⏪⏬
وقع تحت يديّ مؤخرًا وبمحض الصدفة الكتاب: ”تحت المصباح الأخضر“ لتوفيق الحكيم، القاهرة : مكتبة الآداب ومطبعتها
بالجماميز، ط.١، ١٩٤٢، ط.٢، ١٩٨٣، ١٤٣ ص. فقرأته ومُتّعت. لا أذكر إذا كنت قد قرأته من قبل في غضون إقامتي في بيت المقدس في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. في تلك الحِقبة بدأت مطالعاتي الدؤوبة وترسّخت جنبًا إلى جنب دراستي الجامعية للشهادات الثلاث في الجامعة العبرية، وكانت الظروف مؤاتية لتنمية هواية بل عادة المطالعة، فمكتبة الجامعة تزخر بشتّى أصناف الكتب والمؤلفات. قبل ذلك، في المرحلة الثانوية في مسقط رأسي، كفرياسيف، كانت الكتب كما يعلم مجايلي سلعةً نادرة جدًا، وما زلت أذكر بعض الكتب القليلة التي تسنّى لي مطالعتها مثل ديوان صفيّ الدين الحلي، الذي بقي من كتب والدي المرحوم، وكتاب ”سبعون حكاية عمر لميخائيل نعيمة.
لا أفشي أيّ سرّ دفين بقولي إنّ المطالعة ثم المطالعة ثم المطالعة، هي غذاء لازدهار العلم والمعرفة والموهبة. في السياق ذاته، أودّ أن أضيف جزئية هامّة ليست شائعة بالقدر الكافي المستحقّ وهي: مثل هذه العادة المتجذرة في المطالعة هي أُكسجين معرفة لغتنا القومية، العربية الفصيحة والمعروفة اليوم باسم المِعْيارية MSA. كلّ سنوات الدراسة في المراحل التعليمية المختلفة من الصف الأوّل ولغاية نهاية الدراسة الجامعية في فرع اللغة العربية وآدابها، لا تؤدي، في الغالب الأعمّ، إلى التمكّن من العربية المكتوبة حديثًا وكتابة، بدون رافد المطالعة المتدفّق السيّال. أعود وأُذكّر أنّ لغتنا القومية الغالية هذه، ليست لغة أمّ أيّ عربي وَفق التعريف اللغوي اليوم، أي اللغة الأولى في البيت. ثم إنّ ظاهرة ندرة القراءة وعزوف العرب بعامّة عن العربية لا يحتاجان لأي دليل أو إحصائيات إضافية.
يُروى أنّ الفيلسوف الإغريقي الشهير أرسطو، في القرن الرابع قبل المبلاد، كان يسأل الشخصَ قبل الحُكم عليه: كم كتابًا قرأت وماذا تقرأ؟ واليوم، كما يعلم الجميع، أمّة إقرأ لا تقرأ، وإن قرأت فبالأذنين. نعم القراءة الجادّة فن معقّد وقراءة كتاب على مستوى، مهمةٌ شاقّة حقًّا. وكل فن عظيم هو عملية بعث وإحياء (ص. ٨٣)؛ ”كما ينتسب الولد للفراش كذلك الفن للأرض“ (ص. ١٣٠). والجمال عند توفيق الحكيم ”وحدة لا تتجزأ قوامها الجسم والروح معا، كالضوء في الكوكب والعطر في الزهرة“ (ص. ١٣٢).
بين دفّتي ”تحت المصباح الأخضر“ سبعةَ عشرَ فصلًا مثل: ابن عبد ربّه في قهوة الشقيقات الثلاث؛ الخاتم السحري؛ شهرزاد ومونماتر؛ مصير الإنسان؛ هل تنقص المرأة بعض المواهب الفنية؟؛ تأملات حول تشجيع الناشئين؛ من أدب الجاحظ؛ الجمال العاري؛ الإلهام النفسي. هذا يعني أنّ في الكتاب باقةً متنوعة من المواضيع الاجتماعية، الأدبية ، الفنية والفكرية وفي تقديري سيجد القارىء ضالته في بعض هذه الفصول على الأقل. زد إلى ذلك أنّ اللغة جذابة، سليمة والأسلوب مكثّف.
تمعّن عزيزي القارىء بما يقوله الحكيم ”إني أقلّ الكتاب شراء للكتب، فأنا لا أشتري إلا لأقرأ ولا أقرأ إلا ما أحس بغريزتي الفنية أنه يحدث في مجرى تفكيري أثرا“ (ص. ٦٤). إنّه يقتني الكتب ليقرأ ما فيها من تأثير على الفكر وجميعنا يعرف في أيّامنا هذه، بعد ثمانين عامًا تقريبا، أنّ الكثيرين الكثيرين يجمعون الكتب، عادة المجّانية، ليعرضوها في الواجهة في المنزل، ”شوفوني يا ناس!“.
ويصرّح توفيق الحكيم في تناوله لموضوعين حول المرأة: إنها تمتاز بالشعور والتحليل، لم تؤلّف في مسائل الفلسفة وشؤون الفكر العويصة شيئًا وكذلك في القصص التمثيلي وفن العِمارة والموسيقى السانفونية (ص. ٦٤-٦٦، ٦٩). وفي موضع آخرَ يكتب الحكيم ”أن المرأة التي أثرت في عمل أدبائنا المعاصرين هي في أغلب الأحوال امرأة أوروبية: فرنسية أو انجليزية أو إسرائيلية أجنبية“ (٧٩).
وممّا استرعى التفاتي بنحو خاصّ، ما قاله الحكيم بحصافة وبخبرة، حول موضوع تشجيع الناشئين في الكتابة. ظاهرة النقد المفعم بالمدح والإطراء المنفلت في البلاد، لدى فلسطينيي ١٩٤٨، ولدى أشقائهم أيضًا لا تقوم بواجبها المأمول. النقد العلمي البنّاء له أصوله وأدواته الحديثة، وهو عنصر حيوي في بلورة أو قل غربلة أو حتّى تنخيل ما يصدر من إصدارات في كلّ المجالات وليست الأدبية فقط. من نافلة القول، أنّ في كلّ عمل أدبي، فكري، علمي إلخ. جوانب إيجابية وأخرى أقلّ إيجابية وهي بحاجة للتشذيب والتطوير، وينبغي التركيز عليها لخلق أُسس معرفية تراكمية يُعوّل عليها مستقبلا. إنّي أقرأ كثيرًا عروضًا أو مراجعات لإصدارات جديدة وكلّها تقريبًا إشادة وإطراء، تحميد وتمجيد، ولا ذكر لأي موطن من مواطن الضعف. وهذا يذكّرني بعدة عروض من هذا القبيل كتبت عن كتابين لمؤلّف واحد ولم أعثر فيها على ملحوظة واحدة واضحة بملء الفم عن الكم الهائل من الأخطاء اللغوية الأساسية التي وقعت فيهما. كما قال توفيق الحكيم ”وحظنا من الصراحة والصدق قليل“ (ص. ٧٣).
وبصدد تشجيع الناشئين يكتب توفيق الحكيم:
”أبالنشر المبكر والقطف قبل النضج نسدى إلى زهر الربيع الخير ونبدى له التقدير؟ ما أكثر الناس الذين يحملون فى رؤوسهم أفكارًا عظيمة، وفى نفوسهم مشاعر قوية، وفى أفواههم دعابات ظريفة وكلمات طريفة! غير أن كل هذا لا يصنع كاتبًا“ (ص. ٨٨-٨٩). وفي موضع آخر يضيف الحكيم ”أين هو السبيل الحقيقي لتشجيع الناشئين؟ أهو بإظهارهم قبل الإعداد أم بإعدادهم قبل الظهور؟؟“ (ص. ٩٤).
إنّ كلماتِ توفيق الحكيم الأخيرة في كتابه هذا ملائمة ليوم الناس هذا أيضًا.
”إنها ثقافتنا الحديثة قد سلبتنا أيضا صفاء الإيمان الفطري. فهبطت بنا عن الولاية درجات بغير داع ولا مبرر ولا مقابل.
اللهم العن هذا العصر الذي لم يعد فيه مكان إلا لمن يستطيع أن يعيش في الطين والتراب …“ (ص. ١٤٣).
وقع تحت يديّ مؤخرًا وبمحض الصدفة الكتاب: ”تحت المصباح الأخضر“ لتوفيق الحكيم، القاهرة : مكتبة الآداب ومطبعتها
بالجماميز، ط.١، ١٩٤٢، ط.٢، ١٩٨٣، ١٤٣ ص. فقرأته ومُتّعت. لا أذكر إذا كنت قد قرأته من قبل في غضون إقامتي في بيت المقدس في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. في تلك الحِقبة بدأت مطالعاتي الدؤوبة وترسّخت جنبًا إلى جنب دراستي الجامعية للشهادات الثلاث في الجامعة العبرية، وكانت الظروف مؤاتية لتنمية هواية بل عادة المطالعة، فمكتبة الجامعة تزخر بشتّى أصناف الكتب والمؤلفات. قبل ذلك، في المرحلة الثانوية في مسقط رأسي، كفرياسيف، كانت الكتب كما يعلم مجايلي سلعةً نادرة جدًا، وما زلت أذكر بعض الكتب القليلة التي تسنّى لي مطالعتها مثل ديوان صفيّ الدين الحلي، الذي بقي من كتب والدي المرحوم، وكتاب ”سبعون حكاية عمر لميخائيل نعيمة.
لا أفشي أيّ سرّ دفين بقولي إنّ المطالعة ثم المطالعة ثم المطالعة، هي غذاء لازدهار العلم والمعرفة والموهبة. في السياق ذاته، أودّ أن أضيف جزئية هامّة ليست شائعة بالقدر الكافي المستحقّ وهي: مثل هذه العادة المتجذرة في المطالعة هي أُكسجين معرفة لغتنا القومية، العربية الفصيحة والمعروفة اليوم باسم المِعْيارية MSA. كلّ سنوات الدراسة في المراحل التعليمية المختلفة من الصف الأوّل ولغاية نهاية الدراسة الجامعية في فرع اللغة العربية وآدابها، لا تؤدي، في الغالب الأعمّ، إلى التمكّن من العربية المكتوبة حديثًا وكتابة، بدون رافد المطالعة المتدفّق السيّال. أعود وأُذكّر أنّ لغتنا القومية الغالية هذه، ليست لغة أمّ أيّ عربي وَفق التعريف اللغوي اليوم، أي اللغة الأولى في البيت. ثم إنّ ظاهرة ندرة القراءة وعزوف العرب بعامّة عن العربية لا يحتاجان لأي دليل أو إحصائيات إضافية.
يُروى أنّ الفيلسوف الإغريقي الشهير أرسطو، في القرن الرابع قبل المبلاد، كان يسأل الشخصَ قبل الحُكم عليه: كم كتابًا قرأت وماذا تقرأ؟ واليوم، كما يعلم الجميع، أمّة إقرأ لا تقرأ، وإن قرأت فبالأذنين. نعم القراءة الجادّة فن معقّد وقراءة كتاب على مستوى، مهمةٌ شاقّة حقًّا. وكل فن عظيم هو عملية بعث وإحياء (ص. ٨٣)؛ ”كما ينتسب الولد للفراش كذلك الفن للأرض“ (ص. ١٣٠). والجمال عند توفيق الحكيم ”وحدة لا تتجزأ قوامها الجسم والروح معا، كالضوء في الكوكب والعطر في الزهرة“ (ص. ١٣٢).
بين دفّتي ”تحت المصباح الأخضر“ سبعةَ عشرَ فصلًا مثل: ابن عبد ربّه في قهوة الشقيقات الثلاث؛ الخاتم السحري؛ شهرزاد ومونماتر؛ مصير الإنسان؛ هل تنقص المرأة بعض المواهب الفنية؟؛ تأملات حول تشجيع الناشئين؛ من أدب الجاحظ؛ الجمال العاري؛ الإلهام النفسي. هذا يعني أنّ في الكتاب باقةً متنوعة من المواضيع الاجتماعية، الأدبية ، الفنية والفكرية وفي تقديري سيجد القارىء ضالته في بعض هذه الفصول على الأقل. زد إلى ذلك أنّ اللغة جذابة، سليمة والأسلوب مكثّف.
تمعّن عزيزي القارىء بما يقوله الحكيم ”إني أقلّ الكتاب شراء للكتب، فأنا لا أشتري إلا لأقرأ ولا أقرأ إلا ما أحس بغريزتي الفنية أنه يحدث في مجرى تفكيري أثرا“ (ص. ٦٤). إنّه يقتني الكتب ليقرأ ما فيها من تأثير على الفكر وجميعنا يعرف في أيّامنا هذه، بعد ثمانين عامًا تقريبا، أنّ الكثيرين الكثيرين يجمعون الكتب، عادة المجّانية، ليعرضوها في الواجهة في المنزل، ”شوفوني يا ناس!“.
ويصرّح توفيق الحكيم في تناوله لموضوعين حول المرأة: إنها تمتاز بالشعور والتحليل، لم تؤلّف في مسائل الفلسفة وشؤون الفكر العويصة شيئًا وكذلك في القصص التمثيلي وفن العِمارة والموسيقى السانفونية (ص. ٦٤-٦٦، ٦٩). وفي موضع آخرَ يكتب الحكيم ”أن المرأة التي أثرت في عمل أدبائنا المعاصرين هي في أغلب الأحوال امرأة أوروبية: فرنسية أو انجليزية أو إسرائيلية أجنبية“ (٧٩).
وممّا استرعى التفاتي بنحو خاصّ، ما قاله الحكيم بحصافة وبخبرة، حول موضوع تشجيع الناشئين في الكتابة. ظاهرة النقد المفعم بالمدح والإطراء المنفلت في البلاد، لدى فلسطينيي ١٩٤٨، ولدى أشقائهم أيضًا لا تقوم بواجبها المأمول. النقد العلمي البنّاء له أصوله وأدواته الحديثة، وهو عنصر حيوي في بلورة أو قل غربلة أو حتّى تنخيل ما يصدر من إصدارات في كلّ المجالات وليست الأدبية فقط. من نافلة القول، أنّ في كلّ عمل أدبي، فكري، علمي إلخ. جوانب إيجابية وأخرى أقلّ إيجابية وهي بحاجة للتشذيب والتطوير، وينبغي التركيز عليها لخلق أُسس معرفية تراكمية يُعوّل عليها مستقبلا. إنّي أقرأ كثيرًا عروضًا أو مراجعات لإصدارات جديدة وكلّها تقريبًا إشادة وإطراء، تحميد وتمجيد، ولا ذكر لأي موطن من مواطن الضعف. وهذا يذكّرني بعدة عروض من هذا القبيل كتبت عن كتابين لمؤلّف واحد ولم أعثر فيها على ملحوظة واحدة واضحة بملء الفم عن الكم الهائل من الأخطاء اللغوية الأساسية التي وقعت فيهما. كما قال توفيق الحكيم ”وحظنا من الصراحة والصدق قليل“ (ص. ٧٣).
وبصدد تشجيع الناشئين يكتب توفيق الحكيم:
”أبالنشر المبكر والقطف قبل النضج نسدى إلى زهر الربيع الخير ونبدى له التقدير؟ ما أكثر الناس الذين يحملون فى رؤوسهم أفكارًا عظيمة، وفى نفوسهم مشاعر قوية، وفى أفواههم دعابات ظريفة وكلمات طريفة! غير أن كل هذا لا يصنع كاتبًا“ (ص. ٨٨-٨٩). وفي موضع آخر يضيف الحكيم ”أين هو السبيل الحقيقي لتشجيع الناشئين؟ أهو بإظهارهم قبل الإعداد أم بإعدادهم قبل الظهور؟؟“ (ص. ٩٤).
إنّ كلماتِ توفيق الحكيم الأخيرة في كتابه هذا ملائمة ليوم الناس هذا أيضًا.
”إنها ثقافتنا الحديثة قد سلبتنا أيضا صفاء الإيمان الفطري. فهبطت بنا عن الولاية درجات بغير داع ولا مبرر ولا مقابل.
اللهم العن هذا العصر الذي لم يعد فيه مكان إلا لمن يستطيع أن يعيش في الطين والتراب …“ (ص. ١٤٣).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق