⏪⏬
تلك الأمسية ترتدي ثوبا من الهدوء حتى ظن العابر من هناك بأن الأمور تسير على مايرام . فالرياح ترقد دون ضجة بينما الأمواج تختفي في طيات المياه ولربما ذهبت إلى بطن البحر ، أو لعله الحوت الذي ابتلعها فأصبحت تقطن في مكان لا عودة منه .
( إنها ليلة تصلح للصيد يا امرأة أليس كذلك ) قال أبو زريف مخاطبا زوجته الثلاثينة السمراء .
( سوف أصحبك بهذه الرحلة يا أبي ) توسلت الصغيرة مايا التي مازالت في بداية عقدها الثاني ، فتاة جميلة ناعمة ، مثيرة الملامح تحتسي جاذبية النساء بشغف ، شعرها الأسود يكاد أن يلامس ما تحت وركها وصوتها يسافر عبر روابي الخيال.
( نعم أراها كذلك يا أبو زريف ) قالت الزوجة ، لم تكن الأولى في سجله فقد كان له زوجة أخرى منذ سنوات خرجت ولم تعد في اختفاء مازال يثير الجدل بين أهل ( القرية ) ، وأم زريف أيضا كان لها زوج لكنه قرر الاستقالة من الحياة فاجتمعت مع الصياد تحت سقف واحد .
جهز الرجل كل لوازم الرحلة بمساعدة الزوجة والفتاة ، تناول بعض القهوة ثم هب واقفا ( هيا يابنتي سنذهب الآن ) كانت الساعة قد جاوزت منتصف الليل بقليل وهو وقت مناسب للبدء برحلة الصيد رغم البرد الفارد جناحيه على أغصان الأشجار المجاورة وعلى طول الدرب المؤدي إلى الشاطئ.
الزورق البدائي ينتظر موافقة الصياد كي ينطلق في رحلة تبدو مأمونة العواقب هذه المرة ، رغم كبر سنه إلا أنه كان قادرا على مجابهة البحر لسنوات طويلة خلت ولن يخلف وعده الليلة .
كل شيء يمشي ك قافلة في الاتجاه الصحيح ، انطلق الزورق مع ضوء خافت ينبعث من رأسه ، يطل نور القمر في زيارة سرية من بين الغيوم ولا يلبث أن يختفي مرة أخرى وكأنه يداعب الزورق البدائي والرجل العريض المنكبين الكث اللحية .
هذا الجو الممتلئ بالهدوء أغراه بالغوص بعيدا عن الشاطئ في محاولة للعودة بصيد يريحه عناء العمل لأيام إضافية فهو بحاجة للراحة لبعض الوقت بعد أن عاثت السنون فسادا في جسده الأسمر المكتنز برائحة البحر والجبل .
مرت ساعتان أو أكثر ومازال الظلام سائدا إلا من صرير مياه البحر لم تكترث للحمل الذي يطفو فوقها ، الرجل يمازح مايا الصغيرة: ( ربما لن تشاهدي أمك بعد اليوم ... ربما نبقى هنا إلى الأبد ) ، تتجهم الفتاة خوفا لكنها تضحك كاسرة سكون الليل فهي تعلم بأنه يمزح .
ضوء قوي ينير سطح المياه الموصولة مع السماء بحبل إلهي لتبدأ الريح بالتحرك خلسة ... الزورق يهتز دون أن يترك للرجل فرصة الانتباه لما يجري ، لم يطل الوقت حتى انهالت حبات المطر من المزن المرتفع فوق الجميع ، اشتدت الرياح بثورة مفاجئة جعلت الصياد يفكر بما يجري حوله فجأة ، هل يطوي شبتكه ويعود من حيث أتى أم أنها ثورة عابرة ستؤول إلى زوال عما قريب ليعاود متابعة الرحلة .
تضاربت الأفكار أمام اكتظاظ المكان بغضب عارم من البحر ... تحركت كأحجار الدومينو، لعل البحر اتخذ قرارا يدين كل من سوف يحاول غزوه في هذه الليلة ، اقتلع المرساة الواهنة ومالبث أن بدأ يتلاعب بالزورق المسكين .
( علينا العودة يا بنتي يبدو بأن السماء غاضبة ) ، سمع لهاث الفتاة لكنه أخفى رعبه تحت مئزره الرث ، أمسك بالدفة الخشبية وحاول إدارتها بعكس الاتجاه ، صراع عنيف أعلن للتو حضوره، بكل تأكيد سينتصر الأقوى فهنا لا مكان للضعفاء ... لا مكان للجبناء ... لكن الدفة تأبى الدوران فتركت الرجل وابنته وغاصت في المياه العميقة ( يا إلهي تبدو الأمور سيئة جدا ... لأجل هذه الفتاة يجب أن ننجو ... يجب أن ننجو ... يارب ) كان أبو زريف يتحدث في صمت كيلا يثير ذعر الفتاة أكثر مما هي فيه .
لحظات حرجة تمر دون حساب للوقت ، الزورق أصبح في عهدة الله والبحر ، كان يرقص ك غجرية في مكان آخر لا يشبه هذا المكان ، تمرد على قائده ثم استسلم لقدر الأمواج التي بدأت تسوقه إلى حيث لا يدري .
أشعل أبو زريف ضوء النجاة وأطلق صرخة الاستغاثة بآن معا، كانت المياه تبتلع الجميع لثوان ثم تلفظهم إلى الأعلى ، تكرر المشهد عشرات المرات وربما أكثر لكن لا أحد يستطيع أن يحصيها ، طال انتظار الرد الذي لن يأتي ، ارتفع صوت الفتاة طالبة النجدة من ( أبيها ) لكنه كان منهمكا بالبحث عن خيط من الأمل في جنبات الزورق البدائي .
( لن تموتي يابنتي ، لن نموت ... سننجو معا ثقي بذلك ... لكن عليك بالدعاء ) .
مع هذه العبارة كانت الفتاة قد فقدت وعيها تماما مما أربك الصياد أكثر ، ألبسها سترة برتقالية عتيقة شبه منتفخة وأبقاها قريبة منه قبل أن يتابع مقارعة لعبة الكبار .
سياط العاصفة تتكاثر ك الأرانب فتدق خشب الزورق المتأكل أصلا عله يرتكب الحماقة الكبرى فيخوض في رحلة اللاعودة .
ومثلها كان البحر الهائج ك ثور إسباني ، لم يدع فرصة سانحة لرؤية ما خلف قضبان أمواجه ( المشرئبة الأعناق ) فأصبح الرجل وفتاته ك سجينين تحت رأفة سجان لم يعرف معنى الرأفة ذات صباح فخرج الجميع من السجن على هيئة بشر .
الوقت ليس سانحا للتفكير والعقل بات أدنى من أن يلتقط أنفاسه الأخيرة ففقد أبو زريف كل وعيه دفعة واحدة كما فعلت ابنته قبل حوالي نصف ساعة من الآن ، وحده الزورق مازال يحتفظ بشيء من الوعي الإلهي .
كم مر من وقت ... لا أحد يدري سوى البحر والعاصفة والمطر الذي حزم حقائبه ورحل بعيدا إلى السماء ، ارتطم الزورق بشيء ما ، كان قاسيا جدا ، رمى بحمولته صوب رمال لطيفة .
البرد قارس لدرجة أنه استطاع أن يوقد عينا الصياد بعد فقدتا بريقهما ، نظر حوله باستغراب شديد ( أين نحن ... ألسنا في المنزل ... أين أنت يا امرأة !!! ... ) صوته كان ك حفيف خافت فتاه في أروقة المكان ، كان ك صدى في صحراء لا نهاية لها .
تحامل على نفسه وهرع إلى مايا الجميلة وهي بالقرب منه تفترش الرمال بعد أن سرق البحر جل ملابسها ، تتنفس بالكاد ... دقائق بطيئة تمر متثاقلة تتثاءب ك طفل استيقظ من نومه للتو ، لكنها كانت تحمل نهاية سعيدة ( استيقظت الفتاة من نومها الذي أتى في غير محله ، كانت ترتجف من شدة البرد ... والجوع ) .
هنا لا أحد يدب أو يهب ، المكان يغص بالأشجار الطويلة وأصوات الحيوانات ، وأشياء أخرى لم يتبين ماهيتها، الخوف يأتي من كل اتجاه فيظلل ذاكرة الاثنين معا لكن الحال يفرض نفسه وهنا لا مكان لارتكاب حماقة أخرى .
الساعات تعبر على عجل، بعض القماش الممزق يحتل الأجساد المنهكة، الشمس تتراخى فوق المياه قبل أن تخر صريعة هي الأخرى ... رحلة أخرى بدأت تسوق الموكب إلى مجهول ما .
في الليلة الأولى كان لا بد من الطعام والنوم ، وبعزيمة الصيادين ( الرجال ) استطاع أبو زريف أن يحصل على ما يريد لكنه لم يكن قادرا على تجاوز محنة البرد .
عندما لجأا إلى صخرة كبيرة حاولا تحاشي قساوة الجو ببعض الكلام ، بعد وقت قصير كانت الفتاة تستسلم لنوم عميق لكنها ترتجف بشكل غريب ، دنا أبو زريف منها واحتضنها ثم ذهب كليهما في نوم بدا الآن دون أن يقررا متى ينتهي .
مر الوقت ك الهشيم ، عندما استيقظت شعرت بشيء غريب ... كانت ملابسها الداخلية طرية لزجة بينما تثور بقعة دم على أسفل قميصها، تحسست المكان بيدها ( ماذا حصل لي ... هل أنا ... أنا ؟ ) ، نظرت إلى ( الرجل ) النائم وهو ملتصق بها، كان سرواله أيضا في غير مكانه ، لا بد من أن تكتم دموعها أولا ففي هذه الظروف لا مجال لكلام آخر ، لا تعلم بما جرى ولعلها لن تعلم ...
شعر الرجل بأن جولة من الوحل قد حلت عليه، ربما بكى في صمت كيلا تسمع أنينه ، ابتعد عن المكان والزمان معا في محاولة بائسة لنسيان كل شيء .
ثلاثة أشهر مضت كانت كفيلة بأن تفقد الزوجة أي أمل بعودة زوجها وابنتها، أما أهل القرية فما زالوا يتجاذبون قصة اختفائهما بمرارة الهزيمة ... أحدهم طرح فكرة للتخلص من غدر البحر لكن هيهات هيهات .
استطاعت الأشهر الثلاثة أن تحدث تبدلا فيزيولجيا على بطن الفتاة لكنها لم تكن كافية لتجبر الصياد على نسيان ماهو فيه رغم أنه اعتاد العيش مع مايا وحيوانات أليفة كانت تزورهم بشكل دائم ، بنوا معها صداقة لايعرفها البشر ، عادت لذاكرته حكاية الرجل الذي عاش حياة طويلة في غابة بعيدة ليس بها بشر ( هل تحولت تلك القصة إلى حقيقة معنا ! ) قال لنفسه: ( إذن لابد من مفاجأة ما ستقع في أية لحظة ) .
لدى بزوغ فجر يوم من أيام شهر نيسان استفاق كليهما على صوت نورس يطير فوق كوخهما الصغير وعلى صفير آت من بعيد ، لعل السماء قررت التدخل بعد زمن عصيب، ففي الأفق باخرة كبيرة تعبر قريبا من ذاك المكان، هرع إلى أعلى الصخرة ملوحا براية لطالما استخدمها من قبل دون أن تلد شيئا ، لكن هذه المرة لاقت استحسان الباخرة العابرة ، راية ثانية تلوح له من مقدمتها ( هل جاء وقت المفاجأة ) تساءل الرجل بينما بدأت الفتاة ترقص فرحا متناسية كل ما مضى ، انطلق زورق صغير من السفينة وكأنها ولدته لتوها ، وصل إلى الشاطئ في غضون دقائق: ( كان لقاءا استثنائيا قضى على أشهر من القهر والعذاب ) لتبدأ رحلة جديدة لكنها بلا صيد هذه المرة .
لم تصدق الزوجة منظر زوجها وابنتها وهما يقفان أمامها ... حتى زريف الصغير كان مشدوها أيضا ... ضاع الجميع في أحضان بعضهم البعض واتجهت الأفواه صوب السماء .
( مابك يا مايا ... أرى علامات على بطنك ) ، تحسست الفتاة بطنها وكذلك فعلت الأم: ( هل التقيت بشاب ما خلال هذه الفترة ... هل تزوجت دون علمي ) ...
صمتت الفتاة تاركة العنان لدمعة باردة سقطت ك صخرة عنيدة على الأرض ثم أشارت إلى أبيها !!! دون أن تنبس بكلمة واحدة .
اجتمعت الزوجة مع أبو زريف على سريرهما المعتاد حيث حل الظلام ، ثمة كلام كان يضج في داخله وثمة نار تكوي شرايينه ... فأي كلام لن يكون له معنى بعد هذه الأشهر الطويلة .
( أبو زريف ... انظر إلي ... ) ، نظر إلى النافذة فأمسكت بشعره الذي علاه الشيب وأدارت بوجهه نحوها : ( أعلم بما تفكر ، لا عليك ، سوف أبوح لك بسر طالما أخفيته عنك ) انتفض الرجل من مكانه رامقا المرأة بنظرة حادة .
( مايا ليست ابنتك ... مايا ليست ابنتك ، وليست ابنتي أيضا ... مايا ابنة السماء ... !!! ... ) ...
كانت الفتاة تلتصق بالباب ، سمعت حديثهما، ابتسمت وعادت إلى سريرها بينما كان النورس يحلق بالقرب من البيت المنتعش بكأس من الماء الدافئ .
-
*وليد.ع.العايش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق