في العام 1907 وصل إلى أرض فلسطين المصور والمخرج اليهودي يعكوف بن دوف قادمًا من أوكرانيا وطامعًا في توثيق "النشاط الصهيوني". خلال فترة وجيزة وصل إلى القدس وربطته علاقة ببوريس شاتس – مؤسس أول وأهم أكاديمية للفنون في القدس واسمها "بتسالئيل" –حيث درس بن دوف، ثم أسس قسم التصوير الفوتوغرافي في الكلية. في سنة 1912 أعلن عن إقامة ما سماه "مركز صناعة الأفلام العبرية في أرض إسرائيل".
بعد توثيق "النشاط الصهيوني" بواسطة الصور والرسومات، تمكن بن دوف من تصوير أول فيلم له في العام 1917 عندما وثق دخول الجنرال اليهوديّ اللنبي إلى القدس بفيلم سماه "أرض يهودا المحررة"، بعدها أسس شركة "مينورا" (The First Palestine Film Co. - MENORAH) وقام بإنتاج فيلم وثائقي طويل كل عام لتوثيق نشاطات الحركة الصهيونية والاستيطان في أرض فلسطين، لعل أبرزها كان فيلم "عودة صهيون" الذي أنتج في العام 1921 وعُرض في مؤتمر الكونغرس الصهيوني الـ 12.
قام بن دوف بإنتاج أفلام توثيقية قصيرة بشكل مكثف، تمحورت حول كيفية بناء مستوطنات جديدة، وتناول حياة شخصيات بارزة في المجتمعات اليهودية، وتطرق إلى أحداث مفصلية في تاريخ الحركة. استخدمت هذه الأفلام لخدمة جمعيات استيطانية – على رأسها جمعية "صندوق إسرائيل الدائم " وهي جمعية تعمل على تحريش الأراضي وإخفاء معالم القرى الفلسطينية المهجرّة والمدمرّة - لتجنيد الأموال من يهود أوروبا! لقد عرف بن دوف أن للشريط السينمائي قدرة دعائية هائلة وتأثير كبير على دعم اليهود للحركة الصهيونية وتغلغلها في أرض فلسطين.
نشط في نفس المضار خلفًا لبن دوف كل من باروخ اجداتي، وناتان اكسلرود - وهو الوحيد الذي تمكّن من توثيق بن غوريون وهو يقرأ إعلان الاستقلال في العام 1948- ثم يسرائيل سيجال ولاحقًا ناتان جروس وابنه يعكوف جروس الذي عكف على إحياء الأرشيف والمواد المصورة وإعداد أفلام قصيرة توثق كيفية عمل سابقيه وأهميتها، وقد اختار جروس لأفلامه أسماء تُظهر مدى الرغبة في تعزيز نزعة الانتماء القومي اليهودي والافتخار بعمل الحركة الصهيونية – على شاكلة "يبنون ويحاربون" و "الوطن الجميل" و "أولاد الاستقلال" و "اسطورة في الرمال"، ولعل هذا الأخير يعيد للأذهان شعار دأبت الحركة الصهيونية على ترديده وبثه للعالم سنوات تلتها سنوات: جئنا الى أرض بلا شعب، وزرعنا الأزهار في القفار.
سينما "الواقعيّة الصهيونية"
كتب الباحث رينان شور في العام 1984 مقالا حول العلاقة بين السينما الإسرائيلية والتاريخ. وحول ما سماه بـ "الواقعية الصهيونية" قال شور أن سينما الوكالة اليهودية، وأفلام صندوق إسرائيل الدائم تحوّلت مع مرور الوقت إلى وصمة سلبية ترتبط بالأفلام الوثائقية التي أنتجت خلال سنوات الخمسينيات. لقد كان من الواضح جدًا أنها أفلام دعائية ممولة من مؤسسات الدولة لإظهار الصعوبات التي يواجهها المشروع الصهيونيّ على الأرض، وبالتالي فهي وسيلة استعطاف للحصول على التبرعات.
لقد كانت السينما جزءًا من العمل السياسي- الثقافي، ومَد يد العون لها وجود كتّاب وشعراء، ومجموعة من جنود البلماح ("سَرية الصاعقة" إحدى العصابات الصهيونية التي قامت بتنفيذ عمليات ترويع للفلسطينيين ومجازر مثل مجزرة مسجد دهمش في اللد) السابقين، وجيل من القادمين من أوروبا آمنوا بأن للفن وظيفة قوميّة، وأن على الفن أن يعبّر عن المبادئ الصهيونية ويساهم في إفراز جيل جديد يتماهي؛ بل ويتحّد؛ مع مبادئ دولته وأهدافها.
ويضيف شور أن التحديات التقنية، والمادية، وأعداد المشاهدين القليلة أثرت سلبًا على صناعة السينما وجعلتها مرتبطة بتمويل مؤسسات الدولة- هذا دفع الدولة لتكون صاحبة القرار في مضامين الأفلام، وامتدت يدها لتقوم بطلب أفلام دعائية تخدمها لكنها أمريكية الإخراج، إلى أن تمكنت من إنشاء وحدات سينمائية في مختلف مؤسساتها الثقافية وحتى العسكرية.
في شهادة له حول طلب الأفلام الدعائية الصهيونية كتب المخرج والباحث ناتان جروس: لقد كتبت سيناريو فيلم "شق شارع سدوم" (وهو توثيق شق شارع في صحراء النقب)، كتبته بعيون صهيونية آمنت برؤيتها، اختتمت شق الشارع بصورة لعمّال يرقصون فرحًا، مع أن معظم العمّال في واقع الأمر كانوا دروزًا (أي عربًا دروز). لم تنل النهاية إعجاب الجهة الممولة، فقمت بتغيير النهاية واستبدلتها بمشهد عمّال يعودون متعبين إلى خيامهم، وهناك صورة بانورامية لأحذيتهم المكدسّة - لكن احذية العمّال كانت ممزقة ولا يجوز أن أصوّر أحذية ممزقة، ماذا سيقول الممولون اليهود من أمريكا وماذا سيقول الغرباء؟! لا يجوز أن أصوّر عاملاً في اسرائيل بحذاء ممزق". لقد كانت هذه الشهادة بمثابة تأكيد على الأهداف التي صوّرت من أجلها الأفلام الوثائقية، ورسالة لليهود الذين لم يجرؤوا بعد على ترك أوروبا أن بانتظارهم دولة تزخر بالعمل والتطور.
توثيق "البطولات الصغيرة" وتغييب الفلسطيني
إن متابعة قناة الباحث والمخرج يعكوف جروس ( Yaakov Gross المتوفي في العام 2017) تظهر مدى حرص الصهاينة وفهمهم لضرورة التوثيق المُجنّد. لم يكن عملهم عشوائيًا كما يبدو، فقد قاموا بتوثيق يوميات الناس وتفاصيل الحياة الدقيقة، واعتبروا ذلك بطولات صغيرة في سيرورة بناء دولتهم.
تعتمد بعض الأفلام على صور فوتوغرافية جُمعت وأرفقت لها الموسيقى، كل منها مطالعة أرشيفية لحدث ما، أو صور وجوه الناس والأطفال، أو اقتصاص مقطع من فيلم يؤكد على وجود أوركسترا أو صناعة سينما أو احتفال بعيد ديني. ترافق بعض المواد المصورة التي لا تتعدى مدتها بضع دقائق؛ تسجيلات صوتية تروي حكاية البناء والعمران والتطور الثقافي والاجتماعي والتعليمي.
لعل للزراعة حصة الأسد في المجموعة المصورة والتوثيق الصهيوني، ففيها تصوير للتجمعات السكانية الزراعية (الكيبوتس) وتفاصيل الحياة اليومية في رعاية المواشي وتكاثرها وزراعة الأرض والاحتفال بالمنتوج والحصاد، وكأن هذه الأرض كانت قفرًا قبل أن تطأها أقدامهم!
كل ما صوّر وأنتج حتى العام 1948 كان تحت مسمى "فلسطين" أو "فلسطينا"، لكن السكّان الأصليين من الفلسطينيين كانوا غائبين عن الصورة. ظهر الفلسطيني بلباسه العربيّ التقليدي والنساء حاملات جرار المياه خلال توثيق وصول عائلات الى مستوطنة "نتسيرت عيليت" – أي الناصرة العليا - في فيلم يحمل اسم "قرية على جبال الناصرة"، وذكر العرب هناك كونهم شكّلوا أكثر من نصف عمّال البناء في المستوطنة الجديدة، وظهروا متصالحين مع المستعمر الجديد من خلال مشاركة عود كبريت لإشعال سيجارة!
أما عن الوجود الفلسطيني في البلاد قبل قدوم اليهود، فلم يذكر إلا من خلال برنامج سكتشات تلفزيوني ساخر يحمل اسم "لول" حيث ظهر العربي بلباسه التقليدي في حلقة تحمل اسم "القدوم للبلاد". يقف عربيان في ميناء يافا ينظران إلى اليهود القادمين ويشتمان السفينة التي أوصلتهم بجملة "يلعن أبو الوابور إلي جابك".
ما من شك أن صناعة السينما والتوثيق كانت تهدف إلى تشكيل أرشيف ومرجع تاريخيّ للأجيال القادمة، ولخلق رابط عاطفي وقوميّ بأرض لم تكن يومًا إسرائيل!
أفلام التكفير عن الذنب!
مؤخرًا؛ بدأت تظهر توجهات سينمائية مغايرة، قليلة جدًا لكنها تبلغ من الأهمية الكثير، محاولات لاستكشاف الأمكنة والأزمنة والقصص التي شوهتها السيناريوهات الصهيونية. مثال على هذه الأفلام الوثائقية يظهر فيلم "صرعة" (2015) لمخرجه ميخائيل كمينر.
حاول كمينر وهو طبيب يسكن في القرية التعاونية الزراعية (كيبوتس) "تسورعا" المبني على أنقاض قرية صُرعة الفلسطينية المهجرة؛ أن يعيد اكتشاف تاريخ المكان الذي ولد وتربى فيه، حيث يقوم على رأس التلة بيت مختار القرية الفلسطينية شاهدًا على أصل المكان، لكن كبار السن من سكان الكيبوتس، ذوي كمينر وجيرانهم، يرفضون الحديث عن وجود قرية فلسطينية ويتذرعون بقدومهم إلى مكان خلا من البيوت والناس. لدحض روايتهم يستدعي كمينر الحاجة سارة أبو لطيفة، وهي ابنة مختار قرية صرعة التي هُجرت مع سكان قريتها في العام 1948 وهي تبلغ من العمر خمس سنوات. في هذا التضاد بين الروايتين، بين الإصرار اليهودي- الإسرائيلي على روايته وبين صدق الذكريات البصرية التي تستعيدها سارة محاولة واضحة للبحث عن ملاذ من عبء نفسيّ، يبدو كمينر كمن يحمل وزر مسؤولية قتل وتشريد أشخاص من بيوتهم والاستيطان على أرضهم، ويخرج في فيلم علاجي/شخصي للتكفير عن ذنب!
وعلى شاكلة فيلم كمينر تعمل جمعية "زوخروت" (ذاكرات) الإسرائيلية على توثيق الرواية الشفوية ومقابلة من عاصروا النكبة وعاشوا ويلاتها وترجمة المقابلات للانجليزية في محاولة لإتاحة الرواية المناقضة للإجماع الإسرائيلي؛ للعالم أجمع.
-
*سماح بصول
كاتبة من فلسطين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق