أصدرت القاصة السورية “أمان أحمد السيد” مجموعة قصصية موسومة بعنوان” قدري أن أولد أنثى “،قصص قصيرة ، تقع المجموعة في (112) صفحة من القطع المتوسط، وتضم (14) قصة قصيرة. وقد صدرت عن دار شمس للنشر والتوزيع في القاهرة،
فيما صمم غلافها الفنان أمين الصيرفي.
في سؤال التقديم:
يسود الاعتقاد لدى الكثير أن فعل الكتابة والنجاح يقتصر فقط على الرجل، غير أنه مع توالي السنين تقهقرت هذه الأطروحة وغيرها من باقي الأطاريح التي تسير في اتجاه ربط الكتابة بالذكورية واقتصارها على الرجل، وذلك مع دخول المرأة مجال الكتابة بمختلف أنواعها، لتثبت بعض تجارب الكتابة لدى المرأة تفوقها ونبوغها. وبعيدا عن هذا الرأي الخاطىء الذي يفتقد للمشروعية النقدية والجنسية، تبقى الكتابة فعلا إنسانيا لا غير.
صحيح أن كتابة المرأة تتميز ببعض الخصوصيات الجمالية واللغوية، لكن هذا الأمر لا يدعو إلى تصنيفها حسب الجنس، لأن المرأة تكتب العالم والرجل هو الآخر في كتابته لا يخرج عن هذه المعادلة، لتظل تجربة الكتابة لديهما معا في النهاية الواحدة مكملة للثانية أو للأخرى.
قبل الشروع في استبطان العالم القصصي لدى “أمان أحمد السيد” ، سنسمح لأنفسنا بطرح السؤال التالي:
كيف نقرأ التجربة القصصية لدى القاصة السورية “أمان أحمد السيد”؟
في البعد الدلالي للعنوان:
قبل الإجابة عن هذا السؤال بنوع من التفصيل نرى أنه من الضروري الوقوف قليلا عند عتبة العنوان وحتى إن كان هذا الأخير يغيب بشكل علني ويفك ارتباطه المباشر والعضوي بالمتن القصصي العام.
يمكننا أن نقر منذ البداية أن عنوان” قدري أن أولد أنثى” الذي اختارته القاصة السورية “أمان أحمد السيد”عنوانا مؤطرا لمجموعتها القصصية يحيل إلى جملة من الدلالات الخاصة والعامة، وهي جميعها دلالات تنم عن اختيار:
ـ جمالي: يمكن تشخيصه في سؤال “البوح” الذي يتوسل بالتمجيد والاحتفاء بالكتابة والذات الكاتبة لها عبر لغة قصصية وشعرية .
ـ موضوعي: يرتبط بالاختيار الجمالي، ويمكن إجماله في نقل بعض مظاهر الحياة بما تستضمره هذه الأخيرة من صراعات خفية بين قيم الشر والخير، إلى جانب أسئلة قيمية أخرى .
لكن الدلالة الغائبة التي يقوم عليها هذا المتن/ العنوان هي دلالة “تصريحية” قائمة على إخبار خفي يفيد ارتباط الكاتبة بالكتابة وارتهانها لها، وأن هذه الكتابة هي قدر ملازم و عالم غير مفارق لها، إذ عبرها تستمد أسئلة الكينونة والحياة.
ولعل ما يزيد من صحة هذه الفرضية هوالمنجز القصصي الذي أنجزته المبدعة و يحمل توقيعها الإبداعي والذي يعتبر خلاصة أولية وغير نهائية لهذا القدر، بمعنى آخر يمكننا أن ننظرإلى العنوان على ضوء الصيغة الاستبدالية التركيبية التالية:
“قدري أن أولد كاتبة” ، بدل “قدري أن أولد أنثى”.
يستفاد من هذا الاقتراح الدلالي بصيغته الاستبدالية التركيبية عدم وجود مسافة خطوات بين الكتابة والأنثى، أوالأنثوية، وهو ما يعني مدى اقتران: ـ الكتابة بالأنثى، و ـ الأنثى بالكتابة
إن لفظة الولادة داخل هذا المتن لا تنطوي على معنى واحد ، فهي حسب العنوان يمكن أن تحيل إلى معنيين:
الأول: يتمثل في، الولادة المادية المعروفة التي ترتبط ببداية الحياة.
الثاني: يتمثل في، الولادة الإبداعية التي تفضي إلى ولوج عالم الكتابة.
وغني عن البيان أن القراءة المتأنية للمتن القصصي العام تتطلب النظر إليه من داخل اقتراح إجرائي يسعف الوصول إلى متنه النصي ومساحته اللغوية التي تتسع للعالم و للتعبير.
في المتن القصصي:
تتقاسم المجموعة القصصية مجموعة من الموضوعات ذات طابع إنساني خالص، فالحديث عن هذه الموضوعات يقودنا بالضرورة الإشارة إلى موضوعات صغرى وأخرى كبرى، لكن الأهم هنا هو نزوع المجموعة نحو الاحتفاء بالذات وتمجيدها ونقل كل تفاصيليها الصغير بعين راصدة غير بعيد عن سياق توترها مع العالم الخارجي، وما يرافق هذا التوتر من تصوير للحياة وانعكاساتها الداخلية والخارجية مع الخارج.
إن تحقيق هذه القصدية الإبداعية لا تتم إلا إذا توفر المبدع على قدرة هائلة من الانفعال لتحقيق هذه الاستجابة مع هذا الخارجي بعواطف صادقة تنتصر للتلقائية، وتصوير حسي ينبض بالحياة. ومن داخل تجربة الكتابة لدى “أمان أحمد السيد” يصح الحديث عن مثل هذا الرهان الذي كثيرا ما يتطلع إليه المبدع الحقيقي الذي يسعى إلى السمو بكتابته إلى مصاف الإنساني ويفضح بالإفصاح عن كل المفارقات التي تتهدد كينونته.
نقرأ في قصة” عالمان بدون نوافذ”:
” كيف تخليت عن أحلامي ؟ كيف قبلت لشهادتي الطبية أن تدفن بين جدران بيت وأوان ٍ مطبخية” ؟؟
في هذه القصة تحكي الساردة على لسان شخصية عابرة ، مفارقة تتكرر في الحياة اليومية، بعد أن يستسلم الإنسان لبعض التغيرات التي تطال مسار حياته بعد حلم كبيرو طويل.
هل باستسلامنا نكون قد وجدنا الحل لما تعانيه؟
لكن، المأساة الحيقية هي أن يسأل الإنسان نفسه عن حاله بعد أن يستبد به الزمن.
إن صورة المرأة التي تجسد هذه المفارقة سرعان ما تتحول إلى قرين لباقي الصور الأخرى الموازية من قبيل:
ـ” صورة “الحزن” المسكوت عنه، والذي نجد له امتدادات واضحة في قصة
“جنازة لقلب فقد الأمان” حيث ينهال هذا الحزن بشكل كثيف وجارح.
ـ صورة” العزلة” التي تقترن هي الأخرى بالغرابة القاتلة.
ـ صورة “خيمة العنب” التي تحولت إلى قطعة من الموت الغادر بعد أن كانت تنبض بالحياة.
إن الموت هنا بمعناه الرمزي يتمثل في صورالأحاسيس الغريبة التي تتلبس حياة الإنسان، الإحساس بالغربة، الإحساس بالخوف من الحياة، الإحساس بالتداعي والانجذاب للمجهول. وهي سمات أضفت تلوينا وتشكيلا على المجموعة القصصية إلى درجة التنويع.
لكن هذه السمات بحقلها الدلالي الشاسع وصورها المرعبة سرعان ما تتوارى خلف الحاجة إلى الكتابة.
نقرأ في قصة، “هومن أريده سلطانا وأنا له شهرزاد”:
– ماذا تفعلين؟ سألني، وهو لا يهتمّ لجوابي لكني قصدت أن أجيبه، وأنا أعرف أنّ ما يباعدنا سدود ذات قتامة شديدة..
– أكتبُ..وسكتّ أنتظرُ ردّه ..
قال: لم لا تجعليني جزءاً مما تكتبين ؟..
إن هذه الصورة التي تتخفى من ورائها سمات غائبة، إنما تعكس ولع المرأة بالحياة الجميلة، والقيم الهاربة، والعوالم الرحبة التي تتسع لكل الأحلام، وفي المقابل تنبذ الوصايا، والسلطة الذكورية المستبدة والوصية، كما ترفض البشاعة والخوف بكل صوره المخيفة.
وأمام انسداد أبواب القيم الرفيعة والتراجعات التي شملت مستوياتها، تظل الكتابة السقف الذي تحتمي به المرأة. والحديث عن الكتابة يستدعي منا الوقوف عند المكوّن الثقافي في المجموعة، فالاحتفاء بالكتابة، تخصيص إهداء ل”الكيخوطي”، واختيار عنوان “هومن أريده سلطانا وأنا له شهرزاد.. ” مؤشرات تنم عن الحس الثقافي والمثاقفة التي يتميز بها المتن القصصي للقاصة السورية “أمان أحمد السيد”
في سؤال الخصوصية:
إن السرد في القصص السالفة الذكر وغيرها من باقي القصص المكونة للمتن القصصي العام، يؤسس لنفسه عبر لغة سردية واصفة سهلة وبسيطة، وهو من شأنه أن يمهد الطريق أمام القارىء لاستعياب إشكال العالم من داخل صورة المرأة.
إن الكتابة في بعض تجارب المرأة العربية المبدعة إنما تحبل بالكثير من الأسرار والرموز، والبوح الذي يعيش هذه الكتابة، وهو ما يجعل منها أفقا فريدا من حيث الخصوصية.
ولعل الخصوصية في التجربة القصصية لدى” “أمان أحمد السيد” تكمن في البساطة غير المفتعلة والتلقائية السلسة في التعبير، والمباشرة التي ترسم العالم وتنقله بجميع حالاته المأزومة والمنفرجة، وما يولد هذا العالم لدى البعض خاصة المرأة من إحساس غريب، و أحزان، وآلام جارحة وقليل من السرور، وهو اختيار له جماليته الخاصة، بحيث يمكن للقارىء أن يجده في كثير من الكتابات القصصية التي تفضل و تنتصر لهذا النمط في الكتابة.
لقد توسلت الكاتبة في بناء متنها القصصي بمجموعة من الصور التي تنتظم في المشهد التصوري العام الذي ينتقل القارىء معه إلى التوقف عند صورة امرأة العربية، وكيف تتعرض حياتها لهزات وخسارات اجتماعية، غير أن هذه الخسارات سرعان ما تقابل بالتحدي الذي يعيد للحياة بريقها وشعورها بالطمأنينة للمرأة .
بعد عرضنا لهذه الصورة التي ترمز لسمة الخسارات، نشير إلى أن النص القصصي العام يتناول بالنقد صورة الآخر، وصورة الحياة، وصورة العالم، وصورة الأنثوية إضافة إلى صور أخرى، ولقد لجأت الكاتبة في بناء صورها هذه إلى الأسلوب التمثيلي، وهو أسلوب يكاد يهيمن على بعض التجارب الإبداعية لدى المرأة العربية الكاتبة لتجنب بعض معيقات التلقي أولا، بينها وبين القارىء باعتباره أفقا ضروريا للانتظار، ولتفضح ثانيا بعض مظاهر الحياة ونمط التفكير السائد.
في الخلاصة والتركيب:
من سمات الكتابة “الماكرة” اعتمادها على الخلط والتداخل في الضمائر، وعدم الاقتصار على ضمير واحد، فيتوهم القارىء العادي أنه أمام تجربة ذاتية في الحياة، وأن هذه التجربة تمتح من السيرة الذاتية للكاتب أو الكاتبة، أي إلحاق المعيش النصي وأحداثه بحياة كاتب النص، لكن الحق، أن ما يمكن أن يخرج به القارىء العادي الذي يكتفي بظاهر النص لا يعكس جوهر صراحة النص ، خاصة وأن بعض الكاتبات يتعمدن وبنوع من القصد اللجوء إلى مثل هذا الأسلوب في التعبيرلضمان تغطية شاملة لجميع مظاهر حياة الإنسان بما في ذلك حياة المرأة على نحو خاص.
هذه الطريقة في التعبير إنما تروم تأسيس وترويج لكتابة إنسانية خالصة.
إن” قدري أن أولد أنثى” للقاصة السورية “أمان أحمد السيد”، لا تخرج عن مسارات الكتابة “الماكرة”، التي تخلط أوراق القارىء العادي وتفرض عليه اعتماد القراءة التأملية الكفيلة بتجنب مثل هذا المأزق في القراءة.
أليس هذا المكر الذي تطالعنا به بعض التجارب القصصية العربية واحدا من الجماليات التي تراهن عليها القصص المعاصرة التي ترفض التبعية الإبداعية وأسلوب التنميط القصصي الذي يقوم على غرار بعض النماذج القصصية من حيث أشكال الكتابة؟
*قاص وناقد من المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق