إلا أنها صارت فناً ينتمي إلى الصحافة، ولعل ما ينسبها إلى الأدب كون كثير من كتابها من الأدباء أو النقاد.
وغدا فن السيرة الذاتية جزءاً من حركة الأدب، وشارك في هذا الفن شعراء وقاصون وروائيون ونقاد، وصاغوها في كتب خاصة كما فعل نزار قباني، أو في رواية على نحو ما فعل حنا مينة، ولم تكن السيرة فناً ذاتياً اقتصر على الهموم الشخصية بل مزجت الخاص بالشأن العام.
وبرز في النصف الثاني من القرن العشرين أدب الأطفال بأجناسه المختلفة، وكتب فيه أدباء كثيرون، منهم زكريا تامر ودياب عيد ووليد معماري ونزار نجار وموفق أبو طوق، وقد ساعد وجود جمعية لأدب الأطفال في اتحاد الكتاب على ترسيخ هذا الفن الأدبي.
أما الرواية فقد قرّ في الدراسات النقدية المتعلقة بها أن رواية «نهم» لـشكيب الجابري (1937) كانت الأقرب إلى الرواية الفنية، غير أن بعض الدارسين يعيد تاريخ الرواية السورية إلى فرنسيس مراش في «غابة الحق» (1865) مع أن الدارسين أنفسهم ينبهون إلى أن نهوض الرواية السورية الفعلي كان في عقد الخمسينات من القرن العشرين، إذ أصبحت جزءاً رئيسياً مكوناً في تاريخ حركة الأدب في سورية، فقد صدر ما يزيد على 600 رواية حتى نهاية القرن العشرين.
وقد نهض بهذا الجنس الأدبي أعلام كثر منهم: حنا مينة ونبيل سليمان وعبد النبي حجازي وعبد السلام العجيلي وفارس زرزور ووليد إخلاصي وأحمد يوسف داوود وهاني الراهب وغادة السمان وناديا خوست وخليل النعيمي وحيدر حيدر وغيرهم.
ولطبيعة جنس الرواية وما يتيح للروائي؛ فإن الروائيين السوريين عالجوا من خلاله قضايا كبيرة شائكة؛ ليقدموا في رواياتهم وجهات نظر متعدّدة في مواضيع تبدو في ظاهرها بسيطة، من ذلك ما يتعلق ببناء سد الفرات مثلاً، وحرب تشرين والسجن والريف والمدينة والبحر والوحدة العربية ونكسة حزيران ومقاومة المستعمر.
وبدا أنَّ الواقعية هي الأبرز حضوراً في تاريخ الرواية السورية، سواء أكانت انطباعية (فارس زرزور) أم انتقادية (عبد النبي حجازي وخيري الذهبي وهاني الراهب).
وحضر الجانب الرومنسي في روايات شكيب الجابري وفاضل السباعي، على اختلافهما في طريقة التناول. وعبَّرت الرواية عن هموم العمال والفلاحين أيضاً .
واصطرعت في سيرورة الرواية السورية هموم عدة تمكّنت من تقديم تاريخ غير رسمي لحركة المجتمع وصراعاته المتتالية، السياسية والاجتماعية والفكرية، مستفيدة من إمكانية إعادة قراءة الماضي ونقده وتعرية الواقع المكتظ بالتحولات والتغيرات المتلاحقة.
كما نحتِ الرواية في العقد الأخير من القرن العشرين منحىً جديداً؛ إذ برزت أسماء كثيرة راحت تتناول قضايا المجتمع بطرق فنية غير مألوفة، مستفيدة من احتكاكها بالمنجز العربي والعالمي، فظهرت رواية مفتوحة الدلالات، فيها رواة كثر للحدث الواحد، تشغلها الرؤية السردية الناظمة للعمل، وبرزت أسماء عدد من الروائيين منهم: فواز حداد ونهاد سيريس ومحمد أبو معتوق وممدوح عزام وعلي عبد الله سعيد وخليل الرز وعبد العزيز الموسى.
وتعاونت الرواية مع فنون بصرية عدة، إذ حوّل كثير منها إلى مسلسلات تلفزيونية وأفلام سينمائية في محاولة لمواكبة العصر والوصول إلى شريحة أوسع من الناس، مستفيدة من الإمكانات الفنية والإعلامية.
وأما القصة القصيرة فقد خاضت مخاضاً صعباً حتى تبلورت في صيغة فنية تمكنت من الموازنة بين أسسها الفنية واحتياجات المجتمع، ويكاد يجمع النقاد على أن أول مجموعة قصصية حملت بذوراً فنية تؤهلها لتكون قصصاً قصيرة هي: «ربيع وخريف» لـعلي خلقي (1931)؛ لكن المجموعة الأوفر حظاً في كونها أول مجموعة ذات عناصر فنية متكاملة هي «بنت الساحرة» لـعبد لسلام العجيلي (1948).
وتتابع صدور المجموعات القصصية في سورية ليصل مع نهاية القرن العشرين إلى أكثر من ألف مجموعة قصصية، ضمت ما يقرب من خمسة عشر ألف قصة، وقد نشر ما يزيد على هذا العدد في الصحف على شكل قصص مفردة لم تنتشر في مجموعات، إذ ارتبط هذا الجنس الأدبي بالصحافة منذ نشأته ارتباطاً كبيراً، ولم يكن من المألوف أن تنشر القصص في مجموعات قبل أن تنشر في الصحف، لكن هذه الظاهرة تغيرت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين؛ لقلة عدد الصحف، ولجرأة القصص، ولتراجع العلاقة بين الجمهور والصحافة، نتيجة وجود وسائل إعلامية أخرى وسوى ذلك.
وبرز في تاريخ القصة القصيرة السورية عدد من الأعلام الذين ارتبطت ببعضهم ظواهر فنية وموضوعاتية، وتمكنت القصة القصيرة من نقل هموم الناس وأوجاعهم والتأريخ لحياتهم اليومية، ودارت موضوعات القصص حول قضايا اجتماعية ووطنية وقومية وإنسانية، فهناك عشرات القصص التي تحدثت عن القضية الفلسطينية والاستقلال وحرب الجزائر وحرب تشرين واحتلال جنوبي لبنان وغير ذلك. وهناك قصص تناولت قضايا المرأة والعادات والتقاليد والفساد والرشوة والقمع.. وقد اشتهر بعض القاصين بجرأتهم الاجتماعية والسياسية والفكرية، مثل سعيد حورانية وعبد الله عبد وزكريا تامر وجميل حتمل وإبراهيم صموئيل وغادة السمان وهيفاء بيطار).
وانشغل آخرون بقضايا الموت والحياة متأثرين بالمذهب الوجودي .
كما ظهر في القصة الصورية تيارٌ اتخذ من السخرية أسلوباً فنياً للتعبير، وبرز فيه حسيب كيالي وخطيب بدلة وأحمد عمر ونجم الدين سمان.
وسعى قاصون كثيرون في حركة القصة السورية مسعى تجديدياً بهدف الغوص أكثر في أعماق الواقع والتعبير الفني الأميز، وتركوا أثراً وصل إلى تاريخ القصة العربية، من هؤلاء زكريا تامر ووليد إخلاصي.
وأسهمت المرأة في القصة السورية بفاعلية مشهودة من خلال قصص تناولت البيئة وقصص أخرى ذات طابع رومانسي ، وقصص تعالج قضايا اجتماعية ووطنية .
وبرز في القصة القصيرة السورية نوع جديد امتد أثره إلى القصة العربية تمثل في القصة القصيرة جداً وعُرف عن القصة السورية عبر تاريخها ارتباطها بالواقع وقدرتها على انتقاده، وسعيها لمواكبة جديد المجتمع وأوجاع الناس، على الرغم من وجود قصص كثيرة مفتقرة إلى الأسس الفنية، متخذة من الوعظ طريفاً لها، ولاسيما في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين.
أما على صعيد المسرح فقد كان أبو خليل القباني (1833-1902) علامة بارزة في تاريخ المسرح السوري والعربي، لكن إحراق مسرحه، واضطراره إلى الرحيل إلى مصر أوجد فجوة بين ما قام به من جهود والجهود التالية له، وقد تأخرت كثيراً، وتعد مسرحيته «ناكر الجميل» أولى المسرحيات السورية، إذ استطاع صنع مسرح يوائم بين الأدوار ورقص السماح والأشعار والحكايات الشعبية.
عاش المسرح السوري حالة خمول وانشغال بالتهريج والإضحاك إلى أن جاء عام 1959، إذ تولت الدولة الإشراف على المسرح ورعايته، لتتعايش تحت مظلته تيارات متعددة (قومية ووجودية وماركسية) وتنوعت تسميات المسرح (القومي ـ التجريب ـ الجوال)، وأسهمت المنظمات والإدارات في توطيد أركان المسرح وتقريبه من الناس (العسكري، الجامعي، الشبيبي، العمالي) ونتيجة لهذا الاهتمام برز أدباء كثر كتبوا للمسرح،
ليصل عدد المسرحيات في نهاية القرن العشرين إلى نحو 400 مسرحية. وبلغت شهرة بعض المسرحيين السورين حداً أوصلهم إلى أرجاء الوطن العربي، بل العالم، مثل سعد الله ونوس، وامتد اهتمام الدولة ليشمل الأبنية وإيفاد المتخصصين والإصدارات والاهتمام بالتقنيات وإنشاء معهد مسرحي يخرج النقاد والممثلين.
وتجاذبت المسرح في سورية ثلاثة عوامل تركت أثراً فيه لافتاً، هي الاقتباس من الغرب والعودة إلى التراث والعلاقة بالواقع، وتمكن بعض المسرحيين من توظيف الاقتباس من الغرب والعودة إلى التراث في التعبير عن هموم الواقع، كما في بعض مسرحيات سعد الله ونوس. وحضر الهم السياسي في المسرح السوري أيضاً، من خلال تناول معظم القضايا إضافة إلى الصراع الطبقي، والريف والمدينة، وقد شكل الواقع الاجتماعي مادة ثرة لهذا المسرح ، وتمَّ التعبير عن قضايا وطنية وقومية تؤكد أهمية التلاحم كما في عدد من مسرحيات علي عقلة عرسان. وكان للمسرح الشعري وجود أيضاً تناول القضايا التاريخية، وأفاد المسرح السوري من الأسطورة في عدد من المسرحيات .
وانشغل بعض المسرحيين بقضايا العمال وزيادة الأجور والهموم الإدارية والمعاشية، كما في مسرحيات فرحان بلبل. وتَميز سعد الله ونوس في مسرحياته التي طبعها في عقد التسعينات من القرن العشرين بالمقدرة على تحليل التغيرات الحادة في حركة المجتمع السوري في تلك المرحلة، والآثار المترتبة عليها.
كما برزت في العقدين الأخيرين مجموعة من الأسماء التي حاولت التجديد في المسرح السوري، مبتعدة عن تنميط مسرحياتها بهذا الاتجاه أو ذاك، من خلال الانفتاح على مختلف الموضوعات، من هؤلاء حمدي موصللي ووليد فاضل ومحمد الماغوط وعبد الفتاح قلعه جي ورياض عصمت، الذين اعتمدوا على جهود سابقة قدمها ممدوح عدوان ووليد إخلاصي اللذين ظلت مسرحياتهم تمثَّل على المسرح، مع سواها، إلى نهاية القرن العشرين.
وأمام هذا النتاج الكبير من الإصدارات في الأدب السوري الحديث، نشأت حركة نقدية واكبت سيرورة هذا الأدب، وقد أسهم وجود الدراسات العليا في الجامعات في إصدار عشرات الكتب النقدية حول الأدب السوري بأجناسه المختلفة، وقد عرفت تجارب نقدية متنوعة غلب على بعضها الطابع الصحفي: مثل عدنان بن ذريل، وكثير منها ذو طابع أكاديمي، كأعمال شكري فيصل وشفيق جبري وسامي الكيالي وعمر الدقاق وأمجد طرابلسي وعبد الكريم الأشتر ونعيم اليافي وسمر روحي الفيصل ومحيي الدين صبحي وقاسم المقداد وأحمد بسام ساعي وجميل صليبا وشحادة الخوري وجورج طرابيشي وخلدون الشمعة وعبد النبي اصطيف وغيرهم.
وكان للدراسات العليا في الجامعات أثر واضح في التاريخ للحركة الأدبية في سورية بجميع أجناسها وفنونها، وفي الدراسات الأدبية
المصدر: الموسوعة العربية،
علي أبو زيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق