⏪⏬
على ما يبدو أن الأمومة هي الأثبت، هكذا تؤشّر حادثة محمود درويش الأخيرة، سواء أكانت حادثة أبوته للطفلة التي أصبحت اليوم
سيدة على أبواب الأربعين، مجرد تأويل بلاغي أم أنها معلومة حقيقية. هل شعر درويش بحنين ما لتلك النطفة التي ألقاها في رحم تلك المرأة وغاب عنها بعد أن مرّ في سريرها ومرت به مرور العابرين. العملية كلها إن أوتي صانعها درويش من الحظ الجنسي لا تستمر سوى إحدى عشرة دقيقة على رأي باولو كويلو. عرف درويش أم لم يعرف بأمر تلك النفطة ومآلاتها الحياتية، تبقى نطفة لا وزن لها، لا تصنع ذاكرة ممتلئة بالحنين لتكون كفيلة بإحداث معنى الأبوة، هنا، وبهذا الشكل، تتحول النطفة إلى مجرد سبب طبيعي لإحداث خصب الأمومة، ولا تحمل في حد ذاتها أية قيمة خاصة.
وعلى ذلك فالأمومة أمر ثابت مستقرّ دائما بيولوجيا، إن هذه المعايشة المستمرة في الأحشاء لتلك النطفة العابرة هي التي تخلق شرعية الأمومة وعقلانيتها، بينما عبور النطفة "من الصلب إلى الترائب" عبورا طارئا، لا يعطيها عقلانية حضور الأبوة. لأجل ذلك فإن درويش لم يسأل المرأة عن "الجنين" وتحاشى معرفة الابنة، لأنه لا شيء يشده إلى ذلك، فلا معايشة ولا قصدية في إحداث فعل الأبوة، فظلت الطفلة ذات نطفة عابرة مغتربة الأب، لكنها محكومة بأمومة متأصلة لا تموت.
حادثة درويش على بساطتها إلا أنها تدفع بسؤال الأبوة إلى الواجهة. فكيف تحدث الأبوة إذا كانت النطفة وحدها ليست سببا كافيا لإحداث الأبوة؟ يبدو أن هذا حقيقي فعلا. أحاول هنا افتراض حادثة درويش مع مئات الحالات بل آلافها في هذا العالم، فعلها كتّاب وسياسيون، وفعلها أناس عاديون وعابرون، فعلها أغراب ومغتصبون، كلهم ألقوا بنطفهم في أراحم نساء، خلّفوا لهن صناعة الأمومة على مهل، وهم لا شيء يشدهم إلى فعل الأبوة وصناعتها. الأمر لا يتعلق بقسوة القلب ولا شهوة أن يكون لك ابن أو لا. أظن أن العابرين بنطفهم إلى أرحام النساء لا وقت لديهم ليكونوا آباءً، ولو آباءً سيئين.
في موازاة حادثة درويش النجم، الشاعر الرمز، يمرّ في الأثناء خبر صحفيّ لساعي بريد، يتبين أن له (1300) ابن. هل هذا معقول؟ ليست إمكانية أن يكون كذلك، وإنما هذا العدد الهائل من الأبناء المصنوعين في علاقات عابرة، هذا الكم الكبير من النطف المراقة في الأرحام يلزمه تخيّل رجل يحمل صهريجا من الحيوانات المنوية، يقدم منه دفقة لكل امرأة صاحبة رسالة وتنتظر قدومه مع الرسالة والدفقة المنوية معاً. لا أريد أن أناقش "سهولة" الحصول على المرأة بهذه الطريقة المبتذلة. ولكنه مع كل هذا لم يصبح أبا. ولكن تلك النساء كلهن أصبحن أمهات، وكنّ جديرات بلقب الأم وحقيقة كونهنّ أمّهات.
هذا يفترض إمكانية أن يكون لدرويش أبناء وليس ابنا واحداً أو بنتا واحدة، ولكن هؤلاء جميعا المعلن عنها والمخفي، وقد يكون المخفي أعظم، لم يجعلوا من محمود درويش الشاعر أبا جديرا بهذه الصفة، لأنه لم يسع إلى خلق الأبوة ورعايتها.
كلنا يعرف، ربما، إن تأمل جيدا كيف تصنع الأمومة، أو كيف تصنع المرأة من ذاتها أُمّاً. أمّا الأبوة فأمرها غامض قليلا، أو ربما يلزمها ما يلزم الأمومة من عشرة ومداومة، لا بد من حضور الأب الدائم ليشرف على هذا التخلق منذ أن علقت تلك النطفة في الرحم، الأم والأب معا أبوان، والدان يتابعان ويسهران ويتأملان، هذا الانتظار هو الذي يدفع صاحب النطفة الذي يصرّ على أن يصبح أبا أن يقرّب أذنه إلى بطن الأم ليسمع رفسات الجنين، لينتشي، وتزداد سرعة دقات قلبه، فيتدفق الدم في كل أنحاء جسمه؛ شاعراً بالزهو وبالفخر والسعادة. المرأة تنادي بصوتها الرخيم صاحب تلك النطفة وتمسك يده وتضعها على بطنها ليتحسس الجنين وإن كان الفاصل بينهما ثلاث ظلمات. الأبوّة تصنع بالمراقبة والمداومة والترقب ولا تصنع بقذف النطف في الأرحام، تُصنع بتلك اللهفة المجنونة لاستقبال قاذف النطفة نطفته، وهي كائن كامل الخلق حيّ يصرخ ويتشبث بالحياة.
من أجل ذلك فإن أي ذكر أناني، يريد إشباع غريزته في العبور بنطفته إلى رحم امرأة ما لن يكون أبا جديرا بالأبوّة، وكذلك الشاعر المغرور بقصيدته والمشغول عن كل ما عداها، ويراها الوارث الحقيقي له، لن يكون أيضاً أباً جديرا بالأبوة البشرية، بل تكفيه أمومة القصيدة وأبوتها. وأظن أن درويش صاحب النطف المقذوفة في الأرحام لتخلّف أبناء وبناتا، لن تكون تلك النطف المكونة بعد ذلك أناسا من لحم ودم أبناء لدرويش فقد حرم من أبوتهم، أو ربما لم يسع لمثل هذه الأبوة الناقصة. يبدو أن درويش في مثل هذه النتيجة سيكون مجرد "ذكر" باحث عن الشهوة ليتخلص من أوجاع الغريزة في أرحام النساء العابرات أو المقيمات، أبكارا أو متزوجات، ولن يهمه ولا يعنيه الأمر أن يكون له ابن أو ابنه، فكل ما كان يريده من حاجة عضوية مماثلة للأكل أو الشرب قد حصل عليها. بالنسبة للشاعر ذي النطف العابرة للأرحام سيقف الأمر عند هذا الحد فقط، لذلك قال لسميح القاسم: "إن جاءت السيدة سلم عليها وقل لها: سافر... وسيعود قريبا، ولا تسألها عن الجنين". هذا التجاهل عينه هو الذي قوّض تماماً المعنى الحقيقي للأبوة، وجعل النطفة مجرد سبب للحياة مرت بشكل عابر إلى رحم المرأة لتكون الأمومة هي الثابت الوحيد في حالة درويش، هذه الحالة التي تبدو على بساطتها ليست سهلة عند التفكير في مآلاتها الوجودية وتفكيك المفاهيم الاجتماعية التي ستكون هي الأولى في حالة درويش أكثر من كونها قضية نقدية إلا من باب تأويل التأويل، وتضخيم المعنى وتحميله بلاغة لا يستحقّ أن يكونها.
-
*فراس حج محمد
فلسطين
على ما يبدو أن الأمومة هي الأثبت، هكذا تؤشّر حادثة محمود درويش الأخيرة، سواء أكانت حادثة أبوته للطفلة التي أصبحت اليوم
سيدة على أبواب الأربعين، مجرد تأويل بلاغي أم أنها معلومة حقيقية. هل شعر درويش بحنين ما لتلك النطفة التي ألقاها في رحم تلك المرأة وغاب عنها بعد أن مرّ في سريرها ومرت به مرور العابرين. العملية كلها إن أوتي صانعها درويش من الحظ الجنسي لا تستمر سوى إحدى عشرة دقيقة على رأي باولو كويلو. عرف درويش أم لم يعرف بأمر تلك النفطة ومآلاتها الحياتية، تبقى نطفة لا وزن لها، لا تصنع ذاكرة ممتلئة بالحنين لتكون كفيلة بإحداث معنى الأبوة، هنا، وبهذا الشكل، تتحول النطفة إلى مجرد سبب طبيعي لإحداث خصب الأمومة، ولا تحمل في حد ذاتها أية قيمة خاصة.
وعلى ذلك فالأمومة أمر ثابت مستقرّ دائما بيولوجيا، إن هذه المعايشة المستمرة في الأحشاء لتلك النطفة العابرة هي التي تخلق شرعية الأمومة وعقلانيتها، بينما عبور النطفة "من الصلب إلى الترائب" عبورا طارئا، لا يعطيها عقلانية حضور الأبوة. لأجل ذلك فإن درويش لم يسأل المرأة عن "الجنين" وتحاشى معرفة الابنة، لأنه لا شيء يشده إلى ذلك، فلا معايشة ولا قصدية في إحداث فعل الأبوة، فظلت الطفلة ذات نطفة عابرة مغتربة الأب، لكنها محكومة بأمومة متأصلة لا تموت.
حادثة درويش على بساطتها إلا أنها تدفع بسؤال الأبوة إلى الواجهة. فكيف تحدث الأبوة إذا كانت النطفة وحدها ليست سببا كافيا لإحداث الأبوة؟ يبدو أن هذا حقيقي فعلا. أحاول هنا افتراض حادثة درويش مع مئات الحالات بل آلافها في هذا العالم، فعلها كتّاب وسياسيون، وفعلها أناس عاديون وعابرون، فعلها أغراب ومغتصبون، كلهم ألقوا بنطفهم في أراحم نساء، خلّفوا لهن صناعة الأمومة على مهل، وهم لا شيء يشدهم إلى فعل الأبوة وصناعتها. الأمر لا يتعلق بقسوة القلب ولا شهوة أن يكون لك ابن أو لا. أظن أن العابرين بنطفهم إلى أرحام النساء لا وقت لديهم ليكونوا آباءً، ولو آباءً سيئين.
في موازاة حادثة درويش النجم، الشاعر الرمز، يمرّ في الأثناء خبر صحفيّ لساعي بريد، يتبين أن له (1300) ابن. هل هذا معقول؟ ليست إمكانية أن يكون كذلك، وإنما هذا العدد الهائل من الأبناء المصنوعين في علاقات عابرة، هذا الكم الكبير من النطف المراقة في الأرحام يلزمه تخيّل رجل يحمل صهريجا من الحيوانات المنوية، يقدم منه دفقة لكل امرأة صاحبة رسالة وتنتظر قدومه مع الرسالة والدفقة المنوية معاً. لا أريد أن أناقش "سهولة" الحصول على المرأة بهذه الطريقة المبتذلة. ولكنه مع كل هذا لم يصبح أبا. ولكن تلك النساء كلهن أصبحن أمهات، وكنّ جديرات بلقب الأم وحقيقة كونهنّ أمّهات.
هذا يفترض إمكانية أن يكون لدرويش أبناء وليس ابنا واحداً أو بنتا واحدة، ولكن هؤلاء جميعا المعلن عنها والمخفي، وقد يكون المخفي أعظم، لم يجعلوا من محمود درويش الشاعر أبا جديرا بهذه الصفة، لأنه لم يسع إلى خلق الأبوة ورعايتها.
كلنا يعرف، ربما، إن تأمل جيدا كيف تصنع الأمومة، أو كيف تصنع المرأة من ذاتها أُمّاً. أمّا الأبوة فأمرها غامض قليلا، أو ربما يلزمها ما يلزم الأمومة من عشرة ومداومة، لا بد من حضور الأب الدائم ليشرف على هذا التخلق منذ أن علقت تلك النطفة في الرحم، الأم والأب معا أبوان، والدان يتابعان ويسهران ويتأملان، هذا الانتظار هو الذي يدفع صاحب النطفة الذي يصرّ على أن يصبح أبا أن يقرّب أذنه إلى بطن الأم ليسمع رفسات الجنين، لينتشي، وتزداد سرعة دقات قلبه، فيتدفق الدم في كل أنحاء جسمه؛ شاعراً بالزهو وبالفخر والسعادة. المرأة تنادي بصوتها الرخيم صاحب تلك النطفة وتمسك يده وتضعها على بطنها ليتحسس الجنين وإن كان الفاصل بينهما ثلاث ظلمات. الأبوّة تصنع بالمراقبة والمداومة والترقب ولا تصنع بقذف النطف في الأرحام، تُصنع بتلك اللهفة المجنونة لاستقبال قاذف النطفة نطفته، وهي كائن كامل الخلق حيّ يصرخ ويتشبث بالحياة.
من أجل ذلك فإن أي ذكر أناني، يريد إشباع غريزته في العبور بنطفته إلى رحم امرأة ما لن يكون أبا جديرا بالأبوّة، وكذلك الشاعر المغرور بقصيدته والمشغول عن كل ما عداها، ويراها الوارث الحقيقي له، لن يكون أيضاً أباً جديرا بالأبوة البشرية، بل تكفيه أمومة القصيدة وأبوتها. وأظن أن درويش صاحب النطف المقذوفة في الأرحام لتخلّف أبناء وبناتا، لن تكون تلك النطف المكونة بعد ذلك أناسا من لحم ودم أبناء لدرويش فقد حرم من أبوتهم، أو ربما لم يسع لمثل هذه الأبوة الناقصة. يبدو أن درويش في مثل هذه النتيجة سيكون مجرد "ذكر" باحث عن الشهوة ليتخلص من أوجاع الغريزة في أرحام النساء العابرات أو المقيمات، أبكارا أو متزوجات، ولن يهمه ولا يعنيه الأمر أن يكون له ابن أو ابنه، فكل ما كان يريده من حاجة عضوية مماثلة للأكل أو الشرب قد حصل عليها. بالنسبة للشاعر ذي النطف العابرة للأرحام سيقف الأمر عند هذا الحد فقط، لذلك قال لسميح القاسم: "إن جاءت السيدة سلم عليها وقل لها: سافر... وسيعود قريبا، ولا تسألها عن الجنين". هذا التجاهل عينه هو الذي قوّض تماماً المعنى الحقيقي للأبوة، وجعل النطفة مجرد سبب للحياة مرت بشكل عابر إلى رحم المرأة لتكون الأمومة هي الثابت الوحيد في حالة درويش، هذه الحالة التي تبدو على بساطتها ليست سهلة عند التفكير في مآلاتها الوجودية وتفكيك المفاهيم الاجتماعية التي ستكون هي الأولى في حالة درويش أكثر من كونها قضية نقدية إلا من باب تأويل التأويل، وتضخيم المعنى وتحميله بلاغة لا يستحقّ أن يكونها.
-
*فراس حج محمد
فلسطين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق