صمت قاتل رهيب.. لا يقطعه غير سقط أقدام ثقيلة , منتظمة , رتيبة .. أجهدني
ثقل الظلام .. ثقل الصمت .. الذي القى في قلبي الرعب .. اتجهت صوب الباب
.. خلعتُ عيناي علي صاحب الخطوات المنتظمة كدقات عقارب الساعة المنتظمة ,
ألمح ظلاُ ألقاه ضوء المصباح علي الأرض .. ناديت .. فلم يرد .. فضربت
الباب بعصبية .. اقترب .. جلس علي الكرسي من جريد .. يَئِزّ ، ائزِزْ اً .. أمسك دفتراً ضخماً .. وضعه أمامه علي " الطرابيزة الخشبية ".. غير آبه .. أو مكترث.. بصوتي المبحوح .. ينهمك في تقليب الصفحات التي أمامه .. وأنا أكيل له السباب , والشتائم .. بلا جدوى .. صمتُ رهيب .. قاتل .. لا يقطعه سوى صوت الليل الكئيب ... هُنَيِةَ تفكيرٍ ......
" حين كنت واقفاً .. كتمثال رمسيس , ويداي مكبلة بالحديد .. مرتجفاً .. تدور عيني في نظرات الجالس .. خلف المكتب الأنيق .. وهي ُتلفّني.. تَخْترِقُنِي .. ُتفْزِعُني .. وهو يرتب أوراقه فوق المكتب .. يَرْمُقُني .. بنظرات حادة .. فاحصة من حين لأخر .. مرت دقائق كئيبة .. ينهض .. يتجه نحوي .. في بدلته الزيتية .. ممشوق القامة , مفتول العضلات , أبيض البشرة , والأسنان... صوت عربة يشق غلاف الصمت .. الجاثم .. ثم يرأَبَ الصمت من جديد .. أخذ يدور حولي بخطوات واثقة من نفسها, شعرت ببرد يديه علي كتفي .. لمدة ثواني معدودة .. يثبت عينيه في وجهي المرتجف .. أبتعد عني بمقدار خطوتين .. أو ثلاث , لا أذكر .. وقف تجاهي .. فرك يديه .. جزَّ علي أسنانه .. هزَّ رأسه.. زمجر.. ثم عاد إلي مكتبه الضخم , الفخم .. أدار الكرسي المتحرك .. مسح المكان بعينيه الخضراوين .. ولم ينسي قبل أن يجلس عليه .. أن يضع نظرة محدقة علي وجهي .. المرتعد.. وبصوتٍ خافت هادئ بعض الشيء ....
ــ ما أسمك ...؟.
ــ ...............
" ليس مهماً أن أذكر أسمي .. كان من الممكن ... أن أدعي زيداً ... أو عمراً ... ألأسم ... تافه ... المهنة ... عاطل ... أسكن مع كائنات غريبة ... لكنها أليفة .. بالنسبة للبسطاء , أمثالي ....والمطحونين من الشعب الكادح .. علي بعد , مائة وخمسون متراً .. من محطة { طهطا }.. تجاه الشرق .. يقطن شارع { العبد } .. رقم المنزل : { 33 } .. ذلك الشارع الضيق .. الطويل جداً الذي اقطنه ... كثيراً ما أغرق في سر أنشائه .. فبالرغم من أن الأرض في الماضي كانت واسعة جداً.. وبرخص التراب الا انهم أنشأوه هكذا .. لا يسع اثنين في حجمي .. يمشون فيه بالعرض تري هل كانوا خائفين علي الرقعة الزراعية ..؟ !..أم تراهم كانوا يحبون بعضهم لدرجة أنهم لا يستطيعون البعاد عن بعض .. إلا بمقدار خطوتين فقط .. ؟ .. أم ترى ظهر هكذا , عشوائها ..؟.. وأخيراً.. أفترض , بأن نساءهم .. الثرثارة هنَّ اللاتي طلبن ذلك من أزواجهنَّ .. حتى يستطعنّ ممارسة هوايتهنِّ المفضلة .. الرغى .. ومسك السيرة .. الاتي توارثنها جيلاً بعد جيل ..." ...
ــ ما أسمك .؟
ــ ........!!!
الجدران المطلية بالجير .. واللون البرتقالي .. الباهت .. عليها رسوم صغيرة .. وتواريخ , وأسماء , كثيراً جداً .. لا أعرف إلا القليل عن أصحابها .. والارض المسفلتة تحت أقدمي تضرس أسناني .. وحشرات غريبة الشكل .. أألفها جيداً .. تسبح حولي .. وتطير .. طارت عيناي علي نافذة الباب الصغيرة .. اندفعت إليها بقوةٍ .. تشبثت بها .. مددت عيناي , للمنتهي .. لم أر غير زاوية الجامع الصغير .. وبعض الأشجار النائمة في سكون, شتوي جميل , لكنه حزين , وغرفة السلاح , بجواره ينبعج منها أصوات هزر, ومزر .. وكشاف كبير جديد .. يرسل شلالات من الضوء في الفناء الضيق ليحيله إلي نهار صامت.. وصاحب الخطوات تضخم فوق الكرسي , وأنتفخ بشخيره .. فالنوم قد سرق عينيه الجاحظة وعم سكون الليل المكان .. حتى صار كغراب يحلق في السماء .. وفوق الأرض .. بجناحين كبيرين ليجعله مرتعاً .. للعفاريت .. ومسرحاً للأشباح .. ونقيق الضفادع .. وصفير الصراصير .. وكلباً ينبح أنثاه .. وأغصان الأشجار الصنوبرية تداعبها نسمة هواء باردة .. فتسقط أوراقها .. لتنام في خشوع .. تحت جزع الشجر .. وكنت أتابع هذه المسرحية المرعبة .. في منتصف الغرفة .. ذات الجو الأسطوري .. والهواء الممزوج برائحة العفن ملء أنفي , يزكمها .. تختلط الأحداث برأسي .. تتداخل الصور ... تتداعي .....
".. التفت الواقِف بجواره , نحوي , غمز بعينه.. مستفسراً في اهتمام .. فأجابه بصوت هادئ .. لم يتغير بعد نبرته .." ..
ــ شُوهد وهو يتسكع في, الشوارع , وعلي النواصي , ويقف يعاكس بنات المدارس في الطرقات .. وقد ضبط أخيراً .. متلبساً وهو يقفز من فوق سور " مدرسة البنات .." .... تحري ..!!
وكان الكاتب منكباً وغارقاً .. لأذنيه في الأرق التي أمامه .. والرجل الأنيق .. ذو العينين الخضراوين , الواسعة , الفاحصة , ممسكاً بعقدته الحمراء .. الملتفة حول عنقه ... يضغط عليها بأحكام ..." ...
والصمت مازال مخيماً في المكان .. والليل يلف المدينة .. بعباءتها السوداء .. كماردٍ مخيف يشُدّني من رأسي .. والظنون خناجر تذبح عقلي .. ساورني شك .. بأنه كابوس مزعج , مفزع .. تمنيت لو أنه كذلك .... ولكن هيهات ...
ضربت جبهتي بحد الباب .. حتى أفيق , أستيقظ .. فلم أعد أطيق هذه الرائحة العفنة , الكريهة .. فهي تخنقني .. وتتسرب تحت مسام جلدي.. وتصعد إلي تلابيب مُخي لتتلفه , تدمره .. وتتوغل لتسكن فيه .. فمياه المجاري الطافحة لم تترك لي ولو شبر واحد ..لأستريح فيه.. ويخيل إليَّ أنها ربما قد تغرقني بعد قليل ....
ــ تباً لكم جميعاً , والف تب
حاولت أن تذكر .. ما الذي حدث بالضبط ..؟ .. عصرت ذاكرة رأسي .. تخونني ــ هي دائماً هكذا ــ .. ورحت أسأل نفسي في نفسي ..؟..... وأنا أقطع أرض الحجز ذهاباً , وإياباً .. ضارباً أخماساً في اسداس .. وأعدت سؤالي علي نفسي ..؟.. " ما الذي حدث بالضبط ..؟ .. أنا لم أفعل شيئاً , البتة..!!.." .؟!! ... حاولت أن أتذكر .. أفتكر ..؟...
" حين رأيته .. كان واقفاً في المواجهة.. بزيه المميز.. حين سألته ..؟!. ــ أن كان من الممكنً أن أجتاز من وسطهم , وأمر حتى ألحق بالقطار الذي سيقللني للجنوب , أم لا..؟!.. صفعني أحدهم بنظرةٍ حادةٍ .. نافذةٍ .. ثم أخذني من يدي .. ثم أوقفني أمامهم , مندهشاً وقفت .. وهم كانوا جلوس تحت مظلةٍ ملونةٍ .. أُعدت لهم خصيصاً .. ثم راحت أيديهم تُقَلّبني ــ تفتيش ذاتي ــ .. دس أحدهم يده بين أفخاذي... ! .. والأخر راحت يداه تُقَلُّبِني .. رفعني .. بحث تحت إبطي , عن شيء ما .. ! .. والثالث أمسك بأوراق البطاقة " الهوية " واشتراك القطار..!. وعلبة كبريت ــ لم ينسى أن يفتشها فيها هي أيضاً ــ كان هذا كل ما أملك آن ذاك .. ثم في عربةٍ مكشوفةٍ , وضعوني , في قلب الميدان .. تحت الشمس الحارقة .. !! .. أتصبب عرقاً.. وهم يصوبون بنادقهم نحوي.. وعيون المارة متلصصة متطفلة ترمي بعلامات التعجب .!!..والذين ألفت أقدامهم الطريق ينظرون إليّ باندهاش .؟!!. ومنهم من رسمت علي وجهه علامات والاستغراب الاستفهام .؟؟ .. وأنا مندهش جداً لذلك المشهد الذي انا فيه .. وظلت أنتقل معهم , وبأوامرهم .. من مكانٍ إلي مكان .. ومن غرفةٍ إلي غرفةٍ حتى وقفت أمام كثيرين .. أغرقوني في سين . وجيم .. وهم جالسين خلف مكاتب فخمةٍ , نظيفةٍ .. حتي الورقة اليتيمة , التي كُتب عليها أسمي .. صارة حزمةٍ من الورق .. حتى جئتُ إلي هنا ..
ــ اللعنة علي الجميع .. أني اكرهكم جميعاً ..
فجأة تسلل إلي أُذني صوت , همهمات قادمة من الخارج .. ارتعبت .. ارتعدت .. انتفضت , ارتجفت ــ علي طريقة الفأر الذي رأى خَنَّاقَه ــ نصبت طولي المتهالك , بالعافية , وأنا أتسند علي الجدار البرتقالي الصدأ , المتأكل .. ودوران المفتاح في القفل له وقع خاص , لا يعرفه إلا من جرب الحبس , خفت خنثت , خنقت سيجارتي بين أصابعي , لم أشعر بلسعتها .. يأتيني الصوت من قريب .. شاب أمرد .. يأمرني بالابتعاد عن الباب ..؟! .. أنزوي بعيداً مع من انزوى .. أتسعت رقعت الضوء .. برز أمامي واضحاً صاحب الصوت .. شاباً تجاوز العشرين من عمره بقليل .. ذو بشرة بيضاء ملونةٍ .. وسيم ,عيونه لامعة .. يُشير . ُيدفع بالمتهمين للداخل .. ؟! .. يأمرهم أن يجلسوا .. القرفصاء .. متراصين .. اثنين , اثنين .. في حزي واحد .. يتمتم .. يشير بكتلة مفاتيح , ضخمة في يده .. يعدهم .. يهز رأسه .. وهو يشير بأصبعه , الشاهد , صوت , طائش ينطلق من وسط الجالسين القرفصاء .. وقد تحرر من بعض ملابسه .. يتضجر من الحر .. وضيق النفس .. يشدّ السجان الباب .. وهو ينظر إلي صاحب الصوت .. بوجهٍ عبوسٍ , متجهم .. يجاوبه بصوة غليظ ..
ــ " نجبلك تكييف يا ابن الكــ....."..؟!! ...
تنطلق الأصوات من الحناجر .. بتعليقات ساخرة , مازحة .. سخيفة .. سمجة .. يعقبها ضحكات , عالية .. وهمهمات ,, وهمسات .. تختفي شيئاً فشيئاَ .. حتى تتلاشى تماماً ..
ويخيم الصمت المطبق من جديد .. والظلام الدامس يحتل المكان ..
وكنت أتابع كل هذا , وكل ما يدور حولي في صمتٍ , ومرارة شديدة , وحنق, ودخان السجائر يكون شبورةٍ كثيفةٍ ضبابيةٍ .. تكاد تحجب الرؤية يصحبها سعال رجل .. في خريف العمر.. وكل واحدٍ منهم , يمهد مكاناً له يهيئه للنوم .. شاب في الاربعين من العمر .. يجلس في صمت .. شارد الذهن ...... يقال بأنه ... أغتصب فتاةٍ دون العشرين ..؟!! .. بعدما أستدرجها إلي حقول الذرة , البعيدة .. أفترشها , ثم قصى عليها بلا شفقة , أو رحمة ...؟؟!!!... " !! ...
وهناك روايةٍ أخري تقول ..." بأن الفتاة هي التي استدرجته إلي هناك .. أكثر من مرة .. ثم طلبت منه .. الزواج .. ليستر عرضها .. ويداري على الفضيحة , وبطنها التي ارتفعت فجأة .. فرفض.. فاشتكته لتنتقم منه..!!. اسمع صوت شبه ناعم , يخرج من حد , رأس مضمومة بأربطة الشاش الأبيض , ألمتسخ بالون الأحمر الداكن .. وهو منهمك في تشمير ساعديه
ـــ لو سمحتم ساعدوني في تنظيف المكان ..؟1!
بعض الفِتْيَة يقترب منه .. فينظر بعضهم لبعض .. باستغراب بالغ .. يحتكون به , ينفجرون بالضحك الهستيري .. يبتعد عنهم في حزر .. يجلس في مكانه , أسمع أحدهم يذكر ... " نعناعة " .. زوجته ......... يقال والله أعلم ..... " بأن أمرة هذا الرجل .. امرأة لعوب .. ومسيطرة عليه تماماً .. وهي التي فعلت به هذه الإصابة .. تضربه كلما تأخر عن تلبية رغباتها الجامحة , المجنونة , وحاجيتها التي لا تنتهي .. وهو رجل مسكين , وامكانياته ضعيفة , بسيطة جداً .... فيعترض اخر برواية ثانية يقول فيها ...
" هو الذي بطح نفسه بنفسه , ليشتكيها , ولأنها ست واصلة ولها معارف كثيرة , القت به في السجن ...ههههه .!! ".. ..
وفي رواية ثالثة.. تقول .. بأنها ... " .. كرت عليه بعض البلطجية , وأعطتهم الثمن من جسدها الطري الدَّن .. .." !!! ...
فككتُ أزرار قميصي البني .. زفرتُ , زفرة طويلةً .. حامية .. تلمست أبعاضي المتداعية بالسهر والحمي .. برهة انخرطت دموعي .. من الا شعور .. ورحت أدور في الحجرة الضيقة .. أجز علي اسناني .. ورائحة المكان تخنقني .. وكأن سلال من الشوك .. زرعت في عيوني .. واحساس من القهر يتلبَّسني , ظلت اشعل سجائري , وكان صاحب الظل , جالس علي كرسيه الجريد .. متكورة بطنه امامه .. يقدم ليّ من حين لأخر .. ابتسامة بلهاء , باهة .. لأعطيه سيجارة أخري .. وأخرى وكان حفيف أوراق اشجار الصنوبرية ... تتساقط في صمت... فوق أرض يابسة ...................
وكان صوت الليل كئيب .. وكان الشخير يتكاثر من حولي ليملئ المكان , والظلام يخنق الأشياء , وصفير الصراصير, تنضم إلي نقيق الضفادع .. ونبح الكلاب الضالة .. تيمة تنضم الي تيمة , لتكون سنفونية شاذة ... لليل موحش وكئيب ... ينتظر مصباح كبير, يملأ المكان بالنور, لكن المصباح قد أنطفأ , لا يعمل الان , المصباح لا يضيئ ..
وكات أذان الفجر يتردد صداه ... فوق أرجاء المدية الغارقة في الظلام, الناعسة في استرخاءٍ تام .. وأنا لم ازل مُعلق بنافذة الباب ......"
على السيد محمد حزين
مصر
الباب بعصبية .. اقترب .. جلس علي الكرسي من جريد .. يَئِزّ ، ائزِزْ اً .. أمسك دفتراً ضخماً .. وضعه أمامه علي " الطرابيزة الخشبية ".. غير آبه .. أو مكترث.. بصوتي المبحوح .. ينهمك في تقليب الصفحات التي أمامه .. وأنا أكيل له السباب , والشتائم .. بلا جدوى .. صمتُ رهيب .. قاتل .. لا يقطعه سوى صوت الليل الكئيب ... هُنَيِةَ تفكيرٍ ......
" حين كنت واقفاً .. كتمثال رمسيس , ويداي مكبلة بالحديد .. مرتجفاً .. تدور عيني في نظرات الجالس .. خلف المكتب الأنيق .. وهي ُتلفّني.. تَخْترِقُنِي .. ُتفْزِعُني .. وهو يرتب أوراقه فوق المكتب .. يَرْمُقُني .. بنظرات حادة .. فاحصة من حين لأخر .. مرت دقائق كئيبة .. ينهض .. يتجه نحوي .. في بدلته الزيتية .. ممشوق القامة , مفتول العضلات , أبيض البشرة , والأسنان... صوت عربة يشق غلاف الصمت .. الجاثم .. ثم يرأَبَ الصمت من جديد .. أخذ يدور حولي بخطوات واثقة من نفسها, شعرت ببرد يديه علي كتفي .. لمدة ثواني معدودة .. يثبت عينيه في وجهي المرتجف .. أبتعد عني بمقدار خطوتين .. أو ثلاث , لا أذكر .. وقف تجاهي .. فرك يديه .. جزَّ علي أسنانه .. هزَّ رأسه.. زمجر.. ثم عاد إلي مكتبه الضخم , الفخم .. أدار الكرسي المتحرك .. مسح المكان بعينيه الخضراوين .. ولم ينسي قبل أن يجلس عليه .. أن يضع نظرة محدقة علي وجهي .. المرتعد.. وبصوتٍ خافت هادئ بعض الشيء ....
ــ ما أسمك ...؟.
ــ ...............
" ليس مهماً أن أذكر أسمي .. كان من الممكن ... أن أدعي زيداً ... أو عمراً ... ألأسم ... تافه ... المهنة ... عاطل ... أسكن مع كائنات غريبة ... لكنها أليفة .. بالنسبة للبسطاء , أمثالي ....والمطحونين من الشعب الكادح .. علي بعد , مائة وخمسون متراً .. من محطة { طهطا }.. تجاه الشرق .. يقطن شارع { العبد } .. رقم المنزل : { 33 } .. ذلك الشارع الضيق .. الطويل جداً الذي اقطنه ... كثيراً ما أغرق في سر أنشائه .. فبالرغم من أن الأرض في الماضي كانت واسعة جداً.. وبرخص التراب الا انهم أنشأوه هكذا .. لا يسع اثنين في حجمي .. يمشون فيه بالعرض تري هل كانوا خائفين علي الرقعة الزراعية ..؟ !..أم تراهم كانوا يحبون بعضهم لدرجة أنهم لا يستطيعون البعاد عن بعض .. إلا بمقدار خطوتين فقط .. ؟ .. أم ترى ظهر هكذا , عشوائها ..؟.. وأخيراً.. أفترض , بأن نساءهم .. الثرثارة هنَّ اللاتي طلبن ذلك من أزواجهنَّ .. حتى يستطعنّ ممارسة هوايتهنِّ المفضلة .. الرغى .. ومسك السيرة .. الاتي توارثنها جيلاً بعد جيل ..." ...
ــ ما أسمك .؟
ــ ........!!!
الجدران المطلية بالجير .. واللون البرتقالي .. الباهت .. عليها رسوم صغيرة .. وتواريخ , وأسماء , كثيراً جداً .. لا أعرف إلا القليل عن أصحابها .. والارض المسفلتة تحت أقدمي تضرس أسناني .. وحشرات غريبة الشكل .. أألفها جيداً .. تسبح حولي .. وتطير .. طارت عيناي علي نافذة الباب الصغيرة .. اندفعت إليها بقوةٍ .. تشبثت بها .. مددت عيناي , للمنتهي .. لم أر غير زاوية الجامع الصغير .. وبعض الأشجار النائمة في سكون, شتوي جميل , لكنه حزين , وغرفة السلاح , بجواره ينبعج منها أصوات هزر, ومزر .. وكشاف كبير جديد .. يرسل شلالات من الضوء في الفناء الضيق ليحيله إلي نهار صامت.. وصاحب الخطوات تضخم فوق الكرسي , وأنتفخ بشخيره .. فالنوم قد سرق عينيه الجاحظة وعم سكون الليل المكان .. حتى صار كغراب يحلق في السماء .. وفوق الأرض .. بجناحين كبيرين ليجعله مرتعاً .. للعفاريت .. ومسرحاً للأشباح .. ونقيق الضفادع .. وصفير الصراصير .. وكلباً ينبح أنثاه .. وأغصان الأشجار الصنوبرية تداعبها نسمة هواء باردة .. فتسقط أوراقها .. لتنام في خشوع .. تحت جزع الشجر .. وكنت أتابع هذه المسرحية المرعبة .. في منتصف الغرفة .. ذات الجو الأسطوري .. والهواء الممزوج برائحة العفن ملء أنفي , يزكمها .. تختلط الأحداث برأسي .. تتداخل الصور ... تتداعي .....
".. التفت الواقِف بجواره , نحوي , غمز بعينه.. مستفسراً في اهتمام .. فأجابه بصوت هادئ .. لم يتغير بعد نبرته .." ..
ــ شُوهد وهو يتسكع في, الشوارع , وعلي النواصي , ويقف يعاكس بنات المدارس في الطرقات .. وقد ضبط أخيراً .. متلبساً وهو يقفز من فوق سور " مدرسة البنات .." .... تحري ..!!
وكان الكاتب منكباً وغارقاً .. لأذنيه في الأرق التي أمامه .. والرجل الأنيق .. ذو العينين الخضراوين , الواسعة , الفاحصة , ممسكاً بعقدته الحمراء .. الملتفة حول عنقه ... يضغط عليها بأحكام ..." ...
والصمت مازال مخيماً في المكان .. والليل يلف المدينة .. بعباءتها السوداء .. كماردٍ مخيف يشُدّني من رأسي .. والظنون خناجر تذبح عقلي .. ساورني شك .. بأنه كابوس مزعج , مفزع .. تمنيت لو أنه كذلك .... ولكن هيهات ...
ضربت جبهتي بحد الباب .. حتى أفيق , أستيقظ .. فلم أعد أطيق هذه الرائحة العفنة , الكريهة .. فهي تخنقني .. وتتسرب تحت مسام جلدي.. وتصعد إلي تلابيب مُخي لتتلفه , تدمره .. وتتوغل لتسكن فيه .. فمياه المجاري الطافحة لم تترك لي ولو شبر واحد ..لأستريح فيه.. ويخيل إليَّ أنها ربما قد تغرقني بعد قليل ....
ــ تباً لكم جميعاً , والف تب
حاولت أن تذكر .. ما الذي حدث بالضبط ..؟ .. عصرت ذاكرة رأسي .. تخونني ــ هي دائماً هكذا ــ .. ورحت أسأل نفسي في نفسي ..؟..... وأنا أقطع أرض الحجز ذهاباً , وإياباً .. ضارباً أخماساً في اسداس .. وأعدت سؤالي علي نفسي ..؟.. " ما الذي حدث بالضبط ..؟ .. أنا لم أفعل شيئاً , البتة..!!.." .؟!! ... حاولت أن أتذكر .. أفتكر ..؟...
" حين رأيته .. كان واقفاً في المواجهة.. بزيه المميز.. حين سألته ..؟!. ــ أن كان من الممكنً أن أجتاز من وسطهم , وأمر حتى ألحق بالقطار الذي سيقللني للجنوب , أم لا..؟!.. صفعني أحدهم بنظرةٍ حادةٍ .. نافذةٍ .. ثم أخذني من يدي .. ثم أوقفني أمامهم , مندهشاً وقفت .. وهم كانوا جلوس تحت مظلةٍ ملونةٍ .. أُعدت لهم خصيصاً .. ثم راحت أيديهم تُقَلّبني ــ تفتيش ذاتي ــ .. دس أحدهم يده بين أفخاذي... ! .. والأخر راحت يداه تُقَلُّبِني .. رفعني .. بحث تحت إبطي , عن شيء ما .. ! .. والثالث أمسك بأوراق البطاقة " الهوية " واشتراك القطار..!. وعلبة كبريت ــ لم ينسى أن يفتشها فيها هي أيضاً ــ كان هذا كل ما أملك آن ذاك .. ثم في عربةٍ مكشوفةٍ , وضعوني , في قلب الميدان .. تحت الشمس الحارقة .. !! .. أتصبب عرقاً.. وهم يصوبون بنادقهم نحوي.. وعيون المارة متلصصة متطفلة ترمي بعلامات التعجب .!!..والذين ألفت أقدامهم الطريق ينظرون إليّ باندهاش .؟!!. ومنهم من رسمت علي وجهه علامات والاستغراب الاستفهام .؟؟ .. وأنا مندهش جداً لذلك المشهد الذي انا فيه .. وظلت أنتقل معهم , وبأوامرهم .. من مكانٍ إلي مكان .. ومن غرفةٍ إلي غرفةٍ حتى وقفت أمام كثيرين .. أغرقوني في سين . وجيم .. وهم جالسين خلف مكاتب فخمةٍ , نظيفةٍ .. حتي الورقة اليتيمة , التي كُتب عليها أسمي .. صارة حزمةٍ من الورق .. حتى جئتُ إلي هنا ..
ــ اللعنة علي الجميع .. أني اكرهكم جميعاً ..
فجأة تسلل إلي أُذني صوت , همهمات قادمة من الخارج .. ارتعبت .. ارتعدت .. انتفضت , ارتجفت ــ علي طريقة الفأر الذي رأى خَنَّاقَه ــ نصبت طولي المتهالك , بالعافية , وأنا أتسند علي الجدار البرتقالي الصدأ , المتأكل .. ودوران المفتاح في القفل له وقع خاص , لا يعرفه إلا من جرب الحبس , خفت خنثت , خنقت سيجارتي بين أصابعي , لم أشعر بلسعتها .. يأتيني الصوت من قريب .. شاب أمرد .. يأمرني بالابتعاد عن الباب ..؟! .. أنزوي بعيداً مع من انزوى .. أتسعت رقعت الضوء .. برز أمامي واضحاً صاحب الصوت .. شاباً تجاوز العشرين من عمره بقليل .. ذو بشرة بيضاء ملونةٍ .. وسيم ,عيونه لامعة .. يُشير . ُيدفع بالمتهمين للداخل .. ؟! .. يأمرهم أن يجلسوا .. القرفصاء .. متراصين .. اثنين , اثنين .. في حزي واحد .. يتمتم .. يشير بكتلة مفاتيح , ضخمة في يده .. يعدهم .. يهز رأسه .. وهو يشير بأصبعه , الشاهد , صوت , طائش ينطلق من وسط الجالسين القرفصاء .. وقد تحرر من بعض ملابسه .. يتضجر من الحر .. وضيق النفس .. يشدّ السجان الباب .. وهو ينظر إلي صاحب الصوت .. بوجهٍ عبوسٍ , متجهم .. يجاوبه بصوة غليظ ..
ــ " نجبلك تكييف يا ابن الكــ....."..؟!! ...
تنطلق الأصوات من الحناجر .. بتعليقات ساخرة , مازحة .. سخيفة .. سمجة .. يعقبها ضحكات , عالية .. وهمهمات ,, وهمسات .. تختفي شيئاً فشيئاَ .. حتى تتلاشى تماماً ..
ويخيم الصمت المطبق من جديد .. والظلام الدامس يحتل المكان ..
وكنت أتابع كل هذا , وكل ما يدور حولي في صمتٍ , ومرارة شديدة , وحنق, ودخان السجائر يكون شبورةٍ كثيفةٍ ضبابيةٍ .. تكاد تحجب الرؤية يصحبها سعال رجل .. في خريف العمر.. وكل واحدٍ منهم , يمهد مكاناً له يهيئه للنوم .. شاب في الاربعين من العمر .. يجلس في صمت .. شارد الذهن ...... يقال بأنه ... أغتصب فتاةٍ دون العشرين ..؟!! .. بعدما أستدرجها إلي حقول الذرة , البعيدة .. أفترشها , ثم قصى عليها بلا شفقة , أو رحمة ...؟؟!!!... " !! ...
وهناك روايةٍ أخري تقول ..." بأن الفتاة هي التي استدرجته إلي هناك .. أكثر من مرة .. ثم طلبت منه .. الزواج .. ليستر عرضها .. ويداري على الفضيحة , وبطنها التي ارتفعت فجأة .. فرفض.. فاشتكته لتنتقم منه..!!. اسمع صوت شبه ناعم , يخرج من حد , رأس مضمومة بأربطة الشاش الأبيض , ألمتسخ بالون الأحمر الداكن .. وهو منهمك في تشمير ساعديه
ـــ لو سمحتم ساعدوني في تنظيف المكان ..؟1!
بعض الفِتْيَة يقترب منه .. فينظر بعضهم لبعض .. باستغراب بالغ .. يحتكون به , ينفجرون بالضحك الهستيري .. يبتعد عنهم في حزر .. يجلس في مكانه , أسمع أحدهم يذكر ... " نعناعة " .. زوجته ......... يقال والله أعلم ..... " بأن أمرة هذا الرجل .. امرأة لعوب .. ومسيطرة عليه تماماً .. وهي التي فعلت به هذه الإصابة .. تضربه كلما تأخر عن تلبية رغباتها الجامحة , المجنونة , وحاجيتها التي لا تنتهي .. وهو رجل مسكين , وامكانياته ضعيفة , بسيطة جداً .... فيعترض اخر برواية ثانية يقول فيها ...
" هو الذي بطح نفسه بنفسه , ليشتكيها , ولأنها ست واصلة ولها معارف كثيرة , القت به في السجن ...ههههه .!! ".. ..
وفي رواية ثالثة.. تقول .. بأنها ... " .. كرت عليه بعض البلطجية , وأعطتهم الثمن من جسدها الطري الدَّن .. .." !!! ...
فككتُ أزرار قميصي البني .. زفرتُ , زفرة طويلةً .. حامية .. تلمست أبعاضي المتداعية بالسهر والحمي .. برهة انخرطت دموعي .. من الا شعور .. ورحت أدور في الحجرة الضيقة .. أجز علي اسناني .. ورائحة المكان تخنقني .. وكأن سلال من الشوك .. زرعت في عيوني .. واحساس من القهر يتلبَّسني , ظلت اشعل سجائري , وكان صاحب الظل , جالس علي كرسيه الجريد .. متكورة بطنه امامه .. يقدم ليّ من حين لأخر .. ابتسامة بلهاء , باهة .. لأعطيه سيجارة أخري .. وأخرى وكان حفيف أوراق اشجار الصنوبرية ... تتساقط في صمت... فوق أرض يابسة ...................
وكان صوت الليل كئيب .. وكان الشخير يتكاثر من حولي ليملئ المكان , والظلام يخنق الأشياء , وصفير الصراصير, تنضم إلي نقيق الضفادع .. ونبح الكلاب الضالة .. تيمة تنضم الي تيمة , لتكون سنفونية شاذة ... لليل موحش وكئيب ... ينتظر مصباح كبير, يملأ المكان بالنور, لكن المصباح قد أنطفأ , لا يعمل الان , المصباح لا يضيئ ..
وكات أذان الفجر يتردد صداه ... فوق أرجاء المدية الغارقة في الظلام, الناعسة في استرخاءٍ تام .. وأنا لم ازل مُعلق بنافذة الباب ......"
على السيد محمد حزين
مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق