حينما كانت تخرج أمي, يخرج في أثرها النور، ولا يبقى إلا خيط رفيع من الضوء يتسلل من الصالة مارا من تحت عقب الباب، وسريعا ما يخبو.. أستسلم بعدها للوحشة والظلام، اللذين يتسلقان جوانب وأركان حجرتي ويحتلان عقلي؛ فأظل أتقلب في سريري.
وحين يأتي الصباح. ويأتيني وجهها البشوش حين توقظني, وتصلح من وضع الملاءة المتهرئة، أخرج من حجرتي. بعد أن أجمع كتبي وكراريسي في شنطتي المدرسية، أجده دائما يتناول فطوره.
صباح الخير.
صباح الخير يا أسامة.. يا ابني
منذ وقت لا تزيد كلماتنا عن ذلك إلا نادرا، بالرغم من طيبته وحديثه الجذاب, ودائما يقولها لي "يا ابني"، ولم يعاملني يوما بما يسوء.
ألمح نظرات التساؤل في العيون: "أبوك.. أين هو؟"
كلما سألت عنه أمي تقول:
رحل بعيدا.. سافر..
هي لا تدرى أني عرفت أنه قد مات, عرفت يوم رأيت النساء متشحات بالسواد، وقد جلسن في نفس الصالة. كنت صغيرا، أحد أعمامي، عندما سألته عن معنى ذلك، أدار وجهه عنى كي لا أرى دموعه.
أبوك مات.. عايزك تبقى راجل
لم أكن أعرف معنى الموت، ولا كيف أكون رجلا.
جاءني أبى يوما، سألته:
أبى لم لا تأخذني في حضنك؟.. هل أنت غاضب منى؟
لم يرد سوى بابتسامة عذبة، رقراقة،ـ وأدار ظهره لي ومضى. صرخت: - أبى.. أبى..
ولم يرد أحد. من يومها أخذتني أمي في حضنها، إلى أن جاء هذا الرجل (عم سعيد) هكذا أناديه. لفظتني حجرتها. تطلب منى أمي، تتوسل، ثم تحذرني، إن لم أقل له (يا أبى) ستخاصمني، ودائما هي تخاصمني ثم تعود توضح لي صدى الكلمة عند الرجل، وأثرها فيه، وأنني يجب أن أقولها له؛ فلا تجد مني إلا عنادا.. تتمتم بكلمات سريعة، أميز حروفا منها، ولا أكون جملة مفيدة.
(عم سعيد) لا يرفض لي طلبا، ولكني لا أطلب منه شيئا بطريقة أو بأخرى فأنا أطلب من أمي. تحاول دفعي أن أطلب منه مباشرة، بل توريطي أحيانا معه؛ فأترك لهما الحجرة، وأخرج، وفي الصباح أجد طلبي قد أجيب.
أحيانا كنت أحس به في الليل يدخل حجرتي، متحسسا طريقه نحو سريري, يتأكد من إحكام الغطاء حول جسدي. لا أكرهه, ولكن عندما جاء وسلب مني حضن أمي، تضايقت بعض الشيء, لكن معاملته لي تجعلني أشعر أحيانا بشيء ما طيب ينمو في صدري نحوه، وإن كنت لا أعبر له عنه.
لحقت أمي بأبي، وجاءت النساء المتشحات بالسواد، وجلسن في نفس الصالة، ولم يفكر واحد من أعمامي الكثيرين في محاولة رؤيتي أو زيارتي. مرضت ولم يبق معي إلا ذلك الرجل، الذي طالت لحيته حزنا على أمي. أفتح عيني أجده جالسا بجواري في يده المصحف..
جاءني أبى وأمي متشابكة أيديهما.. قاما بانتزاعي من فوق سريري. أفرد يديَّ.. يمسك أبى بواحدة، وتلتقط أمي الأخرى.. في الطريق الواسع أسير معهما.. يخلصني (عم سعيد) من أيديهما.. يسيران مبتسمين.. أفيق، أجده جالسا ومصحفه مفتوحا..
اشتد عودي.. أسأله عن أعمامي الكثيرين: "ألم يأت أحد؟".. رأيت في عينيه الإجابة, قمت من سريري مستندا عليه حتى الحمام, غسلت وجهي, دخلت حجرتي, وجدته يصلح من وضع الملاءة المتهرئة. لم أدر إلا وأنا أقول (صباح الخير يا بابا).
عصام سعد حموده
وحين يأتي الصباح. ويأتيني وجهها البشوش حين توقظني, وتصلح من وضع الملاءة المتهرئة، أخرج من حجرتي. بعد أن أجمع كتبي وكراريسي في شنطتي المدرسية، أجده دائما يتناول فطوره.
صباح الخير.
صباح الخير يا أسامة.. يا ابني
منذ وقت لا تزيد كلماتنا عن ذلك إلا نادرا، بالرغم من طيبته وحديثه الجذاب, ودائما يقولها لي "يا ابني"، ولم يعاملني يوما بما يسوء.
ألمح نظرات التساؤل في العيون: "أبوك.. أين هو؟"
كلما سألت عنه أمي تقول:
رحل بعيدا.. سافر..
هي لا تدرى أني عرفت أنه قد مات, عرفت يوم رأيت النساء متشحات بالسواد، وقد جلسن في نفس الصالة. كنت صغيرا، أحد أعمامي، عندما سألته عن معنى ذلك، أدار وجهه عنى كي لا أرى دموعه.
أبوك مات.. عايزك تبقى راجل
لم أكن أعرف معنى الموت، ولا كيف أكون رجلا.
جاءني أبى يوما، سألته:
أبى لم لا تأخذني في حضنك؟.. هل أنت غاضب منى؟
لم يرد سوى بابتسامة عذبة، رقراقة،ـ وأدار ظهره لي ومضى. صرخت: - أبى.. أبى..
ولم يرد أحد. من يومها أخذتني أمي في حضنها، إلى أن جاء هذا الرجل (عم سعيد) هكذا أناديه. لفظتني حجرتها. تطلب منى أمي، تتوسل، ثم تحذرني، إن لم أقل له (يا أبى) ستخاصمني، ودائما هي تخاصمني ثم تعود توضح لي صدى الكلمة عند الرجل، وأثرها فيه، وأنني يجب أن أقولها له؛ فلا تجد مني إلا عنادا.. تتمتم بكلمات سريعة، أميز حروفا منها، ولا أكون جملة مفيدة.
(عم سعيد) لا يرفض لي طلبا، ولكني لا أطلب منه شيئا بطريقة أو بأخرى فأنا أطلب من أمي. تحاول دفعي أن أطلب منه مباشرة، بل توريطي أحيانا معه؛ فأترك لهما الحجرة، وأخرج، وفي الصباح أجد طلبي قد أجيب.
أحيانا كنت أحس به في الليل يدخل حجرتي، متحسسا طريقه نحو سريري, يتأكد من إحكام الغطاء حول جسدي. لا أكرهه, ولكن عندما جاء وسلب مني حضن أمي، تضايقت بعض الشيء, لكن معاملته لي تجعلني أشعر أحيانا بشيء ما طيب ينمو في صدري نحوه، وإن كنت لا أعبر له عنه.
لحقت أمي بأبي، وجاءت النساء المتشحات بالسواد، وجلسن في نفس الصالة، ولم يفكر واحد من أعمامي الكثيرين في محاولة رؤيتي أو زيارتي. مرضت ولم يبق معي إلا ذلك الرجل، الذي طالت لحيته حزنا على أمي. أفتح عيني أجده جالسا بجواري في يده المصحف..
جاءني أبى وأمي متشابكة أيديهما.. قاما بانتزاعي من فوق سريري. أفرد يديَّ.. يمسك أبى بواحدة، وتلتقط أمي الأخرى.. في الطريق الواسع أسير معهما.. يخلصني (عم سعيد) من أيديهما.. يسيران مبتسمين.. أفيق، أجده جالسا ومصحفه مفتوحا..
اشتد عودي.. أسأله عن أعمامي الكثيرين: "ألم يأت أحد؟".. رأيت في عينيه الإجابة, قمت من سريري مستندا عليه حتى الحمام, غسلت وجهي, دخلت حجرتي, وجدته يصلح من وضع الملاءة المتهرئة. لم أدر إلا وأنا أقول (صباح الخير يا بابا).
عصام سعد حموده
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق