– يَمّه، هاتيلي شمعة.
تُحْضر الأمُّ شمعةً جديدةً تُلْصقها فوق الشمع الذائب المتبقّي من الشمعة السابقة.
\يتابعُ يحيى واجبَه المدرسيّ.
– “الله لا يوفّقهم. عيّشونا عَ الشمِع. وعِندْهم الكهربا زيّ ضوّ النهار!” تقول الأمّ، وهي تجلس جانبًا.
يتركُ يحيى القلمَ يُفلت من يدِه، ويرنو من النافذة إلى نقطة الضوء البعيدة، حيث تَجْثمُ إحدى المستوطنات.
يزدادُ تصميمُ ابن الستّة عشر عامًا على الخروج من هذا السّجن الذي يحيط بقطاع غزّة من كلّ جانب. يحلمُ منذ زمنٍ بحياةٍ لا تقلُّ رفاهيةً عن حياة الإسرائيليين، وبمالٍ كافٍ يَكْسرُ بِهِ حدّةَ فقره، وبمنزلٍ لائقٍ يسكنه بدلًا من هذا المنزل المتصدّع بفعل القصف.
كان حلمُه أن يعمل داخل الخطّ الأخضر (فلسطين المحتلّة عام 48) حيث لا تقلّ الأجورُ عن ثمانين دولارًا أميركيًّا للفرد في اليوم الواحد، على ما سمعَ من صديقِ أخيه الذي أتى ليُقْنعَه بالذهاب معه للعمل هناك. كان الكثيرُ من الفلسطينيّين يعملون هناك من دون عوائقَ تُذْكَر، لكنّ هذا الحلم كان عصيًّا على التحقيق بالنسبة إلى يحيى؛ فتصاريحُ الخروج من غزّة للعمل في الخطّ الأخضر كانت تُمنَح وفقَ شروطٍ مقنَّنةٍ جدًّا، من ضمنِها ألّا يقلَّ عمرُ الشخصِ عن أربعين عامًا.
فكّر يحيى مليًّا: لن يدَعَ سياجًا يحرمَه الضوءَ.
وبعد أيّامٍ طويلةٍ حَسَمَ خيارَه: سيتسلّل خارجَ الحدود!
***
أمضى يحيى الليلَ يراجع خريطةَ المدينة والحدودِ عبرَ هاتفِه الذكيّ، لاعِنًا خدمةَ الإنترنت الرّديئة. وفي اليوم التالي اتّجهَ نحوَ السِّياج لاستطلاعِ منطقةٍ مناسبةٍ للعبورِ بعيدًا من نقاط المراقبة الإسرائيليّة. وعندما عاد إلى المنزلِ كان يحمل حقيبتَه المهترئةَ بحرصٍ شديد، وقد أخفى داخلَها قطّاعةَ أسلاكٍ اشتراها بمدّخراتِه.
بعيْد انتصاف الليل، خرج من منزلِهِ في بيت لاهيا متوجِّهًا إلى السِّياجِ الحدوديّ مع صديقِه الذي شاركه الحلم. تعاوَن الشابّان على قصّ الأسلاكِ ليصنَعا فتحةً عَبَرا منها.
استشعر يحيى طعمَ الحرّيّة على الرغمَ من انتقالِه من منطقةٍ فلسطينيّةٍ محرَّرةٍ إلى أُخرى تحت سيطرة الاحتلال!
كان من المفترض أن يَدخلا إلى قريةِ هربيا، أو مستوطنة كرميا كما صار اسمُها بعد أن هجَّرَ الاحتلالُ أهلها، وأن يتلمّسا بعد ذلك طريقَهما نحو الخطّ الأخضر. لكنّ حظَّهما لم يكن على قدْرِ الحلم، فوقعا في قبضة حرسِ الحدودِ الإسرائيليّ.
--
مضت الليلةُ الأولى في التحقيق معهما. وبعدَ التأكّد من خلوّ ملفّهما الأمنيّ، اتُّخذَ القرارُ بتسليمِهما إلى السلطات الفلسطينيّة لتنفِّذَ الإجراءاتِ اللازمة.
خضعَ صديقُ يحيى للأمر، واستعدَّ لترحيلِه. أمّا يحيى فصرخ: “لا مش عايز أروَّح، ما عنديش إشي هناك، خلّوني عندكم!” وراح يشرح لهم حلمَه في العيش في دولة اسرائيل.
حدَّثهم عن إعجابِه بما وصلوا إليه من تطوّر، وعن الساعات التي قضاها في مشاهدةِ صوَر المدنِ الإسرائيليّة، وعن خيبةِ أملِهِ في حكومتِه وفي المقاومة “التي لم تجلبْ سوى الفقر والخراب.” وكانَ آخر ما قاله: “ما بدي أعيش بالعتم. بدي أطْلع على النور!”
بلغ كلامُ يحيى مسمعَ أحدِ ضبّاطِ المخابرات الإسرائيليّة، المكلّفين بتجنيدِ الفلسطينيّين في غزّة للعملِ مع الجيشِ الإسرائيليّ عبرَ استدراجِهم بطرقٍ مختلفة، منها استغلالُ الظروف الصعبة التي يعيشُها الناسُ في القطاع.
أبدى الضابطُ إعجابَه بشجاعةِ يحيى، وثقتِه بنفسه، وذكائِه البادي من ردودِه أثناء التحقيق معه. وأوصى بإخضاعه للاختبارات المعتمَدة في حالاتٍ مماثلة.
--
بعد نجاحِ يحيى في الاختبارات، تقرَّرَ نقلُه إلى داخلِ الأراضي المحتلّة عام 48، وتدريبُه في مدرسةٍ عسكريّةٍ خاصّةٍ بانتظارِ تحديد المهمّات التي يمكنُ تكليفُه بها.
بالإضافة إلى التدريبات العسكريّة، لُقِّن يحيى تعاليمَ الديانة اليهوديّة، ودروسًا مكثَّفةً في اللغة العبريّة. وكان يحيى – الذي صارَ اسمُه دايفيد – ذكيًّا، وسريعَ البديهة، وشغوفًا بالعلم. وأظهرَ براعةً في الرياضيّات والأمور التقنيّة، فأُخضع لدوراتٍ في علوم الاتصالات اللازمة في ميدانَي التجسّس ومكافحة التجسّس.
بعد سنوات أصبح دايفيد ضابطًا في جهاز الموساد.
من تل أبيب حاول يحيى في البداية الاتصالَ بأمّه كي يقْنعَها بأن تنتقلَ وأفرادَ عائلتِها إلى مكانِ وجوده ليحظوْا بحياةٍ مُترفة. لكنّ الأمَّ حَسمت الأمرَ منذ الاتصال الأوّل بقولِها:
“أنا معنديش ابن. ابني مات. وأهْون عليّ أقعد آكل تراب ولا أبيع كرامتي وأرضي.”
--
في الداخلِ المحتلّ، التقى دايفيد الكثيرَ من الشخصيّات العربيّة، من رؤساءِ دوَلٍ، وأُمراء، وسياسيّين، ورجالِ أعمال، وناشطين. كان هؤلاء العربُ يثيرون اشمئزازَه بنفاقِهم: فهم يَلْعَنون إسرائيلَ على المنابر، ثمّ يلثمون يديْها سرًّا. لم يكن يفهَم هذه الازدواجيّةَ في التصرّف: كيف لهم أن يكونوا مع الشيء ونقيضِه؟ لِمَ لا يختارون طرفًا واحدًا كما فعلَ هو؟
كان دايفيد ماهرًا جدًّا، ومتقنًا لعملِه، الأمرُ الذي مَهَّدَ أمامَه طريقَ الوصول إلى رتبةٍ مرموقةٍ جدًّا في الموساد، ومَكّنه من بناء الكثيرِ من العلاقات في الداخل والخارج. ولعلَّ آخر ما كانت ترجوه إسرائيل لرَجُلِها الذي تَعِبتْ في تنشئتِه، وهيَّأته لمهامَّ عظيمةٍ، أن يَقضيَ في تفجيرٍ هزَّ وسط تل أبيب، واستهدفَ اجتماعًا ضَمَّ عددًا من كبارِ الضبّاط والقادة العسكريّين، فتسبَّب في انهيارِ المبنى، ومقتلِ أو جرحِ كلِّ من كان داخله.
وفي اليومِ التالي، صَدَرَ عن أحد فصائل المقاومةِ الفلسطينيّة بيانٌ مقتضبٌ جاء فيه:
“نزفُّ إلى جماهيرِنا القائدَ المجاهد يحيى أحمد أبو جراد، المعروف باسم دايفيد كارليباخ، الذي ارتقى أمس إثر عمليّةٍ استشهاديّةٍ نفَّذَها في مركز قيادة مخابرات العدوّ في تل أبيب، وأسفَرَتْ عن سقوط عشراتِ الضبّاطِ والجنودِ الصهاينة بين قتيل وجريح.”
--
خرج يحيى أخيرًا من السّجنِ الكبير، وخرج اسمُه إلى النور، وراحت أمُّه ترفع رأسَها بين الناس بمَن أنجبتْ وربَّتْ.
أمّا الشخص الذي تلقّف يحيى في الداخل وجنّده لصالح أحد فصائل المقاومة، فقد ارتقى هو الآخر إلى سماء الشهادة بعد أعوام، وذلك بعد أن اكتشف الإسرائيليّون أنّه جنّد عمّالًا فلسطينيين آخرين لضرب جنودِهم ومنشآتهم.
-
*مروة رزق
مشغرة
مشغرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق