⏪⏬
مِنْ ألوان السّرْد في الكِتابات الجزائرية المُعاصِرة؛ ما جنَحَ إلى مسَارِب الذّات؛ يسْتنْطِق لوَاعِجَها، ويرْسُم تشظياتِها في علاقاتِها مع "الآخَر"، وما ينْتجُ عنْ هذهِ التّشظيات منْ مُشادَّاتٍ؛ تسْتبيحُ قمْعَ المعْلوم، والتّرَبُّصَ بِالمَجْهُول؛ والتّشمِير عَنِ السّاعِدِ مِنْ أجْلِ المُلاحَقة البائسة لِنُورِ الحِبْر؛ وهو يغْسِلُ الحُروف ِبسَوَادِه...!
كتب الراحل "محمد بن عبد الكريم الجزائري"؛ سيرته الذاتية؛ مُوَزّعاً إياها بيْن ِنتاجَيْنِ هامّيْنِ: كتابُهُ "الثقافة ومآسي رجالها" ودِيوانُهُ: كشْفُ السِّتار... والدّارِسُ لِلْإثنيْنِ مَعاً؛ تسْتوْقِفهُ مَحَطاتٌ وإشارَاتٌ لاِفتة، كمَا َيسْتدْرِجُهُ أسْلوبُ الرّجُل في الكتابة... أسْلوبٌ لا يَحيدُ عنِ الصِّياغة العربية التّقْليدِية المتينة، الحافِلة بالجَرسِ وِبالبَلاغة العرَبية؛ المُناوِشَة لِلسّبْكِ المقامِي والإخْراج اللغوِي الثّمِل بِالوَشْي اللفْظي والصّورَة البديعَة في أقْصَى مظانِها.
"مُباغَتةٌ في حُجْرَة الفُنْدُق": هي مقطوعة سردية جميلة، ناح القلم من خلالها؛ على أوْتار الحَكْيِ الدْرَامي؛ المُتعالِق مع الذات اليائسَة في جذوَةِ المُوَاجهَة الصّادِمَة بيْن "الأنا" و"الآخر" في صراع أبدي، لا َتفُكُّهُ شفْرة الوُجود مهْمَا ترقّتِ العقول... يروي محمد بن عبد الكريم – رحمه الله – تلكَ المُبَاغَتَة في الفنْدُق؛ فيقول:
« في الهزيع الأخير من ليلة عابسة الجلد، كالحة الظلام، كئيبة البلد، هادئة الأنام، دامعة السّحُب، طافرة الشُّهُب، جَشَاؤُها قصْفُ رُعود؛ يُفَتِّتُ الأكباد، ونظراتُها غمزاتُ بُروقٍ تخطفُ – فجأةً – أبْصار العِباد، لُعابُهَا جليد، أصلبُ من الحديد، وتأفُّفُها عواصف وصفيرٌ شديد،تنفُّسُها صمصار؛ يُجمّد دماء الرّياضيين في شرايينِهمْ، ويكادُ يوقف نبضاتِ قلوبهمْ، أوقفتِ النهار في سيره، وغمطتْهُ حقَّهُ من زمانه، ومدّتْ جناحَها الغُرابي قبل الأوان.. فمَلّها النائم والسَّاِمرُ واللِّصُّ والمُقامِرُ في كلِّ مكان.
في مثلِ هذه الليْلة؛ أحد عشر من شهْرِ فبراير( شباط) سنة تِسْعٍ وخَمْسين وتسعمائة وألْفٍ للميلاد، استيقظ الرّجُلُ مذْعوراً؛ عندما أحسَّ بمفتاحٍ يُدَغْدِغ قُفْلَ حُجْرَته، وفي لمحةٍ من البصر؛ استوى قائماً من فراشه، ُمرْتَدِياً مَنامَتَه، وأسْرَع إلى بابِ الحُجْرةِ في دهشةٍ وقلقٍ، مُعوِّذاً بالله "مِن شرّ ما خلق" وما كاد يُتمُّ "ومِنْ شرّ النّفّاثاتِ في العُقَد" ، حتّى انحلّتْ عُقْدة القفل؛ وانفتح الباب، واكتضّتِ الحجرة الصّغيرة بِزمرة من رجال الشرْطة: وُجوهُهُمْ مُكْفَهِرّة، وأجْبُنُهُمْ مُقَطّبة، وأَعْيُنُهُمْ مُتْرَعَة بأماراتِ الوعيدِ، وقلوبُهُمْ مُتَحَجِّرَة لا تشتهي موعظة، ولا تُنْبِتُ رحمة، لا تتورّعُ أفْواهُهُمْ أنْ تقذف بالكلمات النابية، والجمل الجارحة... أمَّا أيْدِيهِمْ؛ فلمْ تكُنْ طيِّعَة إلا للَطْمِ الوجناتِ، ولكْمِ الأذْقان. شيمتُهُمْ؛ مُخالفة لِمَنْ أرادوا استنطاقَهُ، فإنْ قال: "لا" قالوا: "كذبْتَ، بلْ نعَمْ..!" وإنْ قال: "نعمْ" ، قالوا: "افتريْت، بلْ لا" .
ثمَّ شرَعَ ذو الشريطيْنِ؛ في فرْزِ تلك الكتب، وتمْييز مَخطوطها منْ مَطبوعها، فيأْخُذُ المخْطوط منْها ويَجعلهُ جانِباً بقصْدِ ترْجَمة مُحْتَواهُ، ويَدَعُ المطبوعَ مُبَعْثَراً على الأرْضِ يَبْكي قارئه...! ويندُبُ صاحبه إلى أنْ يحكم اللهُ بين الحقّ والباطل "وهو خيْرُ الحاكمين" .
وبعد أنْ جمع تلك المخطوطات؛ وسلّمها إلى أحد أعوانه؛ لِيَضَعَها في سيارتِه الخاصّة؛ أخذَ يدْنو من الرّجل في مِشَيةٍ مُتّئدة وخطوات قصيرة، ولم يقصر من خطواته؛ إِلّا ليُطوّلَ في لسانهِ الجرّاح، فَيفُوهَ بِجُمَلٍ نابية ينْدى لها الجبين، وتدمعُ لها العين. ولَمْ يَتَّئِدْ في مِشْيَتِهِ إِلّا لِيُسْرِعَ بيَمينِهِ فيوسِعَ الخُدودَ صفعاً، ويُمْطِرَ الأذْقانَ لَكْماً: " هاهي الساعة قدْ حانتْ، لِتَذوقَ ألوانَ التّعْذيب وأشْكالَ التّنْكيل وفنونَ الإهانة، يا رَدِيءَ الأصلِ ويا حقيرَ السُّلالَة.!!"
بهذه العبارات؛ فاهَ ذو الشّريطيْنِ؛ ثُمَّ زمَّ فَمَهُ وجمع كلّ مافيهِ منْ جراثيمَ؛ وأرْسَلَها بَزْقَة قذِرة على وَجْهِ الرّجُل... لمْ يتَحاشَ بها عينَهُ أوْ أنْفَهُ أوْ فمَهُ أوْ جبينَهُ، بلْ أينما استقرّتْ فثَمَّ مَقرُّها...اللائق بها... ومرْساها ... وكفى بهذا احتِقاراً وإذْلالاً.! » المرجع: ديوان كشْفُ السِّتار، من الصفحة 13 إلى الصفحة 17.
انتهتْ رواية محمد بن عبد الكريم؛ لِوَقائع هامّة مِنْ سِيرَته الذاتيَة. إِجْتزَأْتُ منها بهذه الحكاية من مجموع حكايا الرَّجُل المُتنوِّعَة والهادِفة، و....المليئة بِالعِبَر....!
تلك كانتْ مِحْنَةُ... قلم جزائري.... صَوّرَها شاعِرٌ عربي آخرَ في سياقٍ خاص؛ بقوله:
وما يَسْبَحُ الإِنْسانُ في لُجِّ غَمْرَةٍ * مِنَ العِزِّ؛ إِلّا بعْدَ خوْضِ الشّدائدِ !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق