⏪⏬*محمد أحمد فؤاد
هذا ما قاله البحتري حين أراد أن يقارن بين شعره وشعر أبي تمام. وشطر هذه العبارة الأول يمكنه أن ينطبق على أدب نجيب محفوظ. فجيده – بلا شك – أفضل من جيد غيره من الأدباء وأكثر، ورديئه فيه تفاوت، فبعض أعماله المتواضعة (القليلة بطبيعة
الحال) تنحدر حتى تصبح دون كثيرٍ من أعمال المجايلين له، وبعضها يحلِّق في أفق متوسط، فيصبح كبعض الأعمال المتواضعة لمحمد عبد الحليم عبد الله أو إحسان عبد القدوس أو يوسف السباعي.
لكن النقاد المعاصرين لنجيب محفوظ كانت لهم كلمة أخرى، فقد اتفق أغلبهم على أن أفضل أعماله على الإطلاق هي (الثلاثية) و(بداية ونهاية) و(خان الخليلي) و(الحرافيش) و(أولاد حارتنا)، فصار هذا الحكم غير المنصف طعنةً تكاد اليوم أن تودي ببقية أعمال نجيب محفوظ المتميزة، التي قد تتجاوز على مستوى البناء الفني والطرح هذه الروايات التي قرَّر النقاد أنها أفضل أعماله.
فالنقد عندنا للأسف وراثي، ما إن يجلس على المنصة ناقد، أو ينبري للكتابة عن نجيب محفوظ في صحيفةٍ أو كتابٍ، حتى يصرخ قلمه في كل كلمة متشنجًا: (هذا ما وجدنا عليه آباءنا)، فيتحفك بإعادة إنتاجه للنقد القديم، وللآراء المُعلَّبة المستهلَكة، وقلَّ أن تجد في ما يكتبون شيئًا جديدًا، يخالف ما توارثوه عن آلهتهم النقدية العتيقة. فلا عجب إن وجدتَ اليوم نفس قائمة أعمال نجيب محفوظ (الرسمية) تتجدَّد في كل مناسبة، دون محاولةٍ للاهتمام بإبداعاته الأخرى المتميزة.
وقد أثَّرت هذه الرؤية النقدية المتحجِّرة في توافر أعمال نجيب محفوظ في هذا العصر. فبعد أن انفردت دار الشروق بحقوق طباعة مؤلفات نجيب محفوظ (بعد أن احتفظت بها مكتبة مصر لسنوات طويلة)، لم تعد تهتم في أغلب الأوقات إلا بإصدار قائمة مؤلفاته (الرسمية) التي (اعتمدها) النقاد، لكي تضمن أنها سوف تصبح رائجة لدى الجيل الجديد من القراء الذين لا يعرفون عن محفوظ إلا ما ترامى إليهم من ألسنة مَن سبقوهم إلى عشق الأدب، والذين طُبعت على عقولهم الآراءُ النقديةُ القديمة، التي تقدس (القائمةَ الرسمية)، دون بقية مؤلفات نجيب محفوظ المتميزة.
ومن هذه الأعمال المهمَّشة رواية (قلب الليل) و(رحلة ابن فطومة)، وهما من أحب إبداعات نجيب محفوظ إلى قلبي، ولعلَّ هذا الشغف مردُّه إلى غلبة الرمزية العميقة عليهما والتناول الفلسفي الأنيق غير المتكلَّف، بغض النظر عن خصائص الأسلوب (المحفوظي) الساحر، والحاضر دومًا في جميع أعماله، وبراعته النادرة في بناء الشخصيات، التي تؤكد لنا – في أغلب رواياته – أنه تميز من سائر الأدباء بقدرته على تأمل البشر، واقتناص أدق التفاصيل الإنسانية، وتمكُّنِه على خلق شخصياتٍ من لحم ودم يمكن التجاوب معها. وهذه الصفة التي تميزه (أعنى قوة ملاحظته في تعامله مع البشر)، نزداد لها إكبارًا، حين نقرأ لأغلب روائيينا المعاصرين، الذين تعطي أعمالهم انطباعًا قويًّا بأن مؤلفيها لم يبصروا قط أحدًا ينتمي إلى الجنس البشري فضلًا عن التعامل معه وجهًا لوجه! فالبشر لهم منطق، ولهم مجالات من الانفعالات، ولهم طرق في التصرف متعددة، لا يقف عليها إلا من عاملَهم وتأمَّلَهم، وهي مَلَكَةٌ اتفقت لنجيب محفوظ، وافتقر إليها – للأسف – أغلب الأدباء المعاصرين، إما لطبائعهم الانطوائية، وإما لاستخفافهم بتقنيات فن الرواية.
⏪ملخص رواية قلب الليل
رواية قلب الليل (المظلومة)، تحكي عن رجل مشرَّد بائس يُدعى جعفر السيد الراوي (وفي لقب الراوي إشارة إلى الفعل الذي سيقوم بها خلال صفحات هذا العمل (أعني رواية أحداث قصته من البداية حتى تحوُّله الأخير). يذهب جعفر إلى موظف بوزارة الأوقاف كان من أهل الحي الذي نشأ فيه، فيطلب منه استرداد الوقف الذي تركه جده، بحجة أنه الوارث الوحيد له، فتأبى قوانين الأوقاف هذا الأمر، وخاصة أن وقف الراوي هو أكبر وقف خيري في الوزارة! تتوطد العَلاقة بين جعفر والموظف، حتى يجمعهما مقهى في إحدى الأمسيات، فيحكي جعفر لصاحبه قصة حياته، بدايةً من وفاة أمه، ومرورًا بانتقاله إلى منزل جده فاحش الثراء، وتمرده على حياة الالتزام الأزهري، وميله إلى الجنون بكل روافده من تمردٍ على سُلطة الجد، وحبٍّ لراعية غنم تدعى مروانة، وبوهيمية ومصاحبة للمغنين، حتى طلاقه، وزواجه للمرة الثانية بامرأة ذات حسب، يتعرف في كنفها على أرباب الفكر والثقافة الذين يغرونه بدراسة القانون، والقراءة في شتى مجالات المعرفة، حتى يتوهم أن لديه نظرية شاملة جامعة، فيدونها في كتابٍ بعد انعزالٍ طويل، وما إن يعرضه على مدير مكتبه حتى يسخر منه، فيضطر إلى قتله! يُسجَن جعفر، ثم يخرج في النهاية ليبحث عن مجد جده الضائع، ويعيش مشرَّدًا في ما تبقى من بيت جده القديم (خرابة الراوي). وتُختَتَم الرواية بتراجعِ جعفر الراوي عن كتابة التماس الإعانة الشهرية، وهَمْسِه بهذه العبارة:
الرواية فلسفية، تتناول رحلة بحث الإنسان عن معنى في حياةٍ لا جدوى من ورائها، فهي محاولة لتصوير أزمات الفلسفة الوجودية على مرآة جعفر الراوي، كما أن في الرواية إشارة إلى ما يمكن أن يجنيه أي مجتمع من غياب تواصل التجربة الحضارية (كما هي الحال في المجتمع المصري). لم يكمل جعفر الراوي مشروعه الأزهري، وانتقل إلى الغناء. ضاق بحياة الأثرياء والأعيان وذوي النسب الكريم، فاتجه إلى أهل (الترجمان) الأشرار، وشُغِفَ حُبًّا براعية غنم. لم يكمل حياته مع مروانة، وانغمس في عالم الغناء حتى أحبته امرأة ثرية فتزوجته، لينتقل إلى مرحلة جديدة هي حياة الثقافة والأدب. ثم أسفرت نفسه المضطربة عن جريمة قتل، أعقبها السجن والتشرُّد. كذلك مصر، فقد أعاقت تواصلَ المشروع الحضاري المصري أمورٌ شتّى على مدار آلاف السنين التي شهدت وجود الدولة المصرية. عصور الاحتلال المتعاقبة، وتناقض البنى الثقافية والاجتماعية التي تتوالى على الشعب المصري.
هناك دائمًا أنظمة حكم متناقضة لا يجمعها تصور مشترك فيما يتعلق بالبدائه المعرِفية وسبل الارتقاء الاقتصادي والثقافي والتعليمي. نحن في دوائر لا تكتمل أبدًا، تلفنا الحيرة بين القومية العربية والمشروع الإسلامي والهوية المصرية والنظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي، ونتأرجح بين نظام الدولة العلمانية (المسمَّاة اعتباطًا بالمدنية) ونظام الدولة التي يحكمها الضباط، وتُصارِعُ الاثنينِ المشاريعُ الممالئةُ للمدِّ الوهَّابي، أو الطامحة إلى الخلافة الإسلامية، ولا نكاد نُتِمُّ أبدًا تجربةً حتى المنتهى، وتغلِّف عَتَمَةُ التغييب الإعلامي والتلاعب بالتاريخ عقولَنا، فلا نصل أبدًا إلى حقيقة، وينتهي بنا الأمر إلى حالة التشرُّد الحضاري (إن جاز التعبير) التي نعيشها في هذا العصر. نملك (تراثًا عظيمًا/وَقْفًا ضخمًا) ونحيا على (هامش الكون/خرابة الراوي)!
⏪هل أنصف التناول السينمائي رواية قلب الليل؟
صدرت رواية (قلب الليل) عام 1975، وأخرج عاطف الطيب فيلمًا بنفس العنوان مستوحًى منها عام 1989، ببطولة نور الشريف وفريد شوقي ومحمود الجندي. وقد أبدع محسن زايد في كتابة السيناريو والحوار، واستطاع أن يتغلب بذكاء على مشقة تحويل الفقرات الحوارية المكتوبة بالفصحى، إلى عامية لا تقل دقةً ولا تأثيرًا عن النص الأصلي، وأدق مثال على هذه المهارة، ما فعله بهذا المشهد:
فأقول له (والكلام على لسان جعفر): “جدي من رجال الله”.
فيقهقه قائلًا (والكلام على لسان قريب مروانة البلطجي): “نحن رجال الله حقًّا، الله المنتقم الجبار خالق الجحيم والزلازل. انظر إلى هؤلاء (مشيرًا إلى معسكر المتشرِّدين). إنهم رجال الله، صورة منه في جبروته وانتقامه”.
تحول هذا المشهد في الفيلم إلى هذه الصورة:
محمد شكرون (صديق جعفر المغنِّي، يُعَرِّف البلطجي على جعفر): “اللي بيكلمك ده يبقى حفيد السيد الراوي، رجل البر والتقوى، السيد الراوي. الراجل الطاهر بتاع ربنا”.
البلطجي: “إحنا بتوع ربنا، هو مش ربنا بيسلَّط أبدان على أبدان؟ إحنا بقى الأبدان اللي بتتسلَّط ع المغفلين اللي زيكم، نبقى بتوع ربنا ولّا لأ؟!”.
وهذا مثال بسيط على القيمة الفنية الضخمة التي يمكن أن نصل إليها من التغريد خارج السرب، والاهتمام بأعمالٍ متقنةٍ تناقش قضايا في غاية الأهمية مثل رواية (قلب الليل).
الكلام يطول عن هذه الرواية المهمة، وغيرها من أعمال نجيب محفوظ المهمَّشة، وغيره من الأدباء الأكفاء الذين تبدَّد ذكرهم بسبب تراجع الحركة النقدية في مصر. وأرجو أن يكون هذا المقال سبيلًا لإعادة التفكير في المسلَّمات التي ورثناها عمَّن سبقونا في مجال الأدب، فهناك ينابيع من الجمال لم تُكتشف بعد، وهي تحتاج فقط من يحوِّل عينيه عن الوجهة التي قيَّدَ بصرَه إليها القدماءُ، وليس هذا بعسير!
هذا ما قاله البحتري حين أراد أن يقارن بين شعره وشعر أبي تمام. وشطر هذه العبارة الأول يمكنه أن ينطبق على أدب نجيب محفوظ. فجيده – بلا شك – أفضل من جيد غيره من الأدباء وأكثر، ورديئه فيه تفاوت، فبعض أعماله المتواضعة (القليلة بطبيعة
الحال) تنحدر حتى تصبح دون كثيرٍ من أعمال المجايلين له، وبعضها يحلِّق في أفق متوسط، فيصبح كبعض الأعمال المتواضعة لمحمد عبد الحليم عبد الله أو إحسان عبد القدوس أو يوسف السباعي.
لكن النقاد المعاصرين لنجيب محفوظ كانت لهم كلمة أخرى، فقد اتفق أغلبهم على أن أفضل أعماله على الإطلاق هي (الثلاثية) و(بداية ونهاية) و(خان الخليلي) و(الحرافيش) و(أولاد حارتنا)، فصار هذا الحكم غير المنصف طعنةً تكاد اليوم أن تودي ببقية أعمال نجيب محفوظ المتميزة، التي قد تتجاوز على مستوى البناء الفني والطرح هذه الروايات التي قرَّر النقاد أنها أفضل أعماله.
فالنقد عندنا للأسف وراثي، ما إن يجلس على المنصة ناقد، أو ينبري للكتابة عن نجيب محفوظ في صحيفةٍ أو كتابٍ، حتى يصرخ قلمه في كل كلمة متشنجًا: (هذا ما وجدنا عليه آباءنا)، فيتحفك بإعادة إنتاجه للنقد القديم، وللآراء المُعلَّبة المستهلَكة، وقلَّ أن تجد في ما يكتبون شيئًا جديدًا، يخالف ما توارثوه عن آلهتهم النقدية العتيقة. فلا عجب إن وجدتَ اليوم نفس قائمة أعمال نجيب محفوظ (الرسمية) تتجدَّد في كل مناسبة، دون محاولةٍ للاهتمام بإبداعاته الأخرى المتميزة.
وقد أثَّرت هذه الرؤية النقدية المتحجِّرة في توافر أعمال نجيب محفوظ في هذا العصر. فبعد أن انفردت دار الشروق بحقوق طباعة مؤلفات نجيب محفوظ (بعد أن احتفظت بها مكتبة مصر لسنوات طويلة)، لم تعد تهتم في أغلب الأوقات إلا بإصدار قائمة مؤلفاته (الرسمية) التي (اعتمدها) النقاد، لكي تضمن أنها سوف تصبح رائجة لدى الجيل الجديد من القراء الذين لا يعرفون عن محفوظ إلا ما ترامى إليهم من ألسنة مَن سبقوهم إلى عشق الأدب، والذين طُبعت على عقولهم الآراءُ النقديةُ القديمة، التي تقدس (القائمةَ الرسمية)، دون بقية مؤلفات نجيب محفوظ المتميزة.
ومن هذه الأعمال المهمَّشة رواية (قلب الليل) و(رحلة ابن فطومة)، وهما من أحب إبداعات نجيب محفوظ إلى قلبي، ولعلَّ هذا الشغف مردُّه إلى غلبة الرمزية العميقة عليهما والتناول الفلسفي الأنيق غير المتكلَّف، بغض النظر عن خصائص الأسلوب (المحفوظي) الساحر، والحاضر دومًا في جميع أعماله، وبراعته النادرة في بناء الشخصيات، التي تؤكد لنا – في أغلب رواياته – أنه تميز من سائر الأدباء بقدرته على تأمل البشر، واقتناص أدق التفاصيل الإنسانية، وتمكُّنِه على خلق شخصياتٍ من لحم ودم يمكن التجاوب معها. وهذه الصفة التي تميزه (أعنى قوة ملاحظته في تعامله مع البشر)، نزداد لها إكبارًا، حين نقرأ لأغلب روائيينا المعاصرين، الذين تعطي أعمالهم انطباعًا قويًّا بأن مؤلفيها لم يبصروا قط أحدًا ينتمي إلى الجنس البشري فضلًا عن التعامل معه وجهًا لوجه! فالبشر لهم منطق، ولهم مجالات من الانفعالات، ولهم طرق في التصرف متعددة، لا يقف عليها إلا من عاملَهم وتأمَّلَهم، وهي مَلَكَةٌ اتفقت لنجيب محفوظ، وافتقر إليها – للأسف – أغلب الأدباء المعاصرين، إما لطبائعهم الانطوائية، وإما لاستخفافهم بتقنيات فن الرواية.
⏪ملخص رواية قلب الليل
رواية قلب الليل (المظلومة)، تحكي عن رجل مشرَّد بائس يُدعى جعفر السيد الراوي (وفي لقب الراوي إشارة إلى الفعل الذي سيقوم بها خلال صفحات هذا العمل (أعني رواية أحداث قصته من البداية حتى تحوُّله الأخير). يذهب جعفر إلى موظف بوزارة الأوقاف كان من أهل الحي الذي نشأ فيه، فيطلب منه استرداد الوقف الذي تركه جده، بحجة أنه الوارث الوحيد له، فتأبى قوانين الأوقاف هذا الأمر، وخاصة أن وقف الراوي هو أكبر وقف خيري في الوزارة! تتوطد العَلاقة بين جعفر والموظف، حتى يجمعهما مقهى في إحدى الأمسيات، فيحكي جعفر لصاحبه قصة حياته، بدايةً من وفاة أمه، ومرورًا بانتقاله إلى منزل جده فاحش الثراء، وتمرده على حياة الالتزام الأزهري، وميله إلى الجنون بكل روافده من تمردٍ على سُلطة الجد، وحبٍّ لراعية غنم تدعى مروانة، وبوهيمية ومصاحبة للمغنين، حتى طلاقه، وزواجه للمرة الثانية بامرأة ذات حسب، يتعرف في كنفها على أرباب الفكر والثقافة الذين يغرونه بدراسة القانون، والقراءة في شتى مجالات المعرفة، حتى يتوهم أن لديه نظرية شاملة جامعة، فيدونها في كتابٍ بعد انعزالٍ طويل، وما إن يعرضه على مدير مكتبه حتى يسخر منه، فيضطر إلى قتله! يُسجَن جعفر، ثم يخرج في النهاية ليبحث عن مجد جده الضائع، ويعيش مشرَّدًا في ما تبقى من بيت جده القديم (خرابة الراوي). وتُختَتَم الرواية بتراجعِ جعفر الراوي عن كتابة التماس الإعانة الشهرية، وهَمْسِه بهذه العبارة:
الرواية فلسفية، تتناول رحلة بحث الإنسان عن معنى في حياةٍ لا جدوى من ورائها، فهي محاولة لتصوير أزمات الفلسفة الوجودية على مرآة جعفر الراوي، كما أن في الرواية إشارة إلى ما يمكن أن يجنيه أي مجتمع من غياب تواصل التجربة الحضارية (كما هي الحال في المجتمع المصري). لم يكمل جعفر الراوي مشروعه الأزهري، وانتقل إلى الغناء. ضاق بحياة الأثرياء والأعيان وذوي النسب الكريم، فاتجه إلى أهل (الترجمان) الأشرار، وشُغِفَ حُبًّا براعية غنم. لم يكمل حياته مع مروانة، وانغمس في عالم الغناء حتى أحبته امرأة ثرية فتزوجته، لينتقل إلى مرحلة جديدة هي حياة الثقافة والأدب. ثم أسفرت نفسه المضطربة عن جريمة قتل، أعقبها السجن والتشرُّد. كذلك مصر، فقد أعاقت تواصلَ المشروع الحضاري المصري أمورٌ شتّى على مدار آلاف السنين التي شهدت وجود الدولة المصرية. عصور الاحتلال المتعاقبة، وتناقض البنى الثقافية والاجتماعية التي تتوالى على الشعب المصري.
هناك دائمًا أنظمة حكم متناقضة لا يجمعها تصور مشترك فيما يتعلق بالبدائه المعرِفية وسبل الارتقاء الاقتصادي والثقافي والتعليمي. نحن في دوائر لا تكتمل أبدًا، تلفنا الحيرة بين القومية العربية والمشروع الإسلامي والهوية المصرية والنظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي، ونتأرجح بين نظام الدولة العلمانية (المسمَّاة اعتباطًا بالمدنية) ونظام الدولة التي يحكمها الضباط، وتُصارِعُ الاثنينِ المشاريعُ الممالئةُ للمدِّ الوهَّابي، أو الطامحة إلى الخلافة الإسلامية، ولا نكاد نُتِمُّ أبدًا تجربةً حتى المنتهى، وتغلِّف عَتَمَةُ التغييب الإعلامي والتلاعب بالتاريخ عقولَنا، فلا نصل أبدًا إلى حقيقة، وينتهي بنا الأمر إلى حالة التشرُّد الحضاري (إن جاز التعبير) التي نعيشها في هذا العصر. نملك (تراثًا عظيمًا/وَقْفًا ضخمًا) ونحيا على (هامش الكون/خرابة الراوي)!
⏪هل أنصف التناول السينمائي رواية قلب الليل؟
صدرت رواية (قلب الليل) عام 1975، وأخرج عاطف الطيب فيلمًا بنفس العنوان مستوحًى منها عام 1989، ببطولة نور الشريف وفريد شوقي ومحمود الجندي. وقد أبدع محسن زايد في كتابة السيناريو والحوار، واستطاع أن يتغلب بذكاء على مشقة تحويل الفقرات الحوارية المكتوبة بالفصحى، إلى عامية لا تقل دقةً ولا تأثيرًا عن النص الأصلي، وأدق مثال على هذه المهارة، ما فعله بهذا المشهد:
فأقول له (والكلام على لسان جعفر): “جدي من رجال الله”.
فيقهقه قائلًا (والكلام على لسان قريب مروانة البلطجي): “نحن رجال الله حقًّا، الله المنتقم الجبار خالق الجحيم والزلازل. انظر إلى هؤلاء (مشيرًا إلى معسكر المتشرِّدين). إنهم رجال الله، صورة منه في جبروته وانتقامه”.
تحول هذا المشهد في الفيلم إلى هذه الصورة:
محمد شكرون (صديق جعفر المغنِّي، يُعَرِّف البلطجي على جعفر): “اللي بيكلمك ده يبقى حفيد السيد الراوي، رجل البر والتقوى، السيد الراوي. الراجل الطاهر بتاع ربنا”.
البلطجي: “إحنا بتوع ربنا، هو مش ربنا بيسلَّط أبدان على أبدان؟ إحنا بقى الأبدان اللي بتتسلَّط ع المغفلين اللي زيكم، نبقى بتوع ربنا ولّا لأ؟!”.
وهذا مثال بسيط على القيمة الفنية الضخمة التي يمكن أن نصل إليها من التغريد خارج السرب، والاهتمام بأعمالٍ متقنةٍ تناقش قضايا في غاية الأهمية مثل رواية (قلب الليل).
الكلام يطول عن هذه الرواية المهمة، وغيرها من أعمال نجيب محفوظ المهمَّشة، وغيره من الأدباء الأكفاء الذين تبدَّد ذكرهم بسبب تراجع الحركة النقدية في مصر. وأرجو أن يكون هذا المقال سبيلًا لإعادة التفكير في المسلَّمات التي ورثناها عمَّن سبقونا في مجال الأدب، فهناك ينابيع من الجمال لم تُكتشف بعد، وهي تحتاج فقط من يحوِّل عينيه عن الوجهة التي قيَّدَ بصرَه إليها القدماءُ، وليس هذا بعسير!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق